1 - على طريق الجبل
2 - كلام عن الدير أمام دير
3 - عين السنديانة
4 - الحدث
5 - قصة مجنون ليلى
6 - حديث في حرش صغير
7 - لا تريد المرور على بيروت
8 - الفلسفة والمكاري بطرس
9 - أرز لبنان
10 - ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»
অজানা পৃষ্ঠা
11 - الوحش . الوحش . الوحش
12 - الجميع في الأرز
13 - كيف يكون غضب النساء؟
14 - مجنون ليلى وملك رأس القضيب
15 - ذئب لدى لبوة
16 - صوت الابنة الكريمة
17 - حب المجانين
1 - على طريق الجبل
2 - كلام عن الدير أمام دير
3 - عين السنديانة
অজানা পৃষ্ঠা
4 - الحدث
5 - قصة مجنون ليلى
6 - حديث في حرش صغير
7 - لا تريد المرور على بيروت
8 - الفلسفة والمكاري بطرس
9 - أرز لبنان
10 - ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»
11 - الوحش . الوحش . الوحش
12 - الجميع في الأرز
13 - كيف يكون غضب النساء؟
অজানা পৃষ্ঠা
14 - مجنون ليلى وملك رأس القضيب
15 - ذئب لدى لبوة
16 - صوت الابنة الكريمة
17 - حب المجانين
الوحش . الوحش . الوحش
الوحش . الوحش . الوحش
تأليف
فرح أنطون
الفصل الأول
على طريق الجبل
অজানা পৃষ্ঠা
أشهر الطرق من البحر إلى (أرز لبنان) طريقان: واحدة عن طريق أهدن فبشري، أو الحدث فحصرون فبشري - وهي من أمام الأرز. وواحدة عن طريق بعلبك من وراء الجبال الشامخة المحيطة بهذا الحرش، والطريق الأولى طريق الثغور من طرابلس حتى البترون، والطريق الثانية طريق السياح الذين يصعدون من بيروت إلى بعلبك لمشاهدة آثارها، ثم يعطفون منها إلى الأرز لمشاهدة آثاره الجميلة الطبيعية بعد مشاهدة آثار بعلبك الصناعية.
ففي ليلة 8 أغسطس من السنة التي نكتب تاريخ حوادثها هنا قرع مكار في آخر الليل باب غرفة عالية كائنة في غربي قرية قلحات فوق طرابلس الشام، وهو ينادي: يا خواجه كليم، يا خواجه كليم. فدوى صوته في القرية في صفاء ذلك الليل دويا هرت له الكلاب التي كانت راقدة في الشارع قرب تلك الغرفة، فساعد هريرها على تنبيه النائمين فيها؛ ولذلك لم يلبث أن فتح الباب وأطل منه الخواجه كليم وهو يفرك عينيه ويقول: هل ظهر نجم الصباح يا بطرس؟ فأجابه المكاري: أظنه سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فلنعجل إذن؛ فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارا من الحر.
وحينئذ التفت كليم لينبه رفيقا له كان نائما معه في الغرفة فوجده واقفا وراءه، فقال له: هلم نركب يا سليم؛ فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولا.
وبعد ثلث ساعة كان كليم وسليم على جوادين قويين سائرين في صفاء الليل تحت أشعة النجوم الضئيلة، ولا أنيس لهما غير المكاري يسير وراءهما، وهو تارة يحدو فرسيه بكلام مشجع، وتارة يزجرهما لصدمهما حجرا في طريقهما.
ولم يكن يسمع في ذلك الهدوء، ما عدا وقع حوافر الجوادين وصوت المكاري، سوى أصوات الحشرات الصغيرة التي تنتشر في لبنان على أشجار الزيتون والتوت، وتنشد في الليل والنهار أناشيد متصلة.
ويظهر أن جفون كليم وسليم كانت لا تزال مثقلة بالنعاس؛ لأنهما كانا يتثاءبان من حين إلى حين. فرغبة في طرد النعاس ابتدأ كليم قائلا: اسمع يا صاح أصوات هذه الحشرات الصغيرة التي تهكم عليها لافونتين تهكما شديدا
1
حقا إنه ظلمها بهذا التهكم، ترى ما عساها كانت تجيبه لو درت بتهكمه؟
فتثاءب سليم وقال: لا ريب أنها كانت تجيبه جوابا جميلا، فإنها تقول له: «ليس بالخبز وحده تحيا الكائنات الحية، بل الحياة الحقيقية هي الحياة الروحية.» وحياة الروح عند هذه الحشرات نشيدها المستمر الدال على أنها في حالة الانبساط والراحة، ولو خيرت في أيهما أحب إليها: فقدانها هذه الحياة الروحية التي هي فطرتها وطبيعتها، أم فقدانها الخبز اليومي الذي هو حياتها البدنية؛ فإنها - لا شك - تختار فقدان هذه الحياة على تلك. وما الذنب في ذلك ذنبها؛ لأنها هكذا صنعت وهكذا فطرت. ومع ذلك فإن لافونتين لم يقدر على قهرها بتهكمه في ذلك المثل إلا لأنه قاس معيشتها على معيشة البشر، وبذلك جاءت حجته قوية، ولكنه لو أمعن النظر لرأى أن هذا الحيوان الصغير لا يحتاج إلى القوت بعد مرور أيام الحصاد، حتى في أشد أوقات الشتاء؛ فإن قطرة من قطرات المطر كافية لشربه، وورقة واحدة من أوراق الشجر كافية لإيوائه وتدفئته، وأقل حشرة صغيرة أو دودة حقيرة كافية لتغذيته، ولو عقل هذا الحيوان لأجاب ذلك الشاعر: عندنا في الطبيعة ليس من حيوان ولا نبات يحتاج إلى قوت ويبيت بلا غذاء، فإن فظائع كهذه الفظائع لا تحدث إلا بين البشر في الاجتماع. نعم، نحن نأكل بعضنا بعضا أحيانا، ولكنا نفعل ذلك حين الحاجة فقط قياما بسد عوزنا، أما أنتم فمع كونكم ذوي عقول تعقل ونفوس تدرك، فإنكم تأكلون بعضكم بعضا بحاجة ومن غير حاجة، وكثيرا ما يكون ذلك إرضاء لكبريائكم فقط لا لضرورة؛ ولذلك قال أحد حكمائكم:
2 «يا وحوش البر وأفاعي الغابات، خذيني إليك آكل من طعامك، وأشرب من مائك؛ لأخلص من صحبة الإنسان.»
অজানা পৃষ্ঠা
فقهقه كليم هنا وقال: نعم، هذا خير ما يعتذر به عن طياشة ذلك الطوير المطرب.
وكأن المكاري ضجر من هذه اللغة التي لم يكن يفهم منها شيئا، فتحول ضجره إلى غضب على جواده فصاح به بأعلى صوته: «ديه سوق ...»، وهم بإتمام عبارته، فصاح به كليم: إياك أن تكملها يا جرجس! فقال جرجس: وما هذا يا معلمي؟ فقال كليم: أنت فهمت كلامي بلا تفسير.
فسأل سليم كليم: وما معنى كلامك؟ فأجاب كليم باللغة الإنكليزية: هي نادرة مضحكة تحدث بين بعض هؤلاء المكارين والعائلات المدنية التي تصيف في قراهم؛ فإنهم يسمون هذه العائلات «سوقة»، وحينما يرومون التهكم عليهم في الطريق يقول أحدهم لرفيقه: «سوق يا أخي، سوق يلعن هالسوقة.» يظهر أنه غير راض عن سير الدواب، والحقيقة أن مراده «سب السوقة» في وجوههم دون أن يدروا بذلك.
فضحك سليم وقال: يظهر أن صاحبنا غير راض عنا حتى رام إهانتنا، والذنب في ذلك ذنبنا؛ لأننا لم نهتم بملاطفته لنستميله إلينا، ثم التفت سليم إلى جرجس ليفاتحه بالحديث فقال: لماذا سرت بنا يا جرجس على هذه الطريق من الوادي؟ خذنا من فوق عن طريق «فيع».
فقال جرجس: لا يا معلمي، لا نستطيع الآن المرور عن طريق فيع لحدوث خصام شديد بين قريتنا وأهالي تلك القرية منذ يومين.
فقال سليم: نعم، سمعنا بهذا الخصام، ويقال أن قد جرح رجلان وأسقطت امراة في أثنائه ، فما سببه؟
فقال جرجس: سببه يا معلمي خصام بين أولاد فيع وأولاد قلحات؛ فقد كان خمسة أولاد من أولاد فيع يلعبون بإزاء حقول العنب الكائنة بين القريتين، ويأكلون من العنب بلا حق، فأسرع إليهم ثلاثة من أولادنا لردعهم عن الاعتداء على رزقنا، ففر أولاد فيع ووقفوا بعيدا، فصار أولادنا يتغنون بغناء قديم عندهم وهو:
يا رايح إلى فيع
دبدب لا تضيع
يا بسين قلحات
অজানা পৃষ্ঠা
أحسن من شيخ فيع
وكان بين أولاد فيع ابن شيخ فيع نفسه فاغتاظ لإهانة أبيه، فركض إلى شجرة توت قريبة فتسلقها وقصف منها غصنا ثم اندفع نحو أولادنا، بينما كان رفاقه يتغنون بغنائهم:
يا رايح إلى قلحات
تمتلي منها ...
يا بسين فيع
أحسن من شيخ قلحات
ولما وصل ابن شيخ فيع إلى أولادنا أمسكوه (ونزلوا فيه) ضربا؛ فأسرع رفاقه إلى نجدته فدار الضرب بين الفريقين فجرح منهما بضعة أولاد.
فركض حينئذ أحد أولادنا، ووقف فوق القرية وصاح أن أهل فيع قتلوا أولادنا، فهب كثيرون من الرجال إلى محل الحادثة، وكذلك ركض أحد أولاد فيع وأبلغ أهلها مثل ذلك الخبر، فأسرع بعض رجالها أيضا، ولما التقى الفريقان في محل الحادثة دار الضرب بين الكبار بعد أن كان بين الصغار، ولو لم يحضر «الآغا» مع نفرين لاشتبك القتال بين أهل القريتين جميعا؛ ولذلك لا نقدر أن نمر الآن بجانب فيع لئلا يتحرشوا بنا، كما أنهم هم أيضا لا ينفردون للمرور بجانب قريتنا.
وكان الجوادان قد صعدا في ذلك الحين من وادي قلحات وجانبا قرية فيع، ذلك أن قرية قلحات كائنة على أكمة منخفضة بين واديين من أشجار السنديان: واحد من جهة الشرق، وواحد من جهة الغرب. وهي على مسافة ربع ساعة من دير البلمند المشهور المشرف من جبله العالي على مدينة طرابلس الشام، وهواء هذه القرية جاف نقي؛ لأنها واقعة بين حرشين من السنديان كما تقدم.
وقطع سليم وكليم الطريق حتى فوق فيع دون أن يطلع نجم الصباح الذي وعدا بطلوعه قريبا، فقال كليم لجرجس: لم تطلع نجمة الصبح بعد يا جرجس. فأجاب جرجس: ستطلع قريبا. فضحك كليم وقال لرفيقه: يظهر أن صاحبنا «عملها معنا». فقال سليم: وأي شيء عمل؟ فقال كليم: للمكارين عادة وهي أنك إذا طلبت من أحدهم السفر في الغد قبل طلوع نجم الصبح بنصف ساعة يجيئك قبل طلوعها بساعتين ويقول لك إنها ستطلع بعد ربع ساعة. وهكذا تركب معه في ظلمة الليل وتقطع الطريق كلها، وتصل إلى مكان قصدك قبل أن تطلع نجمة الصبح، وبذلك يكفي نفسه ودابته عذاب الحر في أثناء الطريق؛ فالظاهر أنه صنع معنا ما يصنعه غيره مع غيرنا، وربما وصلنا إلى الجبل قبل أن تطلع الشمس مع أن بيننا وبينه نحو خمس ساعات.
অজানা পৃষ্ঠা
فتثاءب سليم وقال: أف! لأجل هذا أشعر بنعاس شديد، وأكاد أنام على ظهر الجواد.
ولما رأى صاحبنا جرجس أن الحديث لا يطول بينه وبين رفيقه، بل هما يتحادثان معا لوحدهما، رأى أن يسلي نفسه بنفسه، وكان الجو صافيا كأنه مرآة الغريبة، والنجوم تسطع فيه كمصابيح بعيدة معلقة في قبة الفلك، فلا تكاد تنير طريق الجوادين في سيرهما.
ولكن الجوادين كانا قد اعتادا السير في ظلام الليل؛ ولذلك كانا يبصران الطريق المخططة كأنهما في نهار، وهذا ما جعل الفارسين يعجبان له، وكان الهواء يهب في خلال نور النجوم الضئيل باردا ضعيفا، فيشرح الصدر وينعش الفؤاد، وتلك الطبيعة القروية الساذجة كانت ساكنة هادئة كأنها تستريح تحت جنح الليل من عناء النهار. فأثار هذا المنظر الجميل في نفس جرجس عاطفة الجمال الكامنة فيها، فاندفع ينشد الأناشيد التي يعرفها؛ فهل درى حينئذ ذلك القروي الجاهل الساذج أنه بعمله دل على أن نفسه كانت في تلك البرهة أرقى من نفسي رفيقيه الحضريين؟!
إن نفسه لدى مناظر الليل البهية ثارت على غير علم منها، واندفعت تترجم بالغناء والنشيد عما كان يختلج فيها حينئذ من عاطفة الجمال بسبب تلك المناظر، وأما نفسا رفيقيه الحضريين فقد كانتا مشغولتين بالتثاؤب والنعاس عن الجمال الذي كان يحيط بهما، فلا ريب أن ذلك كان من أفضل الأدلة على أن النفس الأولى ربيت في أحضان الطبيعة قليلة الحاجات قوية على كل متاعب الحياة، والنفسان الأخريان ربيتا ضعيفتين بين جدران المدن لا تستطيعان مقاومة سلطان ضعيف كسلطان النعاس الذي هو - لمن نام ساعتين أو ثلاثا - أخف الحاجات الطبيعية.
ولما أخذ جرجس في الإنشاد أصغى إليه كليم وسليم. وقال كليم: اسمع أغاني الجبل. وكان جرجس ينشد:
حنيانا يا حنيانا يا حنيانا
يا قمر سلم على غيابنا
فضحك كليم وقال: من سوء الحظ أن القمر غائب أيضا. فضحك سليم لهذه الحاشية، أما جرجس فإنه كان مستمرا في الإنشاد:
يا ظريف الطول وقف تقولك
رايح عالغربه وبلادك أحسن لك
অজানা পৃষ্ঠা
خايف يا محبوب تروح وتتملك
بتعاشر الغير وتنساني أنا
فهنا التفت سليم إلى جرجس وصاح به: ما هذا! ما هذا الغناء؟ أعده. فأعاده جرجس، فتنهد سليم وقال: لله در قائل هذين البيتين، فكأنه خرق بنظره حجاب الغيب وتنبأ عما يكون من المهاجرة إلى أميركا - (خايف يا محبوب تروح وتتملك) نعم قد راح المحبوبون وتملكوا هناك. (بتعاشر الغير وتنساني أنا) نعم قد عاشروا الأميركيين وامتزجوا بهم، وكثيرون منهم نسوا بلادهم وتجنسوا بغير جنسيتهم، فيا أيها الشاعر العامي الذي كشف له الغطاء عن المستقبل قبل وقوعه، إنك شاعر عظيم، وإن كنت لا تعرف القراءة والكتابة.
وبعد سكوت خمس دقائق التفت كليم إلى سليم وسأله: على أي شيء عزمنا الآن في سفرنا هذا؟ هل نذهب إلى أهدن لمشاهدة أصحابنا فيها أم لا؟ فقال سليم: الأمر إليك. فقال كليم: بما أننا ذاهبون الآن إلى الأرز عن طريق الحدث، وهي الطريق الغربية، فإننا نعود منه عن الطريق الشرقية طريق أهدن. فسأل سليم: إذن لا نعود إلى الحدث بعد مبارحتها؟ فقال كليم: كلا، فإن طريق أهدن مقابلة لطريق الحدث. فقال سليم: إذن يجب أن نقيم عشرة أيام في الحدث بدل الخمسة التي اتفقنا عليها؛ وذلك إكراما لصاحبنا فيها. فقال كليم: سنرى ذلك بعد وصولنا.
وبعد نصف ساعة انقضى في سكوت تام؛ لأن كل واحد من الرفقاء الثلاثة كان يناجي نفسه ، وإذا بجرجس يصيح ملء صوته: الحمد لله! فقال كليم: ماذا؟ فقال جرجس: طلعت النجمة.
فالتفت كليم وسليم إلى جهة الشرق، وكانت أمامهما فأبصرا «الزهرة» في طرف المشرق من وراء الجبال تتهادى بجمالها الفتان ونورها الباهر تتيه به على جميع النجوم الزواهر التي كانت تزين حينئذ قبة الفلك الدائر، فصاح كليم وسليم لدى هذا المنظر الفخيم: تبارك الخالق، تبارك الخالق! أما جرجس فإنه رفع يديه نحو رفيقته في أسفاره وقال: هلك ومستهلك جعلك علينا يوما مباركا. فنسي لفرحه أن هذا الكلام يقال للهلال حين ظهوره في أول الشهر لا لنجم الصباح، ولكن ما الذي يمنع جرجس أن يقول لرفيقته المحبوبة ما يقال للهلال عادة؟ هل هو أفضل منها؟ كلا؛ لأنها تهدي في آخر الليل كما يهدي الهلال في أوله، وإذا كان لأحدهما مزية على الآخر فالمزية (للنجمة) الجميلة؛ ذلك لأن صحبة الهلال تنتهي بالاستياء منه لأفوله، ويبقى المسافر حزينا بعده لما يجده من الوحشة، أما صحبة (الزهرة) فتنتهي بالسرور؛ لأنها رسول الصباح ومقدمة النور، وكل الذين عانوا مشاق السفر في الظلام في ليالي البرد والمطر والريح وأخطار الطريق يعرفون قدر (الزهرة)، متى طلعت تبشر بدنو الشمس التي تنعش وتدفئ والنهار الذي يبعد الأخطار، فهي عندهم رسول الأمل وابتسامة الطمأنينة، وعهد من الخالق على نفسه أن لا يجعل ظلام الليل ظلاما أبديا، فهي إذن عندهم حاجة وضرورة لا مسرة يلهى بها وتفرج النفس بمشاهدتها؛ ولذلك كانت حياتهم ومعيشتهم مرتبطة بحياتها، وهذا هو السبب في أنه بينما كان سليم وكليم يخاطبانها بقولهم: «يا إلاهة الجمال التي عبدها الأقدمون، يا عروس كواكب السماء، يا مضيعة ابن رشد»
3 - كان المكاري جرجس ينظر إلى دليلته السماوية نظر المرؤوس إلى رئيس له تربطه به مصالح ومنافع متبادلة، لا لمجرد الاستحسان فقط.
ولو مثلت الزهرة حينئذ فتاة - كما كان يمثلها المتقدمون - لشوهدت تبتسم للمكاري جرجس، وتهتم به أشد من اهتمامها برفيقيه الحضريين الظريفين.
هوامش
الفصل الثاني
অজানা পৃষ্ঠা
كلام عن الدير أمام دير
وبعد برهة أخذت ذرات الفجر تنتشر في الفضاء، وصارت نجوم السماء تبهت خجلا من سلطانة النهار القادمة على هودجها الناري ببهائها العادي، وقد طلعت الشمس لأصحابنا الثلاثة عند قرية كسبا حين دخولهم بين الجبلين في الطريق المؤدية إلى أعالي لبنان،
1
وإن من لم تطلع عليه الشمس في ذلك المكان بعد السير أربع ساعات في ظلمة الليل لا يدرك اللذة التي شعر بها سليم وكليم حين استقبالهما تلك الطريق الصاعدة؛ فقد كان عن يمينهما جبل عال يمران بجانبه، وعن يسارهما جبل آخر عال بعيد عنهما، وعلى قمة هذا الجبل الشمالي بناء حوله أشجار باسقة، ولكنها تظهر صغيرة لبعد المسافة.
والبناء بينها كأنه عش طائر بني هناك في مأمن من الزوابع والعواصف، وفي الحقيقة إنه كان عشا بني للأمن من العواصف، ولكنه عش إنساني بناه البشر الذين يحبون الانفراد عن معارك الاجتماع وعواطفه، وهو الدير المعروف بدير (حنطورة)، وعلى موازاة الطريق إلى اليسار تحت الدير يسمع الراكب هديرا شديدا ناشئا عن مرور نهر أبي علي في واديه المقدس منحدرا إلى طرابلس.
وكلما صعد الراكب بين ذينك الجبلين على ألحان النهر بين نسمات الصباح التي تداعب وجهه باردة أكثر من هواء السهل، يشعر أن جبل لبنان الحقيقي إنما يبتدئ من ههنا، وحينئذ يخطر في باله أن سكان هذا القسم من الجبل كانوا في كل الأزمنة والعصور قذى في عيون الفاتحين؛ فإن جبالهم كانت تحميهم أكثر من كل الحصون والمدافع؛ ولذلك كانت تلك الأرض عبارة عن حرم الحرية المقدس. نعم إن هذا الحرم قد فتح ولطخ مرارا، ولكن الغلبة كانت دائما للمدافعين عنه؛ ذلك لأن الطبيعة نفسها كانت تحارب معهم بين صفوفهم، ورب مائة رجل من أهله فقط لقوا بين تلك الآكام والوهاد عشرة آلاف جندي بمدافعهم دون أن يتركوا لهم سبيلا إليهم. فثارت عواطف سليم وكليم وتصوراتهما لدى هذه الأفكار وهذه المناظر الجميلة، فأحسا أنهما صاعدان إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويظهر أن نفسهما قد خفت حينئذ ونشطت عما كانت فيه أولا، فنزلا عن جواديهما ليتلذذا بالسير على أقدامهما فوق تلك الأرض الجديدة، وكان سرورهما بالمشي في تلك الساعة على تلك الأرض المؤدية إلى الأماكن التي تنطح السحاب ويعممها الضباب دائما - يعادل سرور الأولاد حين انصرافهم من المدرسة إلى نزهة خصوصية.
وبعد ربع ساعة كثرت العقبات في الطريق، فعاد كليم وسليم إلى جواديهما، فنبههما جرجس أن ينحرفا عن ظهر الجواد قليلا إلى أمام في عقبة الصعود، وينحرفا قليلا إلى وراء في عقبة النزول؛ فضحك سليم وقال: هذا درس في «طريقة الركوب في العقبات». ثم أخذ الرفيقان يتحادثان لقطع الوقت بعد أن وجدا في المشي شيئا من الراحة، ولا عجب؛ فكما أن السكوت بعد الحركة فيه راحة، كذلك الحركة بعد السكون.
فقال سليم: ما رأيك أيها الصديق في الإقامة طول العمر في هذا الدير الجميل الذي شاهدناه؟ هل تعرف مكانا أجمل من هذا المكان للراحة والسعادة؟
فقال كليم: سؤالك هذا يذكرني سؤالا آخر، يقول كتاب العرب: إن الحواريين «الرسل» سألوا المسيح: «من أفضل منا؟ إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا.» فأجاب: «أفضل منكم من يأكل من كسب يده.» فالأفضل والأجمل من الإقامة في هذا الدير الدخول في العالم والأكل من كسب اليد؛ لأن خبز الإحسان خبز دنيء كما قال روسو.
فثار هنا جرجس وقال: أرجوك يا معلمي أن لا تجدف على الدير والرهبان؛ فإننا في طريق، وأخاف على أفراسي لا على نفسي، وبالأمس كان جارنا أبو يعقوب سائرا قرب البلمند قادما من المدينة (يعني طرابلس)، وكان الراكب على حمارته واحدا من (السوقة) لا يحب الرهبان، وكان يتهكم عليهم؛ فبركت الحمارة في الأرض قرب الدير، ولم تنهض حتى نذر أبو يعقوب للدير نصف الأجرة التي يأخذها من الراكب.
অজানা পৃষ্ঠা
فصاح كليم بصاحبه: أسمعت قول الرجل؟! هذه هي المبادئ التي يعلمها للشعب الرهبان الذين نسلمهم أرزاقنا وننفق على تسمينهم كالعجول.
فقال سليم: هذه مسألة أخرى غير تلك؛ فإننا لا نبحث الآن في «هل هم قائمون بوظيفتهم التي وجدوا لها»، ولكني أسألك: هل تحب المعيشة في الدير إذا كان الدير قائما بحسب النظام الذي وضع له للغرض الحقيقي الذي يجب أن يوضع له؟ فأجبتني أنك تفضل على هذه المعيشة معيشة الإنسان الذي يأكل من كسب يده.
فقال كليم: نعم هذا هو رأيي؛ لأني أكره الكسل والبطالة، ولا أستطيع أن أتصور أناسا يعلقون على جسم الهيئة الاجتماعية ليمتصوا دماءها وهم قاعدون بلا عمل بحجة أنهم يخلصون أنفسهم ويصلون لغيرهم.
فسكت سليم برهة يفتكر ثم قال: كل من يسمع هذا الكلام يوافقك عليه لأول وهلة، ولكن لدى التأمل يظهر أنك ظلمت المعيشة الديرية بهذا الوصف الذي لا ينطبق عليها إلا إذا كانت بلا عمل أرضي ينفع كما قلت. قلت (أرضي) لأن (السماوي) ليس من بحثنا الآن، وعندي أن معيشة الدير لها صورتان، كل واحدة منها جميلة بحد ذاتها، ويطيب لي الآن في هذه الأرض - أرض الأديرة والرهبان - أن أرسم معك هاتين الصورتين، وإذا كان في الهواء الذي يحيط بنا آذان خفية تسمع ورامت إيقاف صوتنا فنحن باسم إله الحرية الساكن في هذه الجبال نقوى عليها؛ ذلك لأنها لا تستطيع إنكار إله الحرية؛ إذ طالما استنجدت به في هذه الجبال، وبما أن الحرية واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم - سواء أكانت في الفعل أو في القول - فمن الحق والعدل أن تخضع لهذا الإله بعد أن أخضعت له غيرها.
فالصورة الأولى للمعيشة الديرية هي ما ذكرت، بشر ضعفاء من طبقات لا تقدر على كسب رزقها ينسد في وجهها باب الرزق في العالم، وترهب معارك الحياة وتنازع البقاء فتطلب مكانا تلتجئ إليه وتعيش فيه بأمان، وهي للحصول على هذه المعيشة تتنازل عن أشرف وأثمن ما لدى الإنسان؛ أريد حريته الشخصية، فتصبح آلة في يد الرئيس لا إرادة لها ولا قوة، ذلك أنها تنذر أول كل شيء الطاعة العمياء، ثم الفقر، ثم ترك الزواج. وبهذه النذور الثلاثة المشهورة تحرم الهيئة الاجتماعية قوات ضرورية.
فبنذر الطاعة تضع ضميرها بين يدي الرئيس، وما أدراك ما هو التنازل عن الضمير! فإن ذلك يفني شخصية الإنسان، ويحقر الإنسانية، ويجعل تحت سلطة ذلك الرئيس جيشا كثيفا مطيعا يؤثر أشد تأثير على الهيئة المدنية لفائدة الهيئة الدينية. وبنذر الفقر يحرم الإنسان نفسه وغيره تعبه من خيرات الأرض التي حلل له التمتع بها؛ فيعيش ذليلا وضعيفا. وبنذر ترك الزواج يجني على أمته؛ لأن الأمة يهمها تكثير النسل، وهي لا تألو جهدا في الحث عليه بالطرق المحللة؛ فالنذور الثلاثة إذن تعارض المدنية الحاضرة وتعاكسها، لا سيما وأن هذه المدنية جلبت معها مبادئ جديدة مناقضة لمبادئ الهيئة الدينية كل المناقضة في كثير من شؤونها الأساسية.
والصورة الثانية للمعيشة الديرية: أن ينقطع بعض البشر عن البشر لنفع روحي ومادي: أما النفع الروحي فلا يدركه حق الإدراك إلا كل من رمته عواصف الدهر بين معارك الحياة اليومية، ورأى ما في هذه المعارك من الهمجية والخشونة والفظاعة، فهناك - وا أسفاه - يكون البشر حيوانات وحشية لا بشرا، هناك الظفر والغلبة لا يكون بالاستقامة والفضل وشرف المبادئ والأخلاق؛ فإن هذه الفضائل التي هي جميلة في المجتمعات الرسمية والنوادي الأدبية تكون سببا لضعف صاحبها في وسط تلك المعارك لا لقوته، وإنما يكون الظفر والغلبة للأكثر وقاحة والأكثر ظلما والأكثر اعتداء والأكثر خداعا؛ ولذلك قال رنان: إن الإنسان لا يكون قويا في الحياة إلا متى كان يظهر دائما أنه كان مغشوشا في ما صنعه من الخطأ، مع أنه كان غاشا.
فماذا تصنع النفوس الحساسة اللطيفة التي جبلها الله لا تحب الغش والظلم والاعتداء حين وجودها في هذا الوسط الهائل؟ هل تسلم سلاحها خافضة جنح الفضيلة أمام وقاحة الرذيلة وتقع في ميدان العراك في جملة الأسرى والقتلى؟ أم تخلع عنها ثوب الفضائل السماوي الذي ألبستها إياه اليد الجميلة الأبدية لترتدي بدله بثوب الظلم والاعتداء والغش والنهب والسلب، وتصنع ما يصنعه غيرها؟ وهل يجوز أن تبخل عليها الأرض والسماء حينئذ بزاوية صغيرة في إحدى زوايا الأرض لتعيش فيها بأمن وسلام دون أن تضطر إلى ذلك الانتحار وهذه الجناية؟!
إن هذه الزاوية هي الدير؛ فالدير وجد لسد فراغ في نفوس فريق في البشر في الأرض، وهو موجود قبل الديانة المسيحية بقرون عديدة ؛ لأن انفراد بوذه وأنصاره في جبال الهند نوع من المعيشة الديرية، وستبقى هذه الحاجة لازمة في الأمم ما دام فيها نفوس تتألم وجهاد في تحصيل الرزق، والطمع يحكي جهاد الفاتحين. وقد احترم صاحب الشريعة الإسلامية هذه الحاجة؛ لأنه أوصى بالصوامع والرهبان خيرا، وكذلك الخلفاء الراشدون. فضلا عن أن التكايا التي أنشئت بعد ذلك في أنحاء العالم الإسلامي إنما هي نوع من المعيشة الديرية أيضا، وهذا يدل على أن هذه المعيشة الاشتراكية للزهد والانقطاع إلى الله كانت حاجة من حاجات النفوس في كل زمان.
أما النفع المادي فهو اعتبار الدير عبارة عن قوة ممدنة تستعمر الجهات التي يكون الدير قائما فيها. والديور إنما تقام عادة في القفار والجبال والقرى البعيدة؛ أي في الأماكن المحتاجة أشد احتياج إلى تعمير وإحياء.
অজানা পৃষ্ঠা
فتأمل مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شؤونهم العملية اعتمادا متبادل النفع بين الفريقين؛ فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم. وكيف لا يحلو للمتأمل أن ينظر ذلك الراهب الذي كان يصلي إلى الله منذ مدة يأخذ معوله وفأسه ويقصد إلى حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والاختبار، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟!
لا ريب أن هذا الأمر يساوي عندي - على الأقل - خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين، ولست أعرف شيئا في هذا العالم يعادل نفعه نفع هذه الديور في التمدين والتعمير إذا سلكت بإخلاص ونزاهة في هذا السبيل.
هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم، بقي هناك اشتراك آخر داخلي؛ وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإن أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هم تحصيل الرزق، والطمع والجهاد في سبيله، وذلك مما يسكن النفس وينقي قواها.
ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أن النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع، وهكذا يصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا من دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وصفت وصارت إنسانية جديدة لا هم لها في الأرض غير فعل الخير ومساعدة الضعفاء.
وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب، وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يقطع به الوقت (ما عدا فعل الخير) أنفس من الاشتغال بالعلم والأدب؟! وبذلك يكمل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصا ظاهرا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.
انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها، وبما أن طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم.
فالرهبان إذن عليهم سد هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فن عشرين سنة أو أربعين، فيرقيه أتم ترقية عندنا دون أن يحتاج شيئا، وحينئذ تصبح الديور مصدرا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منهم عبارة عن أكاديمية كبيرة كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.
ومجموع الأعضاء يتألف من مجموع المعارف البشرية، والاختراعات والاكتشافات تتتابع من هذه الأكاديميات الجديدة لنشر الخيرات في الأمة وتحسين شؤونها. فتكون هذه الديور مثالا (للعلم) كما كانت مثالا (للصلاح) في ما تقدم. وهي ما عدا ذلك تكون أيضا مثالا (للنظام) المطلق؛ فإن معيشتها اشتراكية محضة، الكل إخوة متساوون قولا وفعلا، وليس أحد فيهم يقول: هذا لي؛ لأن كل شيء يكون بينهم مشتركا، ولكنهم مع تساويهم هذا خاضعون لسلطة عليا خضوعا تاما بلا مراجعة ولا تردد؛ لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه خير؛ ولذلك ترى أكبرهم وأصغرهم يعفران رأسيهما بابتهاج وسرور تحت قدمي هذا النظام الذي أنقذهما وأعطاهما هذا الوسط الهادئ النقي، وهكذا، بينما تكون الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثورات بين كل الطبقات، بينما ترى روح الاستفراد العصري الذي ضربه رنان بسوطه ضربات شديدة
2
يبذر بذور الشقاق في العالم حتى بين الأب وابنه والمرأة وزوجها لرغبة كل إنسان في أن يعيش حرا على هواه، ترى الهدوء والنظام والخير عامة شاملة في الدير وما حوله من القرى، كأنه صار قطعة من الجنان.
অজানা পৃষ্ঠা
وهنا سكت سليم وأخذ يمسح العرق عن جبينه؛ لأنه قد تحمس في أثناء وصفه؛ فصاح جرجس مسرورا: عافاك، عافاك يا معلمي، هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدا وقال لرفيقه: كفى تحلم، كفى تحلم؛ فهم في واد وأنت في واد، ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير، فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من الناس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه من المال، سواء كان نقودا أو أوقافا ذات دخل عظيم، والسذج يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاء للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديور ناشرة للثروة والخير في ما حولها من القرى صارت ممصا للثروة نفسها، وقد قلت إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين - الذين وظيفتهم نذر الفقر كما ذكرت - صاروا أيضا يفكرون بالمال قبل الدير.
قال سليم : لا لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم، وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعا للطرق التي يستعمل بها والأشخاص الذين يتولون استعمالها. وهذه مسألة المسائل في كل الشؤون حتى سياسة الأمم، ولست أظنك تزعم أن الديور كانت في القديم (وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة) على حالتها الحاضرة اليوم؛ فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنما كانت الديور يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله للخلاص من حياة الاجتماع التي تجر الإنسان أحيانا إلى ما لا يهواه.
ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين؛ لأنهم كانوا يومئذ في الطور الذي يسمى «طور الإيمان الحار»؛ ولذلك يجب أن لا نلومهم لانقطاعهم عن الناس بقولنا إنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعامل الأثرة وحب الذات؛ فإن الرغبة في معيشة الانفراد الاشتراكية كائنة في طبيعة البشر؛ خصوصا الضعفاء منهم، ولكننا إذا كنا لا نلومهم اليوم؛ فإننا لا نحث الديور في هذا الزمن على أن تنسج على منوالهم، بل نطلب إدخال تغيير على حالة الأديرة طبقا للوصف الذي ذكرته آنفا؛ فإن الهيئة الاجتماعية قد تغيرت، والنفوس الدينية صارت كما يظهر من قولك لا تكتفي (بالإيمان الحار)، فبناء عليه بطلت وظيفة الدير الأولى التي هي البعد عن البشر والانقطاع إلى الله انقطاعا حقيقيا، وصار من الواجب أن يحل محل هذه الوظيفة وظيفة مساعدة الناس ماديا وأدبيا كما وصفت ذلك آنفا، وإلا فلا معنى لوجود الدير في هذا العصر، وأنا على يقين أن هذا التغيير أمر سهل، وكثيرون من رجال الدين يرضون به؛ لأنه يحيي البلاد والعباد بثروات الأديرة والأوقاف الدينية. إنما يشترط فيه وجود رؤساء كرام يفهمونه وينبذون الأطماع جانبا.
فلماذا لا يقوم أكابر الطوائف وأفاضلها لمراقبة أوقاف الأديرة والأملاك الدينية مراقبة شديدة بواسطة مجالس دائمة خصوصية تنشأ لهذا الغرض لإنفاق دخلها الطائل في وجوه نافعة لمجموع الأمة؟
هوامش
الفصل الثالث
عين السنديانة
مجنون ليلى
وبقي سليم وكليم يتحادثان في هذا الموضوع، حتى وصلا إلى عين السنديانة، وهي محطة يستريح فيها المسافرون في طريقهم إلى أعالي الجبل.
والمكان مؤلف من منزل اتخذه مستأجره حانوتا يبيع فيه مواد الغذاء للمسافرين، وأمامه دكة عالية قليلا، يجلس المسافرون عليها، وبجانبها عين ينبع منها ماء بارد يشربه المسافرون بظمأ ولذة بعد تعب الطريق وحرها.
অজানা পৃষ্ঠা
فنزل كليم وسليم للراحة وتناول الطعام، وبعد حين طلبا بيضا مقليا وجبنا وعنبا وجلسا يأكلان، وإذا برجل قد دنا من أحد الفرسين، ومد يده إلى الخرج الذي كان عليه، وأخرج منه جريدة إنكليزية، فقال كليم لرفيقه: ما شاء الله! إن صاحبنا يفعل بخرجنا ما يشاء (بدون تكليف). ثم نهض ودنا من الرجل وسأله: ماذا تريد؟ فعبس الرجل وقال: لا أريد شيئا، ولكني أحب أن أقرأ.
ثم إنه أدار ظهره لكليم وجلس على طرف الدكة، ونشر الجريدة الإنكليزية وصار يقرأ فيها.
فاستغرب سليم وكليم أمر هذا الرجل، وكانت هيئته وثيابه مما يزيد الاستغراب؛ فإنه كان في نحو الأربعين من عمره بلحية كثة وخطها الشيب، وشعر وافر في رأسه يتدلى من تحت طربوشه القذر، وكان طويل القامة عريض العضل يلبس ثيابا قديمة قذرة ويمشي بحذاء ممزق، إلا أن سحنته كانت تدل على الهدوء واللطف والسكينة.
وبعد أن قرأ هذا الرجل بضعة أسطر في الجريدة رفع رأسه، وضحك ضحكا شديدا، ثم قال: كلهن سواء، ثم التفت إلى كليم وقال: أليس حقا ما أقول؟ فقال كليم: عن أي شيء تتكلم؟ فضحك الرجل ضحكا أشد من ضحكته الأولى وقال وهو يهز رأسه طربا:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ثم وقع على الأرض وأغمي عليه.
فذعر حينئذ كليم وسليم، أما صاحب المحل فإنه ركض مسرعا وهو يضحك، فنضح وجه ذلك الرجل المسكين وصدره بالماء، ثم التفت إلى سليم وكليم وقال: لا تخافا؛ فإن هذا الرجل مجنون، بل هو نصف مجنون، وهو يصاب بهذه النوبة مرة كل يوم أو كل يومين. فاشتد حزن كليم وسليم على حالة الرجل حينئذ، وبادرا إليه يسعفانه بالمعالجة، وبينما كانا يفركان يديه بأيديهما سألا صاحب المحل: وما قصته؟ وأين بلاده؟ فإنه غريب عن لبنان على ما يظهر.
فأجاب صاحب المحل: الذي سمعته أنه غريب عن لبنان، ويقال إن سبب جنونه حبه فتاة رام الاقتران بها فرفضت وهجرته، وهو من ذلك الحين يطوف البلاد على قدميه يأكل إذا وجد طعاما ويصوم إذا لم يجد، وأحيانا ينام تحت سقف منزل، وأحيانا تحت قبة السماء، فهو شبيه برجل تائه على وجهه في البلاد، وكل الأهالي يعرفونه.
فلما سمع كليم وسليم هذه القصة تأثرا تأثرا شديدا، ومما زاد تأثرهما امتزاج تعاسة الرجل بشيء غزلي جميل؛ لأنه جن بسبب الحب كما سمعا.
অজানা পৃষ্ঠা
فقال سليم لرفيقه: حقا إنني لما كنت أسمع كلام صاحب المحل خيل لي وأنا أفرك يد هذا المريض أن يدي تمس الآن يد مجنون ليلى أو غيره من عشاق العرب المشهورين، ومن العجب أن يبقى اليوم في الأرض أناس رقاق الشعور شديدو الانجذاب النفسي؛ حتى إنهم يجنون بسبب الحب مع ما هو معروف في هذا العصر من اندفاع تيار الشهوات الحيوانية التي تقتل ذلك الشعور الدقيق.
فسأل كليم صاحب المحل: وما اسم هذا الرجل التعيس؟ فأجاب: إن الناس يسمونه مخلوف.
وفي هذه البرهة اختلج مخلوف اختلاجا شديدا وصار يصرخ صراخا هائلا ويخبط بيديه ورجليه؛ فأمسكه بها الثلاثة الحاضرون لئلا يؤذي نفسه. وكان قد اجتمع عليهم بعض الأولاد وهم يعجبون من دنو سليم وكليم منه؛ لأن أكثر العامة في أقطار الشام يخافون كثيرا ممن يغمى عليه ذلك الإغماء؛ لاعتقادهم أن فيه شيطانا يسبب ذلك الاضطراب، وهم يسمون المغمى عليه «واقع في الساعة».
وبعد حين ارتخت أعضاء مخلوف وتنهد تنهدا عميقا، ثم فتح عينيه وصار يضحك لمن حوله ضحكا لطيفا كضحك الأولاد؛ فقال له كليم: كيف حالك الآن يا مسيو مخلوف؟ فأجاب مخلوف: حالي كما ترى. فقال سليم: هذا أمر بسيط، وكثيرا ما يقع فيه الناس، إما بسبب الحر أو ضيق الصدر أو التعب. فجلس مخلوف حينئذ وقد ظهر الغضب في وجهه وصاح: لم يؤثر في الحر ولا ضيق الصدر ولا التعب، وإنما هذه الجريدة الملعونة، فكيف تجيز لها السماء والأرض أن تتركه وتذهب، هو يحبها كما يحب إلهه، هو يطرح تحت قدميها اسمه وميراثه وشرفه لتتنازل وتأخذها وترضى فقط بالابتسامة له، ومع ذلك فإنها ترد هذه الهبات بقدمها وتفر منه كالبرق وتختفي، فما هو جزاؤها يا ترى؟ أليس القتل، والخنق، والحرق، والشنق، والدوس بالأقدام، والتقطيع قطعة قطعة؟!
وكان مخلوف قد بلغ به الغضب عند هذه الكلمات مبلغا عظيما؛ فجحظت عيناه، وانتفخت أوداجه، وصعد الدم إلى رأسه فكاد يخنقه، وبدا الزبد على فمه كالجمل الهائج، فهال منظره سليم وكليم، وعلما حينئذ أنه قرأ في الجريدة الإنكليزية هذه الحادثة فأذكرته حادثته.
فتلافى سليم الأمر رغبة في تسكينه وتعزيته، وقال: لقد نطقت بالحق؛ فإن تلك الفتاة تستحق أكثر مما ذكرت، ولكن هل قرأت تتمة حادثة مس (لنهيم) التي تشير إليها؟ فأجاب مخلوف وهو يلهث تعبا من أثر الهياج: لا، فماذا جرى لهذه الخبيثة بعد تركها حبيبها؟ فقال سليم: لقد لقيت عقابها. فصاح مخلوف حينئذ وشرر الجنون واليأس تتطاير من عينيه: هل ماتت؟! فارتعدت فرائص سليم وكليم لذلك الصوت الذي حكى صوت وحش جرح برصاصة، وأجاب سليم: كلا كلا؛ فإنه لا يموت أحد الحبيبين إذا افترقا، وخصوصا إذا كان أحدهما مظلوما إلا بعد اجتماعهما.
فبهت مخلوف يتأمل قليلا ثم قال: وكيف ذلك؟ فقال سليم: روى فرفوريوس عن نيقوديموس عن أفلاطون عن أرسطاطاليس أن كل نفس مظلومة لحبها نفسا أخرى - لا تموت إذا ثبتت في حبها، وصدقت قبل أن ترى النفس المحبوبة. ولذلك فكل فتاة تهجر فتى يحبها، ويثبت الفتى على حبه لها تعود إليه ذليلة من تلقاء نفسها بعد ذلك وتستغفره عن ذنبها، وتطلب إليه أن يشاركها في حياتها، وهكذا جرى لمس لنهيم التي قرأت في الجريدة حادثتها، فإنها عادت بعد مدة ذليلة واستصفحت خطيبها.
فهنا استوى مخلوف جاثيا على ركبتيه، وأبرقت عيناه برقا غريبا، وقال: وإذا كان قد انقضى على غيبتها عدة سنوات؟
فأدرك كليم في الحال ما قام في نفس ذلك المجنون التعيس، فهمس في أذن رفيقه: إنك تحاول نفعه بالأمل ولكنك ستضره. فأجاب سليم: وهل بعد الجنون من ضرر؟! فإنني الآن أجرب طريقة لإصلاح شأنه، وتسكين جهازه العصبي إلى حين.
ولما سأله مخلوف السؤال الذي تقدم أجابه سليم بقوله: سواء كان الوقت قصيرا أو طويلا فإنها تعود رغما عن أنفها، ولكني لم أذكر لك الطريقة التي استعاد بها المستر (أرثور) حبيبته المذكورة، فإنه قبل كل شيء ثبت على حبها ثبات الأبطال، فكان لا يذكرها بكلمة سوء ولا يحكي قصتها لأحد، ثم كان يتظاهر باللطف والبشاشة دائما ولا يضر أحدا من الناس، وينفعهم بقدر استطاعته، وكان على الخصوص يعتني بنفسه، فيأكل من الطعام ما يكفيه، ولا يتعب كثيرا بالطواف في البلاد، ويداري صحته ما أمكنه، وبهذه الطرق صار رجلا جميل المنظر لطيفا محبوبا من الناس، فما لبثت حبيبته أن عادت إليه تطلب منه الصفح عن هجرها إياه.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان سليم يتكلم ومخلوف يفتكر، وقد أخذ العرق يقطر من جبينه؛ فدل ذلك على أن نفسه كانت حينئذ في صراع شديد مع نفسها، ولما أتى سليم على آخر كلامه انهملت دموع مخلوف على خديه؛ فوضع رأسه بين يديه وصار يبكي بكاء شديدا؛ فاغرورقت حينئذ بالدمع عينا سليم وكليم، وازدادت دهشتهما من أن يوجد اليوم في الأرض إخلاص كإخلاص هذا العاشق المجنون التعيس.
ولما استغرق مخلوف في البكاء رام كليم تسليته من وجه آخر، فقال له: أنت مصيب في بكائك يا مسيو مخلوف، فبارك الله في عواطفك الرقيقة وقلبك الحساس؛ إنك - ولا شك - تبكي على الزوج المسكين الذي يتزوج ويرزق أولادا من زوجته ومع ذلك يرى عين امرأته ناظرة إلى سواه، إلى شاب أغض منه شبابا؛ فتجعل حياته جحيما دائما، إنك تبكي على الزوج الذي يتزوج اليوم ثم تموت زوجته الفتاة الرطبة الجميلة بعد سنتين تاركة على ذراعيه طفلين يصيحان دائما «يا أماه»، بينما قلبه يصيح معهما «يا حبيبتي»، إنك تبكي الزوج الذي يموت بعد زواجه بسنتين تاركا أرملة فتاة وصغيرين لا معين لهما غير الله، إنك تبكي الزوج الذي يرى عائلته تكبر شيئا فشيئا - كل سنة ولد - ويرى باب رزقه ضيقا؛ فهذه الأحوال الاجتماعية جديرة يا مسيو مخلوف بدموعك، وإذا كنت لم تتزوج بعد فاشكر الله لأنك لم تقع في أحدها.
ولكن يظهر أن المسكين مخلوف لم يفهم معنى هذا الكلام، أو كأنه لم يسمعه لاشتغاله عنه بما كان يجول حينئذ في ضميره، فلما سكت كليم تحفز للنهوض، فأمسك به سليم وكليم ليشاركهما في الطعام، فاعتذر ونهض، فحاولا إقناعه بالسفر معهما إلى الحدث ومنها إلى الأرز؛ فلما سمع كلمة الأرز قال لهما بهيئة جدية يضحك منها من يعرف جنونه إنه مسافر بعد مدة للأرز للسياحة هناك، وإنه سيقابلهما فيه. ثم تخلص منهما وودعهما بإحناء رأسه، وسار في سبيله.
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
ولما غاب عن بصرهما في منعطف المكان التفت سليم إلى رفيقه وقال: حقا إن حالته حالة مؤثرة. وبعد أن تناولا الطعام واستراحا قليلا ركبا وسارا في طريقهما مع جرجس، وكان كل واحد منهم يفكر في مخلوف، وبعد برهة دار بينهما الحديث على الطريق؛ لأن الطريق خير محرك للحديث.
فقال سليم: هذه أول مرة أرى فيها محبا جن من حبه؛ فما أحسن هذه الأخلاق الدمثة اللطيفة مع الجنون! فقال كليم: أما أنا فقد شاهدت مجانين عشاقا قبل اليوم، وعندي قصة أشد تأثيرا من قصتنا هذه، فإنني منذ سنتين زرت في طريقي مع بعض الأصحاب دير قزحيا حيث يعزل بعض المجانين؛ فلما أشرفنا على مكانهم وجدنا أحدهم منفردا عن الباقين وهو جالس حزينا ملوي الرأس، فقلنا: (إن كان فهذا. فوقفنا به فسلمنا عليه فرد السلام. فقلنا له: ما تجد؟ فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد
لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي: نفس تضمنها
অজানা পৃষ্ঠা
بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى القيامة ليس ينفعها
صبر وليس يفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي
فكأنها تجد الذي أجد
فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به وقال: أمثلي يقال له أحسنت؟! فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله أما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. فرجعنا وقلنا له: قل. فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
ورحلوها وسارت بالدمى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها
ترنو إلي ودمع العين منهمل
অজানা পৃষ্ঠা
وودعت ببنان عقده عنم
ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبها
من نازل البين حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعهم
يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم
يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا
فقلت له: ماتوا. فصاح وقال: ماتوا، وأنا والله أموت. ثم تربع وتمدد فمات لساعته، فما برحنا حتى دفناه.)
فقال سليم: يا للعجب! وهل روحه في يده حتى يطلقها حين يريد؟! فقال كليم: هذه قصة محزنة عن المجانين، وقد شهدت أيضا حادثة أخرى ولكنها مضحكة، إلا أنها تدل أيضا على ذكاء هذه الطبقة التي إذا طمس الجنون عقلها فإنه يبقي على نباهتها وحدة ذهنها.
অজানা পৃষ্ঠা
وتفصيل الخبر أنني كنت ذات يوم مارا بقرية القلمون الإسلامية الكائنة على شاطئ البحر تحت دير البلمند وقلحات، فرأيت اجتماعا عظيما خارج القرية فسألت: ما الخبر؟ فعلمت أن هنالك معتوها يضحك الأهالي منه، ويجوزون له ما لا يجوزونه لسواه، وكان هذا المعتوه (يجد ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومي الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون؟ أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية؛ فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمدا - عليه الصلاة والسلام - في حسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة. اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام فقال: جزاك الله خيرا أبا حفص عن الإسلام؛ فقد فتحت الفتوح ووسعت الفيء وسلكت سبيل الصالحين وعدلت في الرعية. اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه فيقول: خلطت في تلك السنين ولكن الله تعالى يقول:
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين.
ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرا أبا الحسن؛ فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة. اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.
ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي، فقال له: أنت قاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكا واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستبطر بالنعمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله ونقض أحكامه وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة.
ثم قال: يزيد. فأجلس بين يديه غلام فقال له: أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله، وتمثلت بشعر الجاهلية.
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل. اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا يزال يذكر واليا بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عمر. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام؛ فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق، اذهبوا به فألحقوه بالصديقين.
ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت ، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم. ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا).
অজানা পৃষ্ঠা
فقيل له: وبعد؟ فقال: أين أمويو الأندلس؟ فرفع إليه غلام، فقال له: إيه عبد الرحمن الداخل، ذهبت تخرق خرقا في الإسلام، وتنشئ خلافة جديدة وسلطنة كبيرة لم تحسن أنت وقومك الدفاع عنها. اذهبوا به إلى النار. ثم قال: أين الفاطميون؟ فرفع إليه غلام فقال: لقد ألهتم أمراءكم، وأضعفتم الإسلام بشقه شطرين. خذوهم. فقيل له: وبعد؟ فقال: بعد ماذا؟ فقيل: آل عثمان. فالتفت يمنة ويسرة ومد لسانه وحك رأسه وهم بالكلام، فصاح به صائح: باب السجن مفتوح. فضحك المعتوه وقال: أما بنو عثمان فإننا نؤجل الحكم عليهم. فضحك الجميع وانصرفوا.
فقال سليم: حقا إن هذا الرجل غريب؛ فإنه مع جنونه يصف كل أمير الوصف الذي ينطبق عليه كأنه من أبصر الناس بالتاريخ، أما صاحبنا مخلوف، فإنني أرى من القسوة أن نتركه في هذه الحالة؛ ولذلك عزمت على معالجته لعلي أرد عليه صوابه.
الفصل الرابع
الحدث
أحد أغنياء أميركا العظام فيها
وطوى الفارسان بالحديث المسافة بين عين السنديانة والحدث، ولما وصلا إلى هذه القرية دخلا إليها منقبضي الصدر؛ لأنهما كان يعللان النفس بأن يشاهدا في أعالي الجبل مناظر أبهى وأجمل، وهذا شأن كل من يتصور شيئا جميلا قبل معرفته؛ فإنه قلما تكون صورته الحقيقية مساوية لصورته الخيالية، خصوصا إذا كان المتصور شديد الخيال، وأشد الناس خيالا وأرقاهم تصورا، وأسلمهم ذوقا من لا يرى في صور الموجودات - مهما كانت عظيمة نفيسة - صورة تفوق أو تساوي صورتها التي ارتسمت في خياله قبل أن يراها.
وفي الحقيقة إن جمال الحدث لا يظهر للداخل إليها لأول مرة، بل تجب الإقامة فيها يومين أو ثلاثة لإدراك محاسنها؛ فهي قرية صغيرة قائمة على أكمة في جبة بشري، مطلقة للهواء والنور من جهاتها الأربع؛ فيظهر أن الذين بنوها لم يرهبوا الزوابع والرياح والثلوج في تلك الأعالي؛ ولذلك لم يخفوا قريتهم في ظل أكمة مرتفعة كقرية (قنات) القريبة منها إلى الجنوب الغربي، ولا بنوها في سفح جبل كأهدن التي تقابلها في الشمال، ولا في قلب واد كحصرون في الشرق، بل هم قصدوا بها - على ما يظهر - مصادمة تلك العناصر الطبيعية في تلك الأعالي التي يعممها الثلج، ويغطيها الضباب نصف سنة تقريبا، وهذا ما جعل هواءها أجود الأهوية وأجفها، واجتذب إليها المرضى للاستشفاء فصاروا يفضلونها على سواها.
ولما دخل سليم وكليم إلى القرية كان أهلها في هياج واضطراب، وبعضهم يتراكضون إلى منزل قائم فوق حرش صغير بجانب القرية إلى الجنوب الغربي. فقال كليم: يا جرجس، استخبر لنا الخبر. فسأل جرجس أحد الأهالي، فأخبره أن بعض الأميركان يرومون استئجار بيت في القرية، ولكن في الأهالي فريقا لا يريد تأجيرهم؛ لأنهم بروتستنت يحثون الناس على ترك مذهبهم إلى المذهب البروتستنتي.
فضحك سليم لما علم بسب هذا الاضطراب، وقال لرفيقه: إن هذه الاختلافات في المذاهب والأديان تتبعنا حتى أقاصي البلدان، ثم سأل سليم جرجس: ما رأيك يا جرجس في هذا؟ هل يجوز لهم ذلك أم لا يجوز؟ فأجاب جرجس: الحق أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يريدون تغيير مذهبهم الذي ربي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفدونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات. فأجاب سليم مازحا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهالي الجبة من طرد الأميركان؟ فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس. فاحتار جرجس في الجواب، فضحك سليم وكليم؛ لأنهما أدركا معنى سكوت جرجس، وقال: أنا سليم ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب: الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدما في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية. والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خلافا لرجال الدين في الكورة، وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل. والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أن تبعد - ما أمكنها - كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية الغير الفرنسوية. والرابع: أن الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق؛ فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟!
فقال كليم حينئذ - وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!
অজানা পৃষ্ঠা