وبعد ذلك كان ينشده في كل حدث يحدث قصيدة إلى أن حدث يوم نشر الورود فدخل عليه والملك على السرير في قبة يحسر البصر في ملاحظتها بأبواب. والأتراك ينثرون الورد فمثل المتنبي بين يديه وقال: ما خدمت عيني قلبي كاليوم، وأنشد يقول:
قَدْ صَدَقَ الوَرْدُ في الذي زَعَما ... أَنَّكَ صَيَّرْتَ نَثْرَهُ دِيَما
كأَنَّما مائِجُ الهَوَاءِ بِهِ ... بحرٌ حوى مثل مائِهِ عَنَما
فحُمل على فرس بمركب وأُلبِس خلعة ملكية وبدرة بين يديه محمولة.
وكان أبو حفص ابن ما قوله وزير بهاء الدولة مأمورًا بالاختلاف إليه وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرّفها منه فقال: كنت حاضرة وقام ابنه يلتمس أجرة الغسّال فأحذَ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال، يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء يطبخ قدره وينعل فرسه ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة.
وورد كتاب أبي الفتح ذي الكفاءتين ابن أبي الفضل) وكان من أجاود زمان الديلم فرّق في يوم واحد بشديز قرميسين ألفين وخمسمائة قطعة ابريسم (ومضمون كتابه الشوق إلى لقاء المتنبي وتشوقه إلى تطرقه عليه فأجابه المتنبي:
بِكُتْبِ الأنامِ كتابٌ وَرَدْ ... فدتْ يَدَ كاتبه كُلُّ يَدْ
إذا سَمَعَ النَّاسُ أَلْفَاظَهُ ... خَلَقْنَ لَهُ في القُلوبِ الحَسَدْ
فقلتُ وَقَد فَرَسَ النَّاظري ... نَ كذا يفعَلُ الأسد ابنُ الأسدْ
فلما أعاد الجواب إلى أبي الفتح جعل الأبيات سورة يدرسها ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه، فقال أبو محمد ابن أبي الثياب البغدادي:
بَوَارِدُ شِعْرٍ كَذوبِ البَرَدْ ... أتانا به خاطِرٌ قد جَمَدْ
فَقْبَلَ يَمْضَغُهُ بَعْضُنا ... وهَمُّ السنانير أكْلُ الغُدَدْ
وقالوا جَوادٌ يَفوقُ الجِيَادَ ... وَيَسْبِق مِنْ عَفْوِهِ المُقْتَصِدْ
وَلَو وُلِّيَ النَّقْدُ أَمْثالَهُ ... لَظَلَّتْ خَفَافيشُنا تنتقَد
فاستخف أبو الفتح به وجره برجله، ففارقهم وهاجر إلى أذربيجان والأمير أبو سالم بن شاذلويه على الإمرة فاتصل به وحظي عنده على غاية الإكرام والإيجاب فاتفق أنه ليلة كان على الشرب فأمره ديسم بنعت الشموع وكاتبًا له يعرف بالنُّنْنُعِيّ فبدره أبو محمد فقال:
وَمَجْدولَةٍ تَاجُها يَلْمَعُ ... بِلا حَزَنٍ عَيْنُها تَدْمَعُ
تَحَدَّرَ مِنْ حَقْوَها مِئْزَرٌ ... لَهُ مِنْ ذَلالِهِ مِرْقَعُ
تَجُزُّ مَواشِطِها شَعْرَها ... فَيَنْبُتُ حَدْثانَ ما يُقْطَعُ
وَكَمْ مَجْلِسٍ حَضَرْتُ في الظلامِ ... فأبدعتُ فيها كما أُبْدِعُ
وَقَد أَمَرَ الكاتِبُ النغنعيّ ... فَيا لَيْتَ شِعْري ما يَصْنَعُ
ثم فارق أبو محمد ابن أبي الثياب أذربيجان وورد الدينور وبها أبو الفرج المنشئ صاحب ركن الدولة مع عسكر جرار لمحاربة حسنويه بن الحسين، فكان أبو محمد ابن أبي الثياب يغشاه فحضره ليلة صبيحتها يوم المهرجان وعنده أبو علي الفراء ابن أخت ابن قتيبة الدينوري فابتدأ أبو محمد بحديث ليلة الشرب عند الديم ونعت الشمعة وأنشد قطعته فقام أبو علي الفراء وأصلح شمعة موكبية حملها إلى أبي الفرج المنشئ مع هذه المقطوعة:
يأيُّها الأُستاذُ إنَّكَ قَدْ ... أصْبَحْتَ في المَجْدِ عالي الدَّرَجِ
قَدْ جَاءَكَ المهرجان يلتمس الزِّينَ ... ةَ مِن نورِ وَجهِكَ البَهيجِ
وما يَضوعُ الريحانُ في زَهرِ ال ... بُستان إلا بِنَشرِكَ الأرِجَ
أهديتُ فيه وليسَ مِثْلُكَ مَنْ ... يُهدى على قدرهِ سوى المهجِ
ذاتَ وِشاحٍ في الوَرْسِ مُندمِجٍ ... مندرجٍ فيه أيَّ مُندَرَجِ
فلونُها لونُ عاشقٍ دَنِفٍ ... وقَدُّها قَدُّ شادِنٍ غَنِجِ
يُنْتِجُها النَّحْلُ ثُمَّ يُسَلِّمُها ... إلى لهيبِ الضِّرامِ والوَهَجِ
مأسورَةٌ في يَدَيْ مُدَبِّرُها ... فَظَّ بإِتلافِ روحِها لَهِجِ
وتَخْلُفُ البَدْرَ في الظَّلامِ كما ... يَخْلُفُ شَمسَ الضُّحى أبو الفَرَجِ
سَمَيدَعٌ أصْبَحَتْ خَلائِقُهُ ... يَحذو بِها كُلُّ شاعِرٍ هَزِجِ
1 / 6