عندنا مثلا دار المعلمين العالية، وهي معهد عال بالتأكيد، ولكن شخصيتها ستقوى وتستفحل حين تصبح كلية من كليات الجامعة العراقية، وستصبح أيضا في أمان من التقلبات، فلا تكون مرهونة بإعداد من نحتاج إلى إعدادهم من المدرسين فتفتح مرة وتغلق مرة وفقا للظروف، وإنما تظل كلية ثابتة تجاهد في سبيل الآداب والعلوم والفنون.
وستتغير أيضا نفسيات الطلاب، فلن يكونوا كالطلبة الذين نعرف وتعرفون، لن يكون همهم أن يصاحبونا ثلاث سنين محدودة المواقيت ليظفروا بمناصب التدريس في المدارس الثانوية، ثم يذهب نشاطهم العقلي فلا يكون فيهم باحثون ومؤلفون.
نريد إنشاء الجامعة العراقية لتغيير هذه النفسيات، فقد أصبح من الواجب أن يفهم أبناؤنا أن التعليم العالي ترخص في سبيله السنون الطوال، أصبح من الواجب أن نفهم جميعا أنه لا مفر من أن يكون عندنا مئات من الشبان المثقفين ثقافة عميقة بحيث نستطيع أن ننتفع وننفع بتبادل الأساتذة مع كبار الجامعات.
في العراق اليوم عدد من الرجال الذين كونوا أنفسهم، ولكن هؤلاء في الأغلب يشغلون مناصب إدارية تحول بينهم وبين الانقطاع للتدريس والتأليف، وهم قد نشأوا في جيل غير هذا الجيل، نشأوا في زمان يعرف قيمة اللذة العقلية، ولن يسمح الدهر بوجود نظائرهم مرة ثانية؛ لأن المغانم المادية صارت أكبر ما يتطلع إليه شبان هذا الزمان.
فلا بد من التفكير الجدي في تهيئة جو جديد تتنفس فيه المطامع العلمية والأدبية، لا بد من فتح آفاق جديدة تتنسم هواءها عزائم الشبان الذين يسرهم أن يكونوا من أقطاب العلم والبيان.
إن العراق لا ينبغي له أن يصبر طويلا على القناعة العقلية التي يعيش في ظلالها شبان هذه الأيام، إن العراق سيتذكر دائما أنه كان في طليعة الأمم التي أحيت العلوم والآداب والفنون، وسيطالب أبناءه بأن يرفعوا رايته بين رايات الأمم التي تواجه العصر الحديث بما هو أهله من القوة والطرافة في المذاهب والآراء.
ولكن كيف ننشئ الجامعة العراقية لنحسن إنشاء الجيل الجديد؟ يخيل إلي أننا لن نواجه المصاعب التي واجهتها مصر حين أنشأت الجامعة المصرية، فقد كان الجمهور في مصر سنة 1906 ينقسم إلى فريقين يقال لأحدهما أمة ولثانيهما حكومة، وكانت حكومات تلك العهود تراعي ذوق الاحتلال، والاحتلال لم يكن يسره أن يكون في مصر جامعة، وكان يخشى أن تنشأ طوائف من المزودين بالثقافة العالية، وهذا الصنف من الشبان يكون شوكة تخز الاحتلال.
وقد فطن الفريق الذي يمثل الأمة إلى هذه الحقيقة فأعلن يأسه من الحكومة، ودعا الجمهور إلى الاكتتاب العام لإنشاء جامعة مصرية، فلم تمض غير أشهر معدودات حتى صارت فكرة الجامعة المصرية حقيقة واقعية تلمسها الأيدي وتراها العيون.
وقد أتعب المحتلون أنفسهم في حرب الجامعة المصرية، وتقولوا عليها الأقاويل، ولكن الجامعة ظلت تكافح حتى انتصرت وعاد خصومها بغنيمة القنوط.
فهل حالنا اليوم في العراق كحال إخواننا المصريين في سنة 1906؟ ليس في العراق اليوم فريق يقال له أمة وفريق يقال له حكومة، وإنما هو كتلة واحدة بحيث يستوي الحاكم والمحكوم في التسابق إلى خدمة البلاد.
অজানা পৃষ্ঠা