وكانت الأسوار حينئذ غاصة بالناس، وهم يتطالون ليشاهدوا ملتقى عميدي المسيحية والإسلام، وكأن على رءوسهم الطير.
أما قبائل العرب من بعيد فإنها كانت تهلل وتكبر ابتهاجا بفتح بلد عيسى وموطن الأنبياء.
ولما دنا عمر من البطريرك مد البطريرك إليه يده مصافحا فمد عمر يده إليه، وكان البطريرك ينظر في وجه عمر وعمر ينظر في وجه البطريرك. فيظهر أن نفسيهما اتفقتا لأول نظرة؛ لأن النفوس الكبيرة تتعارف حين التقائها بالنظر كما يتعارف باقي الناس بالكلام. فابتدأ البطريرك الحديث بقوله: لقد طلبت أن يكون الأمير الكريم متولي عقد الصلح بيننا؛ لأنني إذا وضعت هذه المدينة المقدسة في عهده وذمته خاصة أكون في أمن عليها وعلى أهلها من كل وجه، وأنا الآن ألقي مفاتيحها إليه.
فلما ترجم الترجمان هذا الكلام لعمر أشار عمر برأسه موافقا على كلام البطريرك، وأجاب: المسلم من حفظ العهد ورعى الود، ونحن جميعا عباد الله فعلينا أن نكفل بعضنا بعضا.
فسر البطريرك بهذا الجواب، وعلم أنه وضع ثقته في من هو أهل لكل ثقة. فطلب من الأمير أن يدخل معه إلى غرفة قرب باب السور؛ ليخلو به فيها بضع دقائق. فلم يتردد الأمير في الدخول بل مد رجله وتخطى عتبة الباب. فلما رآه أبو عبيدة يضع قدمه في تلك المدينة المدججة بالسلاح ليدخل إليها وحده اصفر وجهه خوفا عليه، وكأن البطريرك قد تنبه لذلك من تلقاء نفسه. فإنه لما رأى اصفرار وجه أبي عبيدة تألم من سوء الظن ووقف ممتنعا عن الدخول بالأمير. ففهم حينئذ عمر ذلك فنظر إلى أبي عبيدة، وابتسم ابتسامة تأنيب، ثم دخل مع البطريرك.
يروى في التاريخ القديم: أن إسكندر الكبير كان يثق بطبيب له كل الثقة. ففي ذات يوم ورده كتاب فحواه أن هذا الطبيب عازم على تسميمه، واتفق أن الإسكندر فرغ من تلاوة هذا الكتاب حين دخول طبيبه عليه يحمل له كأس دواء. فتناول الإسكندر الكأس في يد وناوله الكتاب في يد أخرى. ثم شرب الكأس قبل أن يقرأ طبيبه ذلك الكتاب * فالمؤرخون والكتاب يهتفون هتاف الدهشة حين وقوفهم على هذا الأمر إعجابا بثقة الإسكندر وشجاعته، ويقولون: إنه لا يصدر إلا عن نفس عظيمة كنفس الإسكندر. قلنا: ولكن صنع عمر هذا ليس بأقل من صنع الإسكندر.
وكانت الغرفة التي اجتمع فيها عمر والبطريرك بجانب باب السور، ولم يكن معهما غير القس ترجمان البطريرك.
فقال الأمير بعد جلوسه موجها السؤال إلى الترجمان: ماذا يريد البترك؟
فأجاب البطريرك: أريد قبل كل شيء صداقة أمير مثلك. فإننا نحن معاشر رؤساء الأمم تجمعنا جامعة الرئاسة وإن فرقت بيننا المذاهب، وكلنا نعبد إلها واحدا لا إله إلا هو ولا شريك له، وعلينا تدبير نفوس رعايانا لإبقائها في سبيل الفضيلة والخير. فإذا اختلفنا في الجزئيات والظواهر فنحن متفقون في الكليات والبواطن. فعلينا إذن أن ننظر إلى ما يجمعنا لا إلى ما يفرقنا، ولذلك أطلب من الأمير ثلاثة أمور: الأول؛ أن يكتب لنا عهدا بالصلح نحفظه عندنا للمستقبل، والثاني؛ أن يوصي رجاله بأن لا يتعرضوا لأحد منا في دينه، والثالث ؛ أن لا يصلي بجانب قبر المسيح في كنيستنا الكبرى؛ لأنه يعلم أنه إذا صلى هناك طلب المسلمون جعل المكان مسجدا.
فلما ترجم هذا الكلام للأمير أطرق، ثم قال: أهذا كل ما يريده البترك. فقيل له: نعم. فنهض عمر ووضع يده في يد البطريك، وقال: نحن كما قلت. أما العهد فسأكتبه الساعة وأرسله إليك، ولولا رغبتي في أن يشهد عليه شهود من المسلمين لئلا يشتبه به في ما يأتي من الزمن لكتبته الآن، وأما الوصية: فوالله الذي نفس عمر في يده إنكم لا تجدون أحدا منا يعتدي على أحد منكم بغيا وظلما، وعندنا:
অজানা পৃষ্ঠা