ذكر (الوحى المحمدى) فى آيات متفرقة من السور المكية التى كانت تتلى على منكرى وحى النبوة من العرب الذين كانوا أقوى البشر استعدادا لهداية هذا الوحى إذا عقلوه وآمنوا به، لأنه لم يكن عندهم من التقاليد الدينية المسيطرة على القلوب والإرادات، ولا من أمشاج الفلسفة البشرية الشاغلة للعقول والأفكار، ولا من الاستبداد السياسى والاستعباد الروحانى السالبين لاستقلال الأفراد والجماعات ما يصرفهم عن فقهه وتدبره والاهتداء به، أو يأفكهم عن الدعوة إليه وحمايته، والجهاد بالأموال والأنفس فى سبيل إقامته.
دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:
ثم ذكر فى هذه الآيات من هذه السورة المدنية [النساء] بما لم يذكر بمثلها فى تفصيله وعموم الخطاب وخصوصه، فخاطب فى أولها محمدا رسول الله وخاتم النبيين ﷺ ثم وجه الخطاب فى بعضها إلى الناس كافة، وفى بعض آخر إلى أهل الكتاب خاصة. فبدأ خطاب النّاس كافة بأنه قد جاءهم (الرسول) الكامل الذى بشر به الأنبياء والرسل، والنبى الأعظم الذى كانت تنتظره الأقوام والأمم، ولذلك ذكر معرفا بأداة التعريف «١» وأنه جاءهم بالحق من ربهم، وهو الحق المحض الذى جهله المشركون، واختلف فيه الكتابيون، فضلوا فى هداية أنبيائهم ورسلهم، وكفّر بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، وكتب الفريقين واحدة، وقد بين لهم ذلك فى الآيات التى قبل هذه الآيات مباشرة، وأهمها الخلاف فى رسولهم النبى الروحانى المصلح المسيح عيسى ابن مريم ﵇، ثم أعاد ذكره ونهاهم عن الغلو فيه فى هذه الآيات، وهى مشتملة على المسائل العشر الآتية:
(الأولى) أن الله تعالى أوحى إلى محمد ﷺ كما أوحى إلى نوح أول رسول أرسله إلى الأمم وقص عليه خبره فى السور المكية وإلى النبيين من بعده، فوحيه إليه كوحيه إليهم، أى مثله فى جنسه وموضوعه والغرض منه، فهو ليس بدعا من الرسل ولا أولهم، ولكنه خاتم الرسل المكمل لهدايتهم، وخص بالذكر منهم أشهر أنبياء بنى إسرائيل المعروفين عند أهل الكتاب المجاورين له فى الحجاز وما حوله، وقد كانت دعوته ﷺ بلغت اليهود والنصارى جميعا فيها، والمراد بالأسباط الأنبياء من سلالة أبناء يعقوب، عمم ثم خصص.
_________
(١) كان اليهود ينتظرون ثلاثة من الأنبياء والمصلحين، المسيح وإيلياء والنبى المطلق الذى بشر به موسى ومن بعده. ومن أدلة ذلك ما جاء فى الفصل الأول من إنجيل يوحنا وملخصه: أنه لما ظهر يوحنا المعمدان (وهو يحيى ابن زكريا ﵉؛ وصار يعمد الناس فى نهر الأردن، أرسلوا إليه وفدا ليعرفوا أى الثلاثة هو فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا. قالوا: أأنت إيليا؟ قال: لا. قالوا: أأنت النبى؟ قال: لا. «٢٥ فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد الناس إذا كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى؟ إلخ فذكروا النبى معرفا، ولو قالوا: له أأنت نبى بالتنكير؟ لما قال لا.
1 / 18