ورأيتها نائمة فوق الحصيرة، مستغرقة في النوم، جفناها نصف مغلقين، وشفتاها نصف مفتوحتين، تتنفس من فمها أنفاسا عميقة كأنفاس الأطفال العميقة، وذراعاها متكورتان حول رأسها، ويدها اليمنى مطبقة على قرش أو تعريفة، وجلبابها الطويل انحسر عن ساقيها الناعمتين الرفيعتين حتى الركبتين، ورأسها الصغير يهتز بحركة ضئيلة غير مرئية، وفكاها الصغيران يضغط أحدهما على الآخر ضغطة هينة توحي بلذة تذوب في فمها من قطعة الحلوى مختبئة تحت لسانها.
كان الليل مظلما بغير قمر، والمصباح المشتعل منذ أول الليل احترق شريطه، أو نفد زيته، فأصبح ذؤابة ضئيلة أطفأتها نفحة هواء قوية وساخنة اندفعت فجأة من ناحية الباب، الذي لم يكن بابا، فالغرفة لم يكن لها إلا عتبة صغيرة مرتفعة بعض الشيء، لكن ذؤابة الضوء كانت قد انطفأت فأصبحت الظلمة شديدة، الأرض كالجدار كالسقف، لا شيء يظهر في السواد الداكن إلا سد كبير يسد فتحة الباب تماما فيما عدا ثقبين صغيرين مستديرين يتوسطان الرأس، وينفذ منهما ضوء أصفر تشوبه حمرة بلون جذوة النار حين تتقد.
لم يكن الشفق قد طلع بعد في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر خيوط الليل وأول خيوط النهار، فتعثرت قدمه الكبيرة الحافية في العتبة المرتفعة بعض الشيء، لكنه استعاد توازن جسده الطويل العريض، ووثب كالفهد على أطراف أصابعه المطاطية، ثم سار على مهل وحذر متخطيا شيئا يشبه البلغة.
3
وبالثقبين اللذين ينفذ منهما الضوء المشوب بالحمرة حدد مكانها فوق الحصيرة ، كعيني قط وحشي لم تستأنس حدتهما وقدرة حدقتيهما على الاتساع في الظلام، وحينما امتدت أصابعه الغليظة المفلطحة لترفع جلبابها عن فخذيها البيضاوين كانت لا تزال مستغرقة في النوم استغراق الأطفال، وقد تغير الحلم، وذابت قطعة الحلوى تحت لسانها، وبدأ البائع يطالبها بالقرش، وفتحت يديها فلم تجد قرشا، وأمسك البائع الفظ العصا وراح يجري خلفها.
كان جسدها خفيفا صغيرا يطير في الهواء كأجساد العصافير، وكان من الممكن أن تسبق البائع (لو كانت عصفورا) لكنها أحست فجأة وكما يحدث في الأحلام تماما أن جسدها أصبح ثقيلا كأنه تحجر على شكل تمثال تسمرت قدماه في الأرض، وثبتت ذراعاه بالحديد والأسمنت، والفخذان أصبحتا من الرخام، وكل فخذ شدت إلى ناحية، وتصلبت الساقان في الجو منفرجتين كالمصلوب، وضربات العصا تنهال بينهما بعنف لم تعرفه من قبل.
صرخت، لكن صوتها لم يطلع، يد كبيرة مفلطحة سدت فمها وأنفها فاختنقت، وأدركت أنها لا تحلم، وأن جسدا كبيرا له رائحة التبغ ملاصق لجسدها، كانت عيناها مغمضتين، لكنها استطاعت أن ترى ملامح الوجه، وتدرك أنها تشبه ملامح أبيها أو أخيها أو عمها أو خالها أو ابن خالها أو أي رجل آخر.
وكانت حميدة تستيقظ كل صباح ككل الأطفال ناسية أحلامها، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفور، تجري إلى أمها، وتشدو بصرخات الأطفال السعيدة حين يستقبلون اليوم الجديد بجسم نام حتى شبع، ومعدة خوت حتى تفتحت شهيتها لكل شيء، وإن كان قطعة خبز مقدد تكسر الأسنان اللبنية، أو شفطة لبن من ضرع، أو قطعة مش من قاع الزلعة.
ذلك الصباح استيقظت حميدة ككل صباح، لكن الحلم لم ينس كالأحلام السابقة، وأصابع غليظة تركت آثارا حمراء وزرقاء على ذراعيها وساقيها، وضربات العصا لا تزال تؤلمها بين فخذيها، ورائحة التبغ لا تزال عالقة بجلدها.
ظنت أمها أنها مريضة بالحمى، فربطت رأسها بمنديل وتركتها راقدة فوق الحصيرة طول اليوم، ونامت حميدة النهار والليل، واستيقظت في اليوم التالي، وظنت أنها نسيت الحلم، وأنه ضاع في الزمن وتبخر في الهواء، كأنما لم يكن، فقفزت من فوق الحصيرة قفزتها المعتادة، فيما عدا ثقل خفيف في ساقيها سرعان ما راح حين ارتدت المريلة وجرت مع الأطفال إلى المدرسة.
অজানা পৃষ্ঠা