تفكر الفتاة في هذا فتنأى عنه بجانبها أول الأمر، ثم تعاود التفكير فيه وتعاود النأي عنه، ثم يتصل تفكيرها فيه، ويتصل بر الفتى لها ورفقه بها وإيثاره إياها بالطيب من نفسه وبالطيب من الحياة، إن كان في حياة الرقيق شيء من الطيبات، وإذا الفتاة تجد في نفسها عطفا على هذا الفتى، ثم ميلا إليه، ثم احتياجا إلى مكانه منها، ثم وحشة حين يغيب عنها فيطيل الغياب.
وتمضي أيام وأسابيع والفتى ماض في حبه الخالص وبره الصادق، والفتاة ماضية في هذا الاضطراب القلق المقلق، ثم تحس الفتاة حاجتها إلى أن تأنس إلى الفتى أكثر مما أنست إليه، وإلى أن يأنس الفتى إليها أكثر مما أنس أثناء هذه الشهور الطوال، تود له استطاعت أن تلغي ما بينها وبينه من الكلفة، وأن تتحدث إليه ويتحدث إليها حديث الرفيق إلى الرفيق، ولكنها لا تجد الوسيلة إلى ذلك قريبة ولا ميسرة، فقلبها يبسم للفتى، وثغرها يريد أن يبتسم فيرده عن الابتسام فضل من حياء، ولكنها مع ذلك تلحظ الفتى حين يقبل عليها أو حين يتحدث إليها في بعض الأمر لحظا فيه شيء من دعة ورفق وأنس، ويبلغ لحظها من الفتى أعماق نفسه فيملؤها غبطة وفرحا ورضا، ثم لا يزيد على ذلك.
فلم يحدث الفتى نفسه بأمل قريب أو بعيد، ولم يخطر الفتى على باله أن من الممكن أن تلغى المسافات والآماد بينه وبين أميرته، أو ينظر إليها ذات صباح أو ذات مساء نظرة الطامع أو الطامح، وإنما هي بالقياس إليه أميرة قد استقرت على عرش يمكن أن يرقى إليه الطرف ولا يمكن أن ترقى إليه النفس، فضلا عن أن ترقى إليه القدمان. وكذلك أصبح الأمر بين هذين الرفيقين أمرا عجبا؛ هما زوجان أمام الأحرار والرقيق، وهما زوجان أمام العرف الذي اصطلح الناس عليه، ولكن الفتى يكبر الفتاة عن أن تكون له زوجا، والفتاة لا تكبر نفسها عن ذلك، ولا تتمنى شيئا غيره، ولا تجد السبيل إليه، حتى استحالت الصلة بينهما إلى شيء غير مألوف، فالفتاة عاشقة وامقة،
134
ولكن الفتى يرى نفسه أقل من العشق وأصغر من الوموق. وربما ضاقت الفتاة بهذه الصلة التي جعلت تنكرها، وربما وجدت
135
على الفتى وظنت به الغرور والكبرياء، وإن لم يجد الفتى في نفسه إلا التواضع والهوان. ولولا حرص الفتى على أن يكون رفيقا رقيقا، وحرص الفتاة على أن تكون عارفة للجميل شاكرة للنعمة مقرة بالمعروف، لجاز أن يفسد الأمر بينهما. والفساد لا يسرع إلى شيء كما يسرع إلى صلة المحبين حين يبلغ بينهما أقصاه، وحين تثور الصعاب وتقوم العقاب
136
بينه وبين غايته. فقد جعل صدر الفتاة يضيق، وجعل السأم يسعى إلى نفسها، وجعلت لا تحس شيئا إلا أنكرته، وجعلت تشعر أن خلقها يريد أن يسوء، وأحس الفتى منها بعض ذلك، فغلا في الرفق،
137
অজানা পৃষ্ঠা