قال عمار: أبشر يا أبت؛ فقد جئتك بخير الدنيا والآخرة.
قال ياسر: أمفصح أنت عما تريد؟ ألم أحدث أنك قد صبأت؟! ويلك!
64
ماذا جنيت على أبويك؟!
قال عمار، وهو يتضاحك رفيقا بأبيه: بل قل: ماذا جنيت لأبويك؟ فقد جنيت لكما خير الدنيا والآخرة، لقد حدثك من حدثك بأني صبأت، فإني لم أصبؤ، وإنما أسلمت لله الذي خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وأرسل إلينا محمدا يهدينا سبلنا ويبصرنا بأمرنا، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الجهالة والضلالة والغي إلى الحكمة والهدى والرشد، ويبشر من آمن واتقى بأن له رضا الله عنه ما عاش، وبأن له رضا الله عنه ومثوبته له بعد أن يموت، وينذر من كذب وعصى بأن عليه لعنة الله حيا، وبأن له نار جهنم يصلاها
65
خالدا فيها بعد أن يموت. •••
وسمع الشيخ هذا كله مصغيا له، وكأن كلمات ابنه كانت تنفذ إلى قلبه دون أن تمر بأذنيه، وقد جعل وجهه يشرق شيئا فشيئا حتى استحال كله نورا، وجعلت قوته تذهب عنه شيئا فشيئا حتى تهالك وكاد ينهار، لولا أن أسرع إليه ابنه وامرأته فأسنداه وأجلساه، وأقبلا عليه يرفقان به ويتلطفان له، يمسح عمار رأسه وتمر سمية يدها على وجهه، والشيخ واجم لا يتحرك لسانه في فمه إلا بهذه الكلمات: فهو ذاك إذن! فهو ذاك إذن!
قال عمار في صوت حلو: ماذا تقول يا أبت؟!
قال ياسر - وقد احتبست في حلقه عبرة لم يبن صوته منها إلا بعد جهد، وقد جعلت عيناه تسحان على وجهه دموعا غزارا - قال ياسر: هو ذاك إذن! لقد أذكرتني يا بني حديثا كان بيني وبين أبي حذيفة حين ألممت بمكة ولم أكد أجاوز العشرين. أراد أن يحالفني عند آلهته فأبيت عليه، فلما سألني عن ذلك ذكرت له أني لو كنت متخذا إلها لعبدت البحر الذي يخيفني، أو الشمس التي تضيء لي، أو النجوم التي تهديني، ولكن شيئا من ذلك لا يبلغ قلبي ولا يتحدث إلى نفسي ولا يثير فيها رغبا ولا رهبا. فقد أنبأك محمد إذن بأن لهذه الآيات كلها خالقا فطرها ودبر أمرها، هو ذاك إذن! ثم أطرق الشيخ إطراقة طويلة، ثم رفع رأسه والدموع تنهل من عينيه غزارا وهو يقول: هو ذاك إذن! ومن أجل هذا آثرت بعد الدار على قربها، واخترت أن أكون حليفا لبني مخزوم على أن أكون عزيزا في بني عنس، وتركت أخوي يعودان إلى تهامة، وأقمت أنا في هذه البطحاء. ثم يتحول إلى سمية، فيمسح رأسها بيده، وهو يقول: وكان حبك هو الذي دعاني إلى انتظار هذه الساعة. ثم يعود إلى إطراقه، ثم يرفع رأسه وقد كفت عيناه عن البكاء، وجعلت قطرات من دمعه تتلألأ في لحيته، وهو يقول لابنه عمار: متى تصحبنا إلى محمد لنسمع منه كلمة الحق؟
অজানা পৃষ্ঠা