عملت فيه يدها الصناع فزخرفته وزركشته حتى بدا كسماء التمعت فيها نجوم، وعاد ثلاثتهم إلى حيث ينتظرهم تليماك وكلمه الملك فقال: «ذاك تذكاري إليك يا ابن أوديسيوس بودي لو تقبلته، وهو كأس عجيبة من صنع فلكان، أهداها إلي البطل فيديم ملك سيدون حين حللت عليه ضيفا، هذا وأنا أدعو لك أن يكلأك جوف في رحلتك بعين الرعاية، وأن يكتب لك السلامة والتوفيق.» ثم قدم إليه الكأس العظيمة وكذاك فعل ابنه، أما هيلين فقدمت إليه الساج، وتبسمت عن فم ألذ من أقحوانة، وقالت له: «وأنا أيضا أدعو لك يا بني، وأقدم إليك سدوسا
3
من أنفس الديباج حبذا لو جعلته قنية تذخره لك أمك حتى تقدمه بدورك لعروسك ليلة زفافها إليك.» وكان لكلماتها في نفسه نشوة، فأخذ الطيلسان وناوله ابن نسطور الذي عني به ووضعه بمكانة من العربة، ثم يمموا المائدة الكبرى، وصبت الماء على أيديهم جارية ذات حسن وأناقة وظرف، وأخذوا بعد ذلك في فطورهم، بينما وقف ابن الملك يدق الكئوس ويشرب الخمر، حتى إذا فرغوا نهض تليماك ورفيقه فسلما وودعا، وركبا العربة الفخمة المثقلة بأثمن الهدايا، وتناول الملك كأسا من الخمر، وسار حتى دنا من الخيل، فصبها صلاة للآلهة من أجل الراحلين وقال: «لكما الصحة والصفاء أيها الشابان اليافعان، تحياتي إلى نسطور أخي الذي كان يرعاني كأحد أبنائه تحت أسوار طروادة.» فأجابه تليماك: «لا غرو أيها الملك، فسنقص عليه آية كرمك وعظيم سخائك، وأرجو لو وصلت إلى إيثاكا فلقيت أبي أوديسيوس ثمة؛ إذن لقصصت عليه هو الآخر ما غمرتنا به من حفاوة وكرم وعطف.» وما كاد ينتهي من كلمته حتى بدا عن يمينه نسر عظيم يحمل في مخالبه أوزة كبيرة بيضاء وقد حلق في الهواء، وجرى حوله الخدم والحشم من أهل المدينة، بيد أن النسر فاتهم جميعا، وقد زعج الملأ الواقف لتوديع تليماك، وبدأ الهلع في وجه بيزاستراتوس، فسأل الملك فقال: «ليتفضل الملك فيحدثنا عن هذه العلامة إذا كانت من أجلنا أو من أجل مولانا.» ولكن الملك لم يحر جوابا لفرط دهشه. فلما لحظت حيرته هيلين زوجته تكلمت فقالت: «أيها الملأ اسمعوا واعوا، فإني أحدثكم كما علمتني الآلهة؛ تالله إن هذه الآية، فكما غلب ذاك النسر أولئك الناس وذهب بتلك الأوزة البيضاء فهي له، فكذلك يعود أوديسيوس من تجواله وطويل ترحاله إلى إيثاكا، فيبطش بأعدائه الذين استباحوا عرضه وعشقوا زوجه، ويخلو له وجه بنلوب.» وانتفض تليماك من شدة ما أثرت فيه كلمات الملكة فقال: «ألا حبذا أن يتم هذا! اللهم يا جوف المتعال، حقق النبوءة أعبدك، واكتب لأبي السلامة أخبت لك، واكتب لي أن أعود إلى بلادي فألقاه ثمة تكن لك صلاة دائمة وذكر متصل، إله السموات.» ثم حيا الملك وألهب الجياد فانطلقت تنهب الرحب.
ولم يزالا على سفر طوال يومهما حتى بلغا قصر ديوكليس مع مغيب الشمس، فاستضافهما وباتا ليلتهما عنده، وما كادت أورورا تنضر جبين الشرق بالورد حتى هبا مسرعين، وودعا مضيفهما الكريم وواصلا رحلتهما، وكان ابن نسطور قد أخذ بأعنة الخيل فجعلها تنساب حتى لكأنها تسابق الريح. ولما بلغا أبواب بيلوس قال تليماك لصاحبه وهو يحدثه: «أنت عذيري يا أعز الأصدقاء، إذا سألتك أن تصل بي إلى السفينة من غير أن أتوجه إلى بيتكم للقاء أبيك، فقد يكبر علي أن أرفض نزله، وأستأني بذلك عنده في وقت أنا في أشد الحاجة إلى العودة إلى الوطن! على أنني سأحفظ لك في أعماقي ذكرى خالدة لا تمحى، زادتها هذه الرحلة الحزينة جمالا، وعقد أواصرها ما بين أبوينا من الود وما بيننا من اتفاق السن وصفو المودة وجميل الإخاء.» وتردد ابن نسطور أول الأمر، بيد أنه لم يستطع إلا أن يلبي رجية تليماك، فثنى أعنة الخيل إلى الشاطئ حيث كانت تنتظره الفلك فنقل فيها متاعه، ثم ودعه صديقه وعقرت القرابين باسم مينرفا، وصلى لها الجميع وسبحوا سبحا طويلا، وإنهم لكذلك إذا شاب طويل مفتول العضل يتقدم إلى تليماك فيخبره أنه قاتل آبق
4
وأنه يلوذ به، وأن اسمه تيوكلمين، وأنه يرجوه في أن يسافر معه، فهش له وبش، وأخذ سلاحه فألقاه في السفينة، وأذن له في الركوب، وجلس الرجل مع تليماك عند مؤخر السفينة، في حين كان الملاحون يهيئون القلاع وينشرون الشراع، ثم أقلعت الفلك وأرسلت مينرفا بين يديها سجسجا تدفعها في رفق وتطوي تحتها الماء في حدب، وكانت الشمس تتوارى بالحجاب، وكان الليل يلقي سدوله فوق الكون، وما هي إلا عشية حتى مرت السفينة بفيريا، ثم بإيليس، وجوف في كل ذلك يحرسها ويرعاها.
هذا ما كان من أمر تليماك الفتى. أما ما كان من أمر أوديسيوس وراعيه، فقد كانا يلتهمان في هذا الوقت طعامهما، وما كادا يفرغان من ذلك حتى أحب أوديسيوس أن يرى لنفسه إذا كان الراعي قد ضاق به ذرعا فينطلق من لدنه، أو هو كريم ذو نخوة ونجيزة فيبقى عنده، فنهض يقول: «أيها الراعي يومايوس، وأنتم أيها الأصدقاء الرعاة، اسمعوا وعوا؛ تالله إني لأخشى أن أرهقكم بضيافتي أو أثقل عليكم بلبثي عندكم طويلا، فرجائي إذا انفلق الإصباح أن يقودني أحدكم إلى المدينة لأستجدي وأتكفف، فلن أعدم فيهم من يتفضل علي ببلغة أو كسرة أو جرعة ماء ... ولسوف أيمم شطر بنلوب، وعسى أن أستطيع لقاءها لأبلغها أنباء أوديسيوس، فإذا لم أستطع فلن أعدم عملا في خدمة العشاق؛ لأني - والله المحمود - ولي من أولياء هرمز رسول السماء ونصير الضعفاء، ولن أضيق بتكسير الخشب أو إضرام الحطب أو حمل الكاس والطاس، أو القيام على الشواء ... أو ما إلى هذا وذاك من عمل الفقراء البائسين.» واهتز يومايوس إشفاقا وقال: «أيها الرجل، ماذا تقول؟ أتجازف بنفسك فتلقي بها إلى التهلكة وسط هؤلاء الناس؟ من أنت أيها الفقير حتى تحسبك تقدم الخمر لهم أو تخدمهم ولهم خدم شباب غرانيق، وندامى كالكواكب نضرة وجمالا، وحشم يلبسون أحسن الوشي وأفخر الحرير والديباج! لتبق معنا أيها الشيخ، فلن نضيق بك، وحين يعود سيدي تليماك فإنه يكسوك ويسبغ عليك، ويبعثك مكرما معززا أنى شئت.» وشاع البشر في أعطاف أوديسيوس فقال: «شكرا لك يا يومايوس ألف شكر، وجزاك الله عني أجزل الخير بما كفيتني شر السؤال وذل الاستجداء، وليس شرا منهما على نفس أبية قاست الأهوال ولا تزال تقاسي! بيد أن لي مسألة عندك بودي لو جلوتها لي: ألا يزال والد أوديسيوس حيا يرزق؟ وهل لا تزال أمه بخير؟ أو أنهما اليوم من أهل الدار الآخرة؟ لقد غادرهما أوديسيوس يوشكان أن يطرقا باب هيدز، فهل عندك من أخبارهما شيء؟» قال الراعي: «وما لي لا أصدق أيها الشيخ؟ إن ليرتيس - أبا مولاي - لا يزال على قيد الحياة؟! لكنها حياة شاقة انقضت بالموت، إنه قد فقد أحسن آماله حين فقد حامي شيبته الذائد عن شيخوخته، ولده أوديسيوس، وقد عجل له الشقاء موته، وحياته هو من بعده، فهو ما يني يبكيه، وما ينفك يساقط نفسه حسرات عليه، أما أمه فقد قضت من أسى وحزن وطول بكاء قضاء ما قضى مثله صديق ولا عدو، إنني حزين عليها يا صاح، بل أنا أفتقدها كأعز من أمي؛ لأنها نشأتني صغيرا ورعتني كبيرا، وكانت تحبني كمحبة ابنتها ستيمينا التي تزوجت أحسن زيجة في ساموس من كفء مهرها أحسن مهر وأعلاه، أبدا لا أنسى أنهم ألبسوني أحسن اللباس، وأعطوني نعلين جديدتين فرحا بزواجها، ثم أرسلوني إلى الحقل، ولكنهم لم ينقصوا من محبتي. لقد عاشت مولاتي بعد أوديسيوس معيشة شقية كلها آلام، وكنت أواسيها وأعزيها، ولكنها ما انتفعت قط بعزاء، ولا استروحت إلى سلوة حتى ماتت، وها أنا ذا أبكيها كلما ذكرتها وقل أن أنساها، على أني أحمد السماء على ما أولتني من خير، وأسبغت علي من نعم، هي حسبي الضيف الذي يغشاني، على أني أعذر مولاتي وسيدتي بنلوب، إذ لم أر منها عطفا علي؛ لأنها في شغل بحالها وسط هؤلاء الأوغاد المعاميد، وهي بالرغم من ذلك تولي خدمها المقربين منها نصائح غالية تنفعنا جميعا ، ثم هي لا تنسى أن تنفح الكثيرين منهم ما يفرحون به من آلاء وأعطيات غير ما يأكلون وما يشربون.» وكأنما أراد أوديسيوس أن يتهكم عليه ويسخر به، فسأله عن بلده ووالديه، وعن القوم الذين أخذوه عنوة، وفي أي سفينة جاءوا به، وبكم باعوه لأهل أوديسيوس، فقال الرجل: «أيها الصديق، أعرني أذنيك وارشف خمرك أقص عليك قصتي؛ فالليل طويل وفي جنحه يحلو السمر، وليس أشهى من أن يروي ذو أشجان، وأنتم أيها الإخوان من كان منكم في حاجة إلى النوم ليصحو مبكرا فليذهب ولينعم بالكرى، ثم أحسبك سمعت أو عرفت جزيرة سيريا التي عند أورتيجيا، إنها جزيرة صغيرة، لكنها غنية بأغنامها وماشيتها وقمحها وأعنابها، كما اشتهرت بهوائها العليل ومناخها الجميل وصفوها وطيب رباها ... لذلك لا تعرف أبدان أصحابها الأوصاب، بل يعمرون حتى يأتيهم أبوللو
5
فيصميهم بسهامه، وتعجل أرواحهم إلى هيدز، ويقتسم أرض الجزيرة أهل مدينتين عظيمتين كانتا تخضعان لسيطرة أبي الزعيم العظيم ستزيوس أورميند، وحدث أن أرسلت في شاطئنا سفينة فينيقية محملة بالطرف والتحف وبلعب الأطفال من صناعة الفينيقيين، وحدث أن كانت في بيت أبي جارية قسيمة وسيمة ذات حسن وذات دلال كانت تقف على سيف البحر لبعض شئون المنزل، فرآها بعض ملاحي المركب واستطاع أن يخدعها بكلام معسول ذي طنين وذي رنين، ثم سألها من هي، ومن أي البلاد أقبلت إلى هذه الجزيرة، وكان الخبيث يمزج ألفاظه بنظرات الأبالسة، وغمزات الشياطين وابتسامات الغزل؛ فانقادت له ضعيفة كبني جنسها إذا نصبت لهن شراك الهوى وجذبتهن أحابيل الغرام، وقد أخبرته الغادة أنها من سيدون المشهورة بصناعة الصلب والنحاس، وأن أباها أربياس الفلاح، وأن بعض القرصان قد اختطفها حين كانت عائدة أدراجها من حقله، وباعها لصاحب تلك الجزيرة بأبخس الأثمان، وقد أغراها الملاح بالعودة معه إلى بلدها على فلكه، وبالفرار من حياة الرق والعبودية للقاء الأهل والأحباب والأبوين الثريين اللذين كان لا يزالان حيين يرزقان، فاستحلفته المسكينة إذا كان جادا فيما قال، فحلف لها، واستقسمته إذا كان أمينا غير ذي غرض أو لبانة ، فأقسم لها، ثم تعاهدا على ذلك وقالت له: «والآن فلا يذكر أحد من أمري معكم شيئا لأي من أهل المدينة، حتى لا يفشو السر ويعلم به صاحبي، فيكون في ذلك وبالي ووبالكم وهلاكي وهلاككم، بل امضوا في بيع بضاعتكم وشراء ما يلزمكم، ثم إذا عزمتم أن تفعلوا فابعثوا أحدكم إلي بقصر صاحب الجزيرة فإني مرضع ابنه وهو الآن يحبو بل يدرج، وإني محضرته معي فإنه سينفعكم، بل تستطيعون بيعه في أحد البلاد ببعض المال، وسأحضر معه كل ما تستطيع يدي أن تحمل من آنية وأكواب من خالص الذهب وغالي الفضة، مما يخف حمله ويغلو ثمنه.» وعادت البائسة إلى قصر أبي. ولبث الملاحون عامهم كله في مرفئنا يبيعون ويشترون، حتى إذا حال الحول أو كاد حضر واحد منهم إلى بيتنا يبيع بنيقة
6
অজানা পৃষ্ঠা