إن جو الإصلاح في الدول الديمقراطية أكثر ملاءمة منه في الدول الدكتاتورية؛ ولذلك فالإصلاح في هذه الدول أنفع وأجدى، ولكن هذا الجو الملائم - في العصر الحاضر - يميل إلى التدهور والفساد، وهو بحاجة شديدة إلى رعاية نفر مخلصين حتى لا يتم فساده. وأسباب هذا الاتجاه نحو الانحطاط كثيرة؛ منها أن الشعوب الديمقراطية نفسها محبة للاستعمار، وهي شديدة الرغبة في هزيمة الدول الفاشستية بأسلوبها؛ أي بطريق الحرب والقتال. وفي سبيل الاستعداد الفعال للحرب الحديثة ترى الحكومة ضرورة تركيز السلطة في يدها، وإلغاء كثير من نظم الحكم الذاتي، والتضييق على حرية الرأي، وصبغ التعليم بالصبغة العسكرية. ومن أسباب فساد الجو في الدول الديمقراطية كذلك أن هذه الدول ما تزال تعاني إلى حد ما حدة الأزمة الاقتصادية التي حاقت بها عام 1929، مما ألجأ الحكومات إلى اتخاذ تدابير اقتصادية استثنائية تحاول بها الترفيه عن شعوبها ، وقد أدى ذلك إلى تعزيز سلطة الحكومة. فباتت السلطة التنفيذية والبيروقراطية والبوليس في إنجلترا اليوم أقوى نفوذا منها في أي عهد سبق. وكلما اشتد نفوذ هذه السلطات قل استعدادها لقبول الحرية الديمقراطية. وثمة نقطة أخرى نحب أن ننبه إليها الأذهان، وتلك هي أن البدء في التنظيم الاقتصادي يؤدي حتما إلى الاستزادة من هذا التنظيم؛ وذلك لأن الأمور معقدة إلى حد يجعل الخطأ ضرورة لا مندوحة عنها. ولا يستطيع أحد أن يضع خطة كاملة من أول الأمر لا عيب فيها ولا نقصان، ثم تعالج هذه العيوب ارتجالا وتوضع لها الخطط الجديدة، وهذه الخطط الجديدة لا تخلو من أخطاء، فتوضع لها خطط أخرى لملافاتها، وهكذا ترى أن التنظيم يستتبع التنظيم، والخطة تتلو الخطة، وكل ذلك يؤدي إلى خنق روح الحرية في البلاد. وإذا ما ارتباط التنظيم بتعزيز السلطة التنفيذية - وهذا هو ما يحدث في كل الدول الديمقراطية - فإن كل خطة تنظيمية جديدة تقتضيها الأخطاء القديمة تسير بالدولة خطوة إلى الأمام نحو الدكتاتورية. ثم إن التنظيم القومي الشامل - كما رأينا من قبل - يؤدي إلى تفكك الروابط الدولية، مما يؤدي إلى التطاحن بين الأمم. وتستطيع أن تقول بعبارة أخرى إن التنظيم القومي يقرب خطر الحرب منا. ولا يمكن إعلان الحرب، ولا يمكن الاستعداد لها، إلا من حكومة قوية مركزة ومن ثم ترى أن التنظيم القومي يؤدي - بطريق مباشر وبطريق غير مباشر - إلى فساد الجو الذي يمكن أن يتم فيه الإصلاح المنشود.
وفي الفصول التالية من هذا الكتاب سأحصر بحثي كله تقريبا في جو الإصلاح الملائم. ويدعوني إلى ذلك أن كبار المفكرين قد تحدثوا كثيرا وكتبوا طويلا في أنواع الإصلاح المطلوبة، وبخاصة الاقتصادي منها. وكلنا يعرف ما يقترحه هؤلاء المفكرون؛ فهم يرون اشتراكية وسائل الإنتاج، ويرون أن يكون الإنتاج للمنفعة العامة لا للمكسب الشخصي، كما يرون أن تشرف الدولة على المالية العامة للبلاد وطرق استغلالها والاستفادة منها، وما إلى ذلك. كلنا يعرف هذه الآراء، ونحن جميعا مجمعون على ضرورة تنفيذها وتطبيقها على المجتمع، ولكن قل منا من يلتفت إلى الجو الإداري والتعليمي والنفسي الذي ينبغي أن يتم فيه هذا الإصلاح. قل منا من يقف لحظة ليفكر في الوسائل التي يمكن أن تتخذ لإخراج الإصلاح من ميدان النظر إلى ميدان العمل، غير أن تجاربنا الشخصية ودراسة التاريخ تبين لنا أن الوسائل لا تقل أهمية عن الغايات، بل لقد تكون أكثر منها أهمية؛ لأن الوسائل التي نستخدمها تحدد طبيعة النتائج التي نبلغها، في حين أن الغايات مهما تكن طيبة في حد ذاتها لا يمكنها أن تصمد للوسائل الدنيئة التي قد تتبع لتحقيقها. ثم إن الإصلاح قد يكون مرغوبا فيه، ولكن البيئة جوها فاسد؛ ولذا فالنتائج لا بد أن تكون فاسدة. وهذه الحقائق - على شدة وضوحها وبساطتها - كثيرا ما تهمل ولا يلتفت إليها. وتوضيح هذه الحقائق، وبيان طريقة الاستفادة منها هي الغرض الأساسي الذي أرمي إليه في الصفحات المقبلة من هذا الكتاب. (1) ملحوظة بشأن الخطط التي نرسمها لمستقبل الأمة
إن المجتمعات التي تتقدم فيها فنون الصناعة عرضة للتطور الاجتماعي المستمر، وهذا التطور الاجتماعي كثيرا ما تصحبه الاضطرابات والقلاقل، فهل يمكننا أن نتفاداها؟
من عهد قريب ألف رئيس الولايات المتحدة جمعية للنظر في هذه المشكلة وقد نشرت تقريرها (الذي أشرنا إليه فيما سبق) في صيف عام 1937، وهذا التقرير وثيقة قيمة. يقول واضعو التقرير إن تقدم الفنون الصناعية لا يمكن أن يؤدي إلى انقلاب في نظام الجماعة لا نستطيع التنبؤ به قبل حدوثه بسنوات عديدة. إن الاختراع الجديد لا يطبق على نطاق واسع إلا بعد ربع قرن على الأقل من تاريخ ظهوره، وتستطيع الجماعة دائما أن تتنبأ بالنتائج الاجتماعية المحتملة لتقدم أي فن من فنون الصناعة قبل حلولها بوقت غير قصير. فإن حدث في الجماعة تطور غير متوقع ولا منظور، فإنما يرجع ذلك إلى أن أصحاب النفوذ لم يكلفوا أنفسهم مشقة التفكير في النتائج، أو في السبل التي يجب أن تتخذ لتفادي الخطوب. وقد نبهتنا جمعية الرئيس روزفلت إلى التطور الاجتماعي الذي قد ينجم عن المخترعات الحديثة. واقترحت خطة للآلة الإدارية المطلوبة لتخفيف الآثار السيئة لهذا التطور.
ويتناسب الأثر عادة مع قوة المؤثر. ولكن هناك شيئا واحدا، يسيرا في ظاهره، عظيما في آثاره الاجتماعية، وأقصد به صناعة الأسلحة. إن تعديلا طفيفا في رسم آلات الاحتراق الداخلي قد يدفع الملايين من الرجال الأبرياء والألوف من النساء والأطفال إلى هوة الهلاك بفعل النار والسموم والانفجار. وهذه المشكلة لا تخص الفنيين وحدهم، إنما تخص القائمين بالحكم جميعا. وأنا أحيل القارئ فيما يخص علاج هذه المشكلة إلى الفصول التي كتبتها عن الحرب وعن العمل الفردي في إصلاح الأمم.
وهناك مشكلة أخرى، وتلك هي ازدياد نسبة المواليد أو انخفاضها، فهي بالغة الأثر في نظام الجماعة. ولتوضيح الأمر نضرب هذا المثال: إن نسبة السكان في الأمم الصناعية بغرب أوروبا ينتظر بعد نصف قرن أن تقل عما هي الآن وعنها في دول شرق أوروبا؛ فعندما يصبح عدد سكان بريطانيا العظمى 35 مليونا، منهم الأطفال والمتقاعدون المسنون، يكون عدد سكان الروسيا زهاء 300 مليون، فهل تستطيع أمة قليلة السكان مثل بريطانيا في سنة 1990 أن تحتفظ بمركزها كأمة من الأمم العظمى ذات النفوذ الكبير؟ لقد حاولت في الماضي السويد والبرتغال وهولندا أن تقف في صف واحد مع الدول العظمى، ولكنها فشلت فيما حاولت لأنها أمم قليلة العدد. وهذه مسألة لا بد لبريطانيا أن تحسب حسابها من الآن وإلا فقدت ما تتمتع به من نفوذ في العالم. وفي هذا العالم العسكري الذي نعيش فيه لا أمل لأمة من الأمم قليلة العدد أن تؤسس لها إمبراطورية واسعة. ولقد استطاعت بريطانيا فيما مضى أن تنجح في سياسة الاستعمار حينما كانت كثيرة السكان بالنسبة للدول الأخرى، وساعدها على الاحتفاظ بمركزها انفصالها عن بقية القارة الأوروبية وصعوبة غزوها. ولكن إذا قل سكان بريطانيا أو سهل غزوها تعرضت لخطر ضياع مستعمراتها جميعا.
إن مشكلة السكان هذه كمشكلة الأسلحة، ليست مما يخص الفنيين وحدهم، إنما هي جزء من المشكلة العامة، مشكلة السياسة والحزب، ولا يمكن أن تحل إلا إذا حسنت النيات وطابت النفوس .
الفصل السادس
طبيعة الدولة الحديثة
أحب في هذا الفصل أن أحلل الحكومات في العهد الحديث بعض التحليل، وسأقتصر على ذكر الحقائق التي تهمنا في تحقيق أغراضنا التي نرمي إليها.
অজানা পৃষ্ঠা