أديب الحرية
إذا كان ولي الدين يكن أديبا ملتزما، وكان له رأي ثابت محدد فيما يحتمل الرأي من موضوعات الشعر والنثر، وكان من الأدباء القلائل الذين يجب على الدارس لهم أن يبحث عن آرائهم، بقدر ما يجب عليه أن يبحث عن فنهم؛ وذلك لأن لهم آراء وصل إيمانهم بها وتحمسهم لها إلى حد الانفعال، الذي جعل من آرائهم أدبا لا فلسفة أو تفكيرا فحسب، بل وأعطى هذا الانفعال أدبهم مميزاته الفنية الخاصة من حيث الأسلوب ووسائل العبارة. إذا كان كل هذا حقا؛ فإن البحث عن آراء ولي الدين يكن لا يمكن أن يطول بالباحث، أو أن يتعثر به في مزالق المواربة والتحايل أو الغموض والإلغاز؛ لأنه لن يلبث أن يلاحظ أن النواة التي تتبلور حولها جميع آراء ولي الدين، أو تنبعث عنها كما ينبعث النبات عن البذرة، هي الحرية؛ حرية الفرد وحرية المجتمع وحرية الفكر وحرية العقيدة، وعلى أساس هذه الحرية بنى كافة صداقاته وعداواته في مجال الحياة وفي مجال التفكير.
وحب ولي الدين يكن للحرية يمتاز بأنه لم يكن حبا عاطفيا يمكن أن يخبو أو يهتز ككل حب عاطفي، كما أنه لم يكن إعجابا فكريا يتسم ببرود الفكر وهدوئه، وقبوله للمهادنة وأنصاف الحلول والنزول على الضروريات، وهو من باب أولى لم يكن تظاهرا ولا اصطناعا لتحقيق مجد شخصي أو تملق جمهور؛ وذلك لأن ولي الدين يكن كان أبعد ما يكون بطبعه عن النزعة الديماجوجية، التي لا هدف لها غير استهواء الجماهير أو كسب الأنصار، وهو الذي لم ترهبه عداوة الأفراد والطوائف، بل تحداها أحيانا كثيرة، وعارض التيارات العامة الجارفة، وخاصم شخصيات ومشاعر كانت تستهوي لب الجماهير، وتستطيع أن تنفع وأن تضر، وأن ترفع وأن تخفض في ميادين النجاح المادي والأدبي.
لم يكن حب ولي الدين يكن للحرية شيئا من كل هذا، وإنما كان كما أشرنا من قبل انفعالا فكريا انتهى به - وهو داعية التسامح والحرية بكافة أنواعها - إلى التعصب للحرية تعصبا عنيفا لا هوادة فيه ولا رفق، تعصبا يجمع بين شهوتي الحب والبغض العنيفين المسرفين، اللذين قد يغشيان أحيانا بصيرة المتعصب في تبين حقيقة الوسائل التي يستخدمها، واختياره للمعارك التي يقودها لمناصرة ما يحب ومحاربة ما يكره، وهذا التعصب الناشئ عن انفعال فكري لما يراه حقا، هو الذي دفعه إلى مهاجمة شوقي هذا الهجوم العنيف عندما رآه يعطف على خصمه وخصم الحرية والعدل عبد الحميد الثاني في قصيدة «عبرة الدهر» التي سبق لنا الحديث عنها.
ولولي الدين يكن في نثره وشعره أناشيد تغنى فيها بالحرية، وهاجم الاستبداد، نكاد نلمحها أو نلمح صداها في كل ما كتب، حتى ليعتبر باب السياسة أو الوطنيات في ديوانه الصغير أهم أبوابه ، كما يعتبر كتابه الكبير «المعلوم والمجهول» بجزأيه حديثا متصلا عن الحرية، وتاريخ الكفاح في سبيلها في تركيا والإمبراطورية العثمانية كلها، كما أن كتابيه الآخرين الصغيرين وهما الصحائف السود والتجاريب يضمان أيضا الكثير من مقالاته التي تدور حول الحرية وتفريعاتها، وقد زاده الاضطهاد والتنكيل تعصبا لهذه الحرية، التي اختلط معناها بمأساة حياته الخاصة وما لقيه في تلك الحياة من محن وأهوال.
ففي فصل طويل له عن حزب تركيا الفتاة في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص31-50) نراه يستهل فصله بتعريف للاستبداد وتعريف للحرية، نحس إحساسا واضحا بأنه قد استقاه من تجربة حياته وأحداثها المؤلمة، فيقول: «ملك من الملوك شديد البطش قاسي الفؤاد دائم الحقد، جريء في غضبه، خائف في حيلته، مطلق اليدين على أمة تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجل من رجاله، ويجرده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويخرجه من بين أهله وجيرته، ويسجنه صاغرا، كل ذلك لنصح نصح به أو قول صدق فيه، أو حق عرف حبه له، أو ظلم أبى أن يعين عليه، ثم يفرق أهله ويشرد أولاده، ويقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرا من الأخبار. هذا هو الاستبداد.» «ودولة عظيمة جم ثراؤها، رغد عيش أبنائها، يتقلبون في النعيم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغة، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أن تنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلة وخيراتهم عميمة، لا يخافون مسيطرا إلا كتابا هو القانون، ولا يتقون معاديا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقة في عمل ما يفيد، مغلولة عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إدارتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفا، ولا يجهلون من السرور طعما ولا شكلا؛ هذه هي الحرية.»
ثم يستطرد إلى مأساة العثمانيين وما عانوه من استبداد، فيقول: «الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنيلها أقل بكثير مما مثلته في الكلمات المتقدمة، نعم كانت الأمة تريد شيئا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلم، فلما حل ميقات الخلاص انتفضت فتساقطت من عليها نبال الظلم، فوقفت مستبسلة لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية، واستمتعت بجمالها وشبابها، علمت أنها كانت تئن من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بد منه لحياة الأمم.»
ويتحدث عن رجال تركيا الفتاة، فيقول: «وإنما نقم رجال تركيا الفتاة على الملوك العثمانيين جهلهم وخمولهم، وما ألفوه من البذخ والترف، وما جروا عليه من ظلم الرعية والتأله عليهم، وإنكارهم على الأمة ما تطلبه من العدالة، وهي أصل الحرية والمساواة والإخاء، واستكبروا أن يكونوا كالملوك في البلاد المتمدينة، وأبناء الملوك عندنا لا يربون على ما يفتح أذهانهم ويهذب أخلاقهم.»
ولما كان سلاطين تركيا يستمدون سلطتهم من الدين باسم الخلافة التي يستترون خلفها، للبطش بالرعية وإشباع شهواتهم الحقيرة الحيوانية، ويصطنعون رجال الدين في تثبيت تلك السلطة، فقد كان من الطبيعي أن يهاجم ولي الدين يكن ورجال تركيا الفتاة رجال الدين هجوما عنيفا، وأن يبذلوا كل جهد لتقويض سلطانهم على الأمة، وفي هذا يقول ولي الدين في نفس الفصل من نفس الكتاب: «أما رجال الدين وهم عيال الرجال فينبشون عن منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها، فلا يروون للملوك إلا ما كان حثا على طاعتهم، مثل قولهم: «قلب السلطان بين إصبعي الله يقلبه كيف يشاء.» وقولهم: «الملوك ملهمون.» وقولهم: «اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.» كل ذلك يفسدون به أخلاق الملوك تقربا إلى جفانهم واستجداء لحبواتهم.»
ويهاجم الشعراء المداحين المتملقين فيقول بعد حديثه عن رجال الدين: «فما يخرج هؤلاء إلا يدخل السائلون المادحون، ونسميهم مسامحة شعراء، ليمدحوا الظالم سفاك الدماء ناهب العباد فيقولوا له: «إن بين غلائلك لعدلا من الله، وبين جنبيك لروح القدس! يا مجزل العطاء ومولى النعم! يا من يخصب بأمرك المحل وتجري الرياح، وتنقاد لمشيئتك الأقدار، وتحسد السماء الأرض إذ كانت موطئا لأقدامك! يا ظل الله وباني الكون، يا من عتبته فوق الأفلاك ...» إلى غير ذلك مما يستحي من ذكره ويشمئز من سماعه كل من كان في فؤاده مثقال خردلة من العقل والإنصاف.»
অজানা পৃষ্ঠা