15
وبعضهم قالوا: إننا نادينا برفع سلطة الكنيسة وقررنا اتباع آريوس.
يا بني، إنك لا تتصور ما كان من التأثير لهذه التهم الهائلة على أناس سذج فضلاء مثل فلاحينا خصوصا التهمة الثانية والثالثة؛ فقد بقي النساء يبكين أسبوعين من تأثير التهمة الثانية، وقد صلينا مرارا إلى الله أن ينير عقول بني عصرنا، وينبذ من صدورهم ذلك الخبث الذي راموا محاربتنا به. أواه يا بني، إن بني عصرنا كانوا أبرياء من ذلك الخبث وإن كانوا شركاء فيه؛ إذ لا ذنب لهم غير تصديق تلك الإشاعات، وإنما كان مصدر الخبث حسد رفاقي ورؤسائي الذين كانوا يغضبون من مشروعي؛ لأنه جعل رعيتهم تطالبهم بمثله ، وكثيرون منها هاجروا إلينا، وهكذا أجبرني خبث البشر مرة ثانية على أن أترك ما تعبت ببنائه؛ فصدر إلي أمر رئيسي أن ألزم الدير، وأن أقتصر على الوعظ في الكنائس. فعدت إلى الدير بنفس مسحوقة وظهر مقصوم وقلب متفطر، ويا أيتها السماء يا ظلمات الليل يا كواكب الفلك - أنت وحدك كنت تشهدين على ما قاسيته في ذلك الزمن في ليالي المظلمة الطويلة، ولكن الله كان معي يا بني، وهو يكون دائما مع جميع الذين يضطهدهم البشر ظلما وعدوانا، ولذلك شعرت بعد مدة بعودة الثقة والأمل والقوة إلى نفسي، وفي ذات ليلة وأنا على سطح الدير أنظر البدر يطلع تماما من وراء الجبال البعيدة، وأشاهد بعضا من رؤسائي ورفاقي يتمازحون ويتضاحكون في حديقة الدير وهم يتغنون بأناشيد روحية استغرقت في بحار التأمل والتفكير، وأخذت أخاطب نفسي قائلا: لماذا أيتها النفس لا تصنعين صنع هؤلاء؟ لماذا لا تكتفين بغذائهم ومشاغلهم وأحوالهم؟ ما هذه النار الدائمة التي تحرقك فلا تدعك تستريحين أبدا؟ افرحي وكلي واشربي وانعمي بالرئاسة والكرامة والجاه مثل غيرك. إنني آسف عليك وعلى جهدك. آسف لأنك تتعذبين والأشرار ينعمون. آسف لأنك تسهرين وتقلقين وترزحين والأردياء ينامون ملء الجفون. فخففي عنك وأريحي نفسك. يا بني، ولكنني سمعت تلك النفس التي كنت أتهكم عليها حينئذ بهذا القول كأنها تناديني في هدوء ذلك الليل، وتقول: يا رفيقي الحيوان في باطن هذا الإنسان، ما لك رفعت رأسك وانتبهت بعد طول رقادك؟ إنني كنت أظنك قد مت وقضي عليك. ألا فاعلم الآن أنني لا أصغي إليك أبدا. نعم، أنت تتحكم في غيري فتجعل همهم الأول في هذه الأرض الأكل والشرب واللذة، أما أنا فقد أسرتك وكبحت جماحك من زمن بعيد، وكن على ثقة من أنني سأخنقك ولو خنقت نفسي. فأنا في هذه الأرض كذلك اليهودي الذي تمنع عن حمل صليب المسيح فبات يتيه في الأرض ويمشي فيها إلى الأبد. نعم نعم، إلى الأبد إلى الأبد أنا أعمل. إلى الأبد إلى الأبد سأخدم بني جنسي. إلى الأبد سأضحي نفسي من أجل غيري، وهذه هي لذتي. تقول: إنني لا أنفع شيئا، وإن جهدي ذاهب أدراج الرياح بدليل تخريب البشر عملي مرتين، ولكن يا رفيقي الحيوان الجاهل، إنني لا أدع النملة تكون أفضل مني؛ فإنك إذا خربت بيتها مرتين أو عشرات مرات فإنها تعود إلى بنائه بصبر أشد وجلد أقوى، فدعني إذن وشأني. إنني أبذر بذور الحقيقة والفضيلة والعمل ومحبة الله والناس في أرضنا الشرقية الخصيبة، فإذا لم تنبت هذه البذور في حياتي فلا بد أن يأتي بعدي من يعتني بها ويفتقدها، وكن على ثقة من أنه ليس تحت قبة السماء قوة قادرة على منعي من بذرها. لا تقل الاضطهاد والفقر والطعن والشتم والتهمة، فإنني أبارك هذه الأمور وأضحك منها؛ لأنها تزيدني قوة، وتضاعف صبري وشوقي إلى العمل. فهي كالحطب تلقى على النار المتقدة في باطني فتزيدها اضطراما، ولست أخاف إلا من شيء وهو إجبارهم إياي على الخروج عن الحدود التي أريد التزامها.
يا بني، ومنذ تلك الليلة شعرت بقوة جديدة، وكان اليوم التالى يوم أحد، وكثيرون من أهل القرى قدموا إلى كنيسة الدير للصلاة فيها. فصعدت إلى كرسي الوعظ ووعظت عظة موضوعها: «أحبوا أعداءكم باركوا مبغضيكم» ولكن لم ينقض ذلك اليوم حتى صار الدير كله مع ما حوله من القرى في اضطراب شديد بسبب هذه العظة، وتتالت الرسل من الدير وإليه بشأنها.
ولماذا كل هذه الضوضاء يا بني، هل علمت سببها؟ سببها تهمة وفرية أخرى وهي أن الراهب ميخائيل جحد في الكنيسة لاهوت المسيح.
فيا بني، لا تصدق هذا القول القبيح. فإنني لست ساذجا إلى هذا الحد لأبحث في أمر يجب علي التسليم به، أو أنسى راحة نفوس المؤمنين، أو أعطي من نفسي حجة علي للخصوم؛ بل كن على ثقة من أنني لم أبحث بالعقل في هذه المادة، ولا أبحث فيها أبدا. فهي موضوعة عندي خارج دائرة البحث والعقل قطعيا، وهبني بحثت فيها عقليا فهل يقدر العقل أن يدرك كنهها؟ فما الفائدة إذن في البحث فيها؟ ثم هل تظن كل من يبحث في لاهوت المسيح جاحدا له؟ كلا يا بني، فإن هنالك من يقول باللاهوت ولكنه يقول بانفصاله عن الناسوت ولكل منهما مشيئة خاصة، ومنهم من يقول بروح الله وكلمته ... وغير ذلك. فهل يكفر أصحاب هذه الآراء مع اعتقادهم باللاهوت تصريحا أو تلميحا. أما أنا يا بني فإنني أكتفي من مسألة اللاهوت بالتعاليم السامية التي تتعلق بها وتدل عليها، وهذا سبب بلواي في هذه المرة. فإنني بعد الخطبة التي ذكرتها لك جاءني بعض السامعين، وقالوا: قلت أيها الأخ في خطبتك أنه يجب علينا أن نحب جميع الناس؛ لأنهم إخوتنا، ولذلك يجب أن لا نضطهد اليهود في سوريا وفلسطين، وقلت: إن تكفيرنا بعضنا بعضا من أجل معتقداتنا مخالف لروح الإنجيل الذي يقول: «لا تدينوا لكي لا تدانوا» فماذا تقول في رجل يجحد لاهوت المسيح ولكنه يعمل بوصاياه، ورجل يعتقد به ولكنه لا يعمل بوصاياه بل يعتبرها مبادئ جميلة لا تخرج عن دائرة الكتب. هل تبارك الأول أم الثاني؟ ففكرت هنيهة ثم أجبتهم: أبارك الأول والثاني يا أولادي؛ لأنني بمباركتي الأول أبارك الفعل دون القول، وبمباركتي الثاني أبارك القول دون الفعل.
16
فهذا القول وحده كان كافيا يا بني لاتهامي بجحود سيدي. فيا لظلم البشر! يا لرغبتهم في اتخاذ المعتقدات الدينية تروسا يتسترون وراءها لمحاربة من يريدون محاربته! يقولون لاهوت المسيح ويخالفون أشرف ما في اللاهوت وهو فضيلة المحبة. يقولون لاهوت المسيح ويراءون ويفترون. لاهوت المسيح ويبغضون ويشرهون. لاهوت المسيح ويظلمون ويعتدون. لاهوت المسيح ويسبون ويشتمون. فيا أيتها السماء الأورشليمية الصافية التي ظللت «الكلمة» أزمانا هل يوجد اللاهوت ليتستر وراءه كل صغار الأرض الذين لا يقدرون على الارتفاع إليك بنفوسهم الإلهية، أو الذين يرومون التسلط على الضمائر والعقول بحجة نفعها والغرض نفعهم الخصوصي، وا أسفاه يا بني هذه علتنا الكبرى وآفتنا الهائلة. نحن نتمسك بالألفاظ ونترك المعنى. نطلب القشور ولا نسأل عن اللباب. نقول لاهوت المسيح ولكن لا نعمل بوصايا المسيح التي هي أول شروط لاهوته، وهكذا لا يكون عندنا من المسيحية - وا أسفاه - إلا ظواهرها، ويكون عملنا هذا مشجعا لكل ذي فكر جامد يكتفي من الدين بالاعتقاد بهذه المادة بشفتيه وقلبه بعيد عنه وعنها بعدا شديدا.
كلا ثم كلا. إننا لا نبحث يا بني ولا نجادل قطعيا في أصل من أصول الدين ولا في فرع من فروعه. فإن الباحث بعقله في الأديان لإثبات هذا الأصل أو ذاك الفرع كالباحث على صفحات الماء، ولذلك نحن نحترم كل أصل وكل فرع احتراما مطلقا ونسلم به، ونجثو بخشوع مع باقي أجزاء الإنسانية على تراب الاتضاع والخضوع أمام المواد والأشياء التي جعلها البشر مذكرة باللانهاية. إننا لا نطفئ شمعة من الشموع الموقدة أمام الأيقونات والتماثيل ولا نرفع إكليلا من الأكاليل الموضوعة عليها. إننا نجيز القداس بالخمير والفطير معا، والعماد رشا أو تغطيسا، والصوم وعدم الصوم، والاستحالة حقيقية أو رمزية، ووحدة الرئاسة وتعددها، والعصمة وعدم العصمة، والصلاة وقوفا أو سجودا أو قعودا، والاعتراف وعدم الاعتراف، وتفسير كل واحد الكتاب المقدس بعقله أو رجوعه فيه إلى الرئاسة الدينية؛ لاعتقاده أن لها وحدها حق تفسيره
17
অজানা পৃষ্ঠা