فقاطعها المشير قائلا: ما اسمها؟ - قيل يا سيدي: إنها تدعى الدوقة مريم رومانوف، وإنها بنت الغراندوق نقولا أو حفيدته والله أعلم. وإنما كانت تنكر باسم المدموازال دلزل. وكانت تغني في أحد الملاعب لأن صوتها بديع. ولما كنت أنا أعرف اللغة الروسية جيدا قصدت إليها وعرضت نفسي كاتبة سر لها. فقبلتني بكل سرور ولاطفتني جدا. ولكني ما لبثت أن شعرت أن منزلها مزار للكبراء والأمراء ممن يتحببون إليها ويتوددون. فقلت لها: «إني أود أن أكون منفردة في مكتبي ولا أود أن أختلط مع أحد من زوارك يا سمو الدوقة، فإذا كنت تحتاجين إلي في خدمة أو عمل فأرجو أن تشرفي إلى المكتب.»
فقال الغازي: ونعم الشرط! فعسى ألا تكون قد أبته. - كلا، بل كانت مسرورة بشرطي هذا. واغتنمت فرصة مناسبة ذات يوم وقالت لي: إنها تثق بأمانتي واستقامتي، ولهذا لا تتخوف من اطلاعي في بعض الأحيان على أسرارها. وأفهمتني أنه ليس لها من الأسرار والمساعي ما يخالف الضمير والعدل، وإنما هي تسعى لصيانة مقامات الكبراء التي صار يخشى عليها من تطاول عامة الشعب. فشكرت لها حسن قصدها، وفهمت أنها طريدة البلشفيك، وأنها تسعى لعقد جمعية سرية أو شبه سرية لجمع كلمة الأمراء والكبراء في كل البلاد لاتخاذ كل الوسائل المشروعة لوقاية مقاماتهم.
فقال المشير الغازي: نعم المسعى! وهل عندك بينات ومعلومات عن هذا المسعى؟ - نعم، فقد استكتبتني ذات يوم دعوة عمومية لعديد من الأمراء والكبراء لعقد اجتماع أو مؤتمر عندها. وعندي نسخة منه.
وفتحت تريزا - نميقة - حقيبتها واستخرجت عدة أوراق، وانتقت منها تلك الورقة وقدمتها للمشير الغازي، وكان رجاء إلى جنبه يطلع عليها معه. فإذا هي نسخة نفس الدعوة التي وجدوها بين الأوراق. ثم قال مصطفى باشا: وهل عندك أوراق أخرى؟ - نعم، سأري دولتكم كل شيء. ثم قدمت لي الدوقة ذات يوم ورقا منضدا بكل عناية، وأمرتني أن أكتب عليه أسطرا قليلة مكتوبة على ورقة أخرى، فكتبت. - ماذا كانت الكتابة؟ - لا أتذكرها بالحرف الواحد لأنها غامضة، وإنما يستدل منها أنها رسالة من أحد الأمراء لها. فاستغربت الأمر كل الاستغراب. ثم كلفتني بكتابة أسطر أخرى على ورق آخر منضد، أعني عدة صفحات بعضها فوق بعض، وبينها أوراق أخرى من غير شكلها، ولاحظت أيضا أن هذه الأسطر كرسالة من شخص لآخر. وفي ذات يوم قدمت لي رسالة مكتوبة وقد قطع منها العنوان والإمضاء، وسألتني إن كنت أستطيع أن أكتب خطا مشابها لخط هذه الرسالة. فمارست الكتابة حتى استطعت أن أكتب خطا مشابها لها. وعند ذلك أملت علي كلاما كتبته على أوراق منضدة أيضا. وقد تكرر الأمر واستكتبتني أسطرا مختلفة على أوراق مختلفة، حتى ارتبت فيها وأوجست منها وشغل بالي شغلها هذا. وفي ذات يوم عثرت على مكتبي بنضيد من هذا الورق كأنها نسيته، وعليه كتابة من خط يدي. فقلبت الورقة التي كتبت عليها فإذا تحتها ورقة من ورق الكربون الجيد جدا البنفسجي اللون، فقلبت هذه الورقة فظهرت كتابتي تحتها تماما كأنها مكتوبة بحبر بنفسجي. والغريب أني رأيت في آخر الكتابة إمضاء أحد الأمراء مع أني لم أكتب إمضاء. فاستغربت كل الاستغراب كيف جاء هذا الإمضاء في آخر الكتابة؟! وبعد تفكير قليل أدركت أن الإمضاء كان مكتوبا من قبل على الورقة المغطاة بورقة الكربون التي كانت تحت الورقة التي كتب عليها، وأن كتابة الإمضاء نفسها كانت بلون الكربون، كأن ذلك الأمير أمضى إمضاءه على ورقة غير تلك التي كانت فوق الكربون. فظهر الإمضاء على الورقة التي تحت الكربون. ولكن لماذا أمضى ذلك الأمير إمضاءه؟ وفي أي حال وكيف؟ هذا هو السر الذي بقي غامضا عندي.
وكان مصطفى باشا يسمع الكلام مستغربا وينظر في رجاء ورجاء يبتسم. ثم قال: وهل بقي هذا السر مكنونا؟ - كلا، بل اكتشفته أخيرا.
فاشرأب الغازي وقال: كيف؟
فقالت: لما صرت أرتاب بأعمال الدوقة وحركاتها، صرت أحتاط لنفسي؛ بمعنى أني أتجنب ما أمكن أن ألبي أوامرها هذه، وصرت أفتكر في أن أنفصل عنها مخافة أن أقع تحت شبهة. ولكن قبل أن أبت أمرا قالت لي ذات يوم: «أرجو منك أن تأخذي إلى منزلك هذه الحقيبة وتنتظري مني رسالة أنبئك إلى أين توافينني بها، لأني مسافرة اليوم. وبعد يومين أو ثلاثة ترد إليك مني رسالة بتعليماتي. وهذه عشرة جنيهات لأجل النفقات.» فأخذت الحقيبة. وفي اليوم التالي علمت أن الحكومة قبضت عليها وعلى بعض الأشخاص الذين كانوا يزورونها. فدهشت وجزعت وخفت أن تكون الحقيبة التي عندي مشتملة على أذية لي. ففتحتها فإذا فيها أوراق كتلك الأوراق التي كانت تستكتبني عليها. فجعلت أفحص تلك الأوراق، فما لبثت أن فهمت الحيلة الشيطانية. فهمت أن تلك الدوقة كانت تغري أولئك الأمراء الساذجين السليمي النية وتقدم لكل زائر منهم ذلك الورق المنضد، وتلتمس منه أن يكتب أي جملة ويوقع تحتها لتحفظها كتذكار عندها، فكان يكتب هذا مثلا: «الله جميل يحب الجمال» ويوقع اسمه تحته. وذاك يكتب: «العدل أساس الملك» ويوقع اسمه تحته. وكانت تضع تحت الورقة ورقة صغيرة من ورق الكربون الجيد اللون في نفس النقطة التي يوقع عليها كاتب الجملة، بحيث لا تظهر الجملة على الورقة التي تحت الكربون بل يظهر الإمضاء فقط. ثم كانت تضع تلك الورقة - التي أصبحت ممضاة على بياض - تحت ورقة الكربون وتضع فوق ورقة الكربون ورقة بيضاء وتستكتبني عليها الأسطر التي تريدها. وكانت تعين لي المكان الذي يجب أن أكتب عليه حتى تقع الكتابة فوق الإمضاء لا بعيدة عنه ولا طامسة عليه.
فتمايل مصطفى باشا في مكانه وقال: يا للعجب! يا للدهاء! ولكن ماذا كان غرضها من هذه الأوراق التي تزور فيها رسائل من الأمراء، وهي تزعم أنها تريد جمع الأمراء في جمعية تعمل حرصا على حقوقهم؟ - الحق يا سيدي المشير أني تحيرت بدهاء هذه الماكرة وعملها. فخطر لي أنها ليست دوقة كما تدعي. وقد تكون جاسوسة لذلك الكافر الملحد المتبلشف مصطفى باشا كمال.
فاختلج الغازي ونظر إلى رجاء وهما يتباسمان، فقال رجاء: لو كانت هذ الدوقة جاسوسة الغازي مصطفى باشا لما كان يأمر بالقبض عليها.
فقالت نميقة: وما أدراك أنه أطلق سراحها وكان قبضه عليها تمويها. ألا تظن كذا يا فوزي باشا؟
অজানা পৃষ্ঠা