Voluntary Charity in Islam
صدقة التطوع في الإسلام
প্রকাশক
مطبعة سفير
প্রকাশনার স্থান
الرياض
জনগুলি
٥٠
رسائل سعيد بن علي بن وهف القحطاني
صدقة التطوع
في الإسلام
مفهوم، وفضائل، وآداب، وأنواع
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
অজানা পৃষ্ঠা
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «صدقة التطوع في الإسلام» بيَّنت فيها: مفهوم صدقة التطوع، وفضائلها العظيمة، وأفضل صدقات التطوع، والإخلاص شرط في قبول التطوع، وآداب الصدقة، وإطعام الطعام، وثواب الصدقة به، والصدقة على الحيوان، وصدقة القرض الحسن، والصدقة الجارية والوقف، وأن الصدقات من صفات المؤمنين، وصدقة الوصية بعد الموت، وأنّ الهدية، والعطية، والهبة تكون صدقات بالنية، ثم بيَّنت أنواع صدقات التطوع على حسب أنواعها، وذكرت مبطلات الصدقات، وبيَّنت موضوعات متنوعة في الصدقات، وذكرت فضل صدقة إعتاق الرقاب المسلمة، وبيّنت وصول ثواب الصدقات المهداة إلى أموات المسلمين، ثم ذكرت القناعة والعفّة، ثم أنواع المسألة الجائزة والممنوعة، وذكرت الزهد والورع.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ﵀ وغفر له -.
1 / 3
وكذلك استفدت كثيرًا من تخريجات العلاّمة المحدّث ناصر الدين الألباني للأحاديث ﵀، وغفر له.
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه ﷾ خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف/ أبو عبد الرحمن
الفقير إلى الله تعالى سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر قُبيل مغرب يوم الخميس ٢٥/ ٤/١٤٢٦هـ الرياض
1 / 4
صدقة التطوع في الإسلام
أولًا: مفهوم صدقة التطوع: لغة واصطلاحًا
الصدقة لغة: جمع صدقات، وتَصَدَّقتُ: أعطيتُهُ صدقةً، والفاعل مُتصَدِّقٌ، [وهو الذي يُعطي الصدقة]، ومنهم من يخفف بالبدل والإدغام فيقال: مُصَّدِّقٌ، والمتصدِّقُ: المُعطي، وفي التنزيل: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ (١).
وقد جاء المتصدِّقُ والمصَّدِّقُ في القرآن العظيم: ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ (٢). و﴿الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ﴾ (٣). وأما المُصَدِّق بتخفيف الصاد: فهو الذي يأخذ صدقات النَّعَم» (٤).
والذي يُصدِّقك في حديثك (٥) فالصدقة: العطية.
والصدقة اصطلاحًا: العطية التي يُبتغى بها الثواب عند الله تعالى (٦).
قال العلامة الأصفهاني: «الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوَّع به، والزكاة للواجب، وقد يُسمَّى الواجب صدقةً إذا تحرَّى صاحبها الصدق في فعله» (٧).
_________
(١) سورة يوسف، الآية: ٨٨.
(٢) سورة الأحزاب، الآية: ٣٥.
(٣) سورة الحديد، الآية: ١٨.
(٤) المصباح المنير، للفيومي، ١/ ٣٣٦.
(٥) مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ص ١٥١.
(٦) التعريفات للجرجاني، ص ١٧٣، ولغة الفقهاء، لمحمد روَّاس، ص ٢٤٣.
(٧) مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، ص ٤٨٠.
1 / 5
والعطية: الشيء المُعطى، والجمع: العطايا، ويقال: رجل مِعطاءٌ: كثير العطاء، والمعاطاة: المناولة، والإعطاء: الإنالة (١).
والعطية اصطلاحًا: ما أعطاه الإنسان من ماله لغيره، سواء كان يريد بذلك وجه الله تعالى، أو يريد التودُّد، أو غير ذلك، فهي أعمّ من الزكاة، والصدقة، والهبة، ونحو ذلك (٢).
التطوع لغة: التنفُّل، والنافلة، وكل متنفِّل خير متطوع، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ (٣).
وقد تدغم التاء في الطاء فيقال: المطوِّع: أي المتطوع (٤).
والتطوع اصطلاحًا: ما تبرع به المسلم من ذات نفسه، مما لا يلزمه فرضه (٥).
وقيل: المتطوع هو الذي يفعل الشيء تبرعًا من نفسه، وهو تفعلٌ من الطاعة (٦)، والتعريف الأول أشمل.
ثانيًا: فضل صدقة التطوع، لها فضائل كثيرة جدًا، منها ما يأتي:
١ - صدقة التطوع تكمِّل زكاة الفريضة وتجبر نقصها؛ لحديث تميم
_________
(١) مختار الصحاح، ص ١٨٥، والمصباح المنير، ٢/ ٤١٧، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص ٥٧٢.
(٢) الموسوعة الفقهية، ٢٣/ ٢٢٧.
(٣) سورة البقرة، الآية: ١٨٤.
(٤) النهاية في غريب الحديث، ٣/ ١٤٢.
(٥) لسان العرب، لابن منظور، باب العين، فصل الطاء، ٨/ ٢٤٣.
(٦) النهاية في غريب الحديث، ٣/ ١٤٢.
1 / 6
الداري ﵁ مرفوعًا: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمَّها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله ﷿ لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوِّعٍ فتكملون بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك» (١).
٢ - تُطفئ الخطايا وتكفرها؛ لحديث معاذ ﵁ مرفوعًا إلى النبي ﷺ، وفيه: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (٢).
وفي حديث حذيفة ﵁: «فتنة الرجل: في أهله، وولده، وجاره، تكفرها الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (٣).
٣ - من أسباب دخول الجنة والعتق من النار؛ لحديث عائشة ﵂ أنها قالت: جاءتنى مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة؛ لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت
_________
(١) أبو داود، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: «كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوِّعه»، برقم ٨٦٤، ٨٦٦، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد: الصلاة، برقم ١٤٢٥، وأحمد، ٤/ ٦٥، ١٠٣، ٥/ ٣٧٧، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٢٤٥، وفي صحيح الجامع، ٢/ ٣٥٣.
(٢) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم ٢٦١٦، وأحمد، ٥/ ٥٣١، و٢٣٦، و٢٣٧، و٢٤٥ وحسنه الألباني في إرواء الغليل، ٢/ ١٣٨.
(٣) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب: الصلاة كفارة، برقم ٥٢٥، وكتاب الزكاة، باب الصدقة تكفر الخطيئة، برقم ١٤٣٥، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم ١٤٤.
1 / 7
لرسول الله ﷺ فقال: «إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار» (١).
٤ - الصدقة تدخل الجنة ولو بشق تمرة، فعن عائشة ﵂ قالت: دخلت عليَّ امرأة معها ابنتان لها تسأل؟ فلم تجد عندي شيئًا غير تمرةٍ، فأعطيتها إيَّاها، فقَسَمَتْها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت وخرجت، فدخل النبي ﷺ فأخبرته فقال: «من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار» (٢).
قال الحافظ ابن حجر ﵀ في الجمع بين الحديثين السابقين: «ويمكن الجمع بأن مرادها بقولها في حديث عروة: فلم تجد عندي غير تمرة واحدة: أي أخصها بها، ويحتمل أنها لم تكن عندها في أول الحال سوى واحدة، فأعطتها، ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة» (٣).
٥ - من أسباب النجاة من حرِّ يوم القيامة؛ لحديث عقبة بن عامر ﵁، عن النبي ﷺ قال: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس». أو قال: «يحكم بين الناس» (٤). وفي لفظ: «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته» (٥). قال يزيد- أحد رواة الحديث: «وكان أبو الخير-
_________
(١) مسلم، كتاب البر والصلة، باب الإحسان إلى البنات، برقم ٢٦٣٠.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة، برقم ١٤١٨، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب الإحسان إلى البنات، برقم ٢٦٢٩.
(٣) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ١٠/ ٤٢٨.
(٤) أحمد في المسند، برقم ١٧٣٣٣، وقال محققو المسند: «إسناده صحيح» وأخرجه ابن حبان برقم ٣٣١٠، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ١/ ٥٢٣.
(٥) أحمد، برقم ١٨٠٤٣، وقال محققو المسند: «حديث صحيح».
1 / 8
راوي الحديث عن عقبة لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة،
أو بصلة، أو كذا» (١). وقال النبي ﷺ في أحد السبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: «... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (٢).
٦ - الصدقة من أسباب النصر، والرزق؛ لحديث سعد ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» (٣). قال ابن بطال ﵀: «تأويل الحديث: أن الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا» (٤).
وعن أنس ﵁ قال: كان أخوان على عهد النبي ﷺ، فكان أحدهما يأتي النبي ﷺ، والآخر يحترف، فشكى المحترفُ أخاه إلى النبي ﷺ فقال: «لعلك تُرزق به» (٥).
٧ - الصدقة تعوِّد المسلم على صفة الجود والكرم، والعطف على ذوي الحاجات، والرحمة للفقراء.
٨ - الصدقة تحفظ النفس عن الشُّح، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٦).
_________
(١) أحمد، برقم ١٧٣٣٣، وتقدم قبل حديث واحد.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، برقم ١٤٢٣، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم ١٠٣١.
(٣) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، برقم ٢٨٩٦.
(٤) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ٦/ ٨٩.
(٥) الترمذي، كتاب الزهد، باب في التوكل، برقم ٢٣٤٥، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ٢/ ٢٧٤.
(٦) سورة الحشر، الآية: ٩.
1 / 9
٩ - الصدقة تجلب البركة والزيادة والخلف من الله تعالى، قال الله
سبحانه: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (١).
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم، أنفق عليك». وقال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاءُ الليلَ والنهار». وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟؛ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان، يخفض ويرفع». ولفظ مسلم: «يمين الله ملأى ...» (٢).
وعن أبي هريرة ﵁، عن رسول الله ﷺ قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه» (٣).
ومما يدل على فضل الصدقة، وفضل الإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل، وفضل أكل الإنسان من كسبه والإنفاق على العيال (٤) وأن من فعل ذلك يبارك الله له في ماله ويحصل له الأجر العظيم، حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة: أسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرَّة (٥)
_________
(١) سورة سبأ، الآية: ٣٩.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة هود، باب قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ ٤٦٨٤، وكتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم ٥٣٥٢، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم ٩٩٣.
(٣) مسلم، كتاب البر والصلة، باب العفو، برقم ٢٥٨٨.
(٤) شرح النووي على صحيح مسلم، ١٨/ ٣٢٥.
(٥) الحرة: أرض ملبَّسة حجارة سوداء، شرح النووي على صحيح مسلم، ١٨/ ٣٢٥.
1 / 10
فإذا شَرْجَة من تلك الشِّراج (١) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبَّع الماء،
فإذا رجل قائم في حديقته يُحوِّل الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله: لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلانٍ لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمَّا إذا قلت: هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثُلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأردُّ فيها ثلثه» وفي لفظ: «وأجعل ثلثه في المساكين، والسائلين، وابن السبيل» (٢).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» (٣).
١٠ - تشرح الصدر وتدخل السرور على المنفق المتصدق، فالمتصدق إذا أحسن إلى الخلق، ونفعهم بما يملكه من المال، وأنواع الإحسان، انشرح صدره؛ فالكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي لا يحسن أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأكثرهم همًّا وغمًّا، لكن لا بد من العطاء بطيب نفس، ويخرج المال من قلبه قبل أن يخرج من يده (٤).
١١ - الصدقة تُلحق المسلم بالمؤمن الكامل؛ لحديث أنس ﵁ عن النبي ﷺ
_________
(١) الشرجة: وجمعها شراج: مسائل الماء في الحرار، شرح النووي، ١٨/ ٣٢٥.
(٢) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب فضل الإنفاق على المساكين وابن السبيل، ١٨/ ٣٢٥.
(٣) مسلم، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك، برقم ١٠١٠.
(٤) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، ٢/ ٢٥، والشرح الممتع لابن عثيمين، ٦/ ١٠.
1 / 11
قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه - أو قال - لجاره ما يحب لنفسه» (١). فكما
أن المسلم يحب أن يُبذل له المال الذي يسد به حاجته، فهو يحب أن يحصل لأخيه المحتاج مثل ذلك، فيكون بذلك كامل الإيمان.
١٢ - الصدقة يحصل بها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والستر في الدنيا ويوم القيامة؛ لما فيها من قضاء حاجات المحتاجين، وتفريج كربات المكروبين، والستر على المعسرين؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ لحديث أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «من نفَّس عن مؤمن كُربَة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ...» (٢)؛ ولحديث ابن عمر ﵄، وفيه: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (٣).
١٣ - الصدقة من أسباب رحمة الله تعالى للعبد؛ لقوله ﷺ: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (٤).
_________
(١) مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، برقم ٤٥.
(٢) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر، برقم ٢٦٩٩.
(٣) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، ولا يسلمه، برقم ٢٤٤٢، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، برقم ٢٥٨٠.
(٤) متفق عليه: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا﴾ برقم ٧٣٧٦، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمة الصبيان والعيال، برقم ٢٣١٩.
1 / 12
١٤ - الصدقة من الإحسان، والله يحب المحسنين؛ لقوله تعالى:
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (١). وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ (٢).وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (٣).
١٥ - يترتب على الصدقة الأجر العظيم الذي يربيه الله تعالى ويضاعفه لصاحبه؛ لقول الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (٤). وقال ﷿: ﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (٥)؛ ولقوله تعالى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ (٦)؛ ولحديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من تصدَّق بعدل (٧) تمرة، من كسب طيب (٨) ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه ثم يربيها
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ١٩٥.
(٢) سورة يوسف، الآية: ٨٨.
(٣) سورة التوبة، الآية: ١٢٠.
(٤) سورة البقرة، الآية: ٢٧٦.
(٥) سورة الروم، الآية: ٣٩.
(٦) سورة البقرة، الآية: ٢٧٦.
(٧) بعدل تمرة: أي قيمتها؛ لأنه بالفتح المثل، وبالكسر الحِمل بكسر المهملة، هذا قول الجمهور، وقال الفراء: بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح مثله في القيمة، وبالكسر في النظر. فتح الباري، لابن حجر، ٣/ ٢٧٩، وقال ابن الأثير في النهاية، ٣/ ١٩١: «العِدل والعَدل: بالكسر والفتح في الحديث، وهما بمعنى المثل، وقيل: هو بالفتح: مَا عَادَله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل: بالعكس».
(٨) وفي لفظ البخاري: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب؛ فإنه يتقبلها بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوَّه، حتى تكون مثل الجبل» طرف الحديث رقم ٧٤٣٠.
1 / 13
لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه (١)، حتى تكون مثل الجبل» وفي لفظ مسلم: «حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله» (٢).
وفي رواية لمسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب ...» (٣).
١٦ - المتصدِّق ابتغاء مرضاة الله تعالى، يفوز بثناء الله عليه، وما وعد به المتصدقين من الأجر العظيم، وانتفاء الخوف والحزن؛ لقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (٤).
١٧ - المتصدق يحصل على مضاعفة الأجر على حسب إخلاصه لله تعالى؛ لقول الله ﷾: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (٥)؛ ولحديث أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: «لك
_________
(١) فلوَّه: وهو المهر؛ لأنه يُفلى: أي يُفطم، وقيل: هو كل فطيم من ذوات حافر: أي من أولاد ذوات الحافر. فتح الباري لابن حجر، ٣/ ٢٧٩، والنهاية في غريب الحديث، ٣/ ٤٧٤، وشرح النووي، ٧/ ١٠٤.
(٢) فصيله: ولد الناقة إذا فصل عن إرضاع أمه، شرح النووي، ٧/ ١٠٤.
(٣) متفق عليه: البخاري، برقم ١٤١٠، ورقم ٧٤٣٠، ومسلم، برقم ١٠١٤، وتقدم تخريجه في منزلة الزكاة.
(٤) سورة البقرة، الآية: ٢٧٤.
(٥) سورة البقرة، الآية: ٢٦١.
1 / 14
بها يوم القيامة سَبْعمائة ناقةٍ كلها مخطومة» (١).
١٨ - الصدقة تجعل المجتمع المسلم كالأسرة الواحدة، يرحم القوي الضعيف، ويعطف القادر على العاجز، ويحسن الغني إلى المعسر، فيشعر صاحب المال بالرغبة في الإحسان؛ لأن الله أحسن إليه، قال الله تعالى:
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (٢).
١٩ - بذل المال خير للمتصدق إذا كان زائدًا عن كفايته؛ لحديث أبي أمامة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تُمسكه شرٌّ لك، ولا تُلامُ على كفاف (٣)، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» (٤).
٢٠ - صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تنجي من مصارع السوء؛ لحديث معاوية بن حيدة ﵁، عن النبي ﷺ، أنه قال: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» (٥)؛ ولحديث أبي أمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر» (٦).
_________
(١) مسلم، كتاب الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله تعالى وتضعيفها، برقم ١٨٩٢.
(٢) سورة القصص، الآية: ٧٧.
(٣) الكفاف: الذي لا يفضل منه شيء، ولا يعوزه معه شيء، جامع الأصول، لابن الأثير،٦/ ٤٦٣.
(٤) مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن اليد السفلى هي الآخذة، برقم ١٠٣٦.
(٥) الطبراني في المعجم الكبير، ١٩/ ٤٢١، برقم ١٠١٨، وفي الأوسط [مجمع البحرين]، [٣/ ٦٥] برقم ١٤٣٤ و[٥/ ٢١٨]، برقم ٢٩٥٠.
(٦) الطبراني في المعجم الكبير، ٨/ ٢٦١، وقال في مجمع الزوائد، ٣/ ١١٥: «وإسناده حسن»، وكذلك حسن إسناده المنذري في الترغيب، ١/ ٦٧٩، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ١/ ٥٣٢.
1 / 15
٢١ - الصدقة دواء للأمراض (١).
ثالثًا: أفضل صدقات التطوع على النحو الآتي:
١ - من أفضل الصدقات التصدق بسقي الماء؛ لحديث سعد بن عبادة ﵁، قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم». قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء» فتلك سقاية سعدٍ بالمدينة». وفي لفظ لأبي داود: «فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعدٍ» (٢). ولكن يتحرى المتصدق حاجة الناس فيتصدق بما تدعو إليه الحاجة، سواء كانت في الماء أو في غيره (٣).
٢ - الصدقة على ذي الرحم الذي يضمر العداوة في باطنه من أفضل الصدقات؛ لحديث حكيم بن حزام ﵁، أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ عن الصدقات أيُّها أفضل؟ قال: «على ذي الرحم الكاشِح» (٤) (٥). وعن أم كلثوم
_________
(١) جاء في ذلك خبر مرسل من مراسيل أبي داود، وحسنه الألباني لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب، [١/ ٤٥٨]، برقم ٧٤٤، وفي صحيح الجامع، ٣/ ١٤٠، برقم ٣٣٥٨.
(٢) النسائي، كتاب الوصايا، باب ذكر الاختلاف على سفيان، برقم ٣٦٦٣، ٣٦٦٤، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، برقم ١٦٨١، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب صدقة الماء، برقم ٣٦٨٤، وأحمد، ٥/ ٢٨٥، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، ٢/ ٥٦٠، وفي صحيح سنن أبي داود، ١/ ٤٦٦.
(٣) هذا ما رجحه شيخنا ابن باز ﵀ أثناء تقريره على حديث سعد في فضل سقي الماء، في سنن النسائي، برقم ٣٦٦٥، وضعف الحديث ﵀، ولكن الألباني حسنه كما تقدم.
(٤) الكاشِحُ: هو الذي يظهر عداوته في كشحه: وهو خصره، يعني أن أفضل الصدقة على ذي الرحم القاطع المضمر العداوة في باطنه، [المنذري في الترغيب والترهيب، ١/ ٦٨٢]، وقيل: «الكاشح: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كَشْحَهُ: أي باطنه، والكشح: الخصر، أو الذي يطوي عنك كشحه ولا يألفك، وفي حديث سعد: إن أميركم هذا لأهضم الكشحين: أي دقيق الخصرين» النهاية لابن الأثير، ٤/ ١٧٦.
(٥) أحمد ٣/ ٤٠٢، والنسخة المحققة، برقم ١٥٣٢٠، ٢٤/ ٣٦، وله شواهد، وطرق، ولهذا قال محققو المسند: «حديث صحيح».وقال الألباني في إرواء الغليل ٣/ ٤٠٤،برقم ٨٩٢: (صحيح».
1 / 16
بنت عقبة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (١).
٣ - أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، فيغتنم حياته قبل موته، وصحته قبل مرضه، فينفق ولا يبخل، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَال﴾ (٢)، ومعنى «خلال» لا خلة ولا صداقة (٣).
قال العلامة السعدي ﵀: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ أي لا ينفع فيه شيء، ولا سبيل إلى استدراك ما فات، لا بمعاوضة ببيع وشراء، ولا بهبة خليل وصديق، فكل امرئ له شأن يغنيه، فليقدِّم العبد لنفسه، ولينظر ما قدمه لغدٍ؛ وليتفقَّد أعماله، ويحاسب نفسه قبل الحساب الأكبر» (٤).
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ
_________
(١) الحاكم، ١/ ٤٠٦، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في إرواء الغليل، ٣/ ٤٠٥: «وهو كما قال».
(٢) سورة إبراهيم، الآية: ٣١.
(٣) تفسير البغوي ٣/ ٣٥.
(٤) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص ٤٢٦.
1 / 17
الظَّالِمُونَ﴾ (١). وهذا من فضل الله ولطفه بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم؛ ليكون لهم ذخرًا وأجرًا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال
ذرة من الخير، فلا بيع فيه، ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبًا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق: لا بوجاهة، ولا بشفاعة (٢).
وقال ﷾: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (٣).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان» (٤).
الشح عام غالب في حال الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة، ورأى مصير المال لغيره؛ فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح رجاء البقاء وخوف الفقر، وهو يطمع في الغنى (٥)،
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٢٥٤.
(٢) انظر: تفسير السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص ١١٠.
(٣) سورة المنافقون، الآية: ١٠.
(٤) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الصحيح الشحيح، برقم ١٤١٩، وكتاب الوصايا، باب الصدقة عند الموت، برقم ٢٧٤٨، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، برقم ١٠٣٢.
(٥) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٧/ ١٢٩ - ١٣٠.
1 / 18
وهو في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا؛ لما يخوفه به الشيطان، ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال؛ ولهذا قال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله في أموالهم مرتين:
يبخلون بها وهي في أيديهم - يعني في الحياة - ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم - يعني بعد الموت (١).
وذُكِرَ في الخبر عن أبي الدرداء مرفوعًا: «مثل الذي يعتق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع» (٢). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز ﵀ يقول عن الصدقة في حال الصحة والشح: «وهذا يدل على أن الصدقة في حال الصحة والشح أفضل، وهذا يدل على قوة الرغبة فيما عند الله، أما المريض فإنه يجود في حال مرضه؛ لأنه أيس من حياته، وصدقته مقبولة، لكن الأفضل أن تكون في حال الصحة» (٣).
٤ - ومن أفضل الصدقة جهد المقل الذي هو قدر ما يحتمله حال قليل المال، فيكون من أفضل الصدقات؛ لحديث عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي ﷺ سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان لا شك فيه،
_________
(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ٥/ ٣٧٤.
(٢) النسائي، كتاب الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، برقم ٣٦١٥، والترمذي، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، برقم ٢١٢٣، وأبو داود، في كتاب العتق، برقم ٣٩٦٨، والحاكم، ٢/ ٢١٣، وصححه ووافقه الذهبي. والبيهقي، ٤/ ١٩٠، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، ٥/ ٣٧٤، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ص ٢٠٦؛ لأن في إسناده أبا حبيبة الطائي، لم يوثقه غير ابن حبان، ولا يعرف إلا بهذا الحديث. وقد صحح حديثه: الترمذي، والحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح، ٥/ ٣٧٤.
(٣) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ٢٧٤٨.
1 / 19
وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة». قيل: فأيُّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت». قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المقلِّ» (١). قيل:
فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: «من هجر ما حرم الله ﷿». قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من جاهد المشركين بماله ونفسه». قيل: فأيُّ القتل أشرف؟ قال: «من أهريق دمه وعُقِر جواده» (٢).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «سبق درهم مائة ألف [درهم]» قالوا: يا رسول الله وكيف؟ قال: «رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مالٌ كثير فأخذ من عُرضِ ماله مائة ألف [درهم] فتصدق بها» (٣). وظاهر الأحاديث أن الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى، فصاحب الدرهمين أعطى نصف ماله، في حال لا يعطي فيها إلا الأقوياء، يكون أجره على قدر همته بخلاف الغني؛ فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا في حال لا يعطي فيها عادة» (٤).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: يا رسول الله! أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «جُهْدُ المقلِّ، وابدأ بمن تعول» (٥).
_________
(١) جهد المقل: هو قدر ما يحتمله حال قليل المال، [النهاية في غريب الحديث، ١/ ٣٢٠]، والمراد ما يعطيه المقل على قدر طاقته، ولا ينافيه حديث: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى»؛ لعموم الغنى القلبي، وغنى اليد. [حاشية السندي على سنن النسائي، ٥/ ٥٨].
(٢) النسائي، الزكاة، باب جهد المقل، برقم ٢٥٢٥، وصححه الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ٢٠٣.
(٣) النسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم ٢٥٢٦، ٢٥٢٧، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ٢٠٣.
(٤) حاشية السندي على سنن النسائي، ٥/ ٥٨.
(٥) أبو داود، كتاب الزكاة، بابٌ في الرخصة في ذلك، برقم ١٦٧٧، وأحمد، ٢/ ٣٥٨، وصححه ابن خزيمة، برقم ٢٤٤٤، وابن حبان، برقم ٣٣٣٥، والحاكم، ١/ ٤١٤، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٤٦٥.
1 / 20
٥ - من أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى؛ لحديث حكيم بن حزام ﵁ عن النبي ﷺ قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن
تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله». ولفظ مسلم: «أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» (١).
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى: وابدأ بمن تعول» (٢). ومعنى قوله ﷺ: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقدير: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنىً يعتمده صاحبها، ويستظهر به على مصالحه، وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله؛ لأن من تصدق بالجميع يندم غالبًا، أو قد يندم إذا احتاج، ويودُّ أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا، فإنه لا يندم عليها بل يُسرُّ بها (٣) وقال الحافظ ابن حجر ﵀: «والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية» (٤) (٥).
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنىً، برقم ١٤٢٧، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة، برقم ١٠٣٤.
(٢) البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم ٤٢٦.
(٣) شرح النووي على صحيح مسلم، ٧/ ١٣١.
(٤) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ٣/ ٢٩٦.
(٥) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصدقة بجميع المال، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: «باب لا صدقة إلا عن ظهر غنىً، ومن تصدق وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دينٌ، فالدين أحق أن يقضى: من الصدقة، والعتق، والهبة، وهو ردٌّ عليه، ليس له أن يتلف أموال الناس، وقال النبي ﷺ: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله» إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفعل أبي بكر ﵁ حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي ﷺ عن إضاعة المال، فليس له أن يضيِّع أموال الناس بعلة الصدقة، وقال كعب ﵁: قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ﷺ، قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك». قلت: «فإني أمسك سهمي الذي بخيبر» [البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، قبل الحديث رقم ١٤٢٦]. قال الحافظ ابن حجر ﵀: «قال الطبري وغيره: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله، حيث لا دَين عليه، وكان صبورًا على الإضاقة، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضًا فهو جائز، فإن فُقِدَ شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود، وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله، ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره؛ فإنه ﷺ باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبَّره؛ لكونه كان محتاجًا. وقال آخرون: يجوز من الثلث ويردُّ عليه الثلثان، وهو قول: الأوزاعي، ومكحول. ... وعن مكحول أيضًا يردُّ ما زاد على النصف.
قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعًا بين قصة أبي بكر وحديث كعب والله أعلم». [فتح الباري، ٣/ ٢٩٥].
وقال الإمام النووي ﵀: «وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دَين عليه، ولا له عيال لا يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة، والفقر، فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه». [شرح النووي على صحيح مسلم، ٧/ ١٣١]. وسمعت شيخنا ابن باز ﵀ أثناء تقريره على الحديث رقم ١٤٢٦، من صحيح البخاري يقول: «... الإنسان لا يتصدق على الناس ويترك من أوجب عليه الله ... الإنفاق عليه، إلا إذا آثرت الأسرة ذلك، فإذا آثرت الزوجة، أو الولد الكبير على نفسه فلا بأس، وهكذا من كان عليه دَين فإذا كانت الصدقة تضر بالدين فيبدأ بالدين، وكذا الحج إذا كان لا يستطيع قضاء الدين ...».
1 / 21