رسالة
إلى جمهورية جنيف
المقدمة
كلمة حول أصل التفاوت وأساسه بين الناس
القسم الأول
القسم الثاني
تعليقات
رسالة
إلى جمهورية جنيف
المقدمة
كلمة حول أصل التفاوت وأساسه بين الناس
القسم الأول
القسم الثاني
تعليقات
أصل التفاوت بين الناس
أصل التفاوت بين الناس
تأليف
جان جاك روسو
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة
بقلم عادل زعيتر
كان جان جاك روسو في رسالته عن تأثير الفنون والعلوم في الأخلاق قد أقام الدليل على أنهما أفسدا الأخلاق وأوجبا شقاء الإنسان، مدعيا أن الترف والحضارة من نتائجهما، قائلا بالرجوع إلى حال الطبيعة، ومما ذهب إليه في هذه الرسالة كون الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، وكون التفكير مناقضا لطبيعة الإنسان، وكون الفضيلة والأمانة والصدق لا أثر لها في غير الحال الطبيعية حيث لا علوم ولا فنون.
وكتب روسو رسالته تلك بقلم حار وعاطفة جارفة، فجاءت مبتكرة في مجتمع بلغ الغاية من المدنية مخالفا لما عليه الجمهور، ويعد روسو في رسالته تلك كالمحامي الذي يلتزم طرفا واحدا في المرافعات، فيصعب تصديق جديته في تمثيل دوره؛ ولذلك لا تتجلى أهمية رسالته تلك في اشتمالها على مذهب إيجابي، بل في كونها مفتاحا لنشوء روسو الذهني، وفي كونها مرحلة مؤدية إلى «أصل التفاوت»، فإلى «العقد الاجتماعي».
و«أصل التفاوت» هو ما نقدم ترجمته الآن بعد أن قدمنا ترجمة «العقد الاجتماعي».
نشر روسو كتاب «أصل التفاوت» في سنة 1755 مقدما إلى جمهورية جنيف، وتدل كلمة «الطبيعة» هنا على تطور كبير، فلا يعارض روسو بها شرور المجتمع معارضة فارغة، بل تنطوي على أمور إيجابية، فنرى نصف «أصل التفاوت» يشتمل على وصف خيالي لحال الطبيعة التي يكون الإنسان فيها محصورا ضمن أضيق مجال مع قليل احتياج إلى أمثاله، وقليل اكتراث لما وراء احتياجات الساعة الحاضرة.
وفي هذا الكتاب صرح روسو بأنه لا يفترض وجود الحال الطبيعية فعلا، وإنما يستحسن حالا من الهمجية متوسطة بين الحال الطبيعية والحال الاجتماعية، يحافظ الناس بها على البساطة ومنافع الطبيعة. ويظهر من تعليقات روسو على متن الكتاب أنه لا يريد رجوع المجتمع الفاسد الحاضر إلى حال الطبيعة، وإنما يعد المجتمع أمرا لا مفر منه مع فساده، وهو يعلل هذا الفساد بالتفاوت بين أفراد المجتمع في المعاملات والحقوق، فيتغنى بالإنسان الطبيعي الطاهر، ويقول بتلك الحال المتوسطة حيث تسود المساواة.
وقد وجد من يؤاخذ روسو على سلوكه منهاج التاريخ في «أصل التفاوت»، مع أنه لم يحرص على إلباس هذا الكتاب ثوبا تاريخيا، وانتحال المناحي التاريخية الزائفة من خصائص القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وروسو لم يبال بهذه المناحي.
ويعد كتاب «أصل التفاوت» هذا مدخلا لكتاب «العقد الاجتماعي»، الذي ظهر سنة 1762، لا بد منه للوقوف على ما اشتمل عليه «العقد الاجتماعي» من أصول ومبادئ. وقد نقلنا إلى العربية كتاب «العقد الاجتماعي» العظيم الشأن وتم نشره مستقلا، وفي «العقد الاجتماعي» حمل روسو على الرق وعدم المساواة، وناضل عن حقوق الإنسان وأقامها على طبيعة الأمور، وقال إن هدف كل نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كل فرد، وإن الشعب وحده هو صاحب السيادة. وكان روسو يهدف في «العقد الاجتماعي» إلى النظام الجمهوري، فتحقق هذا النظام بالثورة الفرنسية بعد ثلاثين سنة، حين اتخذ «العقد الاجتماعي» إنجيل هذه الثورة.
ولم يقل روسو بحكومات زمنه لمنافاتها للطبيعة، ويقوم مذهبه على كون الإنسان صالحا بطبيعته محبا للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجعله بائسا، والمجتمع سيئ لأنه لا يساوي بين الناس والمنافع، والتملك جائز لأنه مقتطع من الملك الشائع الذي يجب أن يكون خاصا بالإنسانية وحدها، فيجب أن يقضي على المجتمع إذن، وأن يرجع إلى الطبيعة، وهنالك يتفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضى به الجميع، فيقيمون بذلك هيئة تمنح الجميع ذات الحقوق، وتقوم سيادة الشعب مقام سيادة الملك، ويتساوى فيها الناس، وتنظم فيها الثروة والتربية والديانة.
ويعد روسو من أعظم من أنجبت بهم فرنسا من الكتاب، غير أن آراءه تقبل أو ترفض على حسب الأمزجة، وهو يحب أن يكره ككاتب أوحى بالثورة الفرنسية قبل كل شيء.
ويوجد لكتب روسو معنيان، فيها ينفذ إلى الذهنية التي كانت سائدة للقرن الثامن عشر، وهي ذات أثر بالغ في حوادث أوروبا التي وقعت فيما بعد، وبهذه الكتب يمثل روسو في عالم الفكر السياسي مرحلة الانتقال من النظرية التقليدية للدولة في القرون الوسطى إلى الفلسفة الحديثة حول الدولة.
ولم يعالج روسو نظم الدول الموجودة، خلافا لما صنع مونتسكيو وفولتير، فبينما كان مونتسكيو وفولتير، اللذان هما من أبناء الطبقة العليا، يقتصران على المطالبة بالإصلاح السياسي والديني وثلم شوكة الاستبداد، كان ابن الشعب روسو، الذي قضى شبابا قاسيا، ينتهي بآلامه إلى ضرورة تجديد الدولة والمجتمع تجديدا كليا، ومن قول روسو: «لم يهدف مونتسكيو إلى معالجة مبادئ الحق السياسي، وإنما كان يكتفي بمعالجة الحق الوضعي (القانون) للحكومة القائمة، فلا يمكن أن يبدو اختلاف بين دراستين أكثر من هذا!» ومن ثم يكون روسو قد تمثل موضوعه مختلفا عن موضوع «روح الشرائع» كل الاختلاف.
ولا نرى أن ندرس حياة روسو في هذه المقدمة، فقد فعلنا ذلك في مقدمتنا لترجمة «العقد الاجتماعي» التي اقتطفنا ما تقدم منها، والتي تعد مقدمة لهذا الكتاب أيضا، فعلى هذا القصد نمسك القلم عن بيان سيرة روسو هنا، مكتفين بما تقدم، محيلين القارئ على تلك المقدمة.
نابلس
رسالة
في هذا السؤال الذي اقترحته أكاديمية ديجون: ما أصل التفاوت بين الناس، وهل أجازه القانون الطبيعي؟
يجب علينا أن نعد طبيعيا ما نظم وفق الطبيعة من أمور، لا ما فسد منها.
أرسطو، السياسة، باب 1، فصل 2
إلى جمهورية جنيف
أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام!
بما أنني اعتقدت أنه لا يستطيع غير المواطن الصالح أن يقدم إلى وطنه من التكريم ما يمكنه قبوله، فإنني عملت ثلاثين سنة لأكون أهلا لأن أقدم إليكم تحية عامة، فتقوم هذه الفرصة السعيدة من بعض الوجوه مقام ما قد تنطوي عليه جهودي من نقص، وحسبت أنه يباح لي التأمل في الغيرة التي تغريني أكثر مما في الحق الذي يجب أن يمهد لي السبيل، وبما أنه كان لي شرف الولادة بينكم، فكيف يمكنني أن أنعم النظر في المساواة التي وضعتها الطبيعة بين الناس وفي التفاوت الذي أقاموه، من غير أن أفكر في الحكمة البالغة التي مزجت بها تلك وهذا مزجا موفقا في هذه الدولة، فيسعيان من أقرب الطرق إلى القانون الطبيعي، ومن أكثرها ملاءمة إلى المجتمع، حفظا للنظام العام وسعادة الأفراد؟ وإني حين بحثت عن أصلح القواعد التي يمكن العقل الرشيد أن يمليها حول نظام حكومة، بلغت من بهر النظر باكتشافي وجودها كلها جارية في حكومتكم ما كنت أرى معه عدم استطاعتي إعفاء نفسي من تقديم هذه الصورة عن المجتمع البشري إلى هذا الشعب، الذي يلوح أنه أكثر الشعوب أخذا بمحاسنها واجتنابا لمساوئها، ولو لم أكن قد ولدت داخل أسواركم.
ولو كان لي اختيار محل ولادتي لاخترت مجتمعا بالغا من الاتساع ما يحد معه بمدى الخصائص البشرية، أي بإمكان حسن الحكومة، حيث كل واحد مساو لعمله، فلا يلزم أحد بأن يفوض إلى آخرين بوظائف كان قد عهد إليه فيها. وإن دولة يتعارف جميع الناس فيها لا يمكن مكايد الرذيلة الخفية، ولا اتضاع الفضيلة، أن يغيبا عن أنظار الجمهور وحكمه فيها، فتجعل هذه العادة اللطيفة في الالتقاء والتعارف حب الوطن حبا للمواطنين أكثر من جعله حبا للأرض.
وكنت أود أن أولد في بلد لا يمكن أن يكون للسيد والشعب فيه غير مصلحة واحدة بذاتها، وذلك لكي تميل جميع حركات الآلة إلى السعادة العامة، وبما أن هذا لا يمكن أن يكون ما لم يكن الشعب والسيد شخصا واحدا، فإنني أود لو ولدت في كنف حكومة ديموقراطية معتدلة بحكمة.
وكنت أود أن أحيا وأموت حرا، أي أن أبلغ من الخضوع للقوانين ما لا أستطيع معه، ولا يستطيع أحد معه، إلقاء النير المكرم عن الكاهل، هذا النير الشافي الهين الذي تحمله أكثر الرءوس تكبرا بدعة، كما لو كانت قد خلقت لكيلا تحمل غيره.
وكنت أود - إذن - ألا يكون في الدولة من يقدر أن يقول إنه فوق القوانين، وألا يكون في الخارج من يقدر أن يملي ما تحمل به الدولة على الاعتراف بسلطانه؛ وذلك لأنه إذا ما وجد في الحكومة، مهما أمكن أن يكون نظامها، رجل غير خاضع للقوانين، كان الباقون تابعين لهواه
1
وذلك لأنه، إذا ما وجد رئيس قومي وآخر أجنبي فإنه، مهما كان اقتسام السلطة الذي يمكنهما أن يأتياه، يتعذر أن يطاع كل منهما كما يجب، وأن تحسن إدارة الدولة.
وما كنت لأختار العيش في جمهورية ذات نظام جديد، مهما أمكن أن تكون قوانينها صالحة، وذلك خشية أن تكون الحكومة قد كونت على غير مقتضيات الوقت، فتختلف هي والمواطنون الجدد، أو يختلف المواطنون والحكومة الجديدة، وتكون الدولة عرضة للارتجاج والانهيار منذ ولادتها تقريبا؛ وذلك لأن الحرية هي كتلك الأغذية الجامدة والعصارية، أو تلك الخمور السخية الصالحة لتغذية وتقوية البنيات القوية المتعودة إياها، ولكن مع إرهاقها وتقويضها وإسكارها الضعفاء والنحاف الذين لم يخلقوا لها قط، وإذا ما تعودت الشعوب سادة ذات مرة عادت لا تستغني عنهم، وإذا ما حاولت الشعوب إلقاء النير، ابتعدت عن الحرية بالمقدار الذي تحولها به إلى تحلل جامح معاكس لها، وتسلمها ثوراتها دائما تقريبا إلى غواة لا يفعلون غير إثقال قيودها، ولم يكن الشعب الروماني نفسه قط - هذا الشعب الذي هو مثال لجميع الشعوب الحرة - قادرا على الحكم في نفسه عندما تفلت من ظلم آل تاركين، فهو إذ أذل بالعبودية والأعمال الشائنة التي فرضوها عليه لم يعد في البداءة غير كونه رعاعا أغبياء تجب مداراتهم والحكم فيهم بأعظم حكمة؛ وذلك لكي تنال بالتدريج هذه النفوس الواهنة، وإن شئت فقل المتوحشة في عهد الطغيان، بتعودها استنشاق هواء الحرية الصحي مقدارا فمقدارا، تلك المتانة الخلقية وتلك العزة الباسلة اللتين جعلتاها أكثر الشعوب أهلا للاحترام، وكان علي أن أبحث لوطني إذن عن جمهورية سعيدة هادئة ضاع قدمها في ليل الزمن من بعض الوجوه، فلم تختبر بتغير صدمات صالحة لإظهارها وتمكينها خلق الشجاعة وحب الوطن، وحيث يكون المواطنون المتعودون استقلالا حكيما زمنا طويلا جديرين بأن يكونوا أحرارا، لا أحرارا فقط.
وكنت أود أن أختار لنفسي وطنا مصروفا عنه لعجز مجدود (ذو الحظ)، وعن حب ضار للفتوح ، مضمونا بموقع أكثر حظا أيضا، وذلك عن خوف غدوه فتحا لدولة أخرى، وذلك كمدينة حرة واقعة بين شعوب كثيرة ليس لأي واحد منها مصلحة في الاستيلاء عليها، ويكون لكل واحد منها مصلحة في منع الآخر من الاستيلاء عليها، أي أن أختار جمهورية لا تثير طموح جاراتها مطلقا، ويمكن أن تعتمد على مساعدة هذه الجارات اعتمادا مناسبا عند الضرورة، ومن ثم لا يمكن الدولة الجمهورية ذات الحظ في موقعها بهذا المقدار أن تخشى غير نفسها، فإذا كان مواطنوها يمارسون استعمال الأسلحة، فذلك ليبقوا في بلدهم تلك الحمية الحربية وتلك العزة الباسلة الملائمتين للأحرار، واللتين تغذيان ذوقهم أكثر من ضرورة توليهم أمر دفاعهم الخاص.
وكان علي أن أبحث عن بلد يكون حق الاشتراع فيه مشتركا بين جميع المواطنين، فمن ذا الذي يستطيع أن يعلم أحسن من هؤلاء شروط العيش معا في المجتمع عينه؟ ولكنني ما كنت لأستحسن استفتاءات مماثلة لما قام به الرومان، حيث كان رؤساء الدولة ومن هم أحرص الناس على بقائها ممنوعين من المباحثات التي تتوقف عليها سلامتها في الغالب، وحيث كان الحكام محرومين، عن تناقض محال، ما يتمتع به أحقر المواطنين من حقوق.
وكنت - على العكس - أرغب لوقف المشاريع المغرضة السيئة المفهوم والبدع الخطرة التي قضت على الاثنين في نهاية الأمر، ألا يكون لكل واحد سلطة اقتراح قوانين جديدة وفق هواه، أن يكون هذا الحق خاصا بالحكام وحدهم، وأن يقوم هؤلاء بذلك مع حذر كثير، وأن يكون الشعب من الاحتفاظ بحقه في الموافقة على هذه القوانين، وأن يكون نشرها من التعذر بغير احتفال كبير ما يكون معه قبل قلب النظام من الوقت الكافي ما يقنع فيه بكون قدم القوانين البالغ على الخصوص هو الذي يجعلها مقدسة محترمة، وأن يزدري الشعب من فوزه ما يرى تبديله كل يوم من القوانين، وأن يعلم أنه بتعود إهمال العادات القديمة بحجة الإصلاح تتخذ في الغالب شرور كبيرة إصلاحا لما هو دونها.
وكنت أجتنب على الخصوص، كسيئة الإدارة بحكم الضرورة، جمهورية يعتقد الشعب فيها إمكان استغنائه عن حكامه أو عدم تركه لهم غير سلطة وقتية، فيحتفظ عن عدم ترو بإدارة الأمور المدنية وتنفيذ قوانينه الخاصة، فهذا ما وجب أن كان عليه نظام الحكومات الأولى الغليظ فور خروجها من الحال الطبيعية، وهذا ما كانت عليه إحدى النقائص التي قضت على جمهورية أثينة.
ولكنني كنت أختار مجتمعا يكتفي الأفراد فيه بتأييد القوانين، وبتقريرهم أهم الشئون العامة ضمن هيئة وبناء على طلب الرؤساء فينشئون محاكم محترمة، ويميزون بين مختلف الدوائر بعناية، وينتخبون بين عام وعام أقدر مواطنيهم وأنزههم لإدارة العدل والحكم في الدولة. كنت أختار مجتمعا تكون فضيلة الحكام فيه شاهدة على حكمة الشعب، فيوجب كل من الفريقين شرف الآخر مقابلة، فإذا ما ظهر في مثل هذه الحال من سوء التفاهم المشئوم ما يكدر الوفاق العام، فإن أدوار العماية والضلال نفسها توسم بدلائل الاعتدال والتقدير المتبادل وباحترام شامل القوانين، أي بعلامات وضامنات لوفاق صادق دائم.
فتلك هي، أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، ما كنت أبحث عنه من المنافع في الموطن الذي كنت أختاره نفسي، ولو أن العناية الإلهية أضافت إلى ذلك موقعا رائعا، وإقليما معتدلا، وبلدا خصيبا، وأرغد ما يكون تحت السماء؛ ما كنت أرغب لكمال سعادتي في غير التمتع بجميع هذه الأطايب في صميم هذا البلد السعيد، عائشا هادئا في مجتمع ناعم مع مواطني مباشرا الإنسانية والمحبة وجميع الفضائل نحوهم وعلى مثالهم، تاركا ورائي ما لرجل الخير والوطني الشريف من الذكرى المكرمة.
ولو كنت أقل سعادة وأكثر حكمة، فوجدتني ملزما بأن أختم حياة عاجزة ذاوية في أقاليم أخرى، آسفا بلا طائل على الراحة والسكينة اللتين كانت تحرمني إياهما شبوبية غافلة، لغذيت نفسي بتلك المشاعر التي لم أكن لأقدر على اتخاذها في بلدي، ولو كنت مفعما بمودة رقيقة نزيهة تجاه مواطني البعداء لوجهت إليهم الكلمة الآتية تقريبا:
مواطني الأعزاء، بل إخواني، بما أن روابط الدم والقوانين توحد بيننا جميعا تقريبا، فإنه يحلو لي ألا أستطيع التفكير فيكم من غير أن أفكر في الوقت نفسه في جميع الأطايب التي تتمتعون بها، والتي لا يوجد بينكم على ما يحتمل من يشعر بقيمتها أحسن مني، أنا الذي أضاعها، وكلما أنعمت النظر في وضعكم السياسي والمدني قل إمكان تصوري استطاعة أمور البشر أن تحتمل ما هو أطيب منها، وعندما يبحث في جميع الحكومات الأخرى عن ضمان أعظم خير للدولة يقتصر كل شيء على خطط في الأفكار دائما، وعلى الممكنات البسيطة جهد الاستطاعة، وأما أنتم فإن سعادتكم قد كملت، وليس عليكم غير التمتع بها، وليس عليكم لتكونوا سعداء تماما غير معرفتكم كيف تقنعون بأن تكونوا هكذا، وأخيرا غدت سيادتكم المكتسبة أو المستردة بحد السيف، والتي حفظت مدة قرنين عن قيمة وحكمة، معترفا بها اعترافا تاما عاما، وتعين حدودكم وتؤيد حقوقكم وتوطد راحتكم معاهدات مكرمة، ونظامكم رائع، فقد أملاه عقل عال، وضمنته دول صديقة ومحترمة، ودولتكم مطمئنة، فليس عليكم أن تخشوا حروبا ولا فاتحين، وليس عندكم سادة غير ما وضعتموه من القوانين الحكيمة، ويعمل بهذه القوانين حكام صالحون من اختياركم، ولستم من الغنى ما تتخنثون معه عن نعيم وما تخسرون معه ذوق السعادة الحقيقية والفضائل المتينة في الأطايب الفارغة، ولستم من الفقر ما تحتاجون معه إلى المساعدات الأجنبية التي لا تنعم صناعتكم بها عليكم، ولا يكلفكم شيئا تقريبا حفظ هذه الحرية الثمينة التي لا تصان لدى الأمم الغليظة بغير الضرائب المفرطة.
وهل تستطيع أن تدوم إلى الأبد، وفي سبيل مواطنيها، ولتكون مثالا للشعوب، جمهورية تدار بحكمة بالغة وتوفيق كبير! هذا هو الأمل الوحيد الذي يبقى لكم أن تصنعوه، والحذر الوحيد الذي يبقى لكم أن تتخذوه، وعليكم وحدكم يتوقف في المستقبل أن تجعلوا تلك السعادة دائمة بحكمة حسن استعمالها، لا أن تصنعوا سعادتكم، فقد كفاكم أجدادكم مئونة ذلك، ويتوقف بقاؤكم على اتحادكم الدائم، وعلى إطاعتكم القوانين، وعلى احترامكم من يقومون بها، وإذا ما بقي بينكم أقل أثر مرارة أو تريب، فسارعوا إلى تبديده كخميرة شؤم ينشأ عنها شقاؤكم وخراب الدولة عاجلا أو آجلا. أستحلفكم جميعا أن تعودوا إلى فؤادكم، وأن تستمعوا إلى صوت ضميركم الخفي، وهل يوجد بينكم من يعرف في العالم كيانا أكثر صلاحا ونورا واحتراما من حاكميتكم؟ ألا يعطيكم جميع أعضائها مثال الاعتدال وبساطة الطباع واحترام القوانين وأصدق وفاق؟ ضعوا بلا تحفظ - إذن - في رؤساء بالغي الحكمة تلك الثقة النافعة التي يكون العقل مدينا بها للفضيلة، وفكروا في كونهم ممن اخترتم، وفي كونهم يزكون هذا الاختيار، وفي كون ضروب الشرف التي تحف من رفعتموهم تعود إليكم بحكم الضرورة، ولا يرى بينكم أحد من قلة المعرفة ما يجهل معه كون ضياع قوة القوانين وسلطان حماتها يؤدي إلى عدم استطاعة أحد أن يتمتع بالسلامة والحرية، ولم تترددون، إذن، أن تصعنوا عن طيبة قلب وطمأنينة نفس ما أنتم ملزمون بصنعه عن مصلحة حقيقية وعن واجب وعقل؟
ولا تدعوا أثيما ولا خليا مشئوما، قائما على حفظ النظام، يغريكم عند الضرورة بإهمال ما لأكثركم نورا وغيرة من آراء حكيمة، ولكن ليدم الإنصاف والاعتدال والرزانة البالغة الحرمة أمورا ناظمة لجميع خطواتكم، دالة جميع العالم فيكم على مثال شعب فخور متواضع محب لمجده حبه لحريته، واحذروا خاصة، وهذه آخر نصيحة مني، أن تصغوا إلى التفاسير الضارة والأحاديث السامة التي تكون عواملها الخفية أشد خطرا من الأفعال التي هي موضوعها. أجل، إن المنزل بأسره يستيقظ وينتبه إلى أول صراخ من كلب الحراسة الصالح المخلص الذي لا يعوي إلا عند اقتراب اللصوص، غير أننا نمقت إزعاج تلك الكلاب الصخابة التي تقلق الراحة العامة بلا انقطاع، فلا تؤدي تحذيراتها المستمرة التي هي في غير محلها إلى الإصغاء وقتما تكون ضرورية.
وأنتم أيها السادة المبجلون الأجلاء، وأنتم أيها الحكام الأفاضل المحترمون، اسمحوا لي بأن أقدم إليكم تحياتي وواجباتي على الخصوص، فإذا وجد في العالم مقام صالح لتكريم من يشغلونه فذلك المقام هو الذي تنعم به المواهب والفضيلة، فذلك هو المقام الذي جعلتم به أنفسكم أكفياء، فذلك هو المقام الذي رفعكم إليه مواطنوكم، وتضيف مزيتهم الخاصة إلى مزيتكم بهاء جديدا، وبما أنه وقع اختياركم من قبل أناس قادرين على الحكم في أناس آخرين، وذلك للحكم فيهم، فإنني أجدكم أعلى من جميع الحكام الآخرين، وذلك بالمقدار الذي يكون به شعب حر، ولا سيما الشعب الذي لكم شرف قيادته، فوق عامة الدول الأخرى ببصائره وعقله.
وليسمح لي بأن أذكر مثالا يجب أن يبقى منه أحسن الآثار، وأن يظل ماثلا لقلبي على الدوام، ولا أذكر من غير أحلى حنان ذكري ذلك المواطن الفاضل الذي أراني مدينا له بوجودي، والذي علمني في صباي غالبا أن أقوم بالاحترام الواجب نحوكم، ولا أزال أراه يعيش من عمل يديه ويغذي روحه بأعلى الحقائق، وأبصر بجانبه ابنا عزيزا يتناول مع قليل ثمرة أرق ما يصدر عن أصلح الآباء من تعاليم، ولكن إذا كانت عمايات شباب طائش جعلتني أنسى دروسا بالغة تلك الحكمة ذات حين، فإن لي في نهاية الأمر سعادة الإحساس بأنه ليس من السهل على تربية مازجت القلب أن تضيع إلى الأبد، مهما كنا من ميل إلى المنكر.
أولئك، أيها السادة المبجلون الأجلاء، من ولدوا في الدولة التي تحكمون فيها من المواطنين، ومن عامة السكان أيضا، وأولئك هم الرجال الأذكياء المعلمون الذين تدور حولهم لدى الأمم الأخرى، وذلك باسم العمال والشعب، أفكار بالغة الخسة والإفك، ولم يكن والدي ممتازا بين مواطنيه مطلقا، وهذا ما أعترف به مسرورا، وهو لم يكن على غير ما كان عليه الآخرون، وهو مع ما كان عليه، لا تجد بلدا لم يبحث فيه عن مجتمعه، ولم يتعهد فيه مجتمعه - حتى بمنفعة - من قبل أكثر الناس صلاحا، وليس من شأني والحمد لله، وليس من الضروري، أن أحدثكم عن الإكرام الذي يمكن أن ينتظره منكم أناس من هذه الجبلة، أناس يساوونكم بالتربية وبحقوق الطبيعة والولادة، أناس يعدون دونكم بإراداتهم وبما هم مدينون به لفضلكم من أرجحية يمنحونه إياها، فتكونون من أجلها مدينين لهم بضرب من الشكران بدوركم، وأعلم مع السرور الحار مقدار اللطف والعطف اللذين تعدلون بهما مع اتزان حفظة القانون، ومقدار ما تردونه من الاعتبار والعناية إلى من هم ملزمون بالإجلال والطاعة نحوكم، وهذا السلوك زاخر بالعدل والحكمة ؛ وهو يصلح لأن يبعد بالتدريج ذكرى ما يجب نسيانه من الحوادث السيئة لكيلا يرى ثانية، وهذا السلوك هو من الحصافة ما يجد معه هذا الشعب المنصف الكريم لذة في القيام بواجبه، وما يجب معه أن يمجدكم عن طبيعة، وما يكون معه أشد الناس حماسة لتأييد حقوقهم أكثرهم استعدادا لاحترام حقوقكم.
ولا ينبغي أن يحار من حب رؤساء المجتمع المدني لمجده وسعادته، ولكن من الشاق على قرار الناس أن يبدي من يعدون أنفسهم حكاما، وإن شئت فقل سادة، لوطن أكثر قدسية وسموا، حبا لوطن دنيوي يغذيهم، ويا لما أجد من حلاوة في إمكان قيامي باستثناء بالغ الندرة نفعا لنا، فأضع في صف أصلح مواطنينا حفظة العقائد المقدسة الغير المجاز لهم بالقوانين، رعاة النفوس الأجلاء الذين تحمل فصاحتهم الحية العذبة إلى الأفئدة ما يأخذون في ممارسته بأنفسهم دائما من مبادئ الإنجيل! يعلم جميع العالم مقدار ما يزاول من نجاح فن الوعظ في جنيف، غير أن من الناس من بلغوا من عادة سماعهم القول حول أمر وملاحظتهم العمل بأمر آخر ما تجد معه أناسا قليلين يعلمون مقدار استيلاء روح النصرانية، وقدسية الطباع والقسوة على النفس والرأفة بالآخرين، على هيئة واعظينا، ومن المحتمل أن كانت جنيف وحدها هي التي تقدم مثالا ممتعا عن اتحاد كامل بين مجتمع من علماء اللاهوت ورجال الأدب، فتراني أقيم أملي في اطمئنانها الأبدي على حكمتهم واعتدالهم المعروف أمرها، وعلى غيرتهم حول سعادة الدولة، لمدى واسع، وألاحظ في الوقت نفسه، ومع غبطة ممزوجة بعجب واحترام، مقدار ما يساورهم من مقت لما يحمل من مبادئ كريهة هؤلاء الناس المقدسون البرابرة الذين يقدم تاريخهم غير مثال، فتراهم أقل ضنا بالدم البشري لتأييد حقوق الرب المزعومة، أي لتأييد حقوقهم الخاصة، وذلك بنسبة ما يعللون به أنفسهم من احترام دمهم على الدوام.
وهل أستطيع أن أنسى ذلك النصف من الجمهورية الغالي الذي يوجب سعادة النصف الآخر، فما ينطوي عليه من حلم وحكمة يؤدي إلى حفظ السلام وحسن الطباع فيه. فيا أيتها المواطنات المحبوبات الفاضلات «بنات جنيف»، إن من نصيب جنسكن أن يحكم في جنسنا دائما، ويا للسعادة عندما يشعر سلطانكن الطاهر، المزاول في القران الزواجي وحده، بنفسه في سبيل مجد الدولة والنعيم العام فقط! هكذا كان النساء يقدن في إسبارطة، وهكذا يستأهلن القيادة في جنيف، وأي رجل من البرابرة يقدر أن يقاوم صوت الشرف والعقل من فم زوجة حنون؟ ومن ذا الذي لا يزدري ترفا باطلا عندما يرى حليتكن البسيطة المتواضعة التي تلوح، بما تقتبسه من بهائكن، أنها أكثر ما يلائم الجمال؟ وعليكن أن تصن بسلطانكن البريء المحبب وروحكن الفتانة حب القوانين في الدولة والوفاق بين المواطنين، وأن تجمعن بين الأسر المفرقة بزواجات موفقة، وأن تصلحن، على الخصوص، بدروسكن ذات الوداعة المقنعة، وبحديثكن ذي الألطاف المعتدلة، ما يكتسبه شبابنا من سوء سلوك البلدان الأخرى التى لا يجلبون منها، مع لهجة صبيانية وأوضاع مضحكة مقتبسة من نساء فاجرات، وبدلا من أمور مفيدة كثيرة يمكنهم أن يستفيدوها منها، غير إعجاب بما لا أدري ما يكون من عظمة مزعومة وتعويضات حقيرة عن عبودية لا تساوي الحرية المبجلة، فكن دائما - إذن - أنتن حارسات الأخلاق وروابط السلام العذبات، وداومن على استغلال حقوق القلب والطبيعة نفعا للواجب والفضيلة.
وأتملق نفسي إذ لم يكذبني الحادث بإقامتي على مثل هذه الأسس أمل السعادة العامة للمواطنين والمجد للجمهورية. وأعترف مع جميع هذه المنافع، بأنها لا تسطع بذلك الضياء الذي يعشي معظم العيون، والذي يعد ذوقه الصبياني المشئوم عدو السعادة والحرية والأزرق.
وليذهب شباب منحل لبحث في مكان آخر عن ملاذ سهلة وتوبات طويلة، وليعجب ذوو الذوق المزعوم، في أماكن أخرى، بعظمة القصور وجمال الأجهزة، وبالأمتعة الرائعة والمناظر البهية، وبجميع دقائق الترف والتخنث، فلا يوجد في جنيف غير رجال، غير أن لمثل هذا المحضر ثمنه على ذلك، ومن يبحثون عنه يساوون المعجبين بالباقي.
فتفضلوا، أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، أن تقبلوا جميعا بذات الحلم هذا الدليل البالغ الاحترام على اهتمامي بإقبالكم الشامل، فإذا كنت من الشقاء ما أعد معه مذنبا بهيجان مذياع في قلبي الناري المفتوح، فإنني ألتمس العفو عنه لما ينطوي عليه من ود وطني صادق وللغيرة الحارة الشرعية في رجل لا يرى لنفسه سعادة غير رؤيته إياكم سعداء جميعا.
ويا أيها السادة المبجلون الأجلاء الكرام، أجدني مع الاحترام البالغ خادمكم ومواطنكم الكثير الخضوع والطاعة.
جان جاك روسو
شانبري، في 12 من يونيو سنة 1754
المقدمة
يبدو لي أن معرفة الإنسان
1
هي أنفع جميع المعارف البشرية وأقلها تقدما، وأجرؤ على القول بأن الكتابة الوحيدة على معبد دلف كانت تشتمل على حكم أهم وأصعب من جميع كتب علماء الأخلاق الضخمة، وكذلك فإنني أعد موضوع هذه الرسالة من أكثر المسائل التي تستطيع الفلسفة أن تعرضها إمتاعا، ومن أكثر المسائل التي يستطيع الفلاسفة أن يحلوها، صعوبة - ويا للأسف - وذلك لأنه كيف يعرف مصدر التفاوت بين الناس إذا لم يبدأ بمعرفتهم؟ وكيف يأمل الإنسان أن يرى نفسه كما صنعته الطبيعة من خلال جميع التغيرات التي وجب أن يكون تعاقب الأزمان والأشياء قد أحدثها في نظامه الأصلي؟ وكيف يمكنه أن يميز ما هو أساسي في طبيعته من التغيرات أو الإضافات التي اتفقت لحاله الابتدائية ناشئة عن الأحوال والترقيات؟ وتشابه النفس البشرية تمثال غلوكوس الذي بلغ من التشويه بفعل الزمن والبحار والعواصف ما صار معه يماثل حيوانا ضاريا أكثر من أن يماثل إلها؛ فغيرت تلك النفس في المجتمع بألف علة متجددة بلا انقطاع، وباكتساب طائفة من المعارف والأضاليل، وبتحولات طرأت على نظام الأبدان وبتصادم الأهواء على الدوام، غيرت في المظهر ما نكرت معه تقريبا، فعاد لا يرى فيها غير تناقض مشوه للهوى الذي يرى أنه يتعقل، وللإدراك الذي يغدو هذيانا، وذلك بدلا من كائن يسير دائما وفق مبادئ ثابتة لا تتحول، وبدلا من تلك البساطة العلوية الجليلة التي طبعها بها خالقها.
ومن أشد الأمور قسوة أيضا هو أن جميع ترقيات النوع البشري كلما أبعدته من حاله الابتدائية بلا انقطاع، جمعنا معارف جديدة ونزعنا من أنفسنا وسائل اكتساب ما هو أهم من جميعها، وتلك من بعض الوجوه قوة دراسة الإنسان الذي جعلنا معرفته خارج طاقتنا.
ومن السهل أن يدرك وجوب البحث، في التحولات المتعاقبة التي اعتورت النظام البشري، عن الأصل الأول للفروق التي تميز بين الناس المتساوين فيما بينهم بحكم الطبيعة، كما كانت حيوانات كل نوع قبل أن تدخل علل فزيوية كثيرة إلى بعضها من الاختلافات ما نلاحظه فيها.
والواقع أن مما لا يتصور أن يكون جميع هذه التحولات الأولى، مهما كانت الوسيلة التي وقعت بها قد غيرت - دفعة واحدة وعلى نمط واحد - جميع أفراد النوع، ولكن بما أن بعضهم قد كمل أو فسد، وبما أن بعضهم قد اكتسب صفات مختلفة حسنة أو سيئة، لم تكن ملازمة لطبيعتهم قط، فإن الآخرين قد ظلوا على حالهم الأصلية زمنا أكثر طولا، وقد كان هذا مصدر التفاوت الأول بين الناس، هذا التفاوت الذي يسهل إثباته على العموم هكذا أكثر من تعيين علله الحقيقية بالضبط.
ولا يتصور قرائي - إذن - أنني أزعم رؤيتي ما تظهر لي رؤيته صعبة جدا، فقد بدأت ببعض البرهنات، وقد أتيت مخاطرا ببعض الفرضيات، فكنت أقل أملا في حل المعضلة من قصدي أن ألقي نورا عليها وأردها إلى حالها الحقيقية، ويستطيع آخرون أن يسيروا إلى ما هو أبعد من هذا في ذات الطريق، وذلك من غير أن يسهل على أحد وصوله إلى الحد؛ وذلك لأنه ليس من الجهود الخفيفة أن يفرق في طبيعة الإنسان الحاضرة بين ما هو أصلي وما هو مصنوع، وأن تعرف جيدا حال عادت غير موجودة، حال لم توجد قط على ما يحتمل، حال لن تكون مطلقا على الراجح، مع أن من الضروري أن تكون عنها معارف سديدة وصولا لحسن الحكم في حالنا الحاضرة، حتى إنه لا بد من فلسفة أكثر مما يلوح لذلك الذي يحاول أن يعين بالضبط ما يجب اتخاذه من احترازات للقيام بملاحظات متينة حول هذا الموضوع، ولا يظهر لي حل المعضلة الآتية حلا حسنا غير جدير بما في عصرنا من أرسطو وبليني، والمعضلة هي: ما التجارب الضرورية للوصول إلى معرفة الرجل الطبيعي، وما وسائل القيام بهذه التجارب في صميم المجتمع؟
وإني مع بعدي من محاولة حل هذه المعضلة أراني قد بلغت من التفكير في الموضوع ما أجرؤ معه على الجواب مقدما بأن أعظم الفلاسفة لا يكونون كثيري الصلاح لتوجيه هذه التجارب، ولا يكون أقوى الملوك كثيري الصلاح للقيام بها، أي أن يأتوا بمسابقة ليس من الصواب توقعها، لما تقتضيه من الثبات على الخصوص، وإن شئت فقل من تعاقب الذكاء والوئام الذي لا بد من توفره في كلا الفريقين لبلوغ النجاح.
وهذه المباحث التي يصعب القيام بها كثيرا، والتي فكر فيها قليلا جدا حتى الآن هي وحدها مع ذلك، كل ما بقي لنا من الوسائل لإزالة طائفة من المصاعب التي تحجب عنا معرفة الأسس الحقيقية للمجتمع البشري، وهذا الجهل لطبيعة الإنسان هو الذي يلقي كثير ارتياب وغموض على تعريف الحقوق الطبيعية الصحيح؛ وذلك لأن فكرة الحقوق، وأكثر منها فكرة الحقوق الطبيعية هما كما قال مسيو بورلاماكي فكرتان خاصتان بطبيعة الإنسان كما هو ظاهر، فمن طبيعة الإنسان ونظامه وحاله يجب - إذن - استنباط مبادئ هذا العلم كما قال ذلك مداوما.
وليس من غير حيرة ونفور أن نلاحظ ما بين المؤلفين الذين عالجوا هذا الموضوع المهم من اتفاق قليل، ولا تكاد تجد بين أكثر الكتاب اتزانا اثنين يكونان على رأي واحد حول هذه النقطة، وإني من غير قول عن قدماء الفلاسفة الذين لم يألوا جهدا في مناقضة بعضهم بعضا عن عمد في أكثر المبادئ جوهرا كما يلوح، أحد فقهاء الرومان قد أخضعوا الإنسان والحيوانات الأخرى، بلا تمييز، لذات القانون الطبيعي؛ وذلك لأنهم يرون تحت هذا الاسم ما تفرضه الطبيعة على نفسها من قانون أكثر من رؤيتهم القانون الذي تفرضه على الآخرين، أو على الأصح للاصطلاح الخاص الذي يدرك به هؤلاء الفقهاء كلمة «القانون»، هذه الكلمة التي يلوح أنهم لم يتخذوها في هذه الفرصة إلا للتعبير عن الصلات العامة التي أقامتها الطبيعة بين جميع ذوات الحياة من أجل بقائها، وبما أن المعاصرين لا يعرفون تحت اسم القانون غير قاعدة مفروضة على موجود أدبي، أي موجود عاقل حر من حيث صلاته بالموجودات الأخرى، فإنهم يقصرون اختصاص القانون الطبيعي من حيث النتيجة على الحيوان الوحيد المزين بالعقل، أي الإنسان، ومع أن كل واحد منهم يعرف هذا القانون على شاكلته، فإنهم يقيمونه على مبادئ بالغة من اللاهوتية ما تجد معه بيننا أناسا قليلين قادرين على فهم هذه المبادئ بعيدين من إمكان اكتشافها بأنفسهم، وذلك من حيث كون جميع تعاريف هؤلاء العلماء المتناقضين فيما بينهم تناقضا أزليا - تتفق - فقط، على كونه يتعذر على المرء فهم قانون الطبيعة، ومن ثم إطاعته من غير أن يكون محجابا كبيرا ولاهوتيا عميقا، ومعنى هذا أن الناس قد اضطروا لإقامة المجتمع إلى بصائر لا تنشأ إلا بمشقة عظيمة ولأناس قليلين في صميم المجتمع نفسه.
وإذا ما عرفت الطبيعة قليلا، وإذا ما كان الاتفاق حول معنى كلمة «القانون» سيئا، فإن من الصعب أن يجمع على تعريف حسن للقانون الطبيعي، وإذا عدوت ما تنطوي عليه جميع التعاريف التي توجد في الكتب من نقص في الانسجام، وجدتها تشتمل على خطأ آخر ناشئ عن اشتقاقها من أنواع للمعرفة مختلفة ليست لدى الناس بحكم الضرورة، ومن فوائد لا يمكنهم تمثل فكرتها إلا بعد خروجهم من حال الطبيعة، وقد بدئ بالبحث عن أي القواعد يلائم اتفاق الناس عليها في سبيل المصلحة المشتركة، فأطلق اسم القانون الطبيعي على مجموعة من تلك القواعد من دون دليل آخر غير النفع الذي ينشأ عن تطبيقها العام، وهذه هي طريقة ملائمة جدا لوضع التعاريف وإيضاح طبيعة الأمور بمطابقات مرادية.
بيد أننا ما دمنا لا نعرف الإنسان الطبيعي كان من العبث أن نحاول تعيين القانون الذي فرض عليه، أو القانون الذي هو أحسن ملاءمة لنظامه، وكل ما نستطيع أن نبصره بوضوح بالغ حول موضوع هذا القانون هو ضرورة حديثه بصوت الطبيعة من فوره ليكون طبيعيا، وضرورة خضوع من يلزمه له مع علمه بهذا ليكون قانونا أيضا.
ولندع - إذن - جميع الكتب العلمية التي لا تعلمنا غير رؤية الناس كما صنعوا أنفسهم، ولننعم النظر في أول أعمال الروح البشرية وأكثرها بساطة، فأرى أنه يمكنني أن أبصر فيها مبدأين سابقين للعقل، فيخص أحدهما بحرارة رفاهيتنا وبقاءنا، ويوحي الآخر إلينا بنفور طبيعي من مشاهدة هلاك، أو توجع، كل كائن حساس ولا سيما أمثالنا، فمن الاتفاق والتركيب اللذين تصنعهما نفسنا من هذين المبدأين، ومن غير أن تكون هنالك ضرورة لإدخال مبدأ الأنس، يلوح لي اشتقاق جميع قواعد الحقوق الطبيعية، هذه القواعد التي يضطر العقل بعدئذ إلى إقامتها ثانية على أسس أخرى عندما ينتهي إلى كبت الطبيعة بنشوئه المتعاقب.
وهكذا فإننا لسنا ملزمين بأن نجعل من الإنسان فيلسوفا قبل أن نجعل منه إنسانا، ولم ترسم واجباته نحو الآخرين بدروس متأخرة من الحكمة فقط، وهو ما دام لا يقاوم دافع الرأفة الباطني مطلقا لا يؤذي إنسانا آخر، ولا أي كائن ذي إحساس أبدا، وذلك خلا الحال الشرعية التي يكون بقاؤه موضع عناية فيها، فيكون مضطرا إلى تفصيل نفسه، وبهذه الوسيلة تختم المجادلات القديمة أيضا، حول اشتراك الحيوانات في القانون الطبيعي؛ وذلك لأن من الواضح أنها لا تستطيع معرفة هذا القانون لخلوها من الذكاء والحرية، ولكن بما أنها تمت إلى طبيعتنا بصلة الإحساس المتصفة به من بعض الوجوه، فإنه يحكم بضرورة اشتراكها في الحقوق الطبيعية أيضا، فيكون الإنسان خاضعا بنوع من الواجبات نحوها، ويلوح أن الواقع يقضي بأنني إذا كنت ملزما بألا أصنع أي سوء لمثيلي؛ فذلك لأنه كائن ذو إحساس أكثر من أن يكون ذا عقل، وبما أن صفة الإحساس مشتركة بين الحيوان والإنسان، فإن من الواجب أن تمنح أحدهما، على الأقل، حق عدم معاملته سوءا من قبل الآخر على غير جدوى.
ودراسة الإنسان الأصلي هذه مع احتياجاته الحقيقية ومبادئ واجباته الأساسية، هي الوسيلة الصالحة أيضا التي يمكن استعمالها لإزالة تلك المشاكل التي تبدو حول أصل التفاوت الأدبي، وحول الأسس الحقيقية للهيئة السياسية، وحول حقوق أعضائها المتبادلة، وحول ألف مسألة مماثلة أخرى غامضة بمقدار أهميتها.
وإذا نظر إلى المجتمع البشري بعين هادئة خالية من الغرض، ظهر أنه لا يدل في البداءة على غير عنف الأقوياء من الناس واضطهاد الضعفاء، وتثور النفس على قسوة فريق أو تحتمل على الرثاء لعمي الآخر، وبما أنه لا يوجد بين الناس ما هو أقل ثباتا من هذه الصلات الخارجية التي تؤدي إليها المصادفة أكثر مما تؤدي إليها الحكمة في الغالب، والتي تسمى ضعفا أو قوة وغنى أو فقرا، فإن النظم البشرية تلوح أول وهلة قائمة على كثبان من الرمل المتحرك، وليس بغير البحث فيها عن كثب، وليس بغير إبعاد الغبار والرمل المحيطين بالبناء، ما ترى القاعدة الثابتة القائم عليها وما يعلم احترام أسسه، الواقع أنه إذا لم يبحث في الإنسان وفي خصائصه الطبيعية ونشوئها المتعاقب بحثا جديا لم يمكن إتيان هذه التفصيلات، أو أن يماز في نظام الأمور الحاضر ما صدر عن الإرادة الإلهية مما زعم الفن الإنساني صنعه، فالمباحث السياسية والخلقية التي توجبها المسألة المهمة التي أبحث فيها هي مفيدة من جميع الوجوه إذن، ويكون تاريخ الحكومات الافتراضي درسا ممتعا للإنسان من جميع النواحي.
وإذا نظرنا إلى ما نصير إليه، عندما نترك لأنفسنا، وجب علينا أن نعلم حمد ذلك الذي أصلح بيده الكريمة نظمنا ومن عليها بقاعدة ثابتة، فتدارك ما كان ينشأ عنها من فوضى وأدى إلى سعادتنا بوسائل كانت تغمز بؤسنا كما يلوح.
تعلم ما أمرك الله أن تكون، وتعلم الناحية الإنسانية التي أنت فيها.
برسيوس، الأهاجي 3، 5، 71
كلمة حول أصل التفاوت وأساسه بين الناس
أتكلم عن الإنسان، وأعلم من المسألة التي أبحث فيها أنني أكلم الناس؛ وذلك لأن المسائل التي هي من هذا النوع لم يسأل عنها من قبل من يخافون تكريم الحقيقة؛ ولذا فإنني أدافع مطمئنا عن قضية الإنسانية أمام حكماء يدعونني لأصنع هذا، ولا أكون غير راض عن نفسي إذا ما جعلت نفسي أهلا لموضوعي خليقا بقضاتي.
وأتصور وجود نوعين للتفاوت في الجنس البشري، فالنوع الأول وهو ما أدعوه الطبيعي أو الفزيوي لأنه من وضع الطبيعة، ويقوم على اختلاف الأعمار والصحة وقوى البدن وصفات النفس أو الروح، والنوع الثاني هو ما يمكن أن أدعوه التفاوت الأدبي أو السياسي لتوقفهن على ضرب من العهد ولقيامه - أو للإذن فيه على الأقل - بتراضي الناس، ويتألف هذا النوع من مختلف الامتيازات التي يتمتع بها بعضهم إجحافا بالآخرين، كأن يكون أكثر من هؤلاء ثراء أو إكراما أو قوة، أو أن يكون في وضع ينتزع فيه الطاعة.
ومن العبث أن يسأل عن مصدر التفاوت الطبيعي لوجود الجواب في تعريف الكلمة البسيط، وأقل من ذلك إمكان البحث عن وجود ارتباط جوهري بين التفاوتين؛ وذلك لأن هذا يعني - فقط - أن يسأل بكلمات أخرى عن كون القابضين على زمام القيادة أفضل ممن يطيعون بحكم الضرورة، وعن وجود قوة البدن أو الروح، وعن وجود الحكمة أو الفضيلة، في الأفراد أنفسهم دائما، وعلى نسبة قوتهم أو ثرائهم. وقد يكون من الخير إثارة هذا السؤال بين العبيد على مسمع من سادتهم، ولكن مع عدم ملاءمته لأناس من العقلاء والأحرار الذين يبحثون عن الحقيقة.
وما يكون موضوع هذه الرسالة بالضبط إذن؟ يقوم موضوعها على ملاحظتنا في نشوء الأشياء ذلك الوقت الذي يعقب الحق فيه العنف وتخضع الطبيعة فيه للقانون، وعلى إيضاحنا سياق الخوارق الذي أزمع به القوي أن يخدم الضعيف، وأن يشتري الشعب راحة خيالية بسعادة حقيقية.
وقد شعر الفلاسفة الذين بحثوا في أسس المجتمع بضرورة العود إلى حال الطبيعة، ولكن أحدا منهم لم ينته إليها، ولم يتردد بعضهم في عزوهم إلى الإنسان في هذه الحال فكرة العادل وغير العادل من غير أن يكترثوا لإثبات كونه قد أخذ بهذه الفكرة، وكونها نافعة له أيضا، وقد تكلم آخرون عن الحقوق الطبيعية فيما لكل واحد أن يحفظ ما يخصه من غير أن يوضحوا ما يقصدون بكلمة «يخصه»، وأعطى آخرون في البداءة سلطانا للأكثر قوة على الأكثر ضعفا، فأوجبوا ولادة الحكومة حالا من غير أن يفكروا في الوقت الذي وجب انقضاؤه قبل إمكان وجود معنى كلمتي السلطان والحكومة بين الناس. وأخيرا تكلم الجميع بلا انقطاع عن الاحتياج والطمع والضغط والرغبة والزهو، فنقلوا إلى حال الطبيعة أفكارا اكتسبوها في المجتمع، فحدثوا عن الإنسان الوحشي ووصفوا الإنسان المدني، حتى إنه لم يرد خاطر معظم كتابنا أن يظنوا وجود حال الطبيعة لما يظهر من مطالعة الكتب المقدسة كون الإنسان الأول أخذ عن الله معارف وتعاليم من فوره، فلم يكن في هذه الحال قط، وأنه إذا ما اعتمد على أسفار موسى التي يعد كل فليسوف نصراني مدينا لها، وجب إنكار وجود الناس في الحال الطبيعية المحض، حتى قبل الطوفان، ما لم يكونوا قد وقعوا فيها ثانية بفعل بعض الحوادث العجيبة، فهذا الرأي الغريب مما يورث الدفاع عنه ارتباكا ويتعذر إثباته تماما.
ولنبدأ بطرح جميع الوقائع جانبا لعدم تناولها المسألة مطلقا، ولا ينبغي عد المباحث التي تتخذ في معالجة هذا الموضوع من الحقائق التاريخية، بل من البراهين الافتراضية الشرطية الصالحة لإلقاء نور على طبيعة الأمور أكثر من صلاحها لإثبات أصلها الحقيقي والمشابهة للبراهين التي يأتيها كل يوم طبيعيونا حول تكوين العالم، ويأمرنا الدين بأن نعتقد أن الله ذاته إذ أخرج الناس من حال الطبيعة فور الخلقة فإنهم يكونون متفاوتين؛ لأنه أراد أن يكونوا هكذا، غير أن الدين لا يمنعنا من وضع افتراضات مستنبطة من طبيعة الإنسان والموجودات المحيطة به فقط، وذلك حول ما كان يمكن أن يكونه الجنس البشري لو بقي متروكا لنفسه، وهذه هي المسألة المعروضة علي، وهذا ما أرى درسه في هذه الرسالة. وبما أن موضوعي يهم الإنسان على العموم، فإنني سأحاول انتحال لهجة تلائم جميع الأمم، وإن شئت فقل بما أنني أنسى الأزمنة والأمكنة لكيلا أفكر في غير الناس الذين أخاطبهم، فإنني أفترض نفسي في مدرسة أثنية مكررا دروس أساتذتي، متخذا أمثال أفلاطون وإكزينوقراط قضاة، والنوع البشري مستمعا.
فيا أيها الإنسان كن من أي بلد شئت، ولتكن آراؤك كما أردت، واستمع، فهذا هو تاريخك كما أرى قراءته، لا في كتب أمثالك الذين هم كاذبون، بل في الطبيعة التي لا تكذب مطلقا، وكل ما يأتي من الطبيعة يكون صادقا، ولن تجد ما هو كاذب غير ما أضعه من عندي بلا قصد، والأزمنة التي أتكلم عنها بعيدة إلى الغاية، وما أكثر ما غيرت ما كنت عليه! ولذلك فإن حياة نوعك هي التي أصفها لك وفق الصفات التي نلتها والتي استطاعت تربيتك وعاداتك إفسادها، ولكن من غير أن تقدر على محوها، ويوجد - كما أحس - جيل يرغب الفرد أن يقف عنده، وأنت تبحث عن الجيل الذي تود وقوف نوعك عنده، وبما أنك ساخط على حالك الحاضرة لأسباب تنذر عقبك التعس بأعظم كدر، فإنك تريد القدرة على العود إلى الوراء على ما يحتمل، فيجب أن يكون هذا الشعور ثناء على أجدادك الأولين وانتقادا لمعاصريك وهؤلاء لمن يكتب لهم شقاء الحياة بعدك.
القسم الأول
لا أتتبع نظام حال الإنسان الطبيعية من خلال نشوئها المتعاقب مهما كان من المهم أن ينظر إليها منذ أصلها، أي في الجنين الأول للنوع، وذلك للحكم جيدا في تلك الحال، ولا أقف عند حد البحث في النظام الحيواني عما يمكن أن يكونه هذا النظام في البداءة ليصبح ما هو عليه في آخر الأمر، فلا أسأل - كما يرى أرسطو - هل كانت أظافره الطويلة مخالب عقفا في أول الأمر، وهل كان أشعر كالدب - أو كان - وهو يمشي على أربع أرجل،
1
لا يلاحظ بأنظاره المتهجة نحو الأرض، والمقصورة على أفق بضع خطوات، طبيعة أفكاره وحدودها معا، ولا أستطيع أن أكون حول هذا الموضوع غير افتراضات مبهمة، خيالية تقريبا، ولم يتفق لعلم التشريح المقارن غير تقدم قليل، ولا تزال ملاحظات الطبيعيين غير ثابتة، فلا يمكن أن تقام على مثل هذه الأسسس قاعدة استدلال متين، وهكذا، ومن غير رجوع إلى المعارف الخارقة للطبيعة التي هي لدينا حول هذه النقطة، ومن غير نظر إلى التحولات التي لا بد من حدوثها في تكوين الإنسان داخلا وخارجا ما طبق أعضاءه على منافع جديدة، وتغذى بأطعمة جديدة، أفترض هذا التكوين في كل زمن كما هو عليه اليوم، وذلك أنه سار في كل وقت على رجلين واستعمل يديه كما نصنع بأرجلنا وأيدينا، وأنه وجه أنظاره إلى جميع الطبيعة وقاس السماء الواسعة بعينيه.
وإذا ما جرد هذا الكائن الذي كون هكذا من جميع المواهب الخارقة للعادة التي استطاع نيلها، ومن جميع الخصائص المصنوعة التي لم يقدر على اكتسابها إلا بنشوء طويل. والخلاصة أنه إذا ما نظر إليه كما وجب أن يكون حين خروجه من أيدي الطيعة، رأيت حيوانا أقل قوة من بعضهم وأقل نشاطا من الآخرين، ولكن مع كونه أحسن من الجميع نظاما إذا ما نظر إليه من كل وجه، فأراه يشبع تحت بلوطة، ويرتوي من أول جدول، ويجد فراشه تحت ذات الشجرة التي أمدته بطعامه، وهكذا تكون حاجاته قد قضيت.
وفي كل خطوة تقدم الأرض المتروكة لخصبها الطبيعي،
2
والمستورة بغايات واسعة لم تقطعها القدوم قط، مستودعات وملاجئ للحيوانات من كل نوع، ويلاحظ الناس المفرقون بينها صنعها ويقتبسونه، ويبلغون حتى غريزة الحيوانات، وذلك مع النفع القائل بأنه إذا لم يكن لكل نوع غير غريزته الخاصة، وبأنه إذا لم يكن للإنسان غريزة خاصة على ما يحتمل، فإن الإنسان يختص بالغرائز كلها، فيغتذى على السواء بمعظم الأغذية
3
التي تقتسمها الحيوانات الأخرى، ويجد قوته بأسهل ما يستطيعه أي واحد منها.
وإذا تعود الناس منذ صباهم عدم اعتدال الفصول وشدتها، وإذا تمرنوا على التعب واضطروا إلى الدفاع عن حياتهم وصيدهم عراة عزلا، وذلك ضد الضواري والكواسر أو فرارا من غارتها، فإنهم يكتسبون جبلة قوية، ثابتة تقريبا، فيجلب الأولاد إلى العالم بنية آبائهم الرائعة ويقوونها بذات التمرينات التي أدت إليها، وهكذا ينالون كل ما يستطيعه النوع البشري من متانة، وهكذا تعاملهم الطبيعة كما كان قانون إسبارطة يعامل أولاد المواطنين، فتجعل من هم حسنو البنية أقوياء أشداء، وتهلك جميع الآخرين، وهي في ذلك على خلاف مجتمعاتنا التي تجعل الدولة فيها الأولاد عبئا على الآباء، فتقتلهم قبل ولادتهم بلا تمييز.
وبما أن بدن الإنسان الوحشي هو الآلة الوحيدة التي يعرفها، فإنه يستعمله لأغراض مختلفة تعجز عنها أغراضنا لعدم الممارسة، وصناعتنا هي التي تحرمنا البأس والنشاط اللذين تكره الضرورة الإنسان على اكتسابهما، ولو كانت لديه فأس، فهل كان زنده قطع غصونا قوية جدا؟ ولو كان لديه مقلاع، فهل كان يرمي بيده حجرا بشدة بالغة؟ ولو كانت عنده سلم، فهل كان ينمل (صعد) في شجرة بمثل تلك الخفة؟ ولو كان عنده حصان، فهل كان يركض بمثل تلك السرعة؟ دعوا للإنسان المتمدن من الوقت ما يجمع فيه جميع هذه الآلات حوله، فإنه يقهر الرجل الوحشي بسهولة لا ريب، ولكنكم إذا ما أردتم أن تروا برازا، أكثر تفاوتا فاجعلوهما يتقابلان عاريين أعزلين، فهنالك لا تلبثون أن تعرفوا فائدة تصرف الإنسان في جميع قواه بلا انقطاع، وفائدة استعداده لكل حادث على الدوام، أي كافيا نفسه نحو واحد في كل حين.
4
ويزعم هوبز أن الإنسان جسور بحكم الطبيعة، وهو لا يحاول غير الهجوم والقتال، والعكس ما يراه فيلسوف مشهور آخر، وكذلك يؤكد كونبر لاند وبوفندروف كونه لا شيء أخوف من الإنسان في الحال الطبيعية، فهو يرتجف ويستعد للفرار دائما عند أقل صوت يقرعه وأقل حركة يشعر بها، وقد يكون هذا تجاه الأشياء التي لا يعرفها، ولا أشك مطلقا في خوفه من جميع المناظر الجديدة التي تعرض له في كل مرة لا يستطيع أن يفرق فيها بين الخير والشر الطبيعيين اللذين يجب أن ينتظرهما منها، ولا أن يقابل بين قواه والأخطار التي تلاقيه، وهذه الأحوال نادرة في الحال الطبيعية، حيث يسير كل شيء بالغ النمطية، وحيث لا يكون وجه الأرض خاضعا مطلقا لتلك التحولات المفاجئة الدائمة التي توجبها هنالك أهواء الشعوب المتحدة وتقلبها، ولكن بما أن الإنسان الوحشي يعيش متفرقا بين الحيوانات ويجد نفسه باكرا في حال يقيس نفسه بها، فإنه لا يعتم أن يقوم بهذه المقايسة، وهو إذ يحس أنه يفوقها حيلة أكثر من فواقها إياه قوة، فإنه يتعلم ألا يخشاها بعد، وضعوا دبا أو ذئبا أمام وحشي قوي نشيط جسور - كما عليه الجميع - مسلح بحجارة وهراوة جيدة، تروا كون الخطر متقابلا على الأقل، وكون الحيوانات المفترسة، التي لا تحب مهاجمة بعضها بعضا مطلقا، قليلة الرغبة في مهاجمة الإنسان الذي تجده مفترسا مثلها. وأما من حيث الحيوانات التي لها من القوة في الحقيقة ما هو أكثر من حيلة الإنسان، فإن الإنسان يكون تجاهها في ذات الوضع الذي تكون عليه الأنواع الأخرى الأضعف منها والقادرة على البقاء مع ذلك، وذلك مع قدرة الإنسان على اتخاذ ملجأ وتركه عند المقابلة، ومع خياره في الفرار أو القتال عند المقابلة في كل مكان، فضلا عن استعداده للركض مثلها وعثوره على ملجأ أمين في الشجرة تقريبا، وإلى هذا أضف كونه لا يوجد - كما يظهر - حيوان يشهر الحرب على الإنسان عن طبيعة، خلا الحال التي يكون فيها مدافعا عن نفسه، أو التي يكون فيها جائعا إلى الغاية، وكونه لا يبدي له تلك الكراهية التي تنذر - كما يلوح - بأن أحد الأنواع معد ليكون - عن طبيعة - طعاما لنوع آخر.
وهذه - لا ريب - هي الأسباب في كون الزنوج والهمج لا يخافون الحيوانات المفترسة التي يمكن أن يلاقوها في الغاب، ويعيش كرايب فنيزويلا بين أخرى من هذه الناحية في أمان مطلق ومن غير أدنى محذور، وهم وإن كانوا عراة جميعا تقريبا، على رواية فرنسوا كوريال، يعرضون أنفسهم في الغاب من غير احتراز مسلحين بقوس وسهم، بيد أنه لم يسمع قط افتراس الضواري لأحد منهم.
وهنالك أعداء آخرون أشد هولا، فليس لدى الإنسان ذات الوسائل للدفاع تجاههم، وهؤلاء الأعداء هم: الأسقام الطبيعية للطفولة والهرم والأمراض من كل نوع، أي هذه العلامات الكئيبة لضعفنا، والتي تعد الأوليان منها مشتركتين بين جميع الحيوانات، والتي تعد الأخيرة منها خاصة بالإنسان الذي يعيش في المجتمع، حتى إنني ألاحظ في موضوع الطفولة أن الأم إذ تحمل ولدها معها حيثما كانت، من سهولة تغذيته ما ليس لإناث كثير من الحيوانات التي تضطر إلى الذهاب والإياب بلا انقطاع، مع كثير من التعب بحثا عن غذائها من ناحية، وإرضاعا أو إطعاما لصغارها من ناحية أخرى.
أجل، إن من الحقيقة أن المرأة إذا هلكت حاق بالولد خطر الهلاك معها كثيرا، غير أن هذا الخطر مشترك بين مئة من الأنواع الأخرى التي لا يكون صغارها من الحال ما تبحث معه عن غذائها بنفسها، وإذا كان دور الطفولة أكثر طولا بيننا، كانت الحياة أكثر طولا أيضا، وتساوى كل شيء من هذه الناحية تقريبا
5
وإن وجدت حول مدة الدور الأول وحول عدد الصغار
6
قواعد أخرى ليست من موضوعي، ويكون الناس في المشيب أقل حركة وعرقا، فتقل الحاجة إلى الطعام مع القدرة على تداركه، وكما أن الحياة الوحشية تبعد النقرس والرثية منهم، وكما أن المشيب هو من جميع الأمراض ذلك الذي يكون أقل ما يمكن العون الإنساني أن يخففه، تراهم يزولون في آخر الأمر من غير أن يشعر الآخرون بذلك، ومن غير أن يشعروا هم أنفسهم بذلك.
وأما من حيث الأمراض، فإنني لا أكرر مطلقا ما يقوم به معظم الأصحاء من تصريحات فارغة باطلة ضد الطب، ولكنني أسأل: هل توجد مشاهدات متينة يمكن أن يستنبط منها كون الحياة المتوسطة في البلدان التي يكون فيها فن الطب أكثر الأمور إهمالا أقصر مما في أكثر البلدان عناية به؟ وكيف يمكن هذا أن يكون إذا كنا نجلب لأنفسنا من الأمراض ما لا يستطيع الطب أن يجهزنا بأدويته؟
إن التفاوت المتناهي في طراز الحياة، وفرط البطالة في أناس، وفرط العمل في الآخرين، وسهولة تهييج شهواتنا وملاذنا، والأطعمة المبتغاة كثيرا من قبل الأغنياء فتغذيهم بالعصارات المسببة للحرارة وترهقهم بسوء الهضم، وأغذية الفقراء السيئة التي تعوزهم في الغالب أيضا، والتي يحملهم عدمها إلى إثقال معدتهم بشره عندما تلوح الفرصة، والسهرات، وأنواع الدعارات، وعدم الاعتدال في تبادل ضروب الأهواء، ومتاعب النفس وضناها، وما لا يحصى له عد من الكروب والرزايا التي يشعر بها في جميع الأحوال، والتي تضعف بها النفوس ضعفا مستمرا، دلائل مشئومة على كون معظم أمراضنا من صنعنا الخاص، فكان يمكننا اجتناب جميعها تقريبا بمحافظتنا على طراز العيش البسيط النمطي الانفرادي الذي كانت الطبيعة قد فرضته علينا، وإذا كانت الطبيعة قد أعدتنا لنكون أصحاء، فإنني أجرؤ على القول بأن حال التفكير مناقضة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يفكر حيوان فاسد، وإذا ما نظر في نظام الهمج الصالح، نظام هؤلاء الذين لم نضيعهم بمشروباتنا الروحية، وإذا ما علم أنهم لا يعرفون من الأمراض غير الجروح والمشيب تقريبا، حمل على الاعتقاد بأن من السهل وضع تاريخ للأمراض البشرية بتتبع تاريخ المجتمعات المدنية، وهذا هو - على الأقل - رأي أفلاطون الذي استنتج من أدوية استعملت أو استحسنت من قبل بوداليريوس ومكاؤن في أثناء حصار تروادة كون كثير من الأمراض التي أثارتها هذه الأدوية لم تكن معروفة بين الناس، ويروي سلسوس كون الحمية الضرورية جدا في الوقت الحاضر قد اخترعت من قبل بقراط.
وبما أن الإنسان خاضع لقليل من علل الأمراض في حال الطبيعة، فإنه لا يكون محتاجا إلى علاجات إذن، وأقل من ذلك احتياجه إلى أطباء، ولا يكون النوع البشري أسوأ من جميع الحيوانات الأخرى في هذه الناحية، ومن السهل أن يعرف من الصائدين عن مصادفتهم حيوانات عليلة كثيرة في أثناء صيدهم أولا، وكثير من الصائدين من يجدون بين طرائدهم حيوانات أصيبت بجروح بليغة فاندملت جيدا، وحيوانات كسرت فيها عظام، أو قطعت فيها أعضاء، فعادت إلى حالها من غير أن يكون لها جراحي سوى الزمن، ومن غير أن تتخذ من النظام سوى حياتها العادية، فشفيت تماما من دون أن تؤلم ببضع، أو أن تسم بعقاقير، أو أن تنحل بصيام، ثم مهما يمكن أن يكون للطب الحسن العلاج بيننا من فائدة، فإن من الثابت دائما أنه ليس لدى الهمجي المريض المتروك لنفسه ما يأمله من غير الطبيعة، وأنه ليس لديه ما يخشاه مقابلة من غير مرضه، وهذا يجعله في وضع أفضل من وضعنا غالبا.
ولنحترز - إذن - من خلط الإنسان الوحشي بمن نراهم تحت عيوننا من الناس، فالطبيعة تعامل جميع الحيوانات المتروكة لعنايتها باستحباب يدل - كما يلوح - على درجة اغتباطها بهذا الحق، فللفرس والهر والثور، وللحمار أيضا - في الغالب - قوام أكثر علوا، وبنية أشد قوة ومتانة وجلدا وبأسا في الغابات مما في بيوتنا، وذلك أنها تفقد نصف هذه المزايا عندما تصبح أهلية، فيمكن أن يقال: إن كل اعتناء في حسن معاملة هذه الحيوانات وتغذيتها لا يؤدي إلى غير إفسادها، وقل مثل هذا عن الإنسان، وذلك أنه عندما يصبح أنيسا وعبدا يصير ضعيفا جبانا ذليلا، ومن شأن طراز عيشه الرغيد المخنث أن يوهن قوته وشجاعته، ولنضف إلى هذا وجود فرق بين الرجل الوحشي والرجل المتمدن أكبر مما بين الحيوان الوحشي والحيوان الأهلي، وذلك بما أن الطبيعة تعامل الإنسان والحيوان على السواء، فإن ما يمنحه الإنسان نفسه من رغد أكثر مما يمنحه الحيوانات التي يؤنسها يعد أسبابا خاصة في انحطاطه أكثر من انحطاطها.
إذن، ليس من شقاء هؤلاء الناس الأولين البالغ، وليس من العوائق العظيمة في بقائهم على الخصوص، أن يكونوا عراة عاطلين من المأوى محرومين جميع تلك الزوائد التي نعتقد أنها ضرورية جدا، وإذا لم يكونوا ذوي جلود شعر، فلعدم احتياجهم إليها في البلاد الحارة، وهم لا يلبثون أن يعرفوا في البلاد الباردة اتخاذ جلود الحيوانات التي غلبوها، وإذا لم يكن لهم غير رجلين للركض فإن لهم ذراعين للدفاع عن أنفسهم وتدارك احتياجاتهم، ومن المحتمل أن يتأخر مشي أولادهم وأن يتعلموا المشي بمشقة، غير أن أمهاتهم يحملنهم بسهولة، أي يقمن بهذه المزية التي تعوز الأنواع الأخرى، حيث تضطر الأم عندما تتبع أن تترك صغارها أو أن تسير على خطواتها، ثم إن من الواضح في كل حال أن الأول الذي صنع لنفسه ثيابا أو أقام مسكنا، يكون قد اتخذ لنفسه أشياء ضرورية قليلا، ما دام قد استغنى عنها حتى ذلك الحين، ولم يبصر السبب الذي لم يستطع به كإنسان كامل أن يحتمل حياة صبر عليها منذ طفولته، وذلك ما لم يتحمل تسابق الأحوال الغريب العرضي الذي سأتكلم عنه فيما بعد، والذي يمكن أنه لم يحدث قط.
وعلى الإنسان الوحشي المنفرد البطال والقريب من الخطر دائما أن يحب النوم، وأن يكون نومه خفيفا، كالحيوانات القيلة التفكير فتنام كل الوقت الذي لا تفكر فيه مطلقا، وبما أن بقاءه الخاص هو مدار عنايته الوحيدة، فإنه يجب أن يكون أكثر خصائصه عملا ما كان الدفاع والهجوم غرضه الرئيس، وذلك قهرا لقنيصته أو ضمانا لعدم كونه قنيصة حيوان آخر، وعلى العكس يجب أن تبقى الأعضاء التي لا تتكامل إلا بالنعومة والحسية في حال من الغلظة ما يبعد كل نوع من الدقة فيه، وبما أن حواسه تكون مقسمة من هذه الناحية، فإن اللمس والذوق يكونان غاية في الغلظة، ويكون نظره وسمعه وشمه غاية في الدقة، وهذ هي حال الحيوان على العموم، وهذه هي - أيضا - حال الشعوب الوحشية كما يروي السياح، وهكذا لا ينبغي أن يعجب من كون هوتنتو رأس الرجاء الصالح يكتشفون بالنظر لمجرد سفنا في البحر من بعد لا يراها الهولنديون فيه إلا بنظارات، ولا من وحوش أمريكا الذين يشمون الإسبان من أثر القدم كما يستطيع صنعه أحسن الكلاب، ولا من احتمال أمم البرابرة عريهم من غير مشقة، ومن شحذ ذوقهم بقوة الفلفل الأحمر، ومن شربهم المسكرات الأوروبية كالماء.
ولم أنظر إلى غير الإنسان الطبيعي حتى الآن، فلنحاول أن ننظر إليه الآن من ناحية ما بعد الطبيعة ومن الناحية الأدبية.
ولا أبصر في كل حيوان غير آلة محكمة منحتها الطبيعة حواس لتدور بنفسها ولتضمن نفسها، إلى درجة ما، تجاه كل ما يمكن أن يقوضها أو يخل بها، وأبصر بالضبط ذات الأشياء في الآلة البشرية مع الفرق القائل: إن الطبيعة وحدها هي التي تصنع كل شيء في أفعال الحيوان بدلا من قيام الإنسان بأفعاله عاملا حرا، وتختار إحدى الآلتين أو تطرح عن غريزة، وتختار الآلة الأخرى أو تطرح عن عمل حر، ومن ثم لا يستطيع الحيوان أن ينحرف عن القاعدة المفروضة عليه، وإن كان له نفع في هذا الانحراف، والإنسان ينحرف عن مثل هذه القواعد في غير مصلحته، وهكذا فإن حمامة تموت جوعا بجانب طبق مملوء بأطيب اللحوم، ويموت هر على كدس من الفواكه أو الحبوب، وإن اسطاع كل منهما أن يتغذى جيدا من الطعام الذي يزدريه إذا ما خطر بباله أن يحاول ذلك، وهكذا فإن الناس الفاسقين ينهمكون في الملاذ التي توقعهم في الحمى والموت؛ وذلك لأن النفس تفسد الحواس، ولأن الإرادة تتكلم حينما تسكت الطبيعة.
ولكل حيوان أفكار ما دام يوجد له حواس، حتى إنه يخلط بين أفكاره إلى حد ما، ولا يختلف الإنسان عن الحيوان من هذه الناحية إلا إلى حد ما، حتى إن بعض الفلاسفة ذهبوا إلى وجود فرق بين هذا الإنسان وذاك الإنسان أعظم مما بين هذا الإنسان وذاك الحيوان؛ ولذلك ليس الإدراك هو الذي يجعل الفرق النوعي بين الإنسان والحيوان بمقدار العامل الحر في الإنسان، والطبعية تقود كل حيوان، والحيوان يطيعها، والإنسان يبتلى بذات العامل، ولكن مع علمه بأنه حر في الإذعان أو المقاومة، وفي شعوره بهذه الحرية تبدو روحية نفسه، وذلك أن الحكمة الطبيعية توضح من بعض الوجوه نظام الحواس وتكوين الأفكار، ولكنه لا يوجد في قوة الإرادة، وإن شئت فقل في قدرة الاختيار، ولا يوجد في الشعور بهذه القدرة، غير أفعال روحية خالصة لا يمكن أن يفسر منها شيء بقوانين الميكانيك.
ولكن إذا كانت المصاعب التي تحيط بجميع هذه المسائل تترك مجالا للجدل حول هذا الفرق بين الإنسان والحيوان، فإنه يوجد صفة أخرى بالغة النوعية تفرق بينهما، ولا يمكن أن يكون جدال حولها، وهذه هي خاصية التكامل، هذه الخاصية التي تنمي جميع الخصائص الأخرى تتابعا بفعل الأحوال، وتكمن في النوع كما تكمن في الفرد بيننا، وذلك بدلا من حال الحيوان الذي يبقى مدى حياته ما كان عليه في نهاية بضعة أشهر من سنه، ومن حال جنسه في نهاية ألف سنة ما كان عليه في السنة الأولى منها، ولم يكون الإنسان وحده هدفا للسخافة؟ أليس ذلك لأن الإنسان يعود إلى حالته الأولى على هذا الوجه، ولأن الإنسان الذي يخسر عن مشيب أو حوادث أخرى كل ما ناله باستعداده للكمال يسقط إلى ما هو أحط من الحيوان نفسه، مع أن الحيوان الذي لم يكتسب شيئا ولم يخسر شيئا يبقى محافظا على قوة غريزته؟ إن من عوامل الغم فينا أن نضطر إلى الاعتراف بأن هذه الخاصية الفارقة وغير المحدودة تقريبا هي مصدر جميع رزايا الإنسان، وأنها هي التي تخرجه بفعل الزمن من تلك الحال الأصلية التي يقضي فيها أياما هادئة بريئة، وأنها هي التي تبرز مع القرون معارفه وأضاليله وعيوبه وفضائله، فتجعله مع الزمن طاغية نفسه وطاغية الطبيعة،
7
ومن الفظاعة أن يضطر المرء أن يمدح كمحسن ذلك الذي كان أول من أوحى إلى أهل ضفاف الأورنوك باستخدام الألواح على أصداغ أولادهم، فتضمن لهم قسما من سخافتهم وسعادتهم الأصلية على الأقل.
وبالوظائف الحيوانية الصرفة
8 - إذن - يبدأ الإنسان الهمجي الذي تكله الطبيعة إلى الغريزة وحدها، أو تعوضه - على الصحيح - مما يعوزه على ما يحتمل، بخصائص صالحة لتقوم مقامها في البداءة، ولترفعه فوقها كثيرا فيما بعد، وتقوم على المشاهدة والشعور حاله الأولى التي تكون مشتركة بينه وبين جميع الحيوانات، وتكون الإرادة وعدم الإرادة والرغبة والرهبة أولى أعمال نفسه، وتكون هذه الأعمال وحدها تقريبا، وذلك حتى تؤدي أحوال أخرى إلى نشوء جديد في خصائصه.
ومهما يقل علماء الأخلاق يعد الإدراك البشري مدينا كثيرا للأهواء التي هي مدينة كثيرا لهذا الإدراك أيضا، ما يسلم به على العموم، وذلك أن عقلنا يتكامل بفاعلية الأهواء، وذلك أننا لا نبحث عن المعرفة إلا لأننا نرغب في الاستمتاع، فيتعذر علينا أن نتمثل السبب في كون الذي لا رغائب ولا مخاوف عنده يتكبد مشقة التعقل، والأهواء بدورها تجد أصلها في احتياجاتنا، وتجد نشوءها في معارفنا؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يرغب في الأشياء أو أن تخشى الأشياء إلا للأفكار التي يمكن أن تدور حولها، أو لاندفاع الطبيعة، وإذ إن الإنسان الوحشي محروم كل نوع من الذكاء، فإنه لا يبتلى غير أهواء هذا النوع الأخير، ولا تعدو رغائبه أحد احتياجاته الطبيعية،
9
وكل ما يعرفه في الكون هو الغذاء والأنثى والنوم، وكل ما يخافه من الشرور هو الألم والجوع، وأقول الألم لا الموت؛ لأن الحيوان لا يعرف ما الموت مطلقا، فمعرفة الموت وأهواله هي من أول ما اكتسبه الإنسان بابتعاده عن الحال الحيوانية.
ويسهل علي - عند الاقتضاء - أن أؤيد هذا الشعور بالوقائع، فأثبت أن تقدم النفس لدى جميع أمم العالم يتناسب وما أخذته الشعوب عن الطبيعة من الاحتياجات، أو التي جعلتها الأحوال خاضعة لها، ومن ثم يتناسب والأهواء التي حملتها على قضاء هذه الاحتياجات، وإني إذ أبين أن الفنون تولد وتنتشر في مصر مع فيضان النيل، أتتبع تقدمها عند الأغارقة حيث رئي نبتها ونموها ونهوضها حتى السماوات بين رمال الأتيك وصخره من غير أن تستطيع التأصل على ضفاف الأوروتاس الخصيبة، فألاحظ أن شعوب الشمال أكثر جدا من شعوب الجنوب على العموم؛ وذلك لأنها أقل استغناء من أن تكون هكذا، وذلك كما لو كانت الطبيعة تود أن تساوي بين الأشياء بأن تمنح النفوس من الخصب ما تأباه على الأرض.
ولكن من ذا الذي لا يرى، من غير رجوع إلى أدلة التاريخ المتقلبة، إن كل شيء يبعد من الإنسان الوحشي كلا من الإغراء ووسائل تبديل حاله كما يلوح؟ لا يصوره خياله شيئا له، ولا يسأله قلبه شيئا، وتكون احتياجاته الضئيلة من سهولة وجودها قبضة يده، ويكون من ابتعاده عن درجة المعارف التي لا بد منها ليرغب في اكتساب ما هو أعظم منها، ما لا يمكن أن يكون له معه حذر ولا حب اطلاع، ويغدو غير مكترث لمنظر الطبيعة لما يصير مألوفا لديه، وهو يبصر فيه ذات النظام وذات التقلبات دائما، وليس عنده روح الدهش من أعظم العجائب، وليس عنده ما يجب أن يبحث به عن الفلسفة التي يحتاج الإنسان إليها ليعرف أن يلاحظ مرة ما رآه في جميع الأيام، وتسلم روحه التي لا يهزها شيء نفسها إلى إحساس وجوده الحاضر من غير أي فكر عن المستقبل مهما كان قريبا، ولا تكاد أغراضه المحدودة كأبصاره تمتد إلى نهاية نهاره، ولا تزال هذه درجة إدراك الكرايبي الذي يبيع فراشه القطني صباحا ويبكي مساء لاشترائه، وذلك من عدم بصره بأنه سيحتاج إليه في الليلة القادمة.
وكلما فكر في هذا الموضوع عظمت في نظرنا المسافة بين الإحساسات الخالصة وأبسط المعارف، ومن المحال أن يتمثل إمكان استطاعة الإنسان بقواه وحدها، ومن غير استعانة بطريق ومن غير دافع ضرورة، أن يجاوز مثل تلك الفاصلة، وما أكثر القرون التي مرت على ما يحتمل قبل أن يشاهد الإنسان نارا غير التي في السماء! وما أكثر منا وجب وقوعه من مصادفات لتعلم أكثر استعمال لهذا العنصر شيوعا! وما أكثر ما ترك يطفأ قبل اكتساب صنعة إنتاجه ثانية! وما أكثر ما زال - على ما يحتمل - كل واحد من هذه الأسرار بزوال الذي اكتشفها! وما نقول عن الزراعة، عن هذا الفن الذي يتطلب عملا كثيرا وحذرا كبيرا، عن هذا الفن الذي يرتبط في فنون كثيرة أخرى، والذي لا تمكن مزاولته في غير مجتمع مبدوء على الأقل كما هو واضح جدا، والذي لا ينفع كثيرا في إخراج أقوات من الأرض تمد بها من غيرها إلا بحملها على إنتاج ما هو أكثر ملاءمة لذوقنا؟ ولكن لنفترض أن الناس بلغوا من الكثرة ما عادت الإنتاجات الطبيعية معه غير كافية لتغذيتهم، هذا الافتراض الذي يدل، عند القول العابر، على حياة بالغة النفع للنوع البشري، ولنفترض أن آلات الفلاحة نزلت من السماء وصارت قبضة الهمج من غير كير (زق ينفخ فيه الحداد) ولا معمل، وأن هؤلاء الناس قضوا على الحقد القاتل الذي يحملونه نحو عمل دائم كذلك، وأنهم تعلموا البصر في احتياجاتهم من أمد بعيد، وأنهم حزروا كيف يجب أن تحرث الأرض وتبذر الحبوب وتغرس الأشجار، وأنهم وجدوا فن طحن البر وتخمير العنب، أي اتفقت لهم جميع هذه الأمور التي وجب أن تكون الآلهة قد علمتهم إياها ما دام لم يتمثل كيف تعلموها بأنفسهم، فمن يكون ذلك الإنسان الذي يبلغ من السخافة ما يزعج معه نفسه بزراعة حقل تنزع غلاته من قبل أول آت، إنسانا كان أو حيوانا، غير مبال بمن يلائمه هذا الحصاد؟ وكيف يمكن كل واحد أن يعزم على قضاء حياته في عمل شاق يثق بأنه لا ينال مقابله مع اضطراره إليه؟
والخلاصة: كيف يحمل الناس بهذا الوضع على زراعة الأرض ما دامت غير مقسمة بينهم، أي ما دامت حال الطبيعة غير ملغاة مطلقا؟
ومتى افترضنا وجود إنسان وحشي بارع في فن التفكير كما يجعله لنا فلاسفتنا، ومتى جعلنا فيه فيلسوفا على مثالهم قادرا على اكتشافه وحده أعلى الحقائق، واضعا بسلاسل من البراهين المجردة جدا مبادئ عدل وعقل مستنبطة من حب النظام على العموم، أو مقتبسة من إرادة خالقه المعروفة.
والخلاصة: أننا إذا افترضنا له في النفس من الذكاء والثقافة ما يجب أن يكون له، فيوجد فيه ثقل وسخف فعلا، فأي فائدة يستخرج النوع من هذه اللاهوتيات التي لا يمكن أن تنقل من واحد إلى آخر والتي تزول مع الذي ابتدعها؟ وأي تقدم يمكن أن يتفق للنوع البشري المفرق في الغايات بين الحيوانات؟ وما المدى الذي يمكن الناس أن يتكاملوا فيه ويتثقفوا مقابلة، هؤلاء الناس كانوا عاطلين من المأوى الثابت، غير محتاج بعضهم إلى بعض، فلا يكادون يتلاقون مرتين في حياتهم على ما يحتمل، وذلك مع عدم تعارف وتحادث؟
ولينعم النظر في مقدار الأفكار التي تعد مدينين بها لاستعمال الكلام، وفي مقدار ما تدرب بالنحو أعمال النفس وتسهل به؛ وليفكر في المشاق التي لا تتصور وفيما لا حد له من الزمن ثمنا لاختراع اللغات الأولى؛ ولتضف هذه التأملات إلى السابقة، وليحكم في مقدار ما وجب من ألوف القرون؛ لينمي في النفس البشرية بالتعاقب ما كانت قادرة عليه من الأفعال.
وليسمح لي بالنظر هنيهة في عوائق أصل اللغات، ويمكنني أن أذكر، أو أكرر، هنا مباحث الشماس دوكوندياك التي قام بها حول هذا الموضوع فتؤيد منهاجي تماما، ويحتمل أن كانت أول ما أوحي إلي بالفكرة الأولى، ولكنه يتضح من الوجه الذي يحل به هذا الفيلسوف ما يثيره من المشاكل حول أصل الحركات الموضوعة أنه افترض ما أسأل عنه، أي ضربا من المجتمع القائم بين مبتدعي اللغة، فأرى - حين أرد إلى تأملاته، أن أضيف تأملاتي لأعرض عين المشاكل على نور ما يناسب موضوعي، وأول مشكلة تظهر هو أن يتصور كيف أمكن أن تصير اللغات ضرورية، وذلك بما أنه لم يكن بين الناس أي اتصال ولا أي احتياج إلى هذا الاتصال، فإنه لا يتصور لزوم هذا الاختراع ولا إمكانه لو كان غير ضروري، وأقول كآخرين كثيرين: إن اللغات ولدت من اختلاط الآباء والأمهات والأولاد اختلاطا أهليا، غير أن هذه الوسيلة لا تحل المشاكل مطلقا، وهي - فضلا عن ذلك - تنطوي على خطأ من يبرهنون حول حال الطبيعة، فيدخلون إلى براهينهم أفكارا اقتبست من المجتمع، فلا ينفكون يرون الأسرة تعيش تحت سقف واحد، وأن أفرادها يحتفظون فيما بينهم باتحاد وثيق دائم كما بيننا، حيث تجمع بينهم مصالح كثيرة مشتركة، مع أنه لم يكن للناس في تلك الحالة الابتدائية منزل ولا كوخ ولا ملك من أي نوع كان، فيعيش كل واحد أينما وجد اتفاقا، ولليلة واحدة في الغالب، وكان الذكور والإناث يختلطون عرضا وفق ما يقع من التقاء وفرصة وميل، من غير أن يكون الكلام ترجمانا ضروريا كثيرا للأمور التي كان عليهم أن يعبروا عنها، وكانوا يفترقون بسهولة
10
كالتي يجتمعون بها، وكانت الأم ترضع أولادها في البداءة عن احتياج خاص لها، ثم جعلتهم العادة غالين فصارت تغذيهم عن احتياج فيهم، وكانوا إذا ما أصبحوا من القوة ما يبحثون معه عن قوتهم لم يعتموا أن يتركوا الأم نفسها، وبما أنه لم يكن من وسائل الالتقاء تقريبا غير عدم الغياب عن العين، فإنهم كانوا لا يتعارفون إذا ما تلاقوا ثانية؛ ولنلاحظ - أيضا - اضطرار الولد إلى إيضاح جميع احتياجاته، ومن ثم وجود أمور كثيرة يقولها الولد لأمه أكثر من أن تقولها أمه له، فكان عليه أن يقوم بأعظم جهود للإبداع، فوجب أن تكون اللغة التي يستعملها من صنعه الخاص إلى حد بعيد، وهذا ما يجعل اللغات من الكثرة بعدد الأفراد الذين يتكلمون بها، وهذا مع وجوب زيادة تنوعها بما يأتونه من حياة التسكع والتيهان التي لا تترك لأية لغة من الوقت ما تكتسب معه ثباتا؛ وذلك لأن القول بأن الأم تملي على الولد من الكلمات ما يجب عليه أن يستعمله ليسألها عن هذا الشيء أو ذاك، يدل جيدا على الوجه الذي تعلم به اللغات التي تم تكوينها، غير أن هذا لا يوضح كيف تكونت.
ولنفترض أن هذه الكلمة الأولى مشكلة ذللت، ولنجاوز للحظة ما وجب وجوده من مسافة واسعة بين الحال الطبيعية الخالصة والحاجة إلى اللغات، ولنبحث بافتراضها ضرورية
11
عن الوجه الذي استطاعت أن تبدأ به وتستقر، وهذه مشكلة جديدة أسوأ من السابقة أيضا؛ وذلك لأن الناس إذا كانوا محتاجين على الكلام ليتعلموا التفكير، فإنهم أكثر احتياجا إلى معرفة التفكير لإيجاد فن الكلام، وإذا ما أدرك الوجه الذي اتخذت به نبرات الصوت لتكون تراجمة اتفاقية لأفكارنا، فإنه يبقى علينا - دائما - أن نعرف ما استطاع أن يكون تراجمة هذا الاتفاق عن الأفكار التي ليس موضوعها محسوسا فتستطيع أن تدل على نفسها بالحركة أو بالصوت، وذلك أننا لا نكاد نستطيع أن نضع فرضيات محتملة حول ظهور هذا الفن في نقل الإنسان أفكاره وإقامة صلة بين النفوس، هذا الفن العالي البعيد جدا من أصله، ولكن مع كون الفيلسوف لا يزال يراه على مسافة لا يعرف مداها بعدا من الكمال، ولكن مع عدم وجود إنسان بالغ من الجرأة ما يؤكد عدم الوصول إليه مطلقا، ولو وقفت نفعا له ما يوجبه الزمن من الانقلابات، ولو أقصيت المبتسرات “Préjugés”
عن المجامع الأدبية أو صمتت أمامها، ولو استطاعت هذه المجامع أن تعنى بهذا الموضوع الشائك في قرون كاملة بلا انقطاع.
وصوت الطبيعة هو اللغة الأولى للإنسان، وهو أكثر اللغات انتشارا ونشاطا، وهو الوحيد الذي احتاج إليه قبل وجوب إقناعه أناسا مجتمعين، وبما أن هذا الصوت لم ينتزع إلا بنوع من الغريزة في الأحوال الملحة التماسا للعون في الأخطار العظيمة، أو للتخفيف في الأمراض العنيفة، فإنه لم يكن كبير الاستعمال في أثناء الحياة العادية، حيث يسود أكثر المشاعر اعتدالا. ولما أخذت أفكار الناس تنتشر وتزيد وقامت بنيهم صلة أشد إحكاما، بحثوا عن حركات أكثر عددا، وعن لغة أعظم اتساعا، فزادوا إمالات الصوت، وأضافوا إليه من الحركات ما هو أكثر تعبيرا، وما يكون معناه أقل توافقا على تحديد سابق، وبالحركات يعبر - إذن - عن الأشياء المنظورة والمتحركة، وبالأصوات المماثلة يعبر عن الأشياء التي تقرع السمع، ولكن بما أن الحركة لا تدل على غير الأشياء الحاضرة أو التي يسهل وصفها وعلى الأعمال المنظورة، وبما أنها ليست شاملة الاستعمال ما دام ظلام الجسم أو تداخله يجعلها غير ذات عمل، وبما أنها تقتضي انتباها أكثر من إثارته، فإنه رئي في نهاية الأمر أن تستبدل بها مفاصل الصوت التي هي - من غير أن تكون عين الصلة ببعض الأفكار - أصلح لتمثيلها جميعها كإشارات مصطلح عليها. واستبدال كهذا لا يمكن أن يتم إلا باتفاق عام، وعلى وجه يصعب تطبيقه على أناس لم تتعود أعضاؤهم الغليظة ممارسته بعد، وأصعب من ذلك أيضا إدراكه في ذاته ما وجب أن يكون ذلك الاتفاق الإجماعي مبرهنا، وما ظهر أن الكلام ضروري إلى الغاية توطيدا لعادة الكلام.
ويجب أن يرى أن الكلمات الأولى التي استعملها الناس قد انطوت في روحها على معنى أكثر اتساعا بما لم يكن للكلمات التي تستعمل في اللغات القائمة، وهي إذ تجهل تقسيم الكلام إلى أجزائه المتتابعة، فإنها منحت في البداءة كل كلمة معنى جملة بأجمعها، وهي إذ أخذت تميز الفاعل من المفعول والفعل من الاسم، وهذا ما لا يصدر عن جهد وضيع من العبقرية، فإن الأسماء لم تكن في البداءة غير أسماء خاصة، وإن الحاضر هو الزمن الوحيد للأفعال، وأما النعوت فوجب أن تكون قد تقدمت بصعوبة عظيمة؛ وذلك لأن كل نعت هو كلمة مجردة؛ ولأن المجردات أعمال شاقة غير طبيعية إلا قليلا.
وقد نال كل شيء اسما خاصا في البداءة، وذلك من غير نظر على الأجناس والأنواع التي لم يكن الواضعون الأولون ليفرقوا بينها، وقد تمثل جميع الأفراد لنفوسهم على انفراد كما في رسم الطبيعة، وإذا كانت إحدى البلوطات تدعى (أ) وكانت الأخرى تدعى (ب)، فإن الفكرة الأولى التي تستنبط من الأمرين هي أنهما ليسا عين الشيء، فوجب في الغالب مرور زمن كبير لملاحظة ما هو مشترك بينهما، وذلك أنه كلما كانت المعارف محدودة اتسع مدى المعجم ، ولم يكن من السهل أن يزال عسر استعمال هذا المعجم؛ وذلك لأن صف الموجودات تحت تسميات عامة وجنسية كان يتطلب معرفة الخصائص والفروق، كان يتطلب من الملاحظات والتعريفات، أي من التاريخ الطبيعي ومما بعد الطبيعة، ما هو أكثر مما يمكن آدمي ذلك الزمن أن يحوزه بمراحل.
ثم إن الأفكار العامة لا يمكن أن تدخل في النفس من غير مساعدة الكلمات، ولا يمكن أن ينالها الإدراك من غير جمل، وهذا هو أحد الأسباب في عجز الحيوانات عن تكوين مثل هذه الأفكار واكتساب ما يتوقف عليها من كمال، وإذا ما انتقل قرد من جوزة على أخرى بلا تردد، فهل يرى أنه كان لديه فكرة عامة عن هذا النوع من الثمر، وأنه يقابل مثاله بتينك الجوزتين؟ كلا، لا ريب، غير أن منظر إحدى الجوزتين يرد إلى ذاكرته من المشاعر ما أخذه عن الأخرى، وتخبره عيناه، اللتان عدلتا على وجه ما، ذوقه بالتعديل الذي يوشك أن يصيبه، وكل فكرة عامة ذهنية، ولا تلبث الفكرة أن تكون خاصة إذا مازجها شيء من الخيال، وإذا حاولتم أن ترسموا في ذهنكم صورة شجرة على العموم لم تبلغوا غايتكم قط، فيجب أن ترى، على الرغم منكم، صغيرة أو كبيرة، عارية أو كثيفة، زاهرة أو قائمة، وإذا كنتم من الحال ما لا ترون معه فيها غير ما هو مشترك بين جميع الشجر، عادت هذه الصورة لا تشابه شجرة مطلقا، وتبصر الموجودات المجردة على ذات الوجه، أو هي لا تدرك بغير الكلام، ومن ذلك أن تعريف المثلث يعطيكم عنه فكرة حقيقية، فمتى جعلتم له صورة في ذهنكم كان مثلثا خاصا، لا مثلثا آخر، ولم يمكنكم أن تجتنبوا منحه خطوطا محسوسة أو رسما ملونا؛ ولذا يجب استعمال جمل؛ ولذا يجب الكلام، لنيل أفكار عامة، وذلك لأن الخيال إذا ما وقف عاد الإدراك لا يسير بغير مساعدة الكلام؛ ولذا إذا كان المبدعون الأولون لم يستطيعوا إطلاق أسماء على غير ما كان عندهم من أفكار، فإن الأسماء الأولى لم تستطع أن تكون غير أسماء خاصة.
ولكن عندما أخذ نحويونا الجدد ينشرون أفكارهم ويعممون كلماتهم بوسائل لا أتصورها، وجب أن يؤدي جهل المبدعين إلى حصر هذا النهج ضمن حدود ضيقة جدا، وبما أنهم كثروا أسماء الأفراد في البداءة إلى الغاية، عن عدم معرفة الأنواع والأجناس، فإنهم جعلوا أنواعا وأجناسا قليلة إلى الغاية فيما بعد، وذلك عن عدم نظر إلى الموجودات من حيث جميع فروقها، وكان لا بد لهم من تجارب ومعارف أكثر مما كانوا يستطيعون حيازته، وكان لا بد لهم من مباحث وجهود أكثر مما كانوا يريدون اتخاذه، حتى يوسعوا نطاق التقسيمات إلى مدى بعيد بدرجة الكفاية، والواقع أنه إذا ما اكتشفت في كل يوم، وفي يومنا أيضا، أنواع جديدة لم تلاحظ سابقا، فإن من الرأي أن ينعم النظر في مقدار ما كان قد غاب منها عمن لا يحكمون في الأمور إلا عن أول نظرة، ومن غير الضروري أن يضاف إلى هذا كون الأصناف الابتدائية وأكثر التصورات عموما قد غابت عن ملاحظتهم أيضا، وكيف كانوا - مثلا - يتصورون أو يسمعون كلمات: المادة والنفس والجوهر والنمط والشكل والحركة، ما دام فلاسفتنا الذين يستعملونها منذ زمن طويل جدا يجدون مشقة في سماعها بأنفسهم، وما دامت الأفكار التي تربط بهذه الكلمات خاصة بما بعد الطبيعة تماما فلا يجدون لها نظيرا في الطبيعة؟
وأقف عند هذه الخطوات الأولى، وألتمس من قضاتي أن يمسكوا عن قراءتهم لينظروا في اختراع الأسماء المادية، أي في قسم اللغة الذي هو أسهل ما يوجد، وذلك أنه لا يزال يوجد طريق كبيرة تسلك قبل أن يعبر عن جميع أفكار الناس، وقبل أن تتخذ هذه الأفكار شكلا ثابتا يعرب به عن مقاصد الجمهور ويؤثر في المجتمع، وألتمس من قضاتي أن يتأملوا فيما يجب من الوقت والمعارف لإيجاد الأعداد
12
والأسماء المجردة، والمضارع وجميع أزمنة الأفعال، والحروف والتراكيب، وربط الجمل ووجوه القياس، وتأليف منطق الكلام، وأما أنا، وتخيفني المصاعب التي تتكاثر وأقنع بما هو ثابت تقريبا من استحالة ظهور اللغات واستقرارها بوسائل بشرية صرفة، فأدع لمن يريد القيام بذلك أن يناقش في هذه المسألة الصعبة التي كانت أكثر الأمور لزوما للمجتمع المرتبط في نظام اللغات، أو للغات المخترعة المرتبطة في نظام المجتمع.
ومهما يكن من أمر هذه الأصول (اللغات والمجتمع) فإنه يرى على الأقل، من قلة عناية الطبيعة بتقريب بعض الناس من بعض باحتياجات متقابلة وتسهيلها استعمال الكلام، مقدار قلة إعدادها لأنسيهم، ومقدار قلة ما وضعته من ذاتها في جميع ما صنعوه إيجادا لمثل روابط الاتحاد هذه، والواقع أنه يستحيل تصور السببب في كون الإنسان في هذه الحال الابتدائية يحتاج إلى إنسان آخر أكثر من احتياج القرد أو الذئب إلى آخر من نوعه، ولا تصور السبب في حمل الآخر على قضاء هذا الاحتياج عند افتراضه، ولا تصور وجه إمكان اتفاقهما على الشروط في هذه الحال الأخيرة، وأعلم أنه يقال لنا مكررا، وبلا انقطاع: إنه لم يكن مثل الإنسان بائس في هذه الحال. فإذا صح ما أعتقد إثباتي له من أنه لم يساوره ميل أو فرصة للخروج منها إلا بعد قرون كثيرة، كان هذا قضية ترفع على الطبيعة، لا على الذي جبلته هكذا، وأما كلمة «بائس» فلا أجد لها معنى أو إنها لا تعني غير حرمان أليم أو ألم في الجسم والروح، ومما أود أن يوضح لي في الواقع ما يمكن أن يكون نوع البؤس في شخص حر يتمتع فؤاده بالسكون وبدنه بالصحة، ومما أسأل: أي الأمرين، الحياة المدنية أو الطبيعية، يكون أكثر عدم احتمال - كما يغدو - لدى من يتمتعون بهما، ولا نكاد نرى حولنا غير أناس يتوجعون من حياتهم، حتى إننا نرى أناسا كثيرين ينتزعونها ما استطاعوا، ولا تكاد القوانين البشرية والإلهية مجتمعة تقف هذا الاختلال، ومما أسأل: هل سمع قط أن همجيا طليقا دار في خلده أن يشتكي من الحياة فقتل نفسه. ولينظر - إذن - مع قليل زهو، في الناحية التي يأتي البؤس الحقيقي منها، وعلى العكس لا شيء أشد بؤسا من الإنسان الوحشي الذي بهرته المعارف وأوجعته الأهواء باحثا حول حياة مختلفة عن حياته، ويظهر أن العناية الربانية البالغة الحكمة قضت بألا تنمو الخصائص الحائز لها إلا في فرص ممارستها؛ وذلك لكيلا تكون زائدة ثقيلة قبل الأوان، أو تكون متأخرة لاغية عند الاقتضاء، وقد كان يكمن في الغريزة وحدها كل ما يحتاج إليه للعيش في حال الطبيعة، وليس له في عقل مثقف غير ما يحتاج إليه المجتمع.
ويظهر أول وهلة أنه لم يكن بين الناس في هذه الحال أي نوع من الصلات الأدبية، ولا واجبات معينة، فيستطيعوا أن يكونوا صالحين أو طالحين، ولم تكن لديهم معايب ولا فضائل، ما لم تؤخذ هذه الكلمات ضمن معنى مادي فتدعى معايب في الفرد الصفات التي يمكن أن تضر بقاءه الخاص، وتدعى فضائل الصفات التي يمكن أن تساعد على بقائه، فيجب في هذه الحال أن يدعى الأكثر فضيلة الأقل مقاومة لاندفاعات الطبيعة، ولكننا - من غير أن نبتعد عن المعنى المادي - نجد أن من المناسب أن نقف الحكم الذي نستطيع سوقه حول مثل هذا الوضع، وأن نحذر مبتسراتنا حتى يبحث، والميزان في اليد، عن وجود الفضائل أكثر من المعايب بين المتمدنين، أو عن كون فضائلهم أنفع من عدم شؤم معايبهم، أو عن كون تقدم معارفهم تعويضا كافيا من الشرور التي يأتونها مقابلة بنسبة الخير الذي يجب أن يصنعوه، أو عن كونهم - إجمالا - في وضع لا يبدون فيه أعظم سعادة في عدم وجود شر يخشونه، ولا خير يرجونه من أحد، من خضوعهم لطاعة عامة ومن إلزامهم بنيل كل شيء من أولئك الذين لا يلزمون أنفسهم بإعطائهم شيئا.
ودعنا لا نستنتج مع هوبز - على الخصوص - كون الإنسان طالحا بحكم الطبيعة لكيلا تتمثل فكرة الصلاح؛ وكونه فاسدا لأنه لا يعرف الفضيلة، وكونه يأبى على أمثاله دائما خدما لا يعتقد حقهم في طلبها، ولا كونه يطلب - عن حق - كل شيء يحتاج إليه فيتصور - عن حماقة - أنه مالك جميع العالم، وقد أصاب هوبز في ملاحظته نقص جميع التعريفات الحديثة للحقوق الطبيعية، غير أن النتائج التي استخرجها من تعريفه تدل على اتخاذه هذا التعريف ضمن معنى ليس أقل خطأ، وكان على هذا المؤلف، حين يبرهن حول المبادئ التي وضعها، أن يقول: بما أن حال الطبيعة هي الحال التي تكون فيها العناية ببقائنا أقل ضرا ببقاء الآخرين، فإن هذه الحال كانت أنسب للسلم وأصلح للجنس البشري، والعكس هو ما قاله تماما نتيجة قبوله قبولا غير مناسب، وكجزء من عناية الإنسان الوحشي ببقائه، قضاء طائفة من الأهواء التي هي من عمل المجتمع والتي جعلت القوانين أمرا ضروريا، ومن قوله: إن الإنسان الطالح هو ولد قوي، وبقي أن يعرف هل الإنسان الوحشي ولد قوي، وإذا ما أعطي هذا فما عليه أن يستنبط؟ وإذا كان هذا الإنسان القوي تابعا لآخرين اتباعه لهم عند ضعفه لم يوجد تطرف لا يكون مذنبا به، وليضرب أمه إذا ما تأخرت عن إعطائه ثديها، وليخنق أحد إخوته الصغار إذا ما أزعجه، وليعض ساق أخ آخر له إذا ما أقلقه، فلا تنطوي هذه الأمور على غير افتراضين متناقضتين في حال الطبيعة التي يكون فيها ذلك الإنسان قويا وتابعا، ويكون الإنسان ضعيفا عندما يكون تابعا، وهو يكون طليقا قبل أن يكون قويا، ولم ير هوبز أن ذات العلة التي تمنع الهمج من استعمال عقلهم ما يزعم فقهاؤنا تمنعهم في الوقت نفسه من سوء استعمال خصائصهم كما يزعم هوبز نفسه، فبذلك يمكن أن يقال إن الهمج ليسوا طالحين؛ لأنهم لا يعلمون معنى كونهم صالحين؛ ولك لأن سكون الأهواء وجهل العيب هما اللذان يحولان دون صنعهم الشر، «فجهل العيب أكثر فائدة للواحد من معرفة فضيلة الآخر» (جوستان، التاريخ، باب 2، فصل 2)، ثم يوجد مبدأ آخر لم يبصره هوبز قط، وذلك: بما أن الإنسان قد أعطي ما يلطف به في بعض الأحوال قسوة أنانيته أو رغبته في البقاء قبل أن تولد هذه الرغبة،
13
فإنه يعدل ما فيه من حميا البحث عن هناءته بنفوره الفطري من مشاهدة نظيره بألم، ولا أجد ما أخشاه من تناقض بذهابي إلى أن الإنسان حائز للفضيلة الطبيعية الوحيدة التي لا يمكن أن ينكرها أكثر الناس طعنا في الفضائل البشرية ، وأتكلم عن الرحمة، عن هذا الأمر الملائم للأشخاص البالغين من الضعف والمعروضين لكثير من الشرور كما نحن عليه؛ عن هذه الفضيلة البالغة من الشمول العظيم والنفع العميم للإنسان ما تسبق فيه كل تأمل، عن هذه الفضيلة البالغة من ملاءمة الطبيعة ما تصدر معه حتى عن الحيوان أحيانا دلائل محسوسة عليها، وإني - من غير قول عن حنان الأمهات على صغارها، وعن الأخطار التي تقتحمها لتصونها منها - أقول: إنه يرى في كل يوم نفور الخيل من دوس الأجسام الحية تحت سنابكها، ويرى - مع طيب الخاطر - أن مؤلف قصة النحل الملزم بأن يعرف الإنسان موجودا رحيما حساسا، يخرج في المثال الذي أورده عن ذلك من أسلوبه الفاتر الدقيق ليقدم إلينا صورة مؤثرة عن إنسان سجين يبصر في الخارج حيوانا ضاريا ينزع من حضن أمه طفلا، فيسحق بأنيابه الفتاكة أعضاءه الضعيفة ويمزق بمخالبه أحشاءه المختلجة، فيا لهول ما يشعر به شاهد مثل هذا الحادث الذي لا يهمه شخصيا! ويا للجزع الذي يستحوذ عليه عند هذا المنظر حيث لا يستطيع أن يقوم بأي عون للأم المغشي عليها، وللطفل المسلم روحه!
وهذا هو انفعال الطبيعة الخالص السابق لكل تأمل، وهذه هي قوة الحنان الطبيعي الذي لم يكد أفسد الأخلاق يقضي عليه، وذلك لما يرى كل يوم في دور تمثيلنا من أناس راحمين باكين تعس شقي يزيد آلام أعدائه لو كان في مكان الطاغية، وذلك كسيلا السفاح الكثير الشفقة تجاه ما لم يوجبه من البؤس، أو إسكندر الفيروسي الذي لم يجرؤ على مشاهدة تمثيل أية مأساة خشية أن يرى وهو يئن مع أندروماك وبريام، على حين كان يسمع غير راحم صراخ مواطنين كثيرين يذبحون كل يوم وفق أوامره، «فالطبيعة تصرح بأنها أنعمت على النوع البشري بأرق القلوب عند من يسكب لهم عبرات.» (جوفينال، أهاجي، 15، 131).
أجل، شعر ماندفيل جيدا بأن الناس مع جميع أخلاقهم لم يكونوا قط غير غيلان لو لم تمن الطبيعة عليهم بالرحمة دعما للعقل، بيد أنه لم ير صدور جميع الفضائل الاجتماعية، التي ينكر وجودها في الناس، عن هذه الصفة الوحيدة، والواقع ما المروءة والرحمة والإنسانية إن لم تكن الرحمة مطبقة على الضعفاء أو المذنبين أو النوع البشري على العموم؟ حتى إن العطف واللطف - عند حسن الحكم - نتيجة رأفة ثابتة، مستقرة على موضوع خاص، وذلك: هل تعد الرغبة في عدم تألم الشخص شيئا آخر غير الرغبة في كونه سعيدا؟ ومتى صح أن تكون الرأفة غير شعور يضعنا في مكان الذي يألم، غير شعور غامض حاد عند الإنسان الوحشي، نام مع ضعف في الإنسان المتمدن، فما تجلبه هذه الفكرة إلى حقيقة ما أقول إن لم يكن تأييدا له؟ والواقع أن الرأفة تشتد بنسبة مطابقة الحيوان الناظر للحيوان المتألم مطابقة وثيقة، ومن الواضح حقا وجوب كون هذه المطابقة أكثر إحكاما، بما لا حد له، في حال الطبيعة مما في حال التعقل، فالعقل هو الذي يوجد الأنانية، والتأمل هو الذي يقويها، والعقل هو الذي يلوي الإنسان على نفسه، ويفصله عن كل ما يمكن أن يزعجه أو يحزنه، والفلسفة هي التي تفرزه، وبالفلسفة يقول سرا عند رؤيته إنسانا متألما: «إن شئت فاهلك، فأنا في أمان»، ولا يوجد غير أخطار المجتمع بأسره ما يقلق الفيلسوف في نومه، أو ينتزعه من فراشه، ويمكن أن يذبح إنسان تحت نافذته إنسانا آخر بلا عقاب، وليس عليه إلا أن يضع يديه على أذنيه، وأن يساجل نفسه قليلا ليمنع الطبيعة التي تحركت فيه من أن تتمثل في الشخص الذي يذبح، ولا تجد عند الإنسان الوحشي هذا النبوغ العجيب، وتجد الإنسان الوحشي يسلم نفسه في كل وقت، وبلا روية، إلى أول شعور إنساني، وترى الرعاع يتجمعون في الفتن والمشاجرات والشوارع، وترى الإنسان الفطين يبتعد عنها، والأوباش ونساء الأسواق هم الذين يفصلون بين المتنازعين ويحولون دون تذابح ذوي الصلاح.
ومن الثابت - إذن - كون الرأفة شعورا طبيعيا يعدل في كل فرد نشاط حب الذات، فيساعد على بقاء كل نوع بقاء متقابلا، والرأفة هي التي تحملنا، من غير تأمل، على مساعدة من نراهم يألمون، والرأفة هي التي تقوم في الحال الطبيعية مقام القوانين والعادات والفضيلة، وذلك مع مزيتها في عدم وجود أحد يحاول عصيان صوتها العذب، والرأفة هي التي تصرف كل همجي قوي عن اختطافه من ولد ضعيف أو من شائب عاجز قوته الذي ناله بمشقة إذا ما تأمل نيله في مكان آخر، والرأفة توحي إلى جميع الناس بمبدأ الصلاح الطبيعي القائل: «اصنع خيرا نحو نفسك بأقل شر ممكن نحو الآخرين»، وذلك بدلا من المبدأ العالي للعدل العقلي القائل: «عامل الآخرين بما تريد أن يعاملوك به»، والذي هو أقل من الأول فائدة على ما يحتمل، وإن كان أكثر منه كمالا.
والخلاصة: أنه يجب أن يبحث في هذا الشعور الطبيعي، أكثر مما في البراهين الدقيقة، عن ذلك النفور الذي يحسه كل إنسان عند صنعه الشر، ولو مستقلا عن مبادئ التربية، ومع أنه يعود على سقراط ومن هم على شاكلته أمر اكتساب الفضيلة بالعقل، فإن الجنس البشري كان يزول منذ زمن طويل لو توقف بقاؤه على تعقلات من يتألف منهم.
ولم يكن الناس، الذين هم همج أكثر من أن يكونوا أشرارا وأكثر به، عرضة لمنازعات بالغة الخطر مع أهواء قليلة النشاط وزاجر كثير النفع، وبما أنه لم يكن بينهم أي تعامل فإنهم لم يعرفوا زهوا ولا اعتبارا ولا احتراما ولا ازدراء، ولم يكن عندهم أدنى فكرة عن «مالي» و«مالك»، ولا أي رأي حقيقي عن العدل، وإنهم كانوا يعدون العنف الذي يمكن أن يعانوه شرا يسهل تلافيه، لا إهانة يجب العقاب عليها، وإنهم كانوا لا يفكرون حتى في الانتقام ما لم يكن آليا وحالا، وذلك كالكلب الذي يعض الحجر الذي يرمى إليه؛ ولذا كان من النادر حدوث نتائج دامية لمنازعاتهم، ما لم تصدر عن أمر القوت، غير أنني أبصر ما هو أشد خطرا، فبقي لي أن أتكلم عنه.
يوجد بين الأهواء التي تحرك قلب الإنسان هوى ملتهب صائل يجعل كل واحد من الجنسين ضروريا للآخر، هوى هائل يقتحم جميع الأخطار، ويقلب جميع العوائق رأسا على عقب، ويلوح صالحا في صولاته لتقويض الجنس البشري المعد لحفظه، وما يحدث للناس الذين تسلطت عليهم هذه الحميا الجامحة الجافية للعذار والعاطلة من الاعتدال، والتي تنازع كل يوم معاشقهم على حساب دمهم؟
وأول ما يجب أن يعترف به هو أن الأهواء كلما كانت عنيفة أصبحت القوانين ضرورية لزجرها، ولكنك إذا عدوت ما توجبه هذه الأهواء بيننا كل يوم من ارتباك وجرائم، وجدتها تدل على عدم كفاية القوانين من هذه الناحية، ومن الحسن أيضا أن يبحث في هل نشأت هذه الارتباكات مع القوانين نفسها؛ وذلك لأن القوانين إذا ما استطاعت أن تحول دون هذه الارتباكات حينئذ فإن أقل ما ينتظر منها منع وقوع شر ما كان ليوجد بغيرها.
ولنبدأ بأن نميز بين الأمور الأدبية والبدنية في إحساس الحب، فالبدني هو تلك الرغبة التي تحمل جنسا على الاقتران بجنس آخر، والأدبي هو الذي يعين هذه الرغبة ويقرها على أمر واحد حصرا، أو هو الذي يمنح هذا الأمر المفضل، على الأقل، درجة بالغة من النشاط، والواقع أن من السهل أن يرى كون أدب الحب شعورا مصنوعا نشأ عن عادة المجتمع، وكونه روج من قبل النساء مع كثير من البراعة والعناية تأييدا لسلطانهن، وجعلا للجنس الملزم بالطاعة مسيطرا، وبما أن الشعور قائم على بعض مبادئ للجمال والمزية لا يكون الهمجي معه في وضع يستطيع أن ينالها فيه، وعلى مقايسات لا يكون معها في وضع يستطيع أن يصنعها فيه، فإنه يجب أن يكون في حكم العدم تقريبا بالنسبة إليه، وذلك بما أن نفسه لم تستطع أن تكون أفكارا مجردة في الوفاق والنسبة، فإن فؤاده لا يتأثر كذلك بمشاعر الإعجاب والحب التي تولد من تطبيق هذه الأفكار حتى من غير أن يشعر بها، وهو يسمع فقط ما ألقته الطبيعة فيه من مزاج، لا الذوق الذي لم يستطع اكتسابه، فتكون كل امرأة صالحة له.
والناس، إذ يقتصرون على الحب البدني، ويكونون من السعادة ما يجهلون معه هذه المفضلات التي تهيج الإحساس وتزيد المصاعب فيهم، يجب أن يكون شعورهم بحرارة المزاج أقل حدوثا ونشاطا ، ومن ثم يجب أن تكون المنازعات بينهم أكثر ندرة وأقل قسوة، وما كان الخيال الذي يفت فينا كثيرا ليخاطب القلوب الوحشية مطلقا، فكل ينتظر اندفاع الطبيعة بهدوء، وهو يفرغ لها من غير خيار ومع لذة أعظم من الصولة، فإذا قضي الوطر خمدت الرغبة.
ومما لا ريب فيه - إذن - كون الحب نفسه، كجميع الأهواء، لم ينل في غير المجتمع تلك الحرارة الصائلة التي تجعله شؤما على الناس غالبا، ومن موجبات السخرية كثيرا أيضا أن يعرض الهمج متذابحين بلا انقطاع إرواء لغلة بهيميتهم لمخالفة هذا الرأي للتجربة مباشرة؛ ولأن الكرايب، وهم أقل الشعوب الموجودة ابتعادا عن الحال الطبيعية حتى الآن، هم أكثر الشعوب هدوءا في حبهم وأقلهم غيرة، وإن كانوا يعيشون في إقليم محرق يظهر أنه يمنح هذه الأهواء نشاطا بالغا على الدوام.
وأما من حيث الاستقراءات التي يمكن الوصول إليها في كثير من أنواع الحيوان عن الوقائع التي تدمي أحواش دجاجنا في كل وقت، أو التي تدوي بأصواتها غاباتنا أيام الربيعة حينما تتنازع الإناث، فيجب أن يبدأ باستثناء جميع الأنواع التي جعلت الطبيعة بينها، في قوة الأجناس النسبية، علاقات تختلف عن التي بيننا كما هو واضح، وهكذا لا يصلح ما بين الديوك من عراك أن يكون استقراء للنوع البشري، ففي الأنواع التي تحسن مراعاة النسبة فيها لا يكون لهذه الوقائع أسباب غير ندرة الإناث بالقياس إلى الذكور، أو الفواصل المانعة التي تأبى الأنثى فيها اقتراب الذكر باستمرار، وهذا ما يرد إلى السبب الأول؛ وذلك لأن كل أنثى إذا كانت لا تقبل الذكر في غير شهرين من السنة، فإن هذا يعدل نقص عدد الإناث خمسة أسداس، والواقع أن كلا من الحالين لا يطبق على النوع البشري؛ حيث يزيد عدد الإناث على عدد الذكور عادة، وحيث لم يلاحظ قط، حتى بين الهمج، وجود أوقات معينة للأهواء وعدم المبالاة كما بين الحيوانات الأخرى، ثم إنه يأتي بين كثير من هذه الحيوانات، وحين دخول جميع النوع في دور من الهيجان، وقت هائل للولع الشامل وللضوضاء والفوضى والاعتراك، وقت لا عهد به للنوع البشري الذي لا يكون الحب عنده دوريا على الإطلاق؛ ولذلك لا ينبغي لنا أن نستدل من وقائع مثل هذه الحيوانات لحيازة نساء اتفاق ذات الأمر للإنسان في حال الطبيعة، حتى إنه إذا أمكن استنباط هذه النتيجة أبصر أن هذه المنازعات لا تقضي على الأنواع الأخرى مطلقا، فلا يكون لدينا سبب يحفزنا إلى التفكير في كونها أكثر شؤما على نوعنا، ومن الواضح جدا كونها تؤدي إلى تخريب في ذلك أيضا أقل ما تؤدي إليه في المجتمع، ولا سيما البلدان التي تعد الطبائع فيها شيئا مذكورا، فتسفر غيرة العشاق وانتقام الأزواج في كل يوم عن مبارزات ومقاتل وشر من ذلك، والتي لا ينفع فيها واجب الوفاء الأزلي لغير الزنا، والتي تنشر قوانين العفاف والشرف نفسها ضروب الدعارة بحكم الضرورة وتزيد الإجهاضات.
ولنستنتج كون الإنسان الوحشي، وهو يطوف في الغاب عاطلا من الصناعة والكلام والمسكن والحرب والرابطة، ومن أي احتياج إلى أمثاله، ومن أية رغبة في الإضرار بهم، ومن تمييز أي واحد منهم فرديا على ما يحتمل، كون هذا الإنسان الذي هو عرضة لقليل من الأهواء والذي يكفي نفسه بنفسه، لم يكن عنده غير المشاعر والمعارف الخاصة بهذه الحال، ولنستنتج أنه لم يكن ليشعر بغير احتياجاته الحقيقية، وأنه لم يكن لينظر إلى غير ما يعتقد وجود مصلحة له في رؤيته، وأن ذكاءه كان لا يتقدم أكثر من زهوه، فإذا ما قام باكتشاف مصادفة كان أقل من يمكنه نقله إلى الآخرين ما دام لم يعرف حتى أولاده، وكان كل فن يزول مع المخترع، وكان لا يوجد تربية ولا تقدم، وكانت الأجيال تتعاقب على غير جدوى، وكان كل جيل يسير من ذات النقطة دائما، وكانت القرون تمر ضمن بربرية الأجيال الأولى، وقد أصبح النوع مسنا والإنسان ولدا.
وإذا كنت قد أسهبت كثيرا في افتراض هذه الحال الابتدائية، فلوجود أضاليل قديمة كثيرة ومبتسرات متأصلة يجب اقتلاعها، ولاعتقادي وجوب بحثي حتى الجذور، وإثباتي في صورة صادقة لحال الطبيعة مقدار بعد التفاوت - حتى الطبيعي - من أن ينطوي في هذه الحال على حقائق ونفوذ يفترضهما كتابنا.
والحق أن من السهل أن يرى بين الفروق التي تميز الناس كثير يعد طبيعيا مع أنه من صنع العادة وصنع أنواع الحياة التي ينتحلها الناس في المجتمع، وهكذا فإن المزاج المتين أو القصف، وإن القوة أو الضعف اللذين يشقان منه، يصدران في الغالب عن الطراز الشديد أو المخنث الذي نشئ عليه أكثر مما عن نظام الأبدان الابتدائي، وقل مثل هذا عن قوى النفس، فليست التربية وحدها هي التي تضع الفرق بين النفوس المثقفة وغير المثقفة، وإنما تزيد الفرق الذي يوجد بين الأولى بنسبة الثقافة؛ وذلك لأن العملاق والقزم يسيران على ذات الطريق؛ ولأن كل خطوة يقوم بها كل منهما تنعم على العملاق بفائدة جديدة، والواقع أنه إذا ما قيس تنوع التربية العجيب، وأنواع الحياة التي تسود مختلف نظم الحال المدنية ببساطة الحياة الحيوانية والوحشية ونمطيتها حيث يغتذي الجميع من ذات الأطعمة، ويعيش على ذات الوجه ويصنع عين الأشياء تماما، أدرك مقدار ما يجب أن يكون عليه الاختلاف بين الإنسان والإنسان في حال الطبيعة أقل مما في حال المجتمع، ومقدار التفاوت الطبيعي الذي يجب أن يزيد في النوع البشري بتفاوت النظام.
بيد أن الطبيعة إذا ما بدأت في توزيع هباتها من المحاباة ما يعزى إليها، فأي فائدة ينال من ذلك أكثر الناس حظوة لديها إجحافا بالآخرين في حال من الأمور لا يكاد يقول بأي نوع من الصلات بينهم؟ وما نفع الجمال حيث لا يوجد حب مطلقا؟ وما نفع الذكاء لأناس لا يتكلمون مطلقا؟ وما نفع الحيلة لأناس ليس لديهم أعمال مطلقا؟ ومما أسمع تكراره دائما كون الأقوياء يضطهدون الضعفاء، ولكن ليشرح لي ما يعنى بكلمة الاضطهاد، ويسيطر بعضهم بعنف، ويئن الآخرون المعبدون لأهوائهم، وذاك ما ألاحظ بيننا تماما، ولكنني لا أرى كيف يمكن هذا أن يقال عن أناس من الهمج لم يسهل جعلهم يتصورون ما نعني بالسيطرة والعبودية.
أجل، يمكن إنسانا أن يستولي على فواكه اقتطفها إنسان آخر، وعلى قنيصة ذبحها، وعلى كهف اتخذه ملجأ، ولكن كيف يمكنه أن يكون قادرا على حمله على الطاعة؟ وأي قيود للتابعية يمكن أن تكون بين أناس لا يملكون شيئا؟ وإذا ما طردت من شجرة مثلا أمكنني أن أذهب إلى أخرى، وإذا ما أوذيت في مكان فمن ذا الذي يمنعني من الذهاب إلى مكان آخر؟ وإذا ما وجد إنسان أقوى مني، إنسان على شيء من الفساد والكسل والقسوة ما يحملني معه على تدارك قوته في أثناء بطالته، وجب أن يعزم على عدم غفوله عني طرفة عين، وعلى إمساكي مقيدا بعناية فائقة في أثناء نومه، وذلك خشية أن أفر أو أن أقتله، أي أن يلزم بعرض نفسه مختارا لمشقة أعظم من التي يريد اجتنابها ومن التي يريد توجيهها إلي، وإذا ما فتر حذره ثانية بعد جميع هذا وحول رأسه لصوت مفاجئ، أوغلت في الغابة عشرين خطوة، وتكسر قيودي، ولن يراني مدى حياته.
وإني، من غير إسهاب في هذه الجزئيات على غير جدوى، أرى وجوب بصر كل واحد في كون روابط العبودية لم تؤلف من غير اتباع بعض الناس لبعض اتباعا متقابلا، ومن الاحتياجات المتبادلة التي تصل ما بينها فيتعذر استبعاد إنسان من غير سابق وضع له في حال من لا يستغني عن آخر، أي وضع لا يوجد في حال الطبيعة حيث يكون كل واحد سيد نفسه، ولا يكون لقانون الأقوى أي عمل.
وإني، بعد أن أثبت أن التفاوت لا يكاد يشعر به في حال الطبيعة، وأن نفوذه فيها يكون صفرا تقريبا، بقي علي أن أبين أصله وتقدمه في نشوء الروح البشرية نشوءا متعاقبا.
وإني، بعد أن بينت أن الكمال والفضائل الاجتماعية وغيرها من المزايا التي تكون كامنة في الإنسان الفطري، لا تستطيع أن تنمو من تلقاء نفسها، وأنها كانت تحتاج لوقوع هذا إلى تضافر عوامل كثيرة غريبة تضافرا عرضيا، فكان يمكن ألا تظهر، وكان الإنسان يظل بدونها في حاله الابتدائية إلى الأبد، بقي علي أن أنعم النظر فأقرب بين مختلف المصادفات التي استطاعت أن تكمل العقل البشري بإفساد النوع، وأن تحول الإنسان إلى شرير يجعله اجتماعيا، وأن تجلب الإنسان والعالم في نهاية الأمر، ومنذ زمن بعيد، إلى النقطة التي نراهما فيها.
وبما أن من الممكن أن تكون الحوادث التي أصفها قد وقعت على وجوه مختلفة، فإنني أعترف بأنه ليس لدي غير الفرضيات ما أعين به خياري، بيد أن فرضيات كهذه تصبح أسبابا عندما تكون أرجح ما يمكن استنباطه من طبيعة الأمور، والوسائل الوحيدة لاكتشاف الحقيقة، ومع ذلك فإن النتائج التي أريد استخراجها ليست فرضية، ما تعذر وضع أية نظرية أخرى، بناء على المبادئ التي أقررها، لا تمدني بذات النتائج ولا أستطيع أن أستنبطها منها.
وهذا يغنيني عن جعل تأملاتي شاملة للأسلوب الذي يعوض به مرور الزمن من قلة احتمال وقوع الحوادث، وللقدرة العجيبة في العلل التافهة عند تأثيرها بلا مهل، ولتعذر نقض بعض الافتراضات من ناحية، وإن كنا لا نستطيع أن نعطيها - من ناحية أخرى - درجة ثبوت الوقائع، ولكونه يدخل ضمن نطاق التاريخ، لدى وجوده، وعندما يظهر من الوقائع أمران على أنهما حقيقيان فيربط بينهما بسلسلة من الوقائع المتوسطة المجهولة أو المفترض أنها كذلك، أن يمنح الوقائع التي تربط بينهما، ولكونه يدخل ضمن نطاق الفلسفة، عند سكوت التاريخ، أن تعين الوقائع المماثلة التي يمكن أن تربط بينهما، ثم لكون المشابهة في موضوع الحوادث، ترد الوقائع إلى عدد غير قليل جدا من الأصناف المختلفة أكثر مما يتصور، ويكفيني أن أدع هذه الأمور لتقدير قضاتي، وأن أتخذ من الترتيب ما لا يحتاج معه القارئ العامي إلى تدبرها.
القسم الثاني
«كان هؤلاء الأولاد المساكين يقولون: هذا الكلب لي، وهنالك مكاني تحت الشمس، وذلك هو بدء اغتصاب جميع الأرض وصورته.»
بسكال، الأفكار، القسم الأول، مادة 9-53
كان مؤسس المجتمع المدني الحقيقي هو الإنسان الأول الذي سور أرضا، فرأى أن يقول: «هي لي»، وقد وجد من البسطاء من يصدقونه، فكان مؤسس المجتمع المدني الحقيقي، وما أكثر ما صان النوع البشري من جرائم وحروب وقتل وبؤس وهول ذلك الذي خلع الأوتاد وملأ الخندق وهو يقول: «احذروا سماع هذا الدجال، فالهلاك يكتب لكم إذا نسيتم أن الثمرات للجميع، وأن الأرض ليست ملكا لأحد»! ولكن يوجد ما يدل كثيرا على كون الأشياء قد بلغت إذ ذاك درجة عادت لا تستطيع البقاء معها كما كانت؛ وذلك لأن فكرة التملك، إذ كانت تابعة لكثيرة من الفكر السابقة التي لم تستطع أن تنشأ إلا بالتتابع، لم تكون دفعة واحدة في نفس الإنسان، فوجب أن يقع تقدم كثير وأن يتم كثير من الصناعة والمعارف، وأن ينقل هذا ويزاد بين جيل وجيل قبل بلوغ هذا الحد الأخير من حال الطبيعة؛ ولنتناول الأمور من عل إذن، ولنحاول أن نجمع تحت وجهة نظر تعاقب الحوادث والمعارف ذلك في نظامها الأكثر طبيعية.
وكان أول إحساس في الإنسان شعوره بوجوده، وكان أول اعتناء في الإنسان اهتمامه ببقائه، وكانت إنتاجات الأرض تقدم إليه جميع ما يحتاج إليه، وكانت الغريزة تحمله على استعمال هذا، وكان الجوع وغيره من الشهوات يشعره بمختلف أساليب البقاء مناوبة، فكان يوجد في هذا ما يدعوه إلى إدامة نوعه، وبما أن هذا الميل الأعمى عار من كل شعور قلبي، فإنه كان لا يسفر عن غير عمل حيواني خالص، فإذا ما قضي الوطر عاد الجنسان لا يتعارفان، وعاد الولد لا يكون للأم شيئا مذكورا عندما يستطيع الاستغناء عنها.
هذا ما كان عليه حال الإنسان الناشئ، وهذا هو عيش الإنسان المقصور في أول الأمر على الإحساسات الخالصة، والذي لا يكاد يستفيد من هبات تعرضها الطبيعة عليه، والذي يبعد من التفكير في انتزاع شيء منها، ولكن المصاعب لا تلبث أن تظهر، فيجب التغلب عليها، فارتفاع الأشجار الذي كان يمنعه من الوصول إلى ثمراتها، وتسابق الحيوانات التي كانت تحاول الأكل منها، وضراء الحيوانات التي كانت ترغب فيها حفظا لحياتها، أمور كانت تحمله على تعود التمرينات الرياضية، فوجب أن يكون نشيطا سريع العدو قويا في القتال، ولم تعتم الأسلحة الطبيعية، التي هي من غصون الشجر ومن الحجارة، أن أصبحت قبضته، وقد تعلم اقتحام عوائق الطبيعة، ومكافحة الحيوانات الأخرى عند الضرورة، ومنازعة الناس الآخرين قوته، أو تعويض نفسه مما كان قد أجبر على تركه للأقوى.
وقد زادت مشاق الناس بنسبة تكاثر النوع البشري، ولا بد من أن يكون اختلاف الأرضين والأقاليم والفصول قد جعل فروقا في طراز حياتهم، وقد تطلبت سنون عقيمة وفصول شتاء طويلة قاسية وفصول صيف محرقة تأتي على كل شيء صناعة جديدة منهم، وقد اخترعوا الشباك والصنانير على شواطئ البحر وضفاف الأنهار وأصبحوا عركا (جمع عركي، وهو صياد السمك.) وأكلة سمك، وقد صنعوا أقواسا وسهاما في الغابات وصاروا صيادين ومحاربين، وقد ألبسوا أنفسهم في البلدان الباردة جلود الحيوانات التي كانوا يذبحونها، وما كان من صاعقة أو بركان أو مصادفة مباركة دلهم على النار التي هي وسيلة جديدة ضد شدة الشتاء، فتعلموا حفظ هذا العنصر، ثم إيجاده ثانية، ثم إعدادهم به ما كانوا يلتهمونه نيئا من اللحوم.
وما كان من تطبيق مختلف الموجودات المكرر لنفسه، ومن بعضها لبعض، أوجد في نفس الإنسان، بحكم الطبيعة، إدراكا لبعض الصلات، وقد أوجبت هذه الصلات، التي نعبر عنها بكلمات الكبير والصغير، والقوي والضعيف، والسريع والبطيء، والجبان والجسور، وما إليها من الأفكار المماثلة المقابل بينها عند الحاجة، ومن غير أن يفكر فيها تقريبا. في الإنسان نوعا من التأمل، وإن شئت فقل: حذرا آليا يدله على أكثر الاحتياطات ضرورة لسلامته.
وقد زادت المعارف الجديدة التي صدرت عن هذا النشوء أفضليته على الحيوانات الأخرى بجعله شاعرا بها، فتمرن على نصب أشراك لها، وخادعها بألف طريقة، وغدا مالك بعضها ونقمة على بعضها الآخر مع الزمن، وإن كان كثير منها يفوقه سرعة عدو أو قوة عراك بين ما يقدر أن يخدمه أو يضره، وهكذا فإن أول نظرة ألقاها على نفسه أدت إلى أول حركة زهو فيه، وهكذا فإنه لم يكد يعرف أن يميز بين المراتب وأن يتأمل في الأولى الخاصة بنوعه، حتى أعد السبل من بعيد لادعاء الأفضلية كفرد.
ومع أن أمثاله لم يكونوا تجاهه مثلهم تجاهنا، ولم يخالطهم أكثر من مخالطته الحيوانات الأخرى قط، فإنهم لم يغيبوا عن نطاق ملاحظاته، وما كان من مطابقات استطاع الزمان أن يحمله على الانتباه إليها بينهم، وبين نفسه وأنثاه، جعله يحكم في أمر الآخرين الذين لم يرهم، وهو إذ أبصر سلوكهم جميعا كما كان يصنع في مثل هذه الأحوال، انتهى إلى النتيجة القائلة إن طراز تفكيرهم وشعورهم يطابق ما عنده، وقد حفزته هذه الحقيقة المهمة الراسخة في ذهنه إلى اتباعه، عن حدس أصدق وأسرع من أي علم منطق، أحسن قواعد السلوك التي راعاها نحوهم في سبيل سلامته وفائدته.
وقد علم من التجربة أن حب الرفاهية هو الدافع الوحيد لأعمال البشر، فوجد نفسه في حال يميز فيها الفرص النادرة التي تجعله المصلحة المشتركة يعتمد فيها - كما يجب - على مساعدة أمثاله، والفرص التي هي أكثر ندرة أيضا في حمل المزاحمة إياه على الحذر منهم كما يجب، ففي الحال الأولى كان يتحد معهم ضمن قطيع، أو ضمن شركة طليقة - نوعا ما - لا تلزم أحدا، ولا تدوم أكثر من دوام الاحتياج الذي أدى إلى تأليفها، وفي الحال الثانية كان كل واحد يبحث عن منافعه الخاصة، وذلك عن قسر إذا ما أبصر نفسه قويا بدرجة الكفاية، أو عن حيلة وحذق إذا ما شعر بأنه الأضعف.
ومن ثم ترى كيف استطاع الناس أن ينالوا، من غير أن يدروا، فكرة غليظة من الالتزامات المتقابلة وفوائد القيام بها، ولكن بمقدار ما يمكن أن تقتضيه المصلحة الحاضرة الظاهرة؛ وذلك لأنهم لا عهد لهم بالبصر في العواقب، فكانوا بعيدين من الاكتراث لمستقبل بعيد، ولم يكونوا ليفكروا حتى في الغد، فإذا ما وجب نيل وعل شعر كل واحد بوجوب التزامه مكانه مخلصا، ولكن إذا مر أرنب ضمن متناول أحدهم لم يشك في كونه يتعقبه من غير تردد، فإذا فاز بقنيصته لم يبال كثيرا في كون رفقائه يخطئون طريدتهم.
ومن السهل إدراك كون مثل هذه المخالطة لم يتطلب لغة أدق من لغة الغربان والقردة التي تتجمع على ذلك النمط تقريبا، فما كان من أصوات عديمة المفاصل ومن حركات كثيرة وصرخات تقليدية وجب أن يكون قد تألف منه لسان عام زمنا طويلا، وإلى ذلك يضاف في كل بلد بعض أصوات اتفاقية ذات مفاصل ليس من السهل كثيرا إيضاح نظامها كما قلت آنفا فحدثت لغات خاصة، ولكن غليظة ناقصة، كالتي توجد بين بعض الأمم الوحشية في الوقت الحاضر.
وأجوب كسهم عددا كبيرا من القرون، مأخوذا بالزمن الذي يمر وبكثرة الأمور التي علي أن أتكلم عنها، وبتقدم الأمور غير المحسوس تقريبا في أوائلها؛ وذلك لأن الحوادث كلما كانت بطيئة في تعاقبها وصفت بسرعة.
وذلك التقدم في أوائل الأمور مكن الإنسان من القيام بتقدم آخر بأسرع من ذلك، وكلما تنورت النفوس تكاملت الصناعة، ولسرعان ما انقطع الإنسان عن النوم تحت أول شجرة، أو الانزواء في كهوف، فقد اخترعت أنواع من الفئوس الحجرية القاسية الحادة، واستخدمت في قطع الحطب، وحفر الأرض، وصنع أكواخ من غصون رئي طليها بالطين والوحل، وهنالك كان دور أول انقلاب أسفر عن تأليف الأسر والتفريق بينها، وعن اتخاذ ضرب من الملك نشأ عنه كثير من الخضام والعراك، وبما أن الأكثر قوة، مع ذلك، هم أول من أنشئوا لأنفسهم - كما يلوح - مساكن كانوا يشعرون بقدرتهم على الدفاع عنها، فإن هذا يحمل على الاعتقاد بأن الضعفاء وجدوا أنه أقصر وأضمن لهم أن يقلدوا الأقوياء من أن يحاولوا طردهم من منازلهم، وأما أولئك الذين كانت لديهم أكواخ، فإنه لم يكن لينبغي لأحد أن يحاول وضع يده على كوخ جاره، وذلك عن كونه غير خاص به أقل من كونه غير نافع له، وعن كونه لا يستطيع الاستيلاء عليه من غير أن يعرض نفسه لمقاتلة الأسرة التي تشغله قتالا شديدا.
وكان أول نشوء في الفؤاد نتيجة وضع جديد جامع في منزل مشترك بين الأزواج والنساء والآباء والأولاد، وقد أدت عادة العيش معا عن ظهور أرق ما يعرف عن الناس من المشاعر، أي الحب الزوجي والحب الأبوي، وقد أصبحت كل أسرة مجتمعا صغيرا بالغ الاتحاد لكون الحرية والوداد المتبادل كانا الرابطتين الوحيدتين، وهنالك قام أول اختلاف في طراز حياة الجنسين اللذين لم يكن لهما غير طراز واحد حتى ذلك الحين، فصار النساء أكثر قعودا وتعودن المحافظة على الكوخ والأولاد، على حين كان الرجل يذهب للبحث عن الطعام المشترك، وبدأ الجنسان يفقدان شيئا من توحشهما وشدتهما عن حياة أكثر لينا، ولكن كل واحد إذا صار أقل صلاحا لمكافحة الحيوانات الوحشية على انفراد غدا أسهل على الإنسان، بالمقابلة، أن يتجمع لمقاومتها مشتركا.
والناس في هذه الحال الجديدة، إذ تمتعوا بفراغ عظيم جدا، مع حياة بسيطة منفردة واحتياجات محدودة جدا، وأدوات كانوا قد اخترعوها لقضاء هذه الحاجات، اتخذوا هذه الحياة نيلا لأنواع كثيرة من الرفاهية لا عهد لآبائهم بها، فكان هذا أول نير فرضوه على أنفسهم من غير أن يفكروا فيه، وأول منبع للشرور أعدوه لذراريهم؛ وذلك لأنك إذا عدوت استمرارهم على التخنث بدنا وروحا هكذا، وكون هذه الرفاهة فقدت جميع لذاتها عن عادة، وأنها تحولت منحطة إلى احتياجات حقيقية، وجدت فقدها أشد قسوة مما في حيازتها من حلاوة، فيكون الإنسان شقيا بضياعها من غير أن يكون سعيدا بحيازتها.
وهنا يمكن أن يبصر أحسن من ذلك كيف أن عادة الكلام قامت أو كملت في صميم كل أسرة على وجه غير محسوس، ويمكن أن يفترض - أيضا - كيف استطاع مختلف العلل الخاصة توسيع اللغة وتعجيل نشوئها بجعلها أكثر لزوما، ومن الطوفانات والزلازل ما أدى إلى إحاطة بقاع مسكونة بالمياه أو بالهوات، ومن الانقلابات في الكرة الأرضية ما أدى إلى اقتطاع أجزاء من القارة وفصلها عنها محولة إلى جزائر، ومما يرى بين الناس الذين تدانوا على هذا الوجه واضطروا إلى العيش معا وجوب تكون لهجة مشتركة أكثر مما بين من كانوا يتيهون في غابات القارة، وهكذا فإن من المحتمل جدا أن يكون الجزريون قد حملوا إلينا عادة الكلام بعد أول محاولتهم للملاحة، وإن من المحتمل جدا - على الأقل - أن يكون المجتمع واللغات قد ولدا في الجزر وكملا فيها قبل أن يعرفا في القارة.
ويبدأ كل شيء بتغيير منظره، وبما أن الناس تاهوا في الغاب حتى الآن، وبما أنهم اتخذوا قاعدة أكثر ثباتا، تدانوا ببطء وتجمعوا زمرا ثم ألفوا في كل بقعة أمة خاصة متحدة طبائع وأخلاقا، لا بأنظمة وقوانين، بل بطراز واحد من الحياة الغذائية وبتأثير الإقليم العام. وأخيرا، لم يفت الجوار الدائم أن يوجد ارتباطا بين مختلف الأسر، ويسكن شباب من الجنسين أكواخا مجاورة، وأسفر الخلاط العابر الذي تقتضيه الطبيعة من فوره عن خلاط آخر ليس أقل حلاوة، وهو أكثر دواما بمعاشرة متبادلة، ويتعود النظر في مختلف الموضوعات وعمل مقايسات، وتكتسب على وجه غير محسوس أفكار عن المزية والجمال تنتج مشاعر عن الأفضلية، وعاد لا يمكن الاستغناء عن الاجتماع باستمرار وصولا إلى الاجتماع، وينساب في النفس شعور رقيق ناعم، ويتحول إلى هياج صائل عند أقل اعتراض، وتستيقظ الغيرة مع الحب، ويفوز الخلاف، ويضحى بالدم البشري في سبيل ألطف الأهواء.
وكلما تعاقبت الأفكار والمشاعر، وتحرك الفؤاد والذكاء داوم الجنس البشري على التأنس واتسع مدى الروابط ووثقت الصلات، ويتعود الاجتماع أمام الأكواخ أو حول دوحة (الشجرة العظيمة المتسعة)، ويصبح الغناء والرقص وأولاد الغرام والفراغ الحقيقيون مدار تسلية، وإن شئت فقل مدار اعتناء رجال ونساء من ذوي البطالة والاحتشاد، وقد بدأ كل ينظر إلى الآخرين ويريد أن ينظر إليه بدوره، وهكذا كان للتقدير العام قيمة، فأصبح من يغني أو يرقص أحسن من غيره، ومن هو أعظم جمالا، أو قوة، أو مهارة، أو فصاحة، من سواه أكثر اعتبارا، وكان هذا أول خطوة نحو التفاوت ونحو العيب في وقت واحد، وقد نشأ الزهو والازدراء عن هذه الأفضليات الأولى من ناحية، ونشأ الحياء والحسد عنها من ناحية أخرى، وما أوجبته هذه الخمائر الجديدة من اختمار أسفر في نهاية الأمر عن مركبات شؤم على السعادة وصفاء القلب.
ولم يكد الناس يبدءون بتقدير بعضهم بعضا مبادلة، ولم تكد فكرة الاعتبار تتكون في نفوسهم، حتى زعم كل وجود حق له في ذلك، وصار يتعذر إنكار ذلك على أحد من غير عقاب، ومن هناك أنشئ أول واجبات الأدب حتى بين الهمج، ومن هناك صار كل خطأ إهانة؛ وذلك لأن المهان كان يرى في الشر الذي ينشأ عن الإهانة ازدراء لشخصه أشد إيلاما من الشر نفسه غالبا، وهكذا إذ كان كل واحد يجازي على الازدراء الموجه إليه بنسبة ما يقدر فإن الانتقامات أصبحت هائلة، وصار الناس قساة سفاحين، وهذه هي الدرجة التي انتهى إليها بالضبط معظم الشعوب الوحشية التي نعلم أمرها، وإنه لما وقع من عدم التمييز بين الأفكار بدرجة الكفاية، ومن عدم ملاحظة مقدار ما كان من ابتعاد هذه الشعوب عن الحال الطبيعية الأولى، أسرع كثير في استنتاجه كون الإنسان قاسيا بحكم الطبيعة فيحتاج إلى ضابطة لإلانته، وبينا لا تجد ما هو ألطف منه في حاله الفطرية، عندما تضعه الطبيعة على أبعاد متساوية من غباوة الوحوش وبصائر الإنسان المتمدن المشئومة، ويكون مقصورا بالغريزة والعقل على ضمان نفسه من السوء الذي يهدده، تراه مزدجرا بالرأفة الطبيعية عن إساءة أحد من تلقاء نفسه، وذلك من غير أن يحمل عليه بشيء، حتى بعد أن يكون قد تلقاه، والأمر هو كما جاء في مبدأ الحكيم لوك القائل: «لا يمكن أن توجد إهانة حيث لا يوجد تملك.»
بيد أنه يجب أن يلاحظ أن المجتمع المبدوء والصلات التي أقيمت بين الناس كانا يتطلبان فيهم صفات تختلف عن الصفات التي حازوها من نظامهم الابتدائي، وأن أدب السلوك إذ أخذ يتسرب في الأعمال البشرية، وأن كل واحد قبل القوانين إذ كان القاضي الوحيد والمنتقم عن الإهانات التي يكون قد تلقاها، فإن الصلاح الملائم للحالة الطبيعية الخالصة عاد لا يلائم المجتمع الناشئ، وأنه وجب أن تصبح العقوبات أكثر شدة كلما صارت فرص الإهانة أكثر شيوعا، وصار الخوف من الانتقام يقوم مقام الرادع القانوني، وهكذا فإن الناس وإن صاروا أقل صبرا ونقصت رأفتهم الطبيعية بعض الشيء، وجب أن يكون هذا الدور، الذي هو دور نشوء المواهب البشرية، أسعد الأدوار وأكثرها دواما لما يبدو وسطا بين بلادة الحالة الابتدائية ونشاط أنانيتنا النزق، وكلما أنعم النظر في ذلك وجدت هذه الحال أقل عرضة للانقلابات، وأصلح للإنسان،
1
فكان لا ينبغي له أن يخرج منها إلا عن مصادفة مشئومة كان يجب ألا تقع لاقتضاء المصلحة العامة ذلك، ويلوح أن مثال الوحوش، الذين وجد معظمهم في هذه الحال، يؤدي كون الجنس الشري قد خلق ليبقى فيها على الدوام، وكون كل تقدم حدث بعد ذلك خطوة نحو الكمال في الظاهر، ونحو هرم النوع في الحقيقة.
والناس ما رضوا عن أكواخهم الخلوية، وما اقتصروا على خرز ثيابهم الجلدية بشوك أو حسك، وما ازينوا بريش وصدف، وما نقشوا بدنهم بمختلف الألوان، وما أصلحوا سهامهم وأقواسهم أو زخرفوها، وما شذبوا بحجارة حادة زوارق صيد، أو بعض الآلات الموسيقية الغليظة.
والخلاصة: أن الناس ما تعاطوا أعمالا يستطيع الفرد أن يصنعها، وما اتخذوا فنونا لا تحتاج إلى تضافر أيد كثيرة، عاشوا أحرارا أصحاء صالحين سعداء ما استطاعوا أن يكونوا كذلك بطبيعتهم، وما استمروا على التمتع فيما بينهم بألطاف معاشرة مستقلة، ولكن الإنسان منذ احتياجه إلى معونة إنسان آخر، منذ رئي أن المفيد لواحد أن يكون ذا مؤن لاثنين، زالت المساواة عنده وانتحل التملك وصار العمل ضروريا، وتحولت الغابات الواسعة إلى حقول باسمة وجب أن تروى بعرق الناس، فلم تلبث أن رئي فيها نشوء العبودية والبؤس ونموها مع الغلات.
وكان التعدين والزراعة ذينك الفنين اللذين أدى اكتشافهما إلى هذا الانقلاب الكبير، وعند الشاعر أن الذهب والفضة، وعند الفليسوف أن الحديد والقمح، هما اللذان مدنا الناس وأهلكا النوع البشري، وقد كان كل منهما مجهولا لدى وحوش أمريكا، فبقوا كما هم عليه لهذا السبب، حتى إن الشعوب الأخرى ظلت من البرابرة - كما يلوح - ما زاولت أحد ذينك الفنين دون الآخر، ومن أوجه الأسباب على ما يحتمل في أن أوروبا كانت - إن لم يكن قبلا - أثبت وأرقى حضارة من بقية العالم، هو كونها أكثر فيضا بالحديد وخصبا بالبر.
ومن الصعب أن يفترض كيف انتهى الناس إلى معرفة الحديد واستعماله؛ وذلك لأن مما يتعذر اعتقاده كونهم تصوروا من تلقاء أنفسهم استخراج هذه المادة من المنجم، وأن يقوموا في سبيله بإعدادات لا بد منها صهرا لها قبل أن يعرفوا ما ينشأ عن ذلك، وأقل من هذا أن يعزى هذا الاكتشاف من ناحية أخرى إلى حريق عرضي، ما دامت المناجم لا تكون في غير الأماكن الجديبة الخالية من الشجر والنبات، فكأن الطبيعة - كما يظهر - قد اتخذت من الاحتياطات ما تخفي معه هذا السر المقدس عنا، ولم يبق - إذن - غير حال عجيب لبركان يقذف مواد يجب أن تفترض لهم جرأة وبصيرة للقيام بهذا العمل الشاق، وأن يلاحظ من بعيد ما يمكن أن ينالوه من الفرائد، وهذا ما لا يلائم غير نفوس كانت أكثر ممارسة من التي لم يتفق لها مراس.
وأما الزراعة فإن مبدأها عرف قبل أن تمارس بزمن طويل، وليس من الممكن ألا يكون الناس، المنهمكون بلا انقطاع في تناول طعامهم من الشجر والنبات، قد عنت لهم بسرعة فكرة الطرق التي تتخذها الطبيعة لتكثير النباتات، بيد أن من الراجح أن تكون صناعتهم قد تحولت أخيرا جدا من هذه الناحية، وذلك إما عن كون الشجر مع صيد البر والبحر قد جهزهم بغذائهم، فلم يكن ليحتاج إلى عنايتهم، وإما عن جهلهم استعمال القمح، وإما عن عدم وجود آلات لفلاحته، وإما عن عدم بصر في الاحتياج القادم، وإما عن عدم وجود وسائل لمنع الآخرين من اغتصاب ثمرة عملهم، وهم لما أصبحوا أكثر جدا أمكن الاعتقاد بأنهم بدءوا يزرعون بحجارة حادة وعصى مذربة بعض البقول والجذور حول أكواخهم، وذلك قبل أن يعرفوا إعداد القمح، وأن يكون عندهم من الآلات ما يزرعونه به على مقادير عظيمة - وذلك من غير أن يحسب - لتعاطي هذا العمل وبذر الأرضين، وجوب توطين النفس على خسران بعض الشيء في البداءة كسبا للكثير فيما بعد، أي القيام بأمر بعيد كل البعد عن ذهنية الإنسان الوحشي الذي يجد مشقة عظيمة في تفكيره صباحا في احتياجاته المسائية كما قلت.
إذن، كان اختراع الفنون الأخرى أمرا ضروريا لحمل النوع البشري على تعاطي فن الزراعة، وعندما وجب وجود أناس لصهر الحديد وتطريقه وجب وجود أناس آخرين لإطعامهم، وكلما زاد عدد العمال قلت الأيدي التي تستعمل لتقديم الغذاء العام، وذلك مع عدم قلة الأفواه التي تستهلكه، وبما أنه وجب وجود غلات لبعضهم بدلا من حديدهم، وجد الآخرون في نهاية الأمر سر استعمال الحديد في تكثير الغلات، ومن ثم نشأت الحراثة والزراعة من ناحية، وفن عمل المعادن وتكثير استعمالها من ناحية أخرى.
وأدت زراعة الأرض إلى تقسيمها، وأدى الاعتراف بالتملك إلى أولى قواعد العدل؛ وذلك لأنه يجب لإعادة مال كل واحد إليه أن يكون هذا الشخص مالكا شيئا ما، وزد على ذلك كون الناس إذ صاروا ينظرون على المستقبل وكان لدى الجميع ما يخسره، أصبح لكل واحد من الأسباب ما يخشى معه الثأر عن خطأ يمكن أن يقترفه تجاه الآخرين، ويكون هذا الأصل أقرب إلى الطبيعة نسبة ما يتعذر تمثل صدور مبدأ التملك عن أمر خلا عمل اليد، وهل يمكن الإنسان أن يضيف غير عمله إلى أشياء لم يوجدها في الأصل فيجعلها ملكه؟ وعمل الفلاح وحده، إذ يمنحه حقا قي غلة الأرض التي حرثها، يمنحه حقا في الأرض ذاتها حتى الحصاد على الأقل، وهكذا تحول التصرف المستمر بين عام وعام إلى ملك، ومن قول غروسيوس أن القدماء عندما أطلقوا لقبي المشترعة على سيرس، وعندما أطلقوا اسم القانون الحامل على عيد يحتفل فيه لتكريمها، قصدوا بذلك كون تقسيم الأرضين قد أسفر عن نوع جديد من الحق، أي حق التملك الذي يختلف عن الحق الناشئ عن القانون الطبيعي.
أجل، كان يمكن الأمور في هذه الحال أن تبقى متساوية لو كانت المناقب متساوية، فيكون استعمال الحديد واستهلاك الغلات متوازنين دائما، غير أن النسبة التي كان لا يمسكها شيء لم تلبث أن زالت، فكان الأقوى أكثر عملا، وحول الأكثر براعة عمله إلى أحسن حساب، ووجد الأكثر لباقة وسائل لاختصار العمل، وكثر احتياج الفلاح إلى الحديد، وزاد احتياج الحداد إلى القمح، وبينما كان الاثنان يعملان على السواء كان أحدهما يكسب كثيرا، ولم يكد الآخر يحوز ما يعيش به ، وهكذا فإن التفاوت الطبيعي ينتشر مع تفاوت الاختلاط على وجه غير محسوس، وإن الفروق بين الناس التي تنمو باختلاف الأحوال أصبحت أكثر بروزا ودواما في نتائجها، وبدأت تؤثر ذات النسبة في نصيب الأفراد.
وبما أن الأمور قد انتهت على هذه المرحلة فإنه يسهل تمثل البقية، ولا أقف عند وصف اختراع الفنون الأخرى المتعاقب، ولا عند تقدم اللغات واختبار المواهب واستخدامها، ولا عند تفاوت الحظوظ والتمتع بالثروات وسوء استعمالها، ولا عند ما يتبعها من الجزئيات التي يمكن كل واحد أن يتدارك نقصها، وإنما أقتصر على إلقاء نظرة في النوع البشري الذي وضع في نظام الأمور الجديد هذا.
وإليك - إذن - جميع خصائصنا النامية والذاكرة والمخيلة فاعلة، والأنانية المغرضة، والعقل العامل، والذهن في أقصى كماله تقريبا، وإليك جميع الصفات الطبيعية عاملة، ومكان كل إنسان ونصيبه القائمين على الذكاء أو الجمال أو القوة أو البراعة أو المزية، أو المواهب، لا على مقدار الأموال والقدرة على النفع والضر. وبما أن هذه الصفات هي التي كانت تستطيع أن تجتذب اعتبارا وحدها، فقد وجب نيلها أو تكلفها من فورها، وقد أصبح من مصلحة الإنسان أن يتظاهر بغير ما هو عليه، فما هو عليه والتظاهر بما هو عليه صار أمرين يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا تاما، وعن هذا الاختلاف نشأ الجاه المهيب والمكر الخادع وجميع المعايب التي هي موكب ذلك، والإنسان بعد أن كان - من ناحية أخرى - حرا مستقلا، أضحى الآن خاضعا، عن طائفة من الاحتياجات الجديدة، لكل طبيعة، ولا سيما أمثاله الذين غدا عبدا لهم من جهة، وإن بدا سيدا لهم، فإذا كان غنيا احتاج إلى خدمهم، وإذا كان فقيرا احتاج إلى مساعدتهم، وما كان توسط الحال ليجعله يستغني عنهم مطلقا؛ ولذا يجب أن يحاول بلا انقطاع جعلهم يكترثون لنصيبه، وحملهم على أن يجدوا في الحقيقة أو في الظاهر فائدتهم في العمل لفائدته، وهذا ما يجعله شاطرا محتالا نحو أناس، متجبرا قاسيا نحو آخرين، وهذا ما يضعه في حال من الضرورة يخادع معه كل من يحتاج إليهم حينما لا يستطيع إخافتهم ولا يجد من مصلحته أن يخدمهم نافعا، ثم إن الطموح القاضم في الناس وحميا زيادة مالهم النسبي ليعلو بعضهم بعضا يوحيان إليهم جميعا بميل أسود إلى الضر مقابلة، يوحيان بحسد خفي يكون أشد خطرا بما يلبسه من قناع الرفق غالبا جعلا لضربتن أكثر سدادا.
والخلاصة: أن التنافس والتزاحم من ناحية، وتضارب المصالح والرغبة الخفية في الانتفاع على حساب الآخرين من ناحية أخرى، أي أن هذه الشرور كلها أول نتيجة للتملك وموكب لازم للتفاوت الناشئ.
ولم تكن الثروات، قبل اختراع الرموز الممثلة لها لتقوم على غير الأرضين والمواشي، هذه الأموال الحقيقية الوحيدة التي يمكن الناس أن يحوزوها، والواقع أن المواريث إذا ما زادت عددا واتساعا زيادة تغطي جميع الأرض، وتماست كلها، عاد بعض الناس لا يستطيع أن يتوسع إلا على حساب الآخرين، ولم يغير شيئا قط أولئك الزائدون على العدد، والذين كان ضعفهم أو تثاقلهم قد حال دون اكتسابهم من ذلك بدورهم، فغدوا فقراء من غير أن يخسروا شيئا؛ وذلك لأنهم وحدهم لم يغيروا شيئا قط مع أن كل شيء تغير حولهم، فاضطروا أن ينالوا أو أن يغتصبوا غذاءهم من أيدي الأغنياء، ومن هنا بدأت تظهر السيطرة والعبودية والشدة والاغتصابات، ولم يكد الأغنياء يعرفون لذة السيطرة من ناحيتهم، حتى استخفوا بالآخرين من فورهم، وقد سخروا عبيدهم القدماء لإخضاع عبيد جدد، وهم لم يفكروا في غير قهر جيرانهم واستعبادهم، وهم في ذلك كالذئاب الجائعة التي ذاقت لحم الإنسان مرة فصارت ترفض كل طعام آخر، ولا ترغب في غير افتراس الناس.
وهكذا فإن الأكثر بأسا والأكثر بؤسا إذ جعلوا من قواتهم أو احتياجاتهم ضربا من الحقوق حول مال الآخرين، مساويا حق التملك على رأيهم عقب المساواة المتحطمة أفظع ارتباك، وهكذا فإن اغتصابات الأغنياء ولصوصيات الفقراء وأهواء الجميع الجامحة، إذ خنقت الرأفة الطبيعية وصوت العدل الضعيف جعلت الناس بخلاء طامحين خبثاء، وكان يقع بين حقوق الأقوى وحق واضع اليد الأول صدام دائم لا ينتهي إلا بمعارك وسفك دماء،
2
وأدى المجتمع الناشئ إلى أشنع الحروب، وبما أن النوع البشري المهين الحزين لم يستطع بعد أن يرجع القهقري، ولا أن يعدل عما اتفق له من كسب مشئوم، وبما أنه لم يعمل لغير ما فيه فضوحه بإساءة استعماله الخصائص التي تشرفه، فإنه وضع نفسه على حافة الهلاك، «فعلى الغني والفقير أن يفرا من الثراء، وأن يخسرا ما نشداه بما وجد حديثا من شرورهما.» (أوفيد، التناسخ، 11-127).
وليس من الممكن إلا أن يكون الناس قد قاموا في نهاية الأمر بتأملات حول وضع بالغ هذا البؤس، وحول البلايا التي أصيبوا بها، ويجب أن يكون الأغنياء - على الخصوص - قد شعروا من فورهم بمقدار ما كانت في غير مصلحتهم حرب دائمة يقومون بجميع نفقاتها وحدهم، ويكون الخطر الذي يحيق بالحياة فيها عاما، ويكون الخطر الذي يحيق بأموالهم خاصا، ثم مهما يكن اللون الذي استطاعوا أن يصبغوا به اغتصاباتهم، فإنهم كانوا يشعرون شعورا كافيا بأن حالهم لم يقم على غير حق قلق فاضح نالوه بالقوة، فيمكن القوة أن تنزعه منهم من غير أن يكون من الأسباب ما يتظلمون معه، حتى إن الذين اغتنوا بالصناعة وحدها لم يكونوا ليقدروا أن يقيموا تملكهم على حجج أحسن من تلك. ومن العبث أن يقال مكررا: «إنني أنا الذي بنى هذا الجدار، وقد نلت هذا الموضع بعملي، وقد يمكن أن يكون الجواب: من الذي أعطاك هذا الموقف، وإلى أي شيء تستند في ادعائك أن ندفع إليك عن عمل لم نطلب منك صنعه؟ ألا تعلم أن فريقا كبيرا من إخوانك يهلك أو يألم من احتياجه إلى ما تملك كثيرا، وأنه يجب أن تكون لديك موافقة صريحة إجماعية من النوع البشري حتى تملك من القوت العام أكثر مما تحتاج إليه لتقويم أودك؟» والغني المجرد من الأسباب المقبولة لتزكية نفسه، ومن القوى الكافية للدفاع عن نفسه، والغني الساحق للفرد بسهولة، والمسحوق من قبل زمر من اللصوص، والغني الذي هو وحده ضد الجميع والذي لا يستطيع أن يتحد - عن حسد متقابل - هو وأمثاله ضد أعداء متحدين عن أمل مشترك في السلب، هذا الغنى الذي ضغطته الضرورة يفكر أخيرا في أرزن مشروع خطر على بال إنسان، وذلك أن يستخدم نفعا له قوى من كانوا يهاجمونه، وأن يجعل حماته من خصومه، فيوحي إليهم بمبادئ أخرى ويمنحهم نظما أخرى تكون ملائمة له كعدم ملاءمة الحق الطبيعي له.
وهو عند هذا النظر، وبعد أن عرض على جيرانه فظاعة وضع كان يسلحهم جميعا ضد بعضهم بعضا، وكان يجعل أملاكهم مرهقة إرهاق احتياجاتهم، وحيث كان لا يوجد أحد يرى سلامته في الفقر ولا في الغنى، اخترع بسهولة من الأسباب المقبولة ما يجلبهم به إلى غرضه، فقال لهم: «دعونا نتحد لوقاية الضعفاء من الاضطهاد وردع ذوي الطموح وصيانة ملك كل واحد، فتوضع أنظمة للعدل والأمن يلزم الجميع بالخضوع لها من غير استثناء أحد، وتقوم بها أهواء النصيب من بعض الوجوه بجعل القوي والضعيف خاضعين لواجبات متبادلة على السواء.
والخلاصة: هي أن نجمع قوانا في سلطة عالية تحكم فينا وفق قوانين رشيدة، وتحامي وتدافع عن جميع أعضاء الجماعة، وتدفع الأعداء المشتركين، وتمسكنا ضمن وفاق أبدي.»
وكان أقل كلام حول هذا المقصد يكفي لمخادعة أناس غلاظ سهل إغواؤهم، وذلك لما كان عليهم أن يأتوه من منازعات كثيرة لا يستغنون فيها عن التحكيم، ولما كانوا عليه من طموح وبخل كثيرين لا يستغنون فيهما عن سادة لزمن طويل، وكل يسعى إلى قيوده بسرعة معتقدا أنه يضمن حريته؛ وذلك لأنه إذا كان لديه من العقل ما يكفي للشعور بفوائد أحد النظم السياسية، فإنه ليس لديه من التجربة ما يبصر معه أخطار هذا النظام. وكان أكثر الناس قدرة على البصر في سوء الاستعمال هم الذين يرون الانتفاع به، حتى إن الحكماء رأوا من الضروري أن يضحوا بقسم من حريتهم حفظا للقسم الآخر، شأن الجريح الذي تبتر ذراعه إنقاذا لبقية الجسم.
ذلك ما كان، أو ما وجب أن كان، أصل المجتمع والقانون اللذين ربطا الضعيف بقيود جديدة، ومنحا الغني
3
قوى جديدة، فقضيا على الحرية الطبيعية من غير رجوع، وثبتا قانون التملك والتفاوت إلى الأبد، وحولا اغتصابا لبقا إلى حق لا ينقض، وسخرا الجنس البشري للعمل والعبودية والبؤس؛ نفعا لبعض ذوي الطموح. ومن السهل أن يرى كيف أن قيام مجتمع واحد جعل قيام جميع المجتمعات الأخرى أمرا ضروريا، وكيف أنه وجب على بقية الجنس البشري أن تتحد من ناحيتها لمقاومة القوى المتحدة، وقد تكاثرت المجتمعات واتسعت فلم تلبث أن ملأت جميع وجه الأرض، وصار يتعذر أن تجد زاوية واحدة في العالم يمكن الإنسان أن يتحرر فيها من النير، ويتخلص من السيف الذي يراه مصلتا عليه دائما. وبما أن الحقوق المدنية أصبحت قاعدة المواطنين العامة على هذا الوجه، عاد قانون الطبيعة لا يكون له مكان إلا بين مختلف المجتمعات، حيث عدل - باسم الحقوق الدولية - ببضعة عهود ضمنية جعلا للتجارة أمرا ممكنا، وتعويضا من الرأفة الطبيعية التي خسرت بين مجتمع وآخر - تقريبا - كل قوة كانت لها بين إنسان وآخر، والتي عادت لا تكون في غير بعض أكابر الوطنيين العالميين الذين يجاوزون الحواجز الخيالية الفاصلة بين الشعوب، والذين يسيرون على غرار المولى الخالق فيشملون جميع النوع البشري برعايتهم.
وبما أن الهيئات السياسية قد بقيت بينهم في الحال الطبيعية على هذا الوجه، فإنها لم تعتم أن شعرت بالمحاذير التي كانت قد حملت الأفراد على الخروج منها، وقد أصبحت هذه الحال أيضا أكثر شؤما بين هذه الهيئات الكبيرة مما كانت عليه سابقا بين الأفراد الذين تألفت منهم، فمن ثم ظهرت الحروب القومية والمعارك والمقاتل والآثار التي أرعشت الطبيعة وصدمت العقل، وجميع هذه المبتسرات الفظيعة التي تضع شرك سفك الدماء الإنسانية في مرتبة الفضائل، وقد تعلم أكثر الناس صلاحا أن يعدوا بين وظائفهم واجب ذبح أمثالهم، وأخيرا رئي أن الناس يتذابحون بالألوف من غير أن يعرفوا السبب، وكان يقترف من القتل في يوم معركة، وكان يقترف من الفظائع عند الاستيلاء على مدينة واحدة، ما هو أكثر مما كان يقترف في حال الطبيعة - في قرون بأسرها - على جميع وجه الأرض، وهذه هي النتائج الأولى التي تبصر من تقسيم النوع البشري إلى مجتمعات شتى، فلنعد إلى نظمها.
وأعلم أن كثيرين قد جعلوا للمجتمعات السياسية مصادر أخرى، كفتوح القوى أو اتحاد الضعفاء، ولا أهمية للخيار بين هذه العلل فيما أريد إثباته، ومع ذلك فإن ما عرضته أقرب إلى الطبيعة - كما يلوح لي - وذلك للأسباب الآتية:
أولا:
بما أن حق الفتح في الحال الأولى ليس حقا في ذاته، فإنه لا يمكن أن يصلح أساسا يبنى عليه حق آخر، فيبقى كل من الفاتح والشعب المغلوب تجاه الآخر في حال حرب، ما لم ترد إلى الشعب المغلوب حريته كاملة، فيقع اختياره طوعا على قاهره ليكون رئيسا له، وريثما يقع هذا تكن كل مصالحة قائمة على العنف، ومن ثم تكون باطلة عن ذات الأمر، فلا يكون بهذا الافتراض أي مجتمع حقيقي، أو أية هيئة سياسية، أو أي قانون غير ما للأقوى.
ثانيا:
بما أن كلمة القوي وكلمة الضعيف مبهمتان في الحال الثانية، فإن معنى هاتين الكلمتين في الفاصلة بين قيام حق التملك، أو وضع اليد الأول وحق الحكومات السياسية أحسن إيفاء بكلمتي الفقير والغني؛ وذلك لأنه لم يكن للإنسان قبل القوانين في الحقيقة وسيلة أخرى لإخضاع أمثاله غير مهاجمة مالهم، أو جعل نصيب لهم في مالهم.
ثالثا:
بما أنه لم يكن لدى الفقراء ما يخسرونه غير حريتهم، فإن من حماقتهم الكبيرة أن يتخلوا باختيارهم عن المال الوحيد الذي بقي لهم، فلا يكسبوا شيئا مقابلة، وبما أن الأغنياء هم - على العكس - مرهفو الحس في جميع أقسام أموالهم، فإنه كان من السهل جدا أن يؤذوا؛ ولذا كان عليهم أن يتخذوا من الاحتياطات الكثيرة ما يضمنون به أنفسهم من ذلك، ثم إن من الصواب أن يعتقد كون الشيء قد اخترع من قبل من ينفعهم أكثر من كونه قد اخترع من قبل من يضرهم.
ولم يكن للحكومة الناشئة شكل ثابت ومنتظم قط، وكان نقص الفلسفة والتجربة يحول دون البصر في المحاذير الحاضرة، وكان لا يفكر في الاستعداد تجاه الآخرين إلا بالمقدار الذي يبدون به، وقد ظلت الحال السياسية ناقصة دائما ؛ لأنها كانت من عمل المصادفة تقريبا؛ ولأن الزمن بعد بدء السوء لم يستطع أن يصلح نقائص النظام قط عند اكتشاف العيوب والإيحاء بالدواء، أي إنه كان يرقع بلا انقطاع بدلا من أن يبدأ بتطهير الجو وإقصاء الأدوات القديمة، كما صنع ليكورغ في إسبارطة ليقيم بناء صالحا فيما بعد، ولم يقم المجتمع في البداءة إلا على بعض العهود العامة التي ألزم جميع الأفراد أنفسهم بمراعاتها، والتي غدت ضامنة لكل واحد منهم، وقد وجب أن تدل التجربة على مقدار ما كان من ضعف مثل هذا النظام، وعلى مقدار ما كان من سهولة اجتناب مخالفيه ثبوت الجرم أو العقاب على الذنوب التي كان يجب على الجمهور أن يكون شاهدا عليها قاضيا فيها، وقد وجب أن ينحى القانون على ألف وجه، وأن تكثر المحاذير والارتباكات باستمرار حتى يفكر أخيرا في تسليم بعض الأفراد وديعة السلطان العام الخطرة، وفي ترك العناية في إطاعة مشورات الشعب إلى بعض الحكام؛ وذلك لأن القول باختيار الرؤساء قبل قيام الدولة الاتحادية وبنصب حفظة القوانين قبل القوانين نفسها افتراض لا يجوز الجدال عنه بحد.
ومن غير الصواب أن يعتقد أن الشعوب ألقت نفسها في البداءة بين ذراعي سيد مطلق بلا شرط ولا رجوع، وأن الوسيلة الأولى للقيام بالأمن العام الذي تصوره أناس مختالون جامحون كانت تدهورا في العبودية، ولماذا نصب الناس في الحقيقة رؤساء، إن لم يكن للدفاع عنهم ضد الاضهاد ولحفظ أموالهم وحرياتهم وحيواناتهم التي هي عناصر وجودهم المكونة؟ والواقع أن السوء الذي يمكن أن يحدث لأحد الناس في صلات بعض الناس ببعض، إذ كان رؤيته نفسه تحت رحمة آخر، أفلم يكن مناقضا للرشاد أن يبدأ بتجريد نفسه بين يدي رئيس من الأشياء الوحيدة التي كانوا يحتاجون لحفظها إلى مساعدته؟ وأي شيء معادل استطاع تقديمه إليهم من أجل حق عظيم كهذا؟ وإذا ما جرؤ على المطالبة به متعللا بحجة الدفاع عنهم، أفلا يتلقى الجواب الآتي الذي جاء في القصة: «وأي شيء أكثر من هذا يستطيع العدو أن يصنعه بنا ؟» إن مما لا جدال فيه كون المبدأ الأساسي لجميع الحقوق السياسية قائما على أن الشعوب أعطيت رؤساء للدفاع عن حريتها، لا لاستعبادها، وقد قال بليني لتراجان: «إذا كان لنا أمير، فلكي يحفظنا من وجود سيد.»
ويأتي السياسيون حول حب الحرية بذات السفسطة التي يأتي بها الفلاسفة حول حال الطبيعة، وذلك أنهم يحكمون بما يرون في أمور تختلف جدا عن التي لا يرون، وهم يعزون إلى الناس ميلا طبيعيا نحو العبودية مستندين إلى الصبر الذي يطيق به عبوديتهم من يقعون تحت عيونهم، وذلك من غير تفكير في أن أمر الحرية كأمر العصمة والفضيلة الذي لا يشعر بقيمته إلا بدوام التمتع به، والذي يضيع ذوقه عند ضياعه. ومن قول برازيداس لأحد المرازبة الذي كان يقابل حياة إسبارطة بحياة برسبوليس (إصطخر): «أعرف ملاذ بلدك، غير أنك لا تستطيع أن تعرف ملاذ بلدي.»
وكما أن الجواد الجامح ينصب عرقه، ويضرب الأرض بسنابكه، ويهيج عند دنو اللجام، على حين يعاني الحصان المروض السوط والمهماز صابرا، ترى الإنسان في البرابرة لا يطأطئ رأسه للنير الذي يحمله الإنسان المتمدن غير متذمر، وهو يفضل الحرية العاصفة على الخضوع الساكن؛ ولذا لا يجوز أن يحكم بذل الشعوب المعبدة في تصرفات الإنسان الطبيعية مدحا للعبودية أو قدحا فيها، بل بالعجائب التي قامت بها جميع الشعوب الحرة ضمانا لنفسها من الاضطهاد. وأعرف أن الأولى لم تصنع بلا انقطاع غير امتداح السلم والسكون اللذين تتمتع بقيودهما، وأنها «تسمى أتعس عبودية أمنا» (تاسيت، التاريخ، باب 4، فصل 17)، ولكنني حينما أرى الآخرين يضحون بالملاذ والسكون والثراء والقوة والحياة نفسها حفظا لهذا المال الوحيد الذي يزدريه من أضاعوه، ولكنني حينما أرى الحيوانات التي تولد حرة وتمقت الأسر، تكسر رأسها على قضبان سجنها، ولكنني حينما أرى زمرا من الوحوش الكاملي العرى يزدرون الملاذ الأوروبية، ويحتقرون الجوع والنار والحديد والموت حفظا لاستقلالهم فقط، أشعر بأن البرهنة حول الحرية ليست من شأن العبيد.
وأما السلطة الأبوية، التي اشتق منها الحكومة المطلقة وجميع المجتمع كثير من الكتاب، وذلك من غير رجوع إلى أدلة لوك وسيدني المعاكسة، فيكفي أن يلاحظ أنه لا شيء في الدنيا أكثر ابتعادا عن روح الاستبداد الضاري من حلم هذه السلطة التي تنظر إلى نفع من يطيع أكثر من نظرها إلى فائدة من يأمر، وأن الأب، على حسب قانون الطبيعة، ليس سيد الولد إلا للزمن الذي تكون معونته ضرورية له، فإذا مر هذا الزمن صارا متساويين، وهنالك إذ يصبح الولد مستقلا عن الأب تماما، فإنه لا يكون مدينا له بغير الاحترام - لا الطاعة - وذلك لأن معرفة الجميل واجب يجب تأديته، لا حق يمكن أن يطالب به، وكان يجب أن يقال إن السلطة الأبوية تنال قوتها الرئيسة من المجتمع المدني، بدلا من أن يقال إن المجتمع المدني يشتق من السلطة الأبوية، ولم يعترف بأن الفرد أب للكثيرين إلا عندما يبقون مجتمعين حوله، وما لدى الأب من أموال يملكها حقا هو الصلات التي تبقي أولاده تابعين له، ويستطيع الأب ألا يجعل لهم نصيبا في ميراثه إلا بنسبة ما يستحقون ذلك منه بامتثال دائم لمشيئته، والواقع أن من البعيد أن يكون للرعايا نفع مماثل ينتظرونه من طاغيتهم ما داموا هم وجميع ما يملكون مالا له، أو ما دام يزعم هكذا، فهم ملزمون بأن يعدوا فضلا ما يتركه لهم من مالهم الخاص، وهو يعدل إذا ما جردهم، وهو يتساهل إذا ما تركهم يعيشون.
وإذا داومنا على البحث في الوقائع حقوقيا على هذا الوجه، لم نجد ما هو أقل من الحقيقة في قيام الطغيان عن رضا، ويكون من الصعب إثبات صحة عقد لا يلزم غير أحد الفريقين، وأن يقع الغرم على فريق واحد دون الآخر، فلا يعانيه سوى من يلزم به نفسه، ويبعد أن يكون هذا النظام الممقوت - حتى في أيامنا - نظام ذوي الرشاد والصلاح من الملوك، ولا سيما ملوك فرنسا، كما يمكن أن يرى ذلك في غير مكان من مراسيمهم، ولا سيما العبارة الآتية التي جاءت في مرسوم مشهور نشر في سنة 1667 باسم لويس الرابع عشر، وعن أمر منه، وهي: «دعنا لا نقول، إذن، كون ولي الأمر غير خاضع لقوانين دولته؛ وذلك لأن العكس من حقائق حقوق الأمم التي هوجمت عن ملق أحيانا، ولكن مع دفاع الأمراء الصالحين عنها دائما، وذلك كألوهية حافظة لدولهم، وما أكثر ما يطابق الصواب أن يقال مع أفلاطون الحكيم: إن سعادة المملكة الكاملة هي في إطاعة الرعايا لأميرهم، وإطاعة الأمير للقانون، وفي كون القانون قويما قاصدا خير الناس!» («رسالة في حقوق الملكة البالغة النصرانية في مختلف دول مملكة إسبانية»، 667، المطبعة الملكية.)
ولا أقف مطلقا عند البحث في أن الحرية إذا كانت أشرف خصائص الإنسان، فإنه ألا يكون من حط طبيعتنا وتنزيلنا إلى مستوى الحيوانات التي هي عبدة الغريزة، ومن التجديف على صانع وجودنا، أن نعدل بلا قيد عن أثمن نعمه، وأن ننقاد لضرورة اقتراف جميع الجرائم التي نهى عنها، مجاراة لسيد ضار أو مجنون، فنغضب هذا الصانع الرفيع غضبا يجب أن يشتد من تخريب أجمل ما صنع، كاشتداده من فضح هذا الصنع، وأتغافل - إذا ما سمح لي - عن اختصاص باربيراك الذي تابع لوك فصرح بوضوح أنه لا أحد يستطيع بيع حريته حتى الخضوع لسلطان مرادي يعامله على حسب هواه؛ «وذلك لأن هذا ينطوي على بيع حياته التي ليس سيدها»، وإنما أسأل - فقط - عن حق أولئك الذين لم يخشوا حط أنفسهم حتى هذه النقطة، فاستطاعوا أن يجعلوا حفدتهم خاضعين لذات العار، وأن يتنزلوا في سبيلهم عن أطايب لم ينالوها من كرمهم، فتكون الحياة بغيرها ثقيلة على جميع من يستحقونها.
ويقول بوفندورف: إن الإنسان يستطيع أن يجرد نفسه من حريته نفعا لآخرين كما ينقل ماله إلى آخرين بعهود وعقود، ويلوح لي أن هذه برهنة سيئة، وذلك - أولا - أن المال الذي أبيعه يصبح عندي أمرا غريبا تماما، ويغدو سوء استعماله أمرا لا يؤبه له، ولكن مما يهمني ألا يساء استعمال حريتي، ولا أستطيع أن أعرض نفسي لتكون أداة جريمة من غير أن أكون مذنبا بالسوء الذي أحمل على صنعه، ثم بما أن حق التملك ليس سوى عهد ونظام بشري ، فإن كل واحد يقدر على التصرف فيما يملك، ولكن غير هذا هبات الطبيعة الجوهرية كالحياة والحرية اللتين يباح لكل واحد أن يتمتع بهما، واللتين يشك في أنه يحق للإنسان أن يجرد نفسه منهما؛ وذلك لأن الإنسان إذا ما أقصي عن نفسه إحداهما يكون قد أذل نفسه، وإذا ما أقصى نفسه عن الأخرى يكون قد لاشاها فيه ما دامت فيه، ولكن بما أنك لا تجد خيرا دنيويا يستطيع أن يعوض من أحد الأمرين، فإنه يكون من إهانة الطبيعة والعقل معا أن يعدل عنهما بأي ثمن كان، ولكن الإنسان إذا ما استطاع أن يبيع حريته كأمواله، كان الفرق عظيما من ناحية أولاده الذين لا يتمتعون بأموال أبيهم إلا بنقل حقوقه، وذلك بدلا من كون الحرية، التي هي موهبة ينالونها من الطبيعة كأناس، لا يحق لآبائهم أن يجردوهم منها مطلقا، وذلك كما أنه وجب أن يعنف بالطبيعة إقامة للرق وجب تغييرها إدامة لهذا الحق، فالفقهاء - الذين ذهبوا باتزان إلى أن ابن العبد يولد عبدا - يكونون قد قرروا بعبارات أخرى كون الإنسان لا يولد إنسانا.
ولذا يلوح لي أن من الثابت كون الحكومات لم تبدأ قط بالسلطة المرادية فقط، كونها لم تبدأ بهذه السلطة التي ليست غير إفساد لها، غير أقصى حد لها، والتي تردها في نهاية الأمر إلى قانون الأقوى الذي كانت علاجا له في بدء الأمر، ولكن الحكومات - حتى عند افتراض بدء أمرها على هذا الوجه - لم تكن تلك السلطة فيها لتستطيع بطبيعتها غير الشرعية أن تصلح أساسا لقانون المجتمع، ولا لتفاوت النظام نتيجة.
وإني من غير أن أدخل اليوم في المباحث التي لا يزال من الواجب صنعها حول طبيعة الميثاق الأساسي لكل حكومة، أقتصر - باتباعي الرأي السائد - على عدي نظام الهيئة السياسية عقدا حقيقيا بين الشعب والرؤساء الذين يختارهم، عقدا يلزم كل من الفريقين نفسه بمراعاة القوانين التي اشترطت فيه فتؤلف روابط لاتحادهما. وبما أن الشعب في موضوع الصلات الاجتماعية يجمع جميع إرادته ضمن إرادة واحدة، فإن المواد التي توضح بها هذه الإرادة تصبح قوانين أساسية تلزم جميع أعضاء الدولة من غير استثناء، فينظم أحدهما أمر الخيار وسلطة الحكام الموكل إليهم أن يسهروا على تنفيذ الأخرى، وتعم هذه السلطة كل ما يمكن أن يحفظ النظام من غير ذهاب إلى الحد الذي يغير به، وإلى هذا تضاف أنواع من الشرف تجعل القوانين وحفظتها محترمة، وتجعل لهؤلاء شخصيا من الامتيازات ما يعوضهم من الأعمال الشاقة التي تكلفهم الإدارة الصالحة بها، والحاكم من ناحيته يلزم نفسه بألا يستعمل السلطة التي عهد إليه أن يقوم بها إلا وفق مقصد موكليه، وبأن يجعل كل واحد يتمتع بما هو خاص به تمتعا هادئا، وبأن يفضل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية في كل فرصة.
ووجب - قبل أن تدل التجربة، أو معرفة القلب البشري - على ما يعتور مثل هذا النظام من سوء استعمال لا مناص منه، أن يظهر أن الذين كان قد عهد إليهم أن يسهروا على حفظه هم أكثر الناس غرضا فيه، وذلك بما أن الحاكمية وحقوقها لم تقوما على غير القوانين الأساسية، فإن هذه القوانين إذا ما قوضت عاد الحكام لا يكونون شرعيين من فورهم، وعاد الشعب غير ملزم بإطاعتهم، وبما أن القانون - لا الحاكم - هو الذي يقيم جوهر الدولة، فإن كل واحد يعود إلى حريته الطبيعية عن حق.
وإذا أمعنا النظر قليلا في هذا الموضوع وجدناه يؤيد بأسباب جديدة، ورئي أنه يتعذر نقضه؛ وذلك لأنه إذا كانت لم توجد سلطة عالية قادرة أن تكون ضامنة لإخلاص المتعاقدين أو أن تحملهما على القيام بالتزاماتهما المتبادلة ظل الفريقان قاضيين وحيدين في قضيتهما الخاصة، وكان لكل واحد منهما حق العدول عن العقد فور ما يجد نقض الفريق الآخر للشروط، أو حينما تعود غير ملائمة له، ويظهر أن حق التنزل يمكن أن يكون قائما على هذا المبدأ، والواقع أننا إذا لم ننظر - كما نصنع - إلى غير النظام البشري، وذلك عندما يكون الحاكم القابض على جميع السلطة، والمنتحل لجميع فوائد العقد، ذا حق في العدول عن السلطة على الخصوص، فإن من الأولى أن يكون الشعب الذي يدفع ثمن جميع أغاليط الرؤساء ذا حق في العدول عن خضوعه، غير أن الانقسامات الكريهة والارتباكات غير المحدودة التي تؤدي إلى هذه السلطة الخطرة بحكم الضرورة تدل، بأكثر مما على أي شيء آخر، على مقدار ما كانت الحكومات البشرية محتاجة إليه من قاعدة أشد متانة من العقل وحده، وعلى مقدار ما كان ضروريا للراحة العامة التي تتدخل فيها المشيئة الإلهية منحا للسلطة ذات السيادة صبغة مقدسة لا تنقض، فتنزع من الرعايا ما في التصرف فيها من حق مشئوم، وإذا كان الدين لم يصنع للناس غير هذا الخير، كان لهم في هذا ما يفرض عليهم واجب اعتناقه وتعهده، حتى مع سوء استعماله، ما دام يحقن من الدماء ما هو أكثر مما سفكه التعصب، ولكن لنتعقب خيط افتراضنا.
وتكون أشكال الحكومة المختلفة مدينة بأصلها لدرجة ما يكون بين الأفراد من الفروق حين قيامها، وإذا كان أحد هؤلاء متفوقا في القوة أو الفضل أو الغنى أو الوجاهة، انتخب حاكما وصارت الدولة ملكية، وإذا كان الكثيرون متساوين فيما بينهم تقريبا، وكانوا يفوقون الآخرين انتخبوا معا وتكونت أرستوقراطية، ومن كان الثراء والمواهب عندهم أقل تفاوتا، وكانوا أقل بعدا من حال الطبيعة، حافظوا بالاشتراك على الإدارة العليا وألفوا ديموقراطية، وقد أثبت الزمان أي الشكلين كان أنفع للناس، وقد ظل بعض الناس خاضعين للقوانين فقط، ولم يلبث الآخرون أن أطاعوا سادة، وأراد المواطنون أن يحتفظوا بحريتهم، ولم يفكر الرعايا في غير نزعها من جيرانهم، غير صابرين على تمتع آخرين بخير كانوا قد أضاعوه.
والخلاصة: أن الثروات والفتوح كانت من ناحية، وأن السعادة والفضيلة كانتا من ناحية أخرى.
وكانت الحاكميات كلها في هذه الحكومات المختلفة انتخابية، وعندما كان الفوز لغير الثراء كانت الأفضلية للمزية التي تنعم بنفوذ طبيعي، وللسن التي تنعم بالتجربة في الأمور وبالاعتدال في المذاكرات، ويدل شيوخ العبريين وشيوخ الإسبارطيين وسنات رومة، واشتقاق كلمة «سنيور» عندنا، على مقدار ما كان للمشيب من احترام فيما مضى، وكلما كانت الانتخابات تقع على أناس طاعنين في السن صارت متواترة وشعر بمصاعبها، فقد نسجت مكايد وألفت عصابات واحتدت أحزاب، واشتعلت حروب أهلية، وضحي بدم المواطنين في سبيل سعادة للدولة مزعومة، وأوشك الناس أن يسقطوا في فوضى الأزمنة السابقة، وقد استفاد الزعماء ذوو الطموح من هذه الأحوال إدامة لخدمهم في أسرهم، وقد رضي الشعب، الذي تعود الخضوع والراحة ورغد العيش، والذي عجز عن كسر قيوده، أن يترك عبوديته تزيد توطيدا لراحته، وهكذا تعود الزعماء - الذين أصبحوا وراثيين - أن يعدوا حاكميتهم مال أسرة، وأن يعدوا أنفسهم مالكي الدولة التي لم يكونوا غير موظفيها في البداءة، فيدعون مواطنيهم عبيدهم ويحسبونهم كالأنعام بين الأشياء التي يملكونها، ويدعون أنفسهم مساوين للآلهة أو ملوك الملوك.
وإذا ما تتبعنا تقدم التفاوت في هذه الثورات المختلفة وجدنا أن وضع القانون وحق التملك كانا حده الأول، وأن قيام الحاكمية كان حده الثاني، وأن تحول السلطة الشرعية إلى سلطة مرادية كان حده الثالث والأخير، فأجيز حال الغني والفقير في الدور الأول، وأجيز حال القوي والضعيف في الدور الثاني، وأجيز حال السيد والعبد في الدور الثالث الذي هو آخر درجة للتفاوت والحد الذي ينتهي إليه جميع الأخرى في نهاية الأمر، وذلك إلى أن تقضي ثورات جديدة على الحكومة تماما، أو أن تدنيها من النظام الشرعي.
ويجب - لإدراك ضرورة هذا التقدم - أن ينظر إلى عوامل قيام الهيئة السياسية أقل مما إلى الشكل الذي تتخذه في تنفيذه، والمحاذير التي يجرها وراءه؛ وذلك لأن العيوب التي تجعل النظم الاجتماعية أمرا ضروريا هي عين العيوب التي تجعل سوء استعماله أمرا لا مفر منه، وإذا استثنيت إسبارطة، حيث كان القانون يسهر على تربية الأولاد خاصة، وحيث أقام ليكورغ من العادات ما كان يغنيه عن إضافته قوانين، وجدت القوانين، التي هي أقل قوة من الأهواء على العموم، تردع الناس من غير أن تغيرهم، ومن السهل إثبات كون كل حكومة تسير، من غير فساد ولا عيب، دائما وتماما، وفق غاية نظامها، فتقوم بلا ضرورة، وكونه لا احتياج إلى حكام ولا إلى قوانين في بلد لا تجتنب القوانين ولا يساء استعمال الحاكمية فيه.
وتؤدي الفروق السياسية إلى فروق مدنية بحكم الضرورة، ولا يلبث التفاوت الذي يزيد بين الشعب ورؤسائه أن يشعر به بين الأفراد، فيتحول على ألف وجه وفق الأهواء والمواهب والمصادفات، وما كان الحاكم ليغتصب سلطة غير شرعية من غير أن يتخذ من العمال من يضطر إلى منحهم قسما منها، ثم إن المواطنين لا يسمحون بأن يضغطوا إلا عن سير وراء طموح أعمى، وهم إذ ينظرون إلى ما تحتهم أكثر مما إلى فوقهم، فإن السيطرة تصبح أعز من الاستقلال عندهم، ويوافقون على تكبيلهم بقيود يقدرون على منحها بدورهم، ومن الصعوبة بمكان أن يحمل على الطاعة من لا يحاول أن يسوس مطلقا، وما كان أمهر السياسيين ليستعبد أناسا لا يريدون إلا أن يكونوا أحرارا. بيد أن التفاوت ينتشر من غير شفقة بين ذوي الطموح والجبن من النفوس المستعدة للسعي وراء مخاطر النصيب في كل وقت، والتي لا تبالي بالسيطرة أو الخدمة على حسب ما تكون ملائمة أو معاكسة لها، وهكذا فإنه لا بد من أن يكون قد أتى زمن بلغت عيون الشعب فيه من السحر ما لم يبق لقادته أن يخاطبوا أصغر الناس معه بغير قولهم: «كن كبيرا أنت وجميع ذريتك»، وهنالك بدا كبيرا لجميع الناس كما بدا في عيني نفسه، وأخذ عقبه يرتفع كلما بعدت المسافات منه، وكلما كانت العلة غامضة حائرة زاد المعلول، وكلما كثر الكسالى في أسرة زادت مجدا.
ولو كان هناك مكان صالح للدخول في التفصيل لسهل علي أن أوضح كيف يصبح التفاوت في الوجاهة والسلطان أمرا لا مفر منه بين الأفراد،
4
حتى عند عدم تدخل الحكومة؛ وذلك لأن الأفراد إذا ما اجتمعوا في مجتمع واحد لم يلبثوا أن يضطروا إلى المقابلة فيما بينهم، وإلى ملاحظة الفروق التي يجدونها في معاشرة بعضهم لبعض، ولهذه الفروع أنواع كثيرة، ولكن بما أن الثراء، والشرف أو المقام، والسلطان والمزية الشخصية فروق رئيسة يقاس بها في المجتمع، فإنني أثبت أن توافق هذه القوى المختلفة أو تصادمها أصدق دليل على دولة حسنة التكوين أو سيئته، وإنني أثبت أن الصفات الشخصية بين أنواع التفاوت الأربعة هذه إذ كانت أصل جميع الأخرى، فإن الغني هو آخر ما ترد إليه في نهاية الأمر، وذلك بما أنه يكون أكثر ما ينفع رغد العيش مباشرة وأكثر ما يسهل نقله، فإنه يستخدم بسهولة لاشتراء جميع البقية، فبهذه الملاحظة يمكن أن يحكم بشيء من الدقة في المقياس الذي ابتعد به كل شعب عن نظامه الابتدائي، وعن الطريق التي رسمها نحو أقصى حد للفساد، وألاحظ مقدار ما تعمل في المواهب والقوى وتقابل بينها هذه الرغبة العامة في الصيت والشرف والأفضليات التي تأكلنا جميعا، ومقدار ما تهز الأهواء وتزيدها، ومقدار ما تجعل جميع الناس متنافسين متزاحمين، وإن شئت فقل أعداء، فتؤدي كل يوم إلى نوائب ونجاح ومصائب من كل نوع، وذلك بحملها ذوي المزاعم على خوض عين المعارك، وأثبت أننا مدينون لهذه الحميا في التحدث عن النفس، ولهذه الصولة في التمايز التي تخرج المرء عن الصواب تقريبا بأحسن ما يوجد بين الناس وأردئه، أي بفضائلنا ومعايبنا وبمعارفنا وأغاليطنا، وبقاهرينا فلاسفتنا، أي بطائفة من الأمور الطالحة حول قليل من الأمور الصالحة.
وأخيرا أثبت أنه يرى قبضة من الأقوياء والأغنياء على ذروة العظمة والثراء، على حين يتخبط الجمهور في البؤس والظلام، وذلك عن كون أولئك لا يقدرون الأمور التي لا يتمتعون بها إلا بمقدار ما يكون الآخرون محرومين إياها، وعن كونهم يعودون غير سعداء إذا ما عاد الشعب لا يكون بائسا.
بيد أن تلك الجزئيات وحدها تكون مادة سفر جليل توزن فيه محاسن كل حكومة ومساوئها من حيث حقوق حال الطبيعة، وحيث يكشف جميع مختلف الوجوه التي يبدو التفاوت تحتها حتى هذا اليوم، ويمكن أن يبدو في القرون القادمة، وذلك وفق طبيعة هذه الحكومات والثورات التي يجرها الزمن إليها بحكم الضرورة، وهنالك يرى الجمهور المضطهد في الداخل نتيجة احتياطات اتخذها ضد من هدده في الخارج، وهنالك ترى زيادة الاضطهاد باطراد من غير أن يستطيع المضهدون معرفة حد له، ولا الوسيلة المشروعة التي تبقى لهم لوقفه، وهنالك يرى انطفاء حقوق المواطنين والحريات القومية مقدارا فمقدارا، وعد احتياج الضعفاء تذمرات تمرد، وهنالك يرى قصر السياسة شرف الدفاع عن القضية العامة على فريق مرتزق من الشعب، وهنالك يرى ظهور ضرورة الضرائب، فيترك الزارع اليائس حقله حتى في أثناء السلم ويهجر محراثه ليتقلد السيف، وهنالك يرى بروز مبادئ الشرف المشئومة الغريبة، وهنالك يرى تحول حماة الوطن إلى أعداء، عاجلا كان ذلك أو آجلا، حاملين بلا انقطاع خنجرا مرفوعا فوق مواطنيهم، فيأتي زمن يسمع فيه قولهم لطاغية بلدهم:
إذا أمرتني أن أضرب بالسيف صدر أخي أو رقبة والدي، وأن أضرب بالسيف أحشاء زوجتي، فعلت ذلك كله بيدي اليمنى مضطرا.
لوكانوس، إ، 376
وعن أقصى تفاوت الأحوال والثروات واختلاف الأهواء والمواهب، وعن الفنون غير المفيدة والفنون الضارة والعلوم التافهة نشأت طوائف من المبتسرات المخالفة للعقل والسعادة والفضيلة على السواء، ويرى إيقاد الزعماء لكل ما يمكن أن يضعف الناس المجتمعين بتفريق ما بينهم، ولكل ما يمكن أن يمنح المجتمع مسحة من الوفاق الظاهر ويبذر فيه جراثيم الشقاق الحقيقي، ولكل ما يمكن أن يوحي إلى مختلف المنظمات بتحد وحقد متبادلين عن معارضة بعض حقوقها ومصالحها ببعض، وعن تقوية السلطات الجامعة لها جميعا من حيث النتيجة.
ومن بين هذه الارتباكات والثورات رفع الاستبداد رأسه الفظيع بالتدريج، وافترس كل ما وجده صالحا صحيحا في جميع أقسام الدولة، فانتهى أخيرا إلى دوس القوانين والشعب، وإلى القيام على أنقاض الجمهورية، وكانت الأزمنة التي سبقت هذا التحول الأخير أزمنة اضطرابات وكوارث، غير أن الجميع قد ابتلع من قبل الغول في نهاية الأمر، وعاد لا يكون للشعوب زعماء ولا قوانين، بل طغاة فقط، وصار لا يبحث منذ هذه الدقيقة في الطبائع والفضيلة؛ وذلك لأن الاستبداد في كل مكان يسوده لا يحتمل أي سيد آخر، وإذا ما تكلم الاستبداد لم يبق صلاح ولا واجب ليستشار، ولم يبق للعبيد فضيلة غير الطاعة العمياء.
وهنا آخر حد للتفاوت وأقصى نقطة تغلق الدائرة وتمس النقطة التي ذهبنا منها، وهنا يعود الأفراد إلى مساواتهم الأولى؛ وذلك لأنهم ليسوا شيئا يذكر، ولأن الرعايا إذ عاد لا يكون لديهم من القوانين غير مشيئة السيد، وعاد لا يكون للسيد من القواعد غير أهوائه، فإن مبادئ الخير والعدل تزول مرة أخرى، وهنا يرد كل شيء إلى قانون الأقوى فقط، ومن ثم إلى حال جديدة للطبيعة مختلفة عن الحال التي بدأنا منها؛ وذلك لأن إحدى الحالين كانت حال الطبيعة في صفائها، ولأن الحال الأخرى هي نتيجة إفراط في الفساد، ثم إنه يوجد بين هاتين الحالين من قلة الاختلاف، ويكون عقد الحكومة من الانحلال بالاستبداد، ما يبقي المستبد معه سيدا ما ظل الأقوى، فإذا ما أمكن طرده لم يكن عنده ما يشكو منه ضد العنف، وتعد الفتنة الشعبية التي تنتهي بخنق أحد السلاطين أو خلعه عقلا قانونيا، كالأعمال التي كان يتصرف بها قبل يوم في حياة رعاياه وأموالهم، والقوة الوحيدة التي كانت تؤيده هي التي تسقطه وحدها، وهكذا فإن جميع الأمور تسير على حسب النظام الطبيعي، ومهما يكن من أمر هذه الثورات القصيرة والكثيرة الوقوع، فإنه لا يستطيع أحد أن يتوجع من جور الآخر، بل من سوء حظه أو عدم تبصره.
وهكذا إذا ما اكتشف القارئ النبيه، وتتبع الطرق المنسية والضائعة التي لا بد من أن تكون قد أتت بالإنسان من الحال الطبيعية إلى الحال المدنية، وإذا ما أعاد القارئ النبيه، بمواقع متوسطة بينتها، تلك التي حملني الوقت على حذفها أو التي لم يوح الخيال بها إلي قط، لم يمكنه إلا أن يحار من المسافة الواسعة التي تفصل بين هاتين الحالين، ففي تعاقب الأمور البطيء هذا يبصر حل ما لا يحصى من المسائل الخلقية والسياسية التي لم يستطع الفلاسفة أن يحلوها، وهو إذ يشعر بأن النوع البشري في جيل ليس النوع البشري في جيل آخر، يعلم السبب في كون ذيوجانس لم يجد إنسانا قط؛ وذلك لبحثه بين معاصريه عن إنسان زمن غير موجود، وهو يقول: إن كاتون مات مع روما والحرية لعدم ملاءمته عصرا عاش فيه، وإن أعظم الناس هذا لم يصلح إلا لإلقاء الحيرة في عالم كان يملكه - يقينا - لو ظهر قبل خمسمائة سنة.
والخلاصة: أنه يوضح كيف أن الروح والأهواء البشرية تفسدان على وجه غير محسوس، ومن ثم تغيران طبيعتهما، ولماذا تغير احتياجاتنا وملاذنا غرضها مع الزمن، ولماذا يزول الإنسان الأصلي بالتدريج فيعود المجتمع لا يبدي لعيني الحكيم غير جمع من الآدميين المفتعلين، وأهواء مصنوعة نتيجة لجميع هذه الصلات الجديدة، ومن غير أن يكون لها أساس حقيقي في الطبيعة، وما يعلمنا التأمل إياه فوق ذلك تؤيده الملاحظة تماما، وذلك أن الإنسان الوحشي والإنسان المتمدن يبلغان من الاختلاف قلبا وميولا ما يكون باعث السعادة العليا لأحدهم معه عامل قنوط الآخر، فالأول لا يستنشق غير الراحة والحرية، وهو لا يريد إلا أن يعيش ويبقى خاليا من العمل، حتى إن سكون الرواقي لا يقاس بعدم مبالاته العميقة تجاه أي موضوع آخر، وعلى العكس تجد الإنسان المتمدن نشيطا دائما فيعرق ويهتز ويضطرب بلا انقطاع بحثا عن أشاغيل أشد عسرا، وهو يعمل حتى الموت، وهو يسعى إلى الموت ليعيش أو يعدل عن الحياة نيلا للخلود، وهو يتودد إلى العظماء الذين يمقتهم وإلى الأغنياء الذين يحتقرهم، وهو لا يدخر وسعا لينال شرف خدمتهم، وهو يباهي منتفخا بنذالته وحمايتهم، وهو يفاخر بعبوديته، وهو يحدث مع الاستخفاف عن الذين لم يتفق لهم شرف مقاسمته إياها، ويا لمنظر أعمال الوزير الأوروبي الشاقة المبتغاة في نظر الكرايبي! وما أكثر المنايا القاسية التي لا يفضلها هذا الوحشي البليد على هول مثل تلك الحياة التي لم تلطف حتى بلذة فعل الخير! ولكنه يجب لرؤية الغاية من هذه الجهود الكثيرة أن يكون لكلمتي «السلطة والجمهورية» معنى في ذهنه، وأن يعلم وجود نوع من الناس الذين يرون قيمة لآراء بقية العالم، والذين يعرفون أن يكونوا سعداء راضين عن أنفسهم بشهادة الآخرين أكثر مما بشهادتهم، والواقع أن هذا هو السبب الحقيقي لجميع هذه الفروق، فالهمجي يعيش في نفسه، والإنسان المتمدن يعيش خارج نفسه دائما، فلا يعرف إلا أن يعيش في نفوس الآخرين، وهو لهذا السبب يقتبس شعور حياته الخاصة من حكمهم وحده، وليس من موضوعي أن أثبت كيف أنه ينشأ عن مثل هذا التصرف كثير من عدم المبالاة نحو الخير والشر، مع وجود كثير من الرسائل الرائعة في الأخلاق، وكيف أن كل شيء - إذ يرد إلى المظاهر - يصبح مفتعلا مخادعا، حتى في الشرف والصداقة والفضيلة، حتى في المعايب غالبا، فنجد في ذلك سر الافتخار في آخر الأمر.
والخلاصة: كيف أننا إذ نسأل الآخرين عن أنفسنا دائما، ومن غير أن نجرؤ على سؤال أنفسنا، وذلك بين كثير من الفلسفة والإنسانية والأدب والمبادئ العليا، ولا نجد لدينا غير مظهر خادع طائش لشرف بلا فضيلة، وعقل بلا حكمة، ولذة بلا سعادة، ويكفي أنني أثبت أن هذا ليس حال الإنسان الأصلية مطلقا، وأن روح المجتمع والتفاوت الذي ينشأ عن المجتمع هي التي تغير جميع الميول الطبيعية وتفسدها على هذا الوجه.
وقد حاولت أن أعرض أصل التفاوت وتقدمه، وقيام المجتمعات السياسية وسوء استعمالها، وذلك بالمقدار الذي يمكن هذه الأمور أن تستنبط من طبيعة الإنسان على نور العقل فقط مستقلة عن العقائد المقدسة التي تمنح السلطة ذات السيادة تأييد الحقوق الإلهية، ويعلم من هذا البيان أن التفاوت، إذ كان غير موجود في حال الطبيعة تقريبا، ينال قوته ونموه من تقدم ملكاتنا وترقي الروح البشرية، ثم يصبح ثابتا شرعيا بقيام ملك القوانين، ويعلم من هذا البيان أيضا أن التفاوت الأدبي الذي أجازته الحقوق الوضعية فقط مخالف للحقوق الطبيعية في كل مرة لا يتناسب هو والتفاوت البدني، ويعين هذا التمييز بما فيه الكفاية ما يجب أن يفكر فيه من هذه الناحية حول نوع التفاوت الذي يسود جميع الشعوب المتمدنة ما دام يباين قانون الطبيعة، مهما كان الوجه الذي يعرف به، أن يقود ولد شائبا، وأن يسوق غبي رجلا حكيما، وأن تطفح شرذمة من الأتباع بالزوائد على حين يحتاج الجمهور الجائع إلى الضروري.
تعليقات
تنبيه حول التعليقات
أضفت بعض تعليقات إلى هذا الكتاب وفق عادتي المتوانية في العمل متواترا، وتبتعد هذه التعليقات عن الموضوع أحيانا بما فيه الكفاية، فلا يصلح أن تقرأ ضمن المتن؛ ولذا فقد دحرتها إلى آخر الرسالة التي حاولت أن أتبع فيها أقوم سبيل جهد الطاقة، ويمكن من هم على شيء من الإقدام في العود ثانية أن يتلهوا مرة أخرى بالقيام ببعض المباحث ومحاولة تصفح التعليقات، ولا كبير ضرر في عدم مطالعة الآخرين إياها مطلقا.
إلى جمهورية جنيف
المقدمة
القسم الأول
القسم الثاني
অজানা পৃষ্ঠা