وتمسح البلولة من فوق وجهها بكفها، ثم تمسح كفها في الجدار، وترسم على الجدار الكف وخمسة أصابع آدمية، تهب عليها نسمة الليل، وتطلع عليها الشمس فتجف وتصبح بقعا سوداء بلون الدم القديم.
سقطت أشعة الشمس فوق عيني حميدو وهو نائم في وضع رأسي بجوار الجدار، فتح عينيه ورأى الكف والأصابع السوداء الممدودة، أصابعها كأصابعه والخطوط فوق كفها تشبه خطوطه، انفرجت شفتاه هاتفا: حميدة! وشد آلة القتل بفخذه، لكن رأى المفتاح الفضي اللامع يتدلى من بين أصابعها، فأدرك أنها سيدته، وأخفى الآلة في جيبه في لمح البصر، وتركها تتدلى مرتخية وراء فخذه، ووقف في مكانه منتصبا، عضلات ظهره مشدودة، وذراعه اليمنى مرفوعة، وجفناه مرتخيان متدليان فوق عينيه كالحجاب.
حين ابتعد صوت العربة رفع جفنيه، ورأى مؤخرة العربة المدببة تشق الظلمة، ثم ابتلعتها الظلمة، ترك عضلات ظهره ترتخي، وذراعه تهبط، وشعر براحة، فملأ صدره بهواء الليل، وحاول أن يتذكر وجهه وهو طفل، وشكل ملامحه حين كان يبتسم أو يضحك، فلم يتذكر شيئا، لم تكن هناك طفولة ولا ابتسامة ولا ضحكة.
سمع وقع قدميه الثقيلتين فوق الأرض، يمين، شمال، يمين، شمال، لب، دب، لب، دب، الضربات البطيئة المنتظمة، تتخللها مسافات من الصمت الأسود بلون الموت، سعل وبصق على الأرض البصاق المدمم، سقطت الخيزرانة الرفيعة على ظهره ولسعته، فأدرك أنه عار وأنه لم يمت بعد، فقد تفاؤله وبصق مرة أخرى، سمع الصوت الآمر المألوف فشد الآلة من الجراب الأسود، نظر بعين واحدة في الثقب، وحدد النقطة في منتصف المسافة بين العينين، صاح الصوت الخشن: اضرب. ضرب.
سقط الجسد الطويل المعوج، وفي منتصف جبهته البارز ثقب يجري منه خيط طويل من الدم، يخترق العينين والخدين والأنف والشفتين ويدور حول الذقن الصغيرة المستديرة كذقن الطفل.
لم يكن طفلا واحدا، وإنما آلاف الأطفال أو ملايين، أجسادهم سقطت، فوق وجه كل منهم خيط طويل من الدم يجري من العينين إلى الأنف والفم وبالعكس، والشمس سقطت فوق الأسفلت، والسماء أصبحت زرقاء صافية وظهر فيها بوضوح الآلهة المكدسون الجالسون صفوفا، ساقا فوق ساق، يدخنون النرجيلة.
مد حميدو ساقه فارتطمت بساق أخرى، مد ذراعه فارتطمت بذراع أخرى، أصبح غارقا في بحر من الأجسام الميتة، بدأ يسبح بذراعيه وساقيه في الخضم الكبير، توقف لحظة ليلتقط نفسه، وتلفت حوله ليعرف أين هو أو من الذي أتى به إلى هنا، لم يتذكر شيئا سوى أنه كان طفلا، وأن قبضة يد قوية اندفعت في ظهره، وقذفت به في البحر، رأى اليد مرسومة فوق الجدار، الكف الكبيرة ككف أبيه، والأصابع متورمة مشققة كأصابع أمه، انفرجت شفتاه وهتف: أمي! نظرت إليه أمه بعينيها السوداوين، والطرحة السوداء على رأسها وعنقها وكتفيها وبطنها.
كانت واقفة بقامتها الطويلة لا تتحرك وصدرها العالي ثابت بحذاء رأسه، وضع رأسه على صدرها، ودفن أنفه بين ثدييها، أبعدته أمه بيدها القوية، فرفع رأسه إليها، ورأى عيني أبيه الواسعتين تلمع فوق بياضهما الكبير الشعيرات الحمراء كالثعابين الرفيعة، وسمع صوته الغليظ: العار لا يغسله إلا الدم.
اقترب من أبيه، وعيناه ثابتتان في عينيه لا ترمشان، ارتجفت الشعيرات الحمراء فوق البياض الكبير (الإنسان يفزع إذا ما رأى عينا مفتوحة تنظر إليه دون أن ترمش، معنى ذلك أنها تفحصه جيدا لتراه على حقيقته).
تراجع أبوه خطوة إلى الوراء فسقط ضوء المصباح على وجهه، رفع كفه الكبيرة وأخفى وجهه، لكن الضوء كان يكشف جسده الطويل الضخم وهو واقف يسد الباب، نفخ ذؤابة الضوء فانطفأت، وأصبحت الظلمة شديدة، الأرض كالجدار كالسقف، فتعثرت قدمه الكبيرة الحافية في العتبة المرتفعة بعض الشيء، لكنه استعاد توازنه، ووثب كالفهد على أطراف أصابعه المطاطية، ثم سار على مهل وحذر متخطيا شيئا يشبه البلغة (الحذاء بلغة أهل الريف).
অজানা পৃষ্ঠা