يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد.
ويكررون الأغنية، ما إن يصلوا إلى الجملة الأخيرة حتى تأتي الجملة الأولى، وما إن تنتهي الجملة الأولى حتى تأتي الأخيرة؛ ولأنهم يدورون ويغنون بغير انقطاع، فلا يمكن للأذن أن تعرف بداية الأغنية من نهايتها، ولا يمكن للعين أن تعرف بداية حركتهم من نهايتها، فهم كعادة الأطفال يمسكون بأيديهم بعضهم البعض على شكل دائرة مغلقة.
ولكن لا بد لي أن أبدأ القصة، فكل شيء له بداية، لكن نقطة البداية في هذه القصة لا أستطيع تحديدها، فالبداية لا تبدأ بنقطة محددة؛ لأن البداية في حقيقة الأمر غير موجودة، أو أن البداية والنهاية يتصلان في خيط واحد دائري من الصعب تحديد أوله من آخره.
ومن هنا صعوبة البدء بشيء ، وعلى الأخص إذا كان قصة حقيقية أي قصة صادقة كل الصدق، دقيقة غاية الدقة، والدقة الدقيقة تقتضي من الكاتب - أو الكاتبة - أن يراعي وألا يهمل أي نقطة. إن نقطة واحدة قد تقلب كيان معنى من المعاني، وبالذات في اللغة العربية، الذكر يصبح أنثى بسبب نقطة أو شرطة، والبعل بغلا، والوعد وغدا وهكذا.
ومن هنا لا بد أن توجد نقطة محددة أبدأ بها، والنقطة المحددة هي النقطة المحددة، لا يمكن أن تكون شرطة أو دائرة، وإنما لا بد أن تكون نقطة حقيقية، أي نقطة هندسية. وبمعنى آخر لا بد من دقة علمية في العمل الفني الجيد الذي هو هذه القصة. لكن العلم يفسد الفن، وهذا الإفساد هو بالضبط ما أريده في هذه القصة لتصبح جيدة، أو لتصبح حقيقية وصادقة صدق الحياة الحية. وإنني لأصر على هذا التعبير «الحياة الحية» أكتبه بسبق إصرار وليس من قبيل الصدفة؛ لأن هناك حياتين: حياة حية وحياة ميتة، والحياة الميتة كالإنسان الذي يمشي على الأرض دون أن يعرق، أو دون أن يبول، أو دون أن ينبعث من جسده شيء فاسد. الفساد والإفساد والتفسد كلها أشياء ضرورية للحياة الحية، وللإنسان الحي. لا يمكن للإنسان الحي أن يحبس بوله في مثانته إلى الأبد، وإلا مات، حينئذ يستطيع أن يحبس فساده في الداخل ويصبح من الخارج جسدا ميتا نظيفا من الناحية العلمية، أما من الناحية الفنية فإن الفساد المحتبس بالداخل أشد تفسدا من الفساد المنطلق إلى الخارج، وهذه حقيقة أو ظاهرة طبيعية لا تخفى على أحد، فإن رائحة الجسد الميت أشد سوءا من رائحة الجسد الحي.
خيل إلي (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة) أن طفلا من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة، كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل عن الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجا بشعلة كالشهب قبل أن يحترق.
وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه. لم يكن طفلا ذكرا، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى؛ فوجوه الأطفال كوجوه العجائز لا جنس لها، وبين الطفولة والشيخوخة مرحلة يضطر فيها الإنسان إلى الإعلان عن جنسه بوضوح أكثر.
الوجه (للغربة الشديدة) لم يكن غريبا علي، كان مألوفا بدرجة أثارت دهشتي إلى حد عدم التصديق، فليس من المعقول أن يخرج الإنسان من بيته في الصباح ذاهبا إلى عمله، فإذا به يصطدم بشخص آخر، ما إن يرفع وجهه إليه حتى يرى وجهه هو، وليس أي وجه آخر.
অজানা পৃষ্ঠা