كل هذا يوضح أن دي بلونفيل الابن لم يكن ذلك المتأنق الدخيل المتغطرس كما يظن من يعرفونه. لكنه في القرارات الكبيرة والصغيرة لم يقتطع نسبة العشرة في المائة الخاصة بالجزء المجهول.
أين؟ كان هذا هو السؤال. راح دي بلونفيل الابن يذرع أرضية غرفته جيئة وذهابا ويفكر في الأمر. كانت هناك خريطة كبيرة لفرنسا مبسوطة على الطاولة. وبدا واضحا أن من المستحيل أن يلجأ إلى باريس وضواحيها. كان في حاجة إلى مكان للعزلة. كان بحاجة إلى مكان به مساحة ممتدة من الماء. إذن أين ستكون البقعة التي ستأتي الأجيال القادمة وتشير إليها وتقول: «هنا، وفي هذا المكان، أتم دي بلونفيل بإتقان اختراعه الشهير الذي يتخذ شكل الخيمة والقارب والباراشوت.»
لا، ليس الباراشوت. تبا للباراشوت! كانت تلك الكلمة من الكلمات الساخرة للملازم. توقف دي بلونفيل لبرهة ليلعن ائتمانه أي رجل عسكري على أسراره.
كان هناك ما يكفي من الماء حول الساحل الفرنسي، لكن كان الجو في غاية البرودة في ذلك الفصل من العام بحيث لن يتمكن من اختبار اختراعه في الشمال والشرق. ولم يتبق سوى البحر المتوسط. فكر سريعا في العديد من المناطق المبهجة على طول الريفييرا - كان، وسانت رافائيل، ونيس، ومونت كارلو - لكن كل تلك الأماكن كانت عامة للغاية ومزدحمة كثيرا بالزوار. ثم تبادر إلى ذهنه فجأة اسم المكان الذي سيختاره، وبينما توقف عن سيره جيئة وذهابا، تساءل دي بلونفيل لماذا لم يخطر ذلك المكان على باله منذ البداية. هييريس! يبدو أن تلك المنطقة قد صممت في العصور الوسطى من أجل إنجاز مثل هذا الاختراع وإتمامه. كانت المنطقة تقع على بعد ميلين أو ثلاثة أميال من البحر، وطقسها ممتاز، ولا يوجد بها موكب للبحرية، وشاطئها منعزل، والخليج فيها محاط بالجزر. كانت تلك بقعة مثالية.
استطاع دي بلونفيل أن يحصل بسهولة على إذن تغيب؛ فأبناء الآباء الذين يعتلون مناصب عالية في الخدمة في الدول المقرة بالجميل نادرا ما يتكبدون أي عناء في شيء يسير كهذا. اشترى دي بلونفيل تذكرة على متن ذلك القطار المترف المتأني، الذي يطلق عليه الفرنسيون بحسهم الفكاهي السائغ اسم «السريع»، وفي الوقت المحدد وجد نفسه ومعه متعلقاته المختلفة واقفا على رصيف المحطة في هييريس.
قليل منا من يتحلون بالشجاعة كما نعتقد في أنفسنا. وقد جفل دي بلونفيل حين حانت اللحظة الكبرى، وربما كان هذا هو السبب وراء عقاب الآلهة له. قرر أن يذهب إلى أحد الفنادق الريفية الصغيرة في بلدية كاركيران على الساحل، لكن هذا القرار كان نابعا من رغبته في الانتصار لنفسه حين سخر الملازم من مشروعه. أما الآن، وفي لحظة أكثر هدوءا، فكر دي بلونفيل في مأكولات كاركيران فارتعد. هناك تضحيات لا يمكن لأي امرئ أن يتحملها؛ ولذا تردد ضابط البحرية، وفي النهاية وجه تعليماته إلى الحمال بأن يضع أمتعته على متن «حافلة» فندق كوستبيل. سيكون هناك الكثير من الناس في الفندق، هذا صحيح، لكن في وسعه أن يتجنبهم، في حين أنه لو ذهب إلى النزل الريفي فما كان ليتمكن من تجنب الطعام هناك. وهكذا أخمد ضميره المتقد. بدا أن تناول الغداء في فندق كوستبيل يمثل مبررا لاختياره لمكان إقامته. وكانت الأجواء المحيطة بالفندق جذابة وآسرة على نحو خطير بالنسبة إلى شخص نزاع بطبيعته إلى المرح والتراخي. كان المكان يبعث على «الاسترخاء وإيقاظ الروح» كما يقول والت ويتمان. كان بلونفيل هناك متخفيا - حيث أسقط كلمة «دي» من اسمه مؤقتا - وكان يمشي باتجاه البحر في وقت الظهيرة، فكان يبدو كرجل لا يشغل باله شيء. ولم يكن من يراه حينها ليظن بأنه هو إديسون المستقبلي بالنسبة إلى فرنسا. وعندما وصل إلى الشاطئ عند أطلال المحطة البحرية الرومانية البائدة التي تدعى بومبونيانا، راح يضرب على فخذيه من الفرحة. كان قد نسي أن في تلك البقعة ظهر عدد من البيوت الخشبية الصغيرة، التي كان حجمها أكبر من كوخ السباحة وأصغر من الكوخ العادي، وكان سكان هييريس يستخدمون تلك البيوت في الصيف، أما في الشتاء، فإنها تكون خاوية ومهجورة. وكان أكبر هذه البيوت مناسبا له تماما، وكان يعرف أنه لن يواجه صعوبة في استئجاره لمدة شهر أو شهرين. فهنا يمكنه أن يحضر اختراعه غير المكتمل، وهنا يمكنه أن يعمل على إتمام اختراعه طوال اليوم من دون مضايقة أو إزعاج من أحد ، وهنا يمكنه أن يختبر قدراته على الإبحار من دون أن يشاهده أحد.
سار بلونفيل على الطريق، وأشار إلى الحافلة القديمة التي تسير ببطء بين مدينتي تولون وهييريس على طول الطريق الساحلي؛ وركب بجوار السائق، وسرعان ما حصل على معلومات عن مالك تلك الأكواخ في بومبونيانا.
كما توقع بلونفيل، لم يواجه صعوبة في ترتيب الأمر مع المالك لاستئجار أكبر كوخ بين تلك الأكواخ الصغيرة، لكنه اعتقد أنه لاحظ انخفاضا طفيفا في الجفن الأيمن للرجل بينما كان يعطيه المفتاح. فهل شك المالك في غرضه من استئجار ذلك المكان؟ كان يتساءل في نفسه في قلق، بينما كان عائدا يستقل العربة من المدينة إلى فندق كوستبيل. مستحيل. لكنه شعر بأنه لا يستطيع أن يكون كتوما للغاية بشأن نواياه. لقد سمع بمخترعين سبقهم غيرهم إلى اختراعاتهم في اللحظة نفسها التي كانوا فيها قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النجاح.
طلب بلونفيل من السائق أن ينتظر، ووضع في العربة حمولته التي تتكون من اختراعه نصف المكتمل والأدوات اللازمة لإتمامه. ثم انطلق بالعربة نحو الشاطئ، وبعد أن وضع الحمولة على الأرض، دفع للرجل أجرته وصرفه. وحين غابت العربة عن الأنظار، حمل أمتعته إلى الكوخ وأغلق عليها. وفي طريقه إلى الفندق صعد التل، مما ضاعف من لذة مذاق العشاء الفاخر الذي قدم له هناك.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظ مبكرا ليباشر عمله، وسرعان ما بدأ يدرك أنه قد نسي الكثير من الأدوات الضرورية في باريس. كان يأمل أن يستطيع شراء تلك الأدوات من هييريس، لكنه تذكر محدودية الموارد في المدينة فأصابه الشك نوعا ما. وكانت النوافذ الصغيرة على جانبي الكوخ بالكاد ما تمده بما يكفي من الضوء، لكنه لم يفتح الباب؛ خوفا من فضول أي شخص يتصادف مروره. فلا يسع المرء إلا أن يتوخى الحذر الشديد عند العمل على إتمام مشروع عظيم كهذا.
অজানা পৃষ্ঠা