وكان ابن مسعود يقرئ الناس القرآن في أثناء إقامته في الكوفة، ويعظهم عشية كل خميس، يقوم فيهم خطيبا معتمدا على عصا، فيتكلم ما شاء الله أن يتكلم ثم يسكت، وأحب شيء إلى سامعيه أن يمضي فيما كان فيه من حديث. ولم يكن ابن مسعود يخاف شيئا كما كان يخاف الرواية عن النبي، شأنه في ذلك شأن المتحفظين الذين سمعوا النبي يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.» فأشفقوا أن يتحدثوا عنه فيخطئوا صدق الحديث وهم لا يشعرون. وجرى مرة على لسان ابن مسعود وهو يعظ الناس قوله: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلم يكد هذا القول يجري على لسانه حتى أخذته رعدة عنيفة اضطرب لها جسمه كله، وتزعزعت لها العصا التي كان يعتمد عليها، وتصبب العرق على جبهته، فقال: أو فوق هذا، أو نحو هذا، أو دون هذا. ولم يرض أهل الكوفة على أحد من ولاتهم كما رضوا عن عبد الله بن مسعود وعن أبي موسى الأشعري.
وقد توفي عمر - رضي الله عنه - وابن مسعود أمير على بيت المال في الكوفة، فأقره عثمان على عمله، حتى إذا كانت ولاية الوليد بن عقبة للكوفة حدثت أحداث حولت ابن مسعود إلى المعارضة، وكان ابن مسعود قبل هذه الأحداث من أرضى الناس عن عثمان، وأحسنهم ذكرا له، ودعاء إليه.
26
وقد حدث بعض هذه الأحداث في الكوفة، وحدث بعضها الآخر في المدينة، فأما ما حدث منها في الكوفة فسياسة جديدة في بيت المال لم يألفها عبد الله بن مسعود، ولم يكن ليطمئن إليها أو يرضاها، فقد كان الوليد يتوسع في النفقة، ويرى أن له أن يصنع بمال المسلمين ما يشاء. وكان ابن مسعود قد ألف منذ أيام عمر أن أموال بيت المال ملك للمسلمين لا للأمراء، وأن الأمراء لا ينبغي أن ينفقوها إلا بحقها، وفي الوجوه التي تنفع عامة المسلمين.
وإلى جانب هذه السياسة المالية الجديدة كان للوليد بن عقبة سيرة لم يرض عنها خيار أهل الكوفة، وقد أنكر ابن مسعود ما أنكر الناس، وكره الوليد منه هذا الإنكار، واشتد الخلاف بينهما، وكان الناس إلى ابن مسعود أميل، وله أحب، ولقوله أكثر استماعا.
وأما ما حدث في المدينة فانتداب
272
عثمان لجمع القرآن في مصحف واحد وقراءة واحدة.
وقد ألف عثمان لهذا العمل الخطير لجنة من حفاظ المسلمين، وجعل رياستها لزيد بن ثابت. وليس من شك في أن عثمان قد نصح للمسلمين في هذا العمل، وكره لهم أن يختلفوا في قراءة كتاب الله، ولما تم له جمع المصحف أذاعه في الأمصار، وحظر القراءة على غير ما كتب فيه، وتقدم في تحريق غيره من الصحف التي كتب فيها القرآن قبل أن يجمع المصحف الإمام، فكره ابن مسعود ذلك، وكان من أقرأ الناس وأحفظهم، وأبى أن يذعن لأمر عثمان. ثم لم يكتف بذلك، وإنما جعل يلهج بنقد ما تقدم فيه عثمان وبنقد سيرة الوليد في الكوفة، وكان إذا خطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع قال لهم فيما كان يقول: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ورأى الوليد في هذا الكلام تعريضا به وبعثمان، فتقدم إلى ابن مسعود في ألا يعيده، فلم يحفل به ابن مسعود ولم يلتفت إليه.
অজানা পৃষ্ঠা