مقدمة
العصر العباسي الأول
1 - لمحة تاريخية
2 - الشعراء المولدون1
3 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثاني
4 - لمحة تاريخية
5 - الشعراء المولدون
6 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثالث
7 - لمحة تاريخية
8 - الشعراء المولدون
9 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الرابع
10 - لمحة تاريخية
11 - الشعراء المولدون
12 - الكتاب المولدون
مقدمة
العصر العباسي الأول
1 - لمحة تاريخية
2 - الشعراء المولدون1
3 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثاني
4 - لمحة تاريخية
5 - الشعراء المولدون
6 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الثالث
7 - لمحة تاريخية
8 - الشعراء المولدون
9 - الكتاب المولدون
العصر العباسي الرابع
10 - لمحة تاريخية
11 - الشعراء المولدون
12 - الكتاب المولدون
أدباء العرب في الأعصر العباسية
أدباء العرب في الأعصر العباسية
حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم
تأليف
بطرس البستاني
مقدمة
هذا الكتاب الثاني من «أدباء العرب» يشتمل على خصائص آداب العباسيين وعلومهم، وميزات شعرائهم وكتابهم، مع استفاضة في النقد والتحليل؛ لأن هذا العصر - عصر حضارة العرب - لما يتح له بعد بحث شامل يجلو حقائقه، ويكشف عن كنوزه.
واضطرارنا إلى الإمعان في البحث جعلنا نجتزئ بطائفة معدودة من الشعراء والكتاب، وهم - وإن كانوا فحول الشعر والنثر - لا يستقرون في المنزلة العليا وحدهم، بل يشركهم فيها جماعة آخرون لم نجد بدا من إغفالهم.
ورأينا ألا نخلط الأدب الأندلسي بالأدب الشرقي، فعل من تقدمنا من مؤرخي الآداب؛ لأن العوامل التي أثرت فيه غير العوامل التي أثرت في ذاك، وأن له ميزات خاصة تجعله مستقلا منفصلا عن أدب العباسيين؛ فآثرنا أن نرجئه إلى الكتاب الثالث ونخصه ببحث منفرد، ونضم إليه عصر الانبعاث، وكلاهما يفتقر إلى درس صحيح؛ لأنهما لا يزالان في عزلة تامة عن أقلام النقاد. وأما عصر الانحطاط فسنلم به إلماما، ونبين ميزته السياسية والأدبية؛ ليطرد لنا الحديث إلى عصر الانبعاث، والله ولي التوفيق.
بطرس البستاني
العصر العباسي الأول
750-846م/132-232ه
يبتدئ بقيام الدولة العباسية، وينتهي بخلافة المتوكل على الله.
الفصل الأول
لمحة تاريخية
أسباب سقوط الأمويين (1) الأحزاب السياسية
عرفنا في كلامنا على صدر الإسلام أن الدولة الأموية قامت على كره من الأنصار ومن القرشيين أنسبائها؛ فناوءوها جميعا، وخصوصا بعد أن نبذت الشورى في الخلافة، وجعلتها ملكا عضوضا.
ثم نشأت الأحزاب السياسية، فكانت بعض الأسباب القوية التي أودت بملك بني أمية فتركته أثرا بعد عين؛ فإن قيام الزبيريين في الحجاز، والخوارج في الجزيرة، والشيعيين في العراق، فت في ساعد الأمويين، وجعل مملكتهم دريئة للثورات والدسائس، حتى إذا تبين الضعف عليها طمع فيها الخصوم، فقاموا يكيدون لها في السر والعلانية.
ولم يكن زوال الحزب الزبيري ليرد الراحة على بني أمية، والشيعيون والخوارج أيقاظ لا تنام لهم عين، والشعوبية يدسون للعرش، ويتحينون الفرص لدكه من أساسه. (2) الشعوبية
حمل الفتح الإسلامي للعرب شعوبا كثيرة دانت لهم فبسطوا سلطانهم عليها، وأثقلوا كواهلها جزية وخراجا، واستاقوا منها الأسرى والسبايا؛ فاستعبدوهم وأذلوهم، ثم أطلقوا على من أعتق منهم لقب الموالي.
1
على أن هذه الشعوب الموتورة لم تكن لتنام على الضيم طويلا، وفيها أمم عريقة في حضارتها، عادية في استقلالها، تأبى الخنوع لقوم غزاة خرجوا من صدر البادية حفاة عراة، فكسحوا الشرق والغرب بسنابك خيولهم، وأفادوا من فتوحاتهم مالا وافرا؛ فأيسروا بعد فقر، وأترفوا بعد شظف وخشونة.
فأسلم كثير من هذه الشعوب المغلوبة رجاء أن يجدوا في إسلامهم نصفا ومساواة، ولكن العرب الفاتحين أسكرتهم نشوة النصر، وأخذتهم عزة السلطان بعد أن أخضعوا مملكة فارس، واقتطعوا جزءا كبيرا من بلاد الروم، فباتوا ينظرون إلى كل عجمي نظرة ازدراء واحتقار، وحق لهم أن يعتزوا ببطشهم؛ فقد كان العالم يومئذ مشطورا بين كسرى وقيصر، فجمعوا إليهم شطريه؛ فزلزل الإيوان، وتقلص ظل الروم.
فلذلك لم يجد الذين أسلموا من الأعاجم ما كانوا يرجون من كرامة وإنصاف، مع أن فيهم من حسن إسلامهم، وفيهم من أتقنوا اللغة العربية وبرعوا فيها فخرج منهم الكتاب والشعراء، وتبحروا في العلوم الدينية فكان منهم الفقهاء والمحدثون، وتولى بعضهم الخطط العالية كالقضاء والحجابة،
2
فأمضهم أن يهونوا على العربي، فيأنف أن يزوجهم بناته، وهو لا يتورع من التسري والاستمتاع بنسائهم، وساءهم أن يروا من خلفاء بني أمية إيثارا للعرب، وتعصبا على العجم؛ فقد كان المولى يساق إلى الحرب ماشيا، لا يعطى غنيمة ولا فيئا، فلا غرو أن يتولد في نفسه كره شديد للعربي ، ويتمنى زوال ملكه، ويكيد للعرش الأموي تخلصا من جوره واستبداده.
فمن هنا نشأ حزب الشعوبية يضم إليه أبناء الأمم المقهورة، متحدين على بغض العرب والتنقص منهم، وذكر مثالبهم، وتفضيل العجم عليهم، ولكنهم كانوا ضعافا في شباب الدولة الأموية؛ فلم يرتفع لهم صوت حتى آنسوا الضعف في جسمها، والانحلال في أعضائها؛ فعضدوا العباسيين على أمل أن يكونوا لهم خيرا من الأمويين وأبقى. (3) ترف الأمويين وإهمالهم
كان العهد الأموي عهد ثورات وحروب، فلم يبت خلفاؤه ليلة إلا على عصيان يتأهبون لقمعه، أو على مكيدة يحاولون ردها، وكان لهم في بدء أمرهم من القوة والسلطان ما مكنهم من نحور أعدائهم، ولكن لم يلبثوا أن تسلل الضعف إليهم؛ لتفاقم الثورات من جهة، ثم لانغماسهم في الترف من جهة أخرى؛ فإنهم انصرفوا إلى اللهو والخمر والمجون، وأصبحوا لا يهتمون بتأييد سلطانهم، ولا يعنون بانتقاء عمالهم؛ فإن هشام بن عبد الملك ولى نصر بن سيار أعمال خراسان، وهو يعلم أن عصبيته فيها ضعيفة، وأن خراسان لا يضطلع بأمرها إلا من كان قوي العشيرة؛ فكانت ولايته عليها شؤما ووبالا، فقد اجتمعت عليه أفناء اليمن وربيعة، وحاربته لانحيازه إلى المضرية.
وربما ولي العامل عملا بإشارة جارية، أو مكافأة على هدية، فعل هشام بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى لامرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشاما؛ فأهدى إليه الجنيد قلادة أخرى فولاه هشام خراسان.
ورأى العمال من الخلفاء غفلة وإهمالا، فأصبحوا لا هم لهم إلا حشد الأموال، والاستكثار من الصنائع
3
والموالي، ورأى الناس الانحلال يدب في هيكل الدولة؛ فأخذوا يشقون عليها عصا الطاعة، وهم إنما كانوا خاضعين كرها لا رغبة. (4) شقاق البيت المالك
قيل لبعض الأمويين: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: «اختلاف فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا.» ومن يتتبع الحوادث التي تقدمت سقوط بني أمية يتبين له صحة هذا القول؛ فإن الأحزاب السياسية على اختلافها في المذاهب والعقائد كانت تسعى جميعا لقلب العرش الأموي، فاجتمع على ذلك الخارجي والزبيري والعلوي والعباسي والشعوبي ، فشرع كل واحد منهم يرمي إلى هدفه من الناحية التي ينتمي إليها، فتكاثر وقع السهام على هيكل الدولة، حتى انهد بناؤه فانهار انهيارا.
وساعد أعداء الأمويين على نيل مأربهم انشقاق أمية على نفسها، فإن أمراءها أخذ بعضهم يكيد لبعض، فأضعفوا شأنهم وأطمعوا الناس فيهم، ويعود سبب هذا الانشقاق إلى نظام ولاية العهد؛ فإنه كان يثير الضغائن بين الأخ وأخيه، فضلا عن القريب وقريبه، وحسبنا أن نلقي نظرة عجلى على طلاب ولاية العهد في صدر الإسلام وفي العصر العباسي؛ لنعلم مبلغ ما جرت من الويلات على الخلفاء وأبنائهم.
وفساد النظام في ولاية العهد قائم على تعددها، فإن الخليفة كان يعقد الولاية في حياته لاثنين أو ثلاثة من أولاده، أو لولده وأخيه، فإذا استخلف ولي العهد الأول استبد بالأمر، وحاول خلع الثاني لينقل الولاية إلى بنيه؛ فهشام بن عبد الملك لم يشنع على ابن أخيه الوليد بن يزيد، ويرمه بالكفر والفسوق، وينفر الناس عنه إلا لأن ولاية العهد كانت له، وهشام يريدها لابنه من بعده.
ومات هشام ولم يستطع خلع الوليد، ولكنه استطاع أن يسيء إلى سمعته، فجعله في عيون الناس كافرا زنديقا لا يشبع من الخمر والفسق والمجون.
ولسنا نحاول أن ندفع هذه التهمة عن الوليد؛ فإنه لم يكن بريئا من التهتك والشك، ولكننا نعتقد أنه لم يكن شر بني قومه، ولولا ولاية العهد واضطهاد هشام له، ثم انتقامه من ابني هشام بضربه أحدهما وحبسه الآخر؛ لما كره الناس حكمه وثاروا به وقتلوه، ولكن السياسة صورته لهم جبارا عنيدا، يمزق القرآن، ويستهتر بالفجور، ويغتسل بالخمر، وصورت ابني هشام ضحيتين بريئتين، يطغى عليهما الفاسق بالحبس والتعذيب.
وليس من غرضنا أن نتبسط في الكلام على الوليد وقتله، وإنما نريد أن نظهر ما جر نظام ولاية العهد من النكبات على بني أمية؛ فإنه رمى بينهم الشقاق فتفرقت كلمتهم، وكان مقتل الوليد شؤما عليهم، وسببا قويا لسقوطهم؛ لأن الناس طمعوا فيهم واجترأوا عليهم، فأخذوا يثيرون بعضهم على بعض ليزيدوهم ضغينة واختلافا، فلم يقم خليفة بعد الوليد إلا خرج عليه بعض أبناء عمه، وحاربوه ونازعوه الإمامة؛ فأصبحت البلاد في أواخر العصر الأموي ميدانا للحروب والثورات.
فيتضح مما تقدم أن عدة أسباب تواطأت على إضعاف سلطان أمية؛ فمن إمعان في اللهو والترف، إلى غفلة وإهمال في أولي الأمر، إلى شقاق واختلاف في الأسرة الأموية، إلى اتفاق الأحزاب المختلفة على إزالة هذا الملك الضخم؛ فالخوارج يرون أن الحكم لله لا للناس، والشعوبية يطلبون الخلاص من بني أمية لعل في تغير السلطان راحة لهم وفرجا، والعلويون يبثون الدعوة لأنفسهم، والعباسيون يسايرونهم في بثها ليستغلوها منهم بعد حين.
وقد رأيت أن قول الأموي في زوال ملكهم - اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا - يكاد يختصر أسباب الضعف كلها في البيت المالك. (5) الدعوة العلوية
ذكرنا في الكتاب الأول أن الحسن بن علي نزل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ نفورا من الحرب، وابتغاء لحقن الدماء، غير أن هذا النزول لم يرق الشيعة العلوية فقابلته بالسخط، ولكن لم يكن لها قبل بمعاوية، فصبرت كارهة على أمل أن يعود الأمر من بعده إلى أهل البيت، وشد ما كانت خيبتها لما أوصى معاوية بالملك إلى ابنه يزيد، جاعلا الخلافة وراثة بعد أن كانت شورى.
وما استخلف يزيد حتى نشط العلويون في الكوفة وبايعوا الحسين بن علي، فحاربه يزيد وقتل في كربلاء، فاستفظع الناس مقتل ابن بنت الرسول، ونشأ على إثره الحزب الزبيري يريد نزع السلطان من يد الأمويين، وازداد الشيعيون حماسة وتعصبا لعلي وأبنائه، ونقمة على بني أمية، ولكنهم انقسموا فرقا؛ فبايعت الشيعة الكيسانية
4
محمد بن الحنفية
5
وجعلته إمامها، ثم توفي محمد بن الحنفية، فانتقلت الإمامة إلى ابنه عبد الله أبي هاشم وكان عالما جليلا، فوفد يوما على سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، فرأى منه سليمان فصاحة وقوة وعلما وعقلا فخافه؛ لعلمه بطمعه في الخلافة، فأرسل إليه من يدس له السم في أثناء رجوعه إلى المدينة، فلما شعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق عرج على الحميمة،
6
وفيها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس،
7
فنزل عنده وأوصى إليه بالخلافة من بعده؛ خوفا من أن تضيع البيعة وهو بعيد عن أهله.
فلما مات أبو هاشم هب محمد بن علي ينشر دعوته، واثقا بالنجاح لاكتسابه الشيعة الكيسانية، ولكن المنية عجلت عليه، فأوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام، فأرسل إبراهيم دعاته إلى خراسان؛ لأن الفرس أشد الشعوبيين نقمة على بني أمية، ولأن أكثر الشيعة الكيسانية في خراسان والعراق.
وكان الحزب الأعظم من الشيعة يناصر عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي؛ فتخوف العباسيون منه وحسبوا له حسابا، فرأوا أن يعقدوا مؤتمرا يجمع بني هاشم علويهم وعباسيهم؛ للاتفاق على من يخلف الأمويين من أهل البيت، فعقد المؤتمر في مكة، وحضره من العباسيين أخوا إبراهيم الإمام: أبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، وغيرهما، وحضره من العلويين عبد الله بن الحسن وولداه محمد وإبراهيم وغيرهم، فتشاوروا في الأمر فتشبث العلويون بحقهم في الإمامة، فلم يجد العباسيون بدا من مسايرتهم إلى أن تتهيأ لهم الأسباب فيستقلوا بالأمر دونهم، فوافقوهم على مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب ب «النفس الزكية».
ويرجح أن هذه البيعة جرت سرا؛ لأن العباسيين أنكروها بعد أن قوي ساعدهم، وحاول محمد بن عبد الله إعلانها فلم يصدقه أحد إلا الذين عرفوا دخيلة الأمر، وعددهم قليل.
وجملة القول أن الدعوة العلوية كانت ضعيفة ضئيلة بالنسبة إلى الدعوة العباسية، وتعود أسباب هذا الضعف إلى انقسام الشيعة وتعدد فرقهم، ثم إلى مبايعة أبي هاشم لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والتفاف الشيعة الكيسانية عليه وعلى ابنه إبراهيم الإمام من بعده. ثم إلى مبايعة بعض العباسيين لمحمد بن عبد الله بن الحسن؛ فإن العلويين غرتهم هذه الظاهرة من أبناء عمهم فركنوا إليهم، ومن أسباب الضعف أن العلويين بالغوا في الخروج على بني أمية، فكثر فيهم التقتيل؛ فقلوا فضعفوا. أما العباسيون فلم يعمدوا إلى العصيان، ولم يقتل واحد منهم إلا بعد أن أظهروا دعوتهم، فكثروا وقووا. (6) الدعوة العباسية
ابتدأت الدعوة العباسية بالظهور سنة «100ه/718م» في خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بعد أن أخذ الوصاية من أبي هاشم أنشأ يؤلف الجماعات السرية، فاختار اثني عشر نقيبا لبث الدعوة، وجعل تحت أيديهم سبعين رجلا يأتمرون أمرهم، وأوصاهم أن يولوا وجوههم شطر خراسان؛ لأنها أصلح من غيرها لنشر الدعوة، ومما قاله في كتابه لهم: عليكم بخراسان؛ فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.
8
وقد أحسن محمد باختيار خراسان؛ لأن الأمصار العربية كانت تشغلها الأحزاب، وكل حزب يسعى لنفسه. أما خراسان فإن الفرس فيها يكرهون العرب وبني أمية، ولكنهم لا يطمعون في الخلافة، وهم شيعيون في كثرتهم، ولكنهم لا ينفرون من بني العباس؛ لأنهم هاشميون من أهل البيت.
فراح دعاة العباسيين يتنقلون في الأمصار الإسلامية، ويبثون الدعوة سرا متظاهرين بالتجارة وطلب الرزق، وبقوا على هذه الحال حتى توفي محمد بن علي، وصار الأمر إلى ولده إبراهيم الإمام، فكاتب إبراهيم مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، ثم أرسل أبا مسلم الخراساني،
9
وكان كثير الدهاء، شجاعا مقداما، شديد الإخلاص للعباسيين، فجاء خراسان سنة «129ه/746م»، وأقام في مرو يدعو الناس إلى مبايعة آل محمد من غير تعيين؛ لتكون الدعوة مبهمة مشتركة بين العباسيين والعلويين، وقد لجأ إلى هذه الحيلة ليأمن معارضة الشيعيين في بلاد فارس، فتبعه خلق كثير.
وكان على خراسان نصر بن سيار من قبل الأمويين فخاف عاقبة الأمر، فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد يخبره بحال أبي مسلم وكثرة من معه، وفي ذلك يقول:
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب: ليت شعري!
أأيقاظ أمية أم نيام؟
10
فتخاذل مروان عن إنجاد نصر وكتب إليه يقول: إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك.
واشتدت شوكة أبي مسلم فهرب نصر بن سيار، فقصد العراق فمات في الطريق.
وكان مروان قد تنبه في تلك الأثناء من غفلته، فأرسل إلى الحميمة بعثا واعتقل إبراهيم الإمام، فلما قبض عليه أوصى بالخلافة إلى أخيه أبي العباس السفاح، وأمر أهله وأنصاره بالمسير إلى الكوفة؛ لأن فيها أنصاره من الشيعة الكيسانية.
وحبس إبراهيم في حران
11
حتى مات، واختلف في سبب موته؛ فزعم بعضهم أنه سقي سما، وقال آخرون: بل هدم عليه بيت فمات.
فلما علم أبو مسلم بموته دعا أهل خراسان إلى مبايعة أبي العباس السفاح فأجابوه، ثم سير العساكر لقتال مروان، وكان السفاح قد ذهب بأهله وأنصاره إلى الكوفة، فأظهر دعوته هناك فبايعه أهلها في «12 ربيع الثاني سنة 132ه/28 تشرين الثاني سنة 749م».
وتجهزت العساكر الخراسانية وغيرها من جهة السفاح لقتال مروان، ومقدمها عبد الله بن علي عم السفاح، وتقدم مروان بجيشه إلى الزاب الأعلى؛
12
فالتقته جيوش العباسيين وقاتلته فاندحر مكسورا، واشتفت نفوس الفرس من العرب في ذاك اليوم بعد أن قهرها وأذلها يوم القادسية.
وتعقب جيش السفاح مروان في هزيمته، حتى أدركه في مصر صالح أخو عبد الله بن علي، فقتله واحتز رأسه، وأرسله إلى السفاح.
وبايع أهل مصر العباسيين فاستتب لهم الأمر، وزالت الخلافة الأموية من الشرق بعد مقتل مروان. (7) ميزة العصر
فقد رأيت أن الفضل في بنيان العرش العباسي للفرس عموما، ولأبي مسلم خصوصا؛ فلا غرو أن تصطبغ المملكة العباسية باللون الفارسي، ويكون للفرس صوت بعيد فيها، فيستأثروا بالخطط العالية، ويتولوا شئون الدولة، ويديروا سياستها، ويتمتعوا بجميع الحقوق التي كان العرب يتمتعون بها دونهم؛ فقد أعادت لهم موقعة الزاب سابق عزهم، فغلب عنصرهم على العنصر العربي، وطبعوا العصر العباسي الأول بطابعهم الخاص.
على أننا لا نرى إطلاق الكلام دون احتياط؛ فإن بني العباس في عصرهم الأول كانوا أصحاب حزم وقوة وتدبير، وقد علموا أن الفرس أهل سيادة وبطش، ورأوا منهم إخلاصا ومناصرة؛ فقربوهم وقلدوهم أعمال الدولة، ولكنهم لم يحجموا عن الفتك بكل من يخشى شره منهم، فأبو جعفر المنصور قتل أبا مسلم الخراساني لما داخلته الريبة في إخلاصه، مع أن أبا مسلم هو الذي حمل أعباء الدعوة العباسية على عاتقه، والرشيد نكب البرامكة
13
على بكرة أبيهم؛ لما استفحل أمرهم وقويت شوكتهم، وأحس منهم خطرا على سلطانه.
فخلفاء هذا العصر كانوا شديدي الحرص على ملكهم، يستحلون كل شيء في سبيل تأييده، فقد تجدهم أعدل خلق الله وأعظمه تسامحا، ثم تجدهم أكثره جورا وتشددا، وهذه الصفات - على تناقضها - تجتمع فيهم محافظة على العرش، وذودا عن حياضه، فإذا نظرت إلى تساهلهم الديني، وإطلاقهم حرية الفكر؛ فلا ينبغي أن تغفل عما كان يعانيه الأفراد والجماعات من ضغط وتنكيل، فالحرية عندهم مكفولة ما دامت بعيدة من سياسة الأحزاب، والتساهل عندهم مباح ما دام لا يؤثر في الملك.
ويجمل بنا أن نوضح هذه المسألة فنقول: إن الشعب العباسي لم يكن عربيا خالصا بل خليط شعوب متعددة؛ فإن المنصور لما بنى بغداد
14
سنة «145ه/762م» وجعلها مقر الخلافة، جمع بين العرب والفرس وأمم أخرى عجمية كانت تسكن العراق، وتدين بالنصرانية وغير النصرانية، ورأى الخلفاء أن العناصر التي تدين بغير الإسلام لم تبرح قوية، وأن عددا غير قليل من الفرس المسلمين لم يكن لهم نصيب وافر من الإيمان؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولتأثير الدين القديم في نفوسهم، فقضت عليهم مصلحة الدولة بإطلاق حرية الدين؛ فأطلقوها محافظة على الأمن، واسترضاء للعناصر الغريبة.
وكان أكثر هذه الشعوب التي اختلطت بالعرب على جانب عظيم من العلم والحضارة، فرأى الخلفاء أن يستغلوا معارفهم، ويستفيدوا منها؛ فأطلقوا لهم حرية الفكر والقلم؛ فأكبوا على النقل والتأليف، وأتحفوا العربية بكنوز ثمينة كانت العون الأكبر في نهضة العلوم والآداب.
ولئن أفادت حرية الدين والفكر من ناحية لقد أضرت من ناحية أخرى؛ فإنها نشرت الخلاعة والسكر والمجون، وولدت البدع في الإسلام، وأورثت الهزء بالأديان؛ فكثر الشك وكثرت الزندقة.
وأما الحرية السياسية فإن الخلفاء رأوا من الحزم أن يخنقوها؛ لئلا يعرضوا ملكهم للثورات والفتن، فأصبح لا يجرؤ امرؤ على الجهر برأيه ومذهبه إلا ألقى بنفسه إلى التهلكة، وكثرت الجواسيس والوشايات، وكثر الحبس والاغتيال؛ فرب وزير استمتع في يومه بعطف الخليفة وثقته فإذا هو في غده مرذول أو مقتول، ورب شاعر كانت منه فلتة فلاقى في جزائها حبسا أو ضربا أو قتلا إن لم يعاقب بها جميعا.
وحسبك أن تنظر إلى فتك الخلفاء بالوزراء والقواد والعمال وسواهم، وفتك هؤلاء بمن دونهم؛ لتتبين ما كان في هذا العصر من عسف واضطهاد ووشايات ودسائس.
وجماع القول أن العصر العباسي الأول يمتاز بالنفوذ الفارسي، وحرية الفكر، والتساهل الديني، ولكن ينبغي أن نضع دون هذه الميزات مصلحة المملكة؛ فعندها يقف كل نفوذ، وكل حرية وتساهل.
هوامش
الفصل الثاني
الشعراء المولدون1
العصر الأول (1) ميزة الشعر
لم يكن انتقال الشعر من البداوة إلى الحضارة مرهونا بانتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، بل أخذ الشعر يتحضر في صدر الإسلام على أثر الفتوح الكثيرة، وملابسة العرب للأعاجم، وانتقال الخلافة إلى دمشق، وفيها القصور والجنائن والأنهار، وفيها أثر كبير من حضارة البيزنطيين، ولكن العصر الأموي كان عصر حروب وفتن، فلم يهدأ هادئه، ولم يطل عهده، فيبلغ أهلوه غايتهم من الترف والعمران، أضف إلى ذلك أن خلفاء بني أمية كانوا على تحضرهم ينزعون إلى الحياة البدوية، ويؤثرون العرب الخلص على غيرهم من الشعوب، ويرتاحون إلى أساليب الجاهليين وطرقهم، فما أتيح للشعر أن يبلغ الطور الذي بلغه بعد أن أديل العباسيون من الأمويين، وبنيت بغداد وجعلت عاصمة الخلافة، واشتد اختلاط العرب بالأعاجم، وساد النفوذ الفارسي، وامتلأت خزائن الدولة بما أفاء الله على المسلمين من أموال الفرس والروم، فانهل من فيضها على الناس؛ فوفرت لهم أسباب الرزق، فانبسطت حياتهم فأترفوا وأمعنوا في الترف.
وكان للشعراء القسط الأوفر من هذا العيش الخضيل، فإن الخلفاء بعد أن استتب لهم الأمر، ودانت لهم الأعداء، وخضدوا شوكة الأحزاب، انصرفوا إلى الحياة يتذوقون نعيمها، والشعر من نعيم الحياة؛ فقربوا الشعراء وجعلوهم ندماءهم ، فأيسر الشعراء واتسعت ذات يدهم، فرفهوا وأسرفوا في اللذة؛ فرقت طباعهم، ولانت نفوسهم ، ورق شعرهم، ولانت ألفاظه، وقل استعمال الغريب فيه، والشعر مرآة النفس؛ فإذا كانت النفس قاسية خشنة خرجت الألفاظ وحشية صلبة، وإذا كانت لطيفة ناعمة خرجت الألفاظ سهلة لينة.
ولم يكن للشعراء الموالي حظ في صدر الإسلام، فلم يرتفع شأنهم، ولم يكثر عددهم. وأما في هذا العصر فقد تكاثروا ونموا، واشتد خطرهم ونبغت منهم طائفة تقلدت زعامة الشعر، واعترف لهم الشعراء.
وقد علمنا أنهم يكرهون العرب؛ فأنفوا أن يتشبهوا بهم ويقلدوهم في أساليبهم، وكان لهم من حضارتهم ومن عنصرهم العجمي ما يبعدهم من وحشي اللفظ وبدوي المعنى، فكان لهم الفضل في تجدد الألفاظ، وفي تجدد المعاني. (2) التجدد اللفظي
فأما التجدد اللفظي فلم يقتصر على تسهيل الألفاظ وتليينها، بل تعداهما إلى تزيينها وتنميقها، فقد عني الشاعر العباسي بتوشيتها كما عني بتوشية ثوبه وداره وماعونه؛ فأكثر من الاستعارات والتشابيه والتزمها التزاما. وافتن في أنواع البديع وتعمده تعمدا، وأول من تكلفه وخرج به عن عفو الخاطر بشار بن برد، فمسلم بن الوليد، فأبو نواس، فأبو تمام.
والحياة العباسية كانت تدعو إلى هذا الوشي والتنميق من جميع نواحيها، فمن انغماس في الرخاء والترف إلى تخلق بأخلاق فارسية يلائمها الافتنان والتصنع لبعدها من السذاجة والفطرة.
ودخل على لغة الشعر ألفاظ غريبة دعت إليها الحاجة، كالألفاظ العلمية والفلسفية وغيرها؛ مما يدل على أشياء حديثة العهد عند العرب، ودخل عليها أيضا ألفاظ استعيرت من صلب اللغة لمعان مستحدثة خلقتها الحضارة الجديدة.
وأما أوزان الشعر وقوافيه فلم تتجدد تجددا يذكر، ولكن الشعراء أخذوا يعنون بالنظم على الأوزان الرشيقة التي تصلح للغناء، وأكثر ما كانوا يصطنعونها في الغزل والمجون والخمريات.
وأصبحوا يتحامون أو يتحامى أكثرهم ما كان يستهدف إليه الأقدمون من إشباع
2
وخرم
3
وإقواء
4
وإكفاء،
5
وغير ذلك من عيوب الوزن والقافية.
وعلى الجملة فإن التجدد اللفظي ظهر ظهورا جليا في شعر العباسيين، ولم يكن دونه التجدد المعنوي. (3) التجدد المعنوي
كان من أثر اختلاط العرب بالأعاجم في السكنى والزواج أن نشأ جيل عباسي له ثقافة وتفكير جديد، وله حضارة فارسية تميل به عن بداوة الأعراب؛ لذلك أخذ الشعراء يبتعدون عن المواضيع الجاهلية إلى معان طريفة يستمدونها من روح العصر ومشاهد البيئة، وقد تصرفوا في هذه المعاني تصرفا لم يبلغه المتقدمون، وأبدعوا في التوليد
6
والاختراع.
واتسع عليهم باب الخيال لاتساع سبل اللهو ووسائل العمران، فمن قصور شواهق وحدائق نواضر إلى نهور دوافق وسفائن مواخر، فأصبحوا إذا عمدوا إلى التشبيه استمدوا أكثره من البساتين والحلى والرياش والطيوب، فذاع عندهم تشبيه الخد بالتفاح والورد والياسمين، والبنان بالعناب، والعيون بالنرجس، والخمر بالياقوت والذهب، والكأس باللؤلؤ، وقوس السحاب بأذيال مصبغة، والهلال بين الغيوم بزورق من فضة عليه حمولة من عنبر، وغير ذلك من ألوان الحضارة الجديدة.
على أن هذا الخيال كان يرافقه العقل، فما يدعه ينطلق على هواه، كما كان ينطلق خيال الشاعر الجاهلي والإسلامي، بل عني بتهذيبه وتنظيمه؛ فنشأ عن ذلك اتساق في الأفكار، فأصبح الشاعر إذا تغزل وأراد الانتقال إلى المدح لا يثب إليه وثبا بل يمد جسرا يعبر عليه، وهذا ما يسمونه حسن التخلص.
ولا ريب في أن نقل الفلسفة والمنطق كان أثره بليغا في تثقيف أفكار الشعراء وتنسيق خيالاتهم، وأثر فيهم نقل العلوم؛ فاستعملوا الأغراض العلمية في شعرهم ولم تكن معروفة من قبل، كقصيدة صفوان الأنصاري التي يصف بها معادن الأرض رادا على بشار بعد أن مدح بشار إبليس، وزعم أن النار خير من الأرض، وحسبك أن تقرأ منها هذين البيتين لتعلم مبلغ تأثير العلوم الدخيلة في الشعر العباسي، قال:
وفيها ضروب القار والشب والنهي
وأصناف كبريت مطاولة الوقد
7
ومن إثمد جون وكلس وفضة
ومن توتياء في معادنه هندي
8
ولكن هذا التجدد في اللفظ والمعنى لم يشمل أبناء العصر كلهم، بل كان هناك جماعة المحافظين على القديم، يدافعون عنه دفاع المستميت، ويناهضون الجديد بجميع قواهم، حتى إن الشعراء المجددين كانوا يتكلفون الأساليب القديمة بعض الأحيان إرضاء لهؤلاء. (4) الدفاع عن القديم
وغير طبيعي أن يحدث شيء جديد مكان شيء قديم دون أن يدافع هذا القديم عن نفسه؛ سنة تنازع البقاء، ويستوي في ذلك الممالك والقبائل والأديان والمعايش والأخلاق والعادات والأزياء والعلم والأدب «شعره ونثره»، فقد أغار الأدب الجديد على الأدب القديم في العصر العباسي الأول؛ فثبت له هذا، وأعد ما لديه من قوى الدفاع ليرد عنه غائلة غازيه.
ومن المعقول أن يكون للأدب القديم أنصار وأتباع يقاومون دعاة المذهب الجديد؛ فإن جماعة العلماء والرواة وذوي السلطان كانوا يستغربون هذا الجديد، وينعونه على أصحابه، وربما أنف الرواة من روايته والاستشهاد به، ولو جاء آية في الإبداع.
وقد أخذ يظهر كره الجديد والدفاع عن القديم في الصدر الثاني للإسلام، فإن بعض الرواة كانوا يعدون شعراء بني أمية مولدين، بالإضافة إلى شعراء الجاهلية والصدر الأول، ويرفضون الاحتجاج بأقوالهم، وأقدم أصحاب هذا المذهب أبو عمرو بن العلاء، وكان لا يرى خيرا إلا في الشعر الجاهلي والمخضرم، فإذا سئل عن المولدين قال: «ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم.» وربما أعجبه شعر جرير والفرزدق فيقول: «لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته.»
فيستدل من ذلك أن العلماء كانوا لا ينكرون الجمال على الشعر المولد، ولكن يعتقدون أنه مستمد من الشعر القديم، ويأبون الاستشهاد به؛ لقلة ثقتهم بلغة المولدين من أهل عصرهم.
وقد يستشهد بعضهم مكرها بشعر مولد كما فعل سيبويه والأخفش، فإنهما لم يحتجا بشعر بشار إلا بعد أن هددهما بالهجاء.
ولأبي نواس مداعبات كثيرة مع أنصار القديم، فقد كان يستهزئ منهم وهم ينكرون عليه شذوذه عن مذهبهم.
ولطالما تعرض الشعراء المجددون للضرب والطرد والحبس؛ لأن الخلفاء العباسيين كانوا يؤثرون مسايرة المحافظين على القديم؛ لما يتعلق بهذا القديم من تقاليد دينية وروابط عصبية، وربما اتهم الشاعر المجدد بالزندقة فلا ينجو من العقاب؛ لذلك كان يعتصم بالتقية بعض الأحيان، فيتحدى مذهب الأقدمين ولا سيما في المدح والرثاء، فيقف على الطلول ويبكي الدمن، ويصف ناقته، ويكثر من الغريب؛ ليرضي ممدوحه أو أهل مرثيه، وليظهر لأصحاب اللغة أنه خالط العرب الصرحاء وأخذ عنهم لغاتهم واصطلاحاتهم، حتى استوى لسانه وسلم من العثار .
فإذا أنت درست شعر هذا العصر رأيته يختلف في تجدده ومحافظته باختلاف فنونه وأغراضه، وأكثر ما يظهر لك الجديد من الشعر في الغزل والمجون، والخمر واللهو، ووصف القصور والحدائق، والطبيعة والرياض؛ لأن الشعراء كانوا يصورون في هذه الفنون عواطفهم وأخلاقهم، ويصورون عادات عصرهم وأخلاق أبنائه، وما فيه من ترف وخلاعة، وما تقع عليه عيونهم من جمال مطبوع وجمال مصنوع. وأما في وصفهم القفار والطلول والإبل فيصورون عصرا يختلف كثيرا عن عصرهم، فهم في تجددهم صادقون ينطقون بما يرون ويحسون، وهم في تقليدهم كاذبون مسيرون. (5) أغراض الشعر وفنونه
تعددت أغراض الشعر في هذا العصر وتنوعت بتنوع أسباب الحضارة، ولكنها لم تكن كلها في مستوى واحد؛ فمنها ما كان قويا فضعف، ومنها ما كان ضعيفا فقوي، وأهمل بعض الفنون، وبقي بعضها على حاله، واستحدثت فنون أخرى لم تكن معروفة في الشعر القديم، ولضعف هذه الأغراض وقوتها وإهمالها واستنباطها أسباب نأتي على ذكرها: (5-1) الشعر السياسي
شاع هذا الفن في الصدر الأول للإسلام بين شعراء النبي وشعراء المشركين، ثم ازدهر في الصدر الثاني يوم كانت الأحزاب السياسية تتطاحن، وبنو أمية يصطنعون الشعراء للدفاع عن حقوقهم، ولكنه لم يلبث أن أخذ يتضاءل بعد قيام الدولة العباسية، واعتمادها على السيف في قهر أعدائها؛ فتفككت عرى الأحزاب، فتلاشى بعضها وضعف خطر الآخر منها، كالعلويين والخوارج؛ لانقسامهم وكثرة ما نالهم من التقتيل.
وكان أكثر الشعراء النابهين من الموالي، وهؤلاء لا عصبية لهم في القبائل العربية؛ فيكون لشعرهم السياسي تأثير بليغ كتأثير شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأن أولئك كان لهم منزلة رفيعة في نفوس القبائل التي ينتسبون إليها، وفي نفوس القبائل التي تناصبهم العداء، فبنو أمية لم يصطنعوا الأخطل شاعرا سياسيا إلا لأن بني تغلب كانت تقوم وتقعد لشعره، ولأن القبائل المعادية كانت تتضور من هجائه المقذع الأليم، فهيهات أن يكون لشاعر من الموالي مثل هذا التأثير مهما علا قدره في دولة القريض.
ولولا ملاحيات الشعوبية والعرب ، وبقية نضال بين العباسيين والطالبيين،
9
لاضمحل الشعر السياسي، ولكنه على ضعف خطره لم يخل من شر وإقذاع، وخصوصا ما كان من الشعراء الموالي بعد أن قويت شوكة الشعوبيين، فإنهم أخذوا يعيرون العرب وينشرون مثالبهم، وفي شعر أبي نواس أبلغ شاهد على ذلك، ثم ما كان من شعراء الشيعة، فإن بعضهم أسرف في هجاء بني العباس، وأفحش القول في خلفائهم؛ على حين أن شعراء العباسيين كانوا يتورعون من هجاء العلويين؛ ذلك بأنهم أبناء بنت الرسول.
وأشهر شعراء القصر العباسي: مروان بن أبي حفصة، وأبو العتاهية، وأبو نواس، وأبو تمام. وأشهر شعراء الشيعة: السيد الحميري، ودعبل، وديك الجن. (5-2) الغزل والمجون
رأينا في الكتاب الأول كيف نهض الغزل في صدر الإسلام بنوعيه «البدوي العفيف، والحضري المتهتك».
فأما الأول فلم يبق له حظ كبير في هذا العصر؛ لشيوع الخلاعة والفسق في جميع الحواضر والأمصار، ولأن شعراء البادية كانوا يتهافتون على بغداد متكسبين؛ فتستهويهم حضارتها، ورخاء عيشها، فتطيب لهم السكنى فيها؛ فما يلبثون أن يدب فيهم الفساد، فيتخلقوا بأخلاق أهلها.
وأما الثاني فقد ازداد شيوعا وكثر أتباعه، وولدوا منه نوعا جديدا صوروا به مبلغ ما انتهى إليه الفساد عندهم، وهذا النوع هو الذي يسمونه غزل المذكر، وكان سبب ظهوره اختلاط العرب بالأعاجم المترفين، وكثرة الرقيق من غلمان الترك والديلم والروم، وربما اصطنع الشعراء غزل المذكر في الإناث تلطفا، وتكنية أو مجاراة للوزن والقافية.
وكان للمرأة العجمية البيضاء نصيب من الرق، وكانت على جانب من العلم والأدب، تقرض الشعر وتحسن الغناء، ولا تتحرج من مجالسة الرجال ومنادمتهم؛ فتحول الغزل إليها بعد أن كان محصورا في المرأة العربية، وكثرت مجالس اللهو، فكانت تعقد في دور الخلفاء والأمراء، كما تعقد في الحوانيت والمنازل الخاصة.
وأفرط الشعراء في المجون لاتساع رزقهم، ووفرة أسباب لهوهم؛ فخلعوا رداء الحياء، وأرادوا التغزل فتعهروا، وأسرفوا في تعهرهم؛ فكان شعرهم صورة لتلك البيئة المريضة الأخلاق.
وكان الغزل في الجاهلية والإسلام تمازجه الأنفة والرصانة، فاكتسى في العباسيين ثوب العبودية والمذلة؛ فصار الشاعر لا يطيب له إلا أن يفرش خديه موطئا لقدمي حبيبه، وإلا أن يدعوه مولاه وسيده ومالك رقه، والإسراف في اللذة يولد الذل والعبودية في نفس طالبها؛ لأن النزول بالحب من الدرج الأعلى إلى الدرك الأسفل يميت الأنفة ويبعث الخنوع، ولا نرى حاجة إلى التبسط في الكلام على الغزل الذي كانوا يوطئون به قصائد المدح؛ فالتكلف ظاهر على أكثره؛ لأن أصحابه كانوا ينظمونه ترسما للأقدمين، لا اندفاعا مع الشعور الصادق. (5-3) الشعر الخمري
ولا غرو أن يكون للخمرة سهم وافر من هذه الحياة الأثيمة، وهي آلة الإثم؛ فتذيع بين الناس ويذيع معها الشعر الخمري بعد أن كاد يتلاشى في صدر الإسلام، ولولا الأخطل والوليد بن يزيد وبعض الشعراء المغمورين لما كان له شأن.
وزاد الناس إقبالا عليها إقدام بعض الخلفاء على شربها، فقد كانوا يقيمون مجالس اللهو في قصورهم؛ فتغني القيان لهم، ويدور الغلمان عليهم بالكئوس، فيشربون ويلهون ويعبثون، وكانت بغداد وما جاورها من القرى حافلة بالحوانيت والدساكر، فكان الشعراء يقصدونها للسكر واللهو، فافتنوا في وصف الخمرة وكئوسها، وتأثيرها في نفس شاربها، ووصف السكارى وعربدتهم، والساقي والساقية والقينة والنديم؛ فأبدعوا في هذا الفن أيما إبداع، وأحدثوا فيه أشياء جديدة لم يسبقوا إليها، ونستطيع القول إن الشعر الخمري بلغ غاية الجمال في هذا العصر لو لم يشبه شيء كثير من التعهر والمجون. (5-4) المدح
كانت بغداد موردا عذبا لطوائف الشعراء، فأقبلوا عليها ينهلون من فيضها، فما ينضب معينه ولا يرتوون؛ فتكاثر عددهم، وأخذوا يتنافسون في مدح الخلفاء والأمراء، مستدرين أكفهم، مبالغين في مدحهم والزلفى إليهم، فأصبح الغلو ميزة خاصة لهذا النوع من الشعر؛ لأنه جعل آلة للتكسب، ولأن أولي الأمر تبدلت أذواقهم بتبدل البيئة؛ فخرجوا عن السذاجة الفطرية التي كان يتحلى بها الأوائل، واستهوتهم أبهة الملك وعزة السلطان، وهزتهم الحضارة الفارسية بما فيها من صور وألوان، فأصبحوا وفي نفوسهم من الكبر والعتو ما يحبب إليهم مغالاة الشعراء في مديحهم، وصاروا يرتاحون إلى كاذب الأقوال، كما كان أسلافهم يطمئنون إلى صادقها.
ولم يربأ الشعراء بأنفسهم عن الكذب والتملق ؛ فماتت أنفتهم، وأراقوا ماء وجوههم، وعفروا جباههم على الأعتاب، وقل من صان نفسه عن الزلفى والتذلل. (5-5) الهجاء
ظل الهجاء على ما كان عليه في صدر الإسلام من فحش وإقذاع، وكثرت مهاجاة الشعراء بعضهم لبعض، ولم يتنكبوا عن هجاء الخلفاء فعل بشار ودعبل، وجعلوا الهجو كالمدح آلة للتكسب، يهددون به من يمدحونه إذا أخلفهم غيثه أو أقل دره؛ فعرضوا أنفسهم للحبس والضرب والنفي، وللموت أحيانا. (5-6) الرثاء
اكتسب الرثاء العاطفي رقة وسهولة؛ فزاد تأثيره في النفوس. وأما الرثاء المتكلف فكان كالمدح مشحونا بالغلو والكذب، ومما ينبغي ذكره أن الشعراء أكثروا من توطئة مراثيهم بالزهد والمواعظ، وذم الدنيا والتذمر على الدهر. (5-7) الفخر والحماسة
من المعقول أن يضعف هذا النوع بعد أن انصرف الشاعر إلى اللهو والمجون والتزلف، وبعد أن فقد عصبيته وسيادته ونخوته وفروسيته، وخصوصا أن أكثر الشعراء من الموالي، وهم في جملتهم فرسان قصف لا فرسان حروب. (5-8) الزهد
لم يعرف الزهد على حقيقته إلا في هذا العصر بعد أن ترجمت الحكمة الفارسية الهندية، واطلع عليها الكتاب والشعراء، وكان أبو العتاهية أول شاعر تأثر بها فأظهرها في شعره، وافتن في الزهد فأبدع بعد حياة قضاها بالعبث والمجون، وجاراه كثير من الشعراء فأجادوا، ولكنهم لم يبلغوا غايته. (5-9) الحكم
والحكم أيضا كان لها شأن يذكر، وارتفعت بعد نقل الفلسفة اليونانية، فاصطنعها الشعراء ومنهم من أكثر منها، وطبع بها شعره كأبي تمام.
وتختلف الحكم في هذا العصر عنها في الجاهلية والإسلام أنها أصبحت قائمة على مذاهب فلسفية، وأدلة عقلية، وتفكير صحيح، ولم تبق محصورة فيما توحيه للشعراء تجارب الأيام وحوادثها.
وإليك مطلع قصيدة أنشدها محمد بن عبد الملك في حضرة المأمون، يحرضه على قتل إبراهيم بن المهدي
10
حين ظفر به؛ فتجد الفلسفة اليونانية ظاهرة كل الظهور:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
يكون له كالنار تقدح بالزند؟ (5-10) الطرديات
وعني الشعراء بوصف الصيد والكلاب والجوارح، واتخذوا لذلك بحر الرجز؛ لسهولته ولينه وحسن مؤاتاته في الوصف، وكان هذا الفن قد ضعف في صدر الإسلام؛ لاشتغال الناس بالحروب عن الصيد واللهو، فلما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، واطمأن الخلفاء إلى ملكهم، ووفرت لهم أسباب اللهو والترف، أولعوا بالصيد، فصرفوا له وقتا غير قليل من حياتهم الخاصة، وأولع الناس به اقتداء بملوكهم؛ فأولع الشعراء بوصفه، فاستعاد هذا الفن سابق عزه في الجاهلية، ولكن الشعراء العباسيين كانوا متأثرين بحضارة الفرس وما فيها من جديد، فأمعنوا في وصف الكلاب والجوارح والديك والفهد، بخلاف الشاعر الجاهلي فإنه كان يجعل همته في وصف جواده الذي ينطلق به في أثر الحمر الوحشية. (5-11) الفن التعليمي
لن تجد في هذا الشعر ما يروقك؛ لأنه غث بارد، اصطنعه أصحابه لنظم أنواع شتى من العلوم؛ تسهيلا لحفظها بعد أن أصبح الإقبال على العلم عظيما.
والناظم في هذا الفن لا يسمو بنفسه إلى الخلق والإبداع، فالأفكار ماثلة أمامه فما عليه إلا أن يجمعها في كلام موزون مقفى، خال من الروعة والرونق، وليس في هذا كبير أمر على من يحسن النظم.
وأول من طلب هذا الفن أبو الفضل سهل بن نوبخت من خدم المنصور والمهدي، فإنه نظم كتاب كليلة ودمنة، ثم تلاه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، فنظم فنونا مختلفة من العلوم، منها كتاب كليلة ودمنة، قدمه لآل برمك ليحفظوه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئا وقال له: «يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك.» قال في مستهله:
هذا كتاب كذب ومحنه
وهو الذي يدعى كليلة دمنه
فيه دلالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم
حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله
والسخفاء يشتهون هزله
وعلى الجملة فقد تعددت أغراض الشعر المولد، وخصبت الأفكار بالمعاني الطريفة، واتسع باب الوصف وتعددت سبله، فبالغ الشعراء في التشبيب ووصف الخمرة والصيد والأخلاق والخصال والعادات، وهم وإن اقتصدوا في وصف القفار والطلول والإبل والوحش بعامل التطور الاجتماعي، لقد استعاضوا عنها وصف القصور وزخرفها، والبساتين ومياهها، والطبيعة ورياضها.
ومما ينبغي ذكره أن هذا الشعر على تعدد أغراضه لم يجاوز النوع الغنائي، ونصرف النظر عن الفن التعليمي؛ لأنه خارج عن صفة الشعر الحقيقية، فما نعد نظم كليلة ودمنة وغيرها من النوع القصصي؛ لضعف الميزة الأدبية فيها، وخلوها من الروعة والطلاوة، ولا نعد الحوادث الصغيرة التي يرويها الشاعر بقالب قصصي؛ لأننا نريد الملاحم الطويلة التامة كالإلياذة والأوديسة وسواهما.
ونرى أن خلو الشعر من هذا النوع يرجع أولا: إلى جهل العرب للأدب اليوناني؛ لأنهم لم ينقلوه كما نقلوا العلوم والفلسفة. ثانيا: إلى أن الشعراء لم يهتموا بنظم قصص طويلة؛ لانصرافهم إلى التكسب من أقرب الطرق، والملاحم تقتضي وقتا طويلا وربما كان كسبها قليلا؛ لأن الأمراء تعودوا ألا يجيزوا الشعراء إلا على المدح.
وكذلك النوع التمثيلي ظل مفقودا بتأثير هذين العاملين، ثم لأن المجتمع الإسلامي في العصر العباسي - على تمتعه بحرية الفكر والدين - ما كان يسمح للمرأة بأن تمثل مع الرجل في ملأ من الناس، والمرأة عضو لا غنى عنه لانتشار هذا الفن، أضف إلى ذلك أن التمثيل لا يظهر إلا بعد أن ينضج النوع الغنائي، وتتقدم الفلسفة والعلوم، وتوضع النظم السياسية والاجتماعية، وهو ينتشر غالبا في الحكومات الديمقراطية أكثر مما ينتشر في حكومة الفرد التي تبسط يدها عليه وتقيده بمشيئتها المطلقة؛ لأنه يتناول العبر التاريخية والمسائل الاجتماعية، ويبين مغبة الإثم ونتيجة الخير؛ مما لا يخلو من أذاة ذوي السلطان المستبدين بأموال الشعب وأعناقه، ولو قدر له الظهور في بني العباس لما كان الحكم الإسلامي المصطبغ بالدين ليرضى عنه وهو عندهم تزوير للأشخاص. (6) منزلة الشاعر المولد
لم تكن للشاعر المولد تلك المنزلة التي تبوأها زميله في الجاهلية وصدر الإسلام يوم كان يدافع عن قبيلته، وينشر مخازي أعدائها، أو يخفض ببيت من الشعر شأن قبيلة نابهة، ويرفع ببيت قدر قبيلة خاملة، أو يؤيد حزبه السياسي بالرد على خصومه، وكان السبب في تجرده عن هذه الخصائص ضعف العصبية في القبائل لنفوذ الموالي، واختلاط العرب بهم، ونشوء شعب جديد غير صافي العروبة، وتلاشي الأحزاب وانحلالها، ثم إن الخلفاء العباسيين اعتمدوا في تأييد سلطانهم على السيف دون الشعر .
على أن الشاعر المولد استبدل من المنزلة السابقة منزلة أخرى، وهي أنه صار نديم الخليفة على طعامه وشرابه، وسميره في لياليه الساهرة، ورفيقه في ملاهيه ومتنزهاته؛ فأصبح الشعر للتفكهة واللذة، يرغب فيه أولو الأمر كلفا بالأدب، أو حبا للهو والعبث.
لذلك انحطت منزلة الشعراء عن ذي قبل، وفقدوا سيادتهم، وشيئا كثيرا من نفوذهم وتأثيرهم، وأصبحوا كأداة اللهو، يقبل عليها المتلهي مدة ثم يضجر منها فيهملها أو يحطمها؛ فرب شاعر كان ذا حظوة عند الخليفة ثم أمسى طريدا مجفوا، أو شاعر بات ليلته يسامر الأمير فما طلع عليه الصباح إلا كان السجن مأواه.
ولكن بقي للشعراء دالة على الملوك أكثر من غيرهم؛ لما للشعر من التأثير في النفوس، ثم لما للمدح - خصوصا - من سحر يفتن ألباب الأمراء.
على أن أجمل شيء كان الشعراء يتمتعون به هو الثروة، فإن الخلفاء والأمراء بسطوا لهم الأكف، وأعطوهم بغير حساب، حتى لقد تبلغ جائزة الشاعر مائة ألف درهم؛
11
وربما وهبوه الضياع والجواري والغلمان، وما إلى ذلك من متاع.
وليس في هذه الهبات السنية ما يحملنا على الشك في صحتها؛ لأن خزائن المملكة كانت تغص بأموال الفيء والخراج، ويخبرنا ابن خلدون في «تاريخه» أن جباية الخراج السنوية بلغت عهد المأمون 390855000 درهم؛
12
لذلك استطاع الشعراء أن يعيشوا ناعمين مترفين، وجمع بعضهم أموالا طائلة، ذكروا أن سلما الخاسر
13
ترك ثروة مقدارها خمسون ألف دينار، ومليون وخمسمائة ألف درهم ما عدا الضياع؛ فغير عجيب أن يكثر عددهم ما دام الشعر يدر لهم هذا الدر الغزير!
ونحن نشرع الآن بدرس أشهرهم، مبتدئين بالمخضرمين منهم، وهم الذين أدركوا الدولتين «الأموية والعباسية»، ثم ننتقل إلى من جاء بعدهم، ونفتتح الكلام ببشار. (7) بشار بن برد 714-784م/96-168ه (؟) (7-1) حياته
هو بشار بن برد بن يرجوخ، فارسي الأصل، ينتهي نسبه إلى يستاسب بن لهراسف الملك، وكان يرجوخ من طخارستان
14
فسباه المهلب بن أبي صفرة
15
وجاء به إلى البصرة، وجعله من قن امرأته خيرة القشيرية، فولد عندها ابنه بردا، فلما كبر برد زوجته خيرة، ووهبته لامرأة من بني عقيل من قيس عيلان، كانت متصلة بها؛ فولدت له امرأته بشارا، فأعتقته العقيلية فانتسب إلى بني عقيل بالولاء.
16
وكان يكنى أبا معاذ
17
ويلقب بالمرعث؛
18
لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث شأن غلمان الفرس، وهي عادة قديمة عندهم.
بشار في صباه
نشأ بشار في بني عقيل نشأة عربية خالصة، فاستوى لسانه على الكلام الفصيح، لا تشوبه لكنة ولا طمطمانية، ولما أيفع أبدى فسلم من الخطأ.
وكان برد - والده - طيانا، وولد بشار مكفوفا، فكان برد يقول: «ما رأيت مولودا أعظم بركة منه، ولقد ولد لي وما عندي درهم، فما حال الحول
19
حتى جمعت مائتي درهم.»
وقال بشار الشعر وهو ابن عشر سنين، ونزعت نفسه إلى الهجاء؛ فلقي الناس منه شرا، ولم يحجم عن التعرض لجرير، فاستصغره جرير ولم يرد عليه.
وكان إذا هجا قوما جاءوا إلى أبيه فشكوه، فيضربه ضربا شديدا، فكانت أمه تقول: «كم تضرب هذا الصبي الضرير، أما ترحمه!» فيقول: «بلى والله إني لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي.» فسمعه بشار فطمع فيه، فقال له: «يا أبت، إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر، وإني إن ألممت عليه، أغنيتك وسائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول:
ليس على الأعمى حرج . فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشار؛ فانصرفوا وهم يقولون: «فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار.»
فيتبين لنا من ذلك أن بشارا طبع على الشعر منذ حداثته، وطبع معه على الهجاء والشر وحب التكسب والسخر بالدين والناس، فقد عرف بذكائه الفطري أن والده ساذج جاهل، فعبث به لينجو من عقابه، ولم يتحوب من العبث بآية القرآن؛ فأولها إلى غير معناها، وجعل الأعمى بريئا من الإثم إذا اقترفه، والآية لا تقصد إلا إعفاءه من التكاليف التي لا قبل له بها كالجهاد.
بشار في العصر الأموي
أدرك بشار بني أمية وبني العباس؛ فهو من مخضرمي شعراء الدولتين، ويقول صاحب الأغاني: «إنه شهر في العصرين، ومدح وهجا، وأخذ سني الجوائز.» ولكن لم يصل إلينا من شعره ما يدلنا على اتصاله بالخلفاء الأمويين، ولو اتصل بهم ومدحهم لذكر ذلك أبو الفرج وغيره من مؤرخي الأدب الأقدمين، ولا نخالهم يغفلون هذا الأمر وقد عنوا بتدوين أتفه الأخبار عنه.
وروي أن الوليد بن يزيد كان يطرب لشعر قاله بشار متغزلا، ويرويه ويبكي، وهو الذي أوله: «أيها الساقيان صبا شرابي.» ولكن بشارا لم يتصل بالوليد بل لبث في البصرة لا يبرحها.
ولعل أول رحلة تجشمها كانت إلى حران، فوفد إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك فمدحه بقصيدة بائية، وكان سليمان بخيلا فلم يعطه شيئا، وقيل: بل أعطاه خمسة آلاف درهم؛ فاستقلها وردها عليه، وخرج من عنده ساخطا وهجاه، وربما كانت له وفادة على مروان بن محمد فلم يعطه، أو أن مروان وعده بشيء وأخلف وعده؛ فهجاه بأبيات لم يصل إلينا منها غير بيت واحد يقول فيه:
لمروان مواعد كاذبات
كما برق الحياء وما استهلا
20
وجملة القول أن بشارا لم يحظ عند خلفاء بني أمية، ولم يجشم نفسه دلج السرى إليهم، وإنما لبث في البصرة يمدح الولاة والقواد، ويشبب بالنساء، وله فيهن عدة صواحب أشهرهن عبدة أو عبيدة.
وكان إلى ذلك شديد الاتصال برجال العلم والدين، وكانت البصرة حافلة بهم في ذلك العهد، فصاحب واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، وصالح بن عبد القدوس، وعمرو بن عبيد، وغيرهم من أصحاب الكلام، ولكن واصلا لم يلبث أن جافاه وهتف به
21
لما بلغه من إلحاده، وحرض الناس على قتله، فهجاه بقوله:
ما لي أشايع غزالا له عنق
كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
22
عنق الزرافة ما بالي وبالكم
أتكفرون رجالا كفروا رجلا؟!
23
وجافاه أيضا عمرو بن عبيد، فناصر واصلا على الهتف به والتشنيع عليه، وشد أزرهما جلة من علماء الدين كالحسن البصري قاضي البصرة وكبير فقهائها، ومالك بن دينار العالم الزاهد، فما زالوا حتى نفوه من البصرة حوالي سنة «127ه/744م»، فقصد إلى مدينة حران وافدا على سليمان بن هشام بن عبد الملك، ولكنه انصرف من عنده مغاضبا كما مر بنا، فاستدعاه أمير العراقين يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، فأقام في الكوفة يمدحه ويمدح قيس عيلان حتى سقطت الدولة الأموية، وقتل يزيد بواسط سنة «132ه/750م» فرجع إلى البصرة وقد مات واصل بن عطاء، على أن عمرو بن عبيد لم يتركه يطمئن في أرضه، بل سعى في نفيه ثانية، فظل يتنقل من بلد إلى بلد حتى توفي عمرو بن عبيد سنة «145ه/762م» فأفرخ روعه،
24
وأنست به البصرة زمنا، فأقام بها يمدح ولاتها، حتى ارتحل إلى بغداد واتصل بالعباسيين.
بشار في العصر العباسي
كان بشار مبعدا عن البصرة لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس، ومات السفاح ولم يتصل به شاعرنا، ولا تمكن من العودة إلى البصرة، وما كاد يستخلف أبو جعفر المنصور حتى هب الحزب العلوي من رقدته يطالب بالإمامة بعد أن رضي بالصمت على عهد السفاح؛ لأن السفاح قرب الطالبيين وأنعم عليهم وأحسن مصانعتهم، وأما أبو جعفر فكان بخيلا لا يدر دره، وعاتيا ظلاما يضطهدهم ويسيء معاملتهم، فخرج عليه الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فثار محمد في المدينة فبايعه أهلها، وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس، وثار إبراهيم بالبصرة، وكان بشار منفيا عنها، فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة يحرضه بها على المنصور، ويمدحه ويشير عليه، ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما، وظفر بهما المنصور وقتلهما.
وأبى الله أن تصل قصيدة الشاعر الضرير إلى إبراهيم، أو أنها وصلت إليه وضاعت فلم يروها راوية؛ لأن المنصور لم يطلع عليها إلا بعد أن قلبها بشار وجعل التحريض فيها على أبي مسلم الخراساني، والمدح والنصح للمنصور، ولو رويت لأبي جعفر على حالها الأول لما سلمت عنق بشار، ولعل هذه القصيدة بعد تغييرها كانت السبب في اتصال الشاعر بالمنصور والحظوة عنده، على أننا لا نعتقد أنه عاش منعما في كنفه، أو أنه أكثر من مدحه، وقد عرف هذا الخليفة ببخله وجفاف يده حتى لقب بالدوانيقي،
25
لإلحافه في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانق.
بشار والمهدي
ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالا وثيقا، وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه، وكان شعره قد طار وتناقله الناس، وكان المهدي شديد الحب للنساء غيورا عليهن، فبلغته أبيات لبشار فيها مجون وتعهر، فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه، فغضب الخليفة وقال: «ويلك أتحض الناس على الفجور، وتقذف المحصنات المخبآت! والله لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لآتين على روحك.»
فلما ألح على بشار في ترك الغزل، شرع يمدحه ويقول إنه قد ترك الغزل وودع الغواني، ثم يأخذ في قص حوادثه الماضية، فيتأسف عليها ويصف النساء اللواتي صاحبهن، فلا يخلو كلامه من الغزل، ولم يكن خبثه في هذا الأسلوب ليخفى على المهدي؛ فأظهر له جفوة، وحبس عنه عطاياه، فكان يمدحه فلا يحظى منه بشيء ولو جعل مدحه بغير تشبيب.
وحاول أن يتقرب من وزيره يعقوب بن داود فلم يحفل به ولا أذن له ولا أعطاه؛ فرحل إلى البصرة غاضبا وأخذ يهجو المهدي ووزيره ويوجع فيهما، فكان طول لسانه سببا في هلاكه؛ لأن الخليفة سخط عليه وأراد أذيته، فاتفق أن رآه مرة في البصرة يؤذن وهو سكران في غير وقت صلاة؛ فنسبه إلى الزندقة، وأمر بضربه فضرب سبعين سوطا حتى مات، ولما نعي إلى أهل البصرة تباشروا وتصدقوا لما كانوا منوا به من لسانه، وجاء في «معاهد التنصيص» أنه دفن مع حماد عجرد الشاعر الخليع، فكأن الأقدار شاءت أن تجمع هذين الشاعرين في قبر واحد بعد أن تنافرا شطرا من حياتهما، وتقارضا أقذع الهجاء.
26
صفاته وأخلاقه
قال الأصمعي: «كان بشار ضخما، عظيم الخلق والوجه، مجدورا، طويلا، جاحظ المقلتين، قد تغشاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس عمى، وأفظعه منظرا، وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، وكان أشد الناس تبرما بالناس، وكان يقول: «الحمد لله الذي ذهب ببصري لئلا أرى من أبغض».» ا.ه.
وكان فاسقا شديد التعهر، محبا للهو، مدمنا للخمرة، يلتمس اللذة ويجد في طلبها، ويهوى النساء لأجلها، لا شغفا بالجمال وهو لا يراه، ولم يخلص في حبه لامرأة؛ لأن عاطفته الحيوانية كانت تحمله على الإسراف في الاستمتاع وطلب الجديد منه؛ فيستخدم شعره في إفساد النساء، وحضهن على الفحش؛ ليتاح له التنقل من صاحبة إلى صاحبة.
وكان متكبرا كثير الاعتداد بنفسه، لا يرى فوقه شاعرا ولا عالما، وتكبره جعله شديد الافتخار بنسبه حتى لا يجد له معادلا غير قريش وكسرى، وجعله يشبب بجمال صورته على ما فيها من دمامة وقبح فيقول:
وإني لأغني مقام الفتى
وأصبي الفتاة فما تعتصم
27
ويرد على أبي دلامة الشاعر عندما عيره القبح، فيقول في وصف نفسه: «إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، أسجح الخدين.»
28
وهذا الكبر ولد فيه احتقارا للناس، كما ولد فيه العمى كرها لهم؛ فكان شديد النقمة عليهم لتمتعهم بالنظر دونه وهو يرى أنه خيرهم، وكل ذي عاهة جبار، وبغضه للناس واحتقاره لهم جعلاه كثير التهكم بهم، قليل الأدب في مجالستهم.
والسخرية صفة لازمة لبشار، فإنه يستهزئ بكل شيء ويسخر من كل شيء، وتهكمه جارح مؤلم، وقد يبلغ به حد القحة فما يستحيي أن يتنادر على خال الخليفة وهو في حضرته. قال أبو الفرج: دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي، وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري وكانت فيه غفلة، فقال له: «يا شيخ ما صناعتك؟» فقال: «أثقب اللؤلؤ.» فضحك المهدي ثم قال لبشار: «اعزب، ويلك! أتتنادر على خالي؟!» فقال له: «وما أصنع به، يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا، ويسأله عن صناعته!»
فهذا التهكم وإن يكن مضحكا فهو حاد جارح لما فيه من لؤم ونكاية، ولا يخلو من وقاحة لصدوره عن شاعر جاء يمدح الخليفة متكسبا، فشرع يهزأ بخاله في حضرته.
وكان إعجابه بنفسه يدفعه إلى أن يربأ بها عن مهاجاة سفلة الناس؛ لئلا يجعل منزلته في منزلتهم، وكثيرا ما أعرض عن جواب لئيم تحرش به، وكان يقطع لسان أبي الشمقمق الشاعر بمائتي درهم في كل سنة؛ مخافة أن يهجوه وهو لا يستطيع الرد عليه؛ لأنه شاعر سخيف يروي شعره الصبيان.
وكان كريما متلافا، يكسب كثيرا وينفق كثيرا، شديد الفخر بكرمه فما يأنف أن يشكو ضيق ذات يده لكثرة الإنفاق، وإذا شكا وسأل ألح في المسألة، ولكن على كبر وعتو وتهديد.
وهو على بغضه للناس يحب أبناءه ويرأف بهم، وقد مات له ولد فجزع عليه جزعا شديدا، ويحب إخوته ويعطف عليهم، وكان له أخوان قصابان؛ أحدهما يقال له بشر والآخر بشير، فكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، وينتنان ريحها، فأراد منعهما فلم يمتنعا، فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على نتنها ووسخها، فيقال له: «ما هذا يا أبا معاذ؟» فيقول: «هذه ثمرة صلة الرحم.»
ويحب أصدقاءه الخلعاء ويبرهم، ويحفظ لهم الوداد بعد موتهم فيرثيهم ويتلهف عليهم، ولعله لم يخلص في حبه إلا لأبنائه وإخوته وندمائه.
وكان إلى ذلك حاد الذهن، شديد الذكاء، نير البصيرة، سريع التنبه، دقيق الحس، ذرب اللسان، حاضر البديهة.
تلونه في نسبه
كان بشار شعوبيا متعصبا للفرس، ينكر الولاء ويتبرأ منه، ويحض الموالي على رفضه، ولكنه كان مع ذلك يفتخر ببني عقيل وبقيس عيلان، ويدافع عنهم ويهجو أعداءهم، فإذا انتسب إلى الفرس جعل أسرته في مستوى أسرة كسرى:
ورب ذي تاج كريم الجد
كآل كسرى أو كآل برد
وإذا انتسب إلى عقيل جعل أصله في الرأس منهم:
إنني من بني عقيل بن كعب
موضع السيف من طلى الأعناق
29
وسأله المهدي يوما: «فيمن تعتد يا بشار؟» فقال: «أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي» وأنشد:
ألا أيها السائلي جاهدا
ليعرفني أنا أنف الكرم
30
نمت في الكرام بني عامر
فروعي وأصلي قريش العجم
31
علومه
كان بشار عالما فقيها متكلما، ولولا زندقته لعد من كبار أئمة الدين، وعرف بطول باعه في معرفة الغريب والوقوف على أساليب العرب الصرحاء، وبنقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله، وصدق ظنه في تقدير جوائزه؛ فقد كان يزنه بمعيار تأثيره في نفس الممدوح، وموقعه من سياسته وهواه.
آثاره
قيل: إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري، وتحدث بشار عن نفسه فقال: «إن لي اثني عشر ألف قصيدة.» ولكن لم يبق لنا من هذا القدر الكبير إلا نزر يسير متفرق في كتب الأدب.
وظل شعر بشار متداولا إلى عهد ابن خلكان، فقد جاء في كتابه «وفيات الأعيان» في الكلام على بشار: «وشعر بشار كثير سائر، فنقتصر منه على هذا القدر.» وأورد بعض مقطعات منه.
على أن هذا الشعر قد ضاع أكثره، ولم يخلص إلينا إلا أقله، ولولا صاحب «الأغاني» وما دون من أشعار بشار وأخباره لما وصل إلينا منها ما يستحق الذكر.
وفي سنة «1934» عثر محمد بدر الدين العلوي أحد معلمي اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بعليكرة في الهند على مخطوط قديم في المكتبة الآصفية بحيدر آباد من كتاب «المختار من شعر بشار» للخالديين شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وشرحه لإسماعيل بن أحمد التجيبي من أدباء القرن الخامس للهجرة، فعني بنسخه وتصحيحه وطبعه، على أن هذا «المختار» لا يشتمل على كثير من شعر بشار؛ لما فيه من المقارنات بين كلامه وكلام القدماء والمحدثين، وإنما فيه أبيات للشاعر لا توجد في غيره من الكتب.
ونشر محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس جزأين من شعر بشار عن مخطوطة في خزانة كتبه مرتبة أبياته على الحروف، وينتهي الجزء الأول بقافية «الباء»، والثاني بقافية «الدال»، وطبع الجزءان في مصر سنة «1950 و1954»، وينتظر أن يظهر الجزء الثالث؛ لأن المخطوطة تشتمل على نصف الديوان كما يقول الناشر، وفيها معظم قافية «الراء»، وجمع ما وجده في كتب الأدب مما نسب إلى بشار ما يقارب ألف بيت. وأما عدد أبيات المخطوطة فستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرون بيتا، باعتبار أبيات الرجز مشطورة. (7-2) ميزته
أتيح لبشار أن يملك الشعر من ناحيتيه؛ العبقرية والفن، فهو من حيث الأولى شاعر قوي الطبع، متوقد النفس، يدعو القوافي فتستكين إليه سلسة القياد، ومن حيث الثانية شاعر مرهف الإحساس بالجمال الفني، يتصرف في الألفاظ والتعابير، فيأتي بها طريفة دقيقة المدلول ، مزدانة منتقاة.
وسنحاول أن ندرس في هذا البحث خصائصه في مختلف الأنواع الشعرية على قدر ما تبيح لنا آثاره الباقية.
الهجاء
لم يكن في أخلاق بشار وصفاته ما يحبب الناس إليه، فيصون لسانه عن ثلبهم وتشهيرهم، ولا بد لمثله أن يكون بغيضا مقيتا، وأن يكثر أعداؤه فيتناولوه بألسنتهم، وأن يقوم فيهم شعراء يقارضونه الهجاء.
وغير عجيب أن يكون هذا الهجاء فاحشا مقذعا، فإن أخلاق بشار لا تستنكره، وأخلاق عصره لا تتأباه، وقد ترك جرير والفرزدق من إقذاعهما إرثا عظيما لمن جاء بعدهما من الشعراء؛ فأنفقوا منه عن سعة.
وكان بشار شديد الإعجاب بجرير، فلا بدع أن يتعهر مثله في الهجاء، ويزيد عليه تفننا في استنباط المعاني الفاحشة، يستمدها من الحضارة الجديدة، وتبدل المكان والزمان.
على أن غاية جرير من الهجاء تختلف عن غاية بشار؛ فجرير كان يصطنعه ليرد على خصومه الشعراء، وأما بشار فإنه مال إليه بطبعه الفاسق الفاجر، ثم بكرهه للناس واحتقاره إياهم، ثم بحبه للتكسب فعل الحطيئة قبله.
وهو في هجوه صادق لا يتكلفه تكلفا وإن تاجر به وتكسب؛ فعاطفة البغض مسيطرة عليه في كل حال، وقد سئل: «إنك لكثير الهجاء!» فقال: «إني وجدت الهجاء المؤلم آخذ بضبع
32
الشاعر من المديح الرائع، ومن أراد من الشعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعد للفقر، وإلا فليبالغ في الهجاء ليخاف فيعطى.»
وكان يصب هجاءه على كرام الناس الذين يضنون بأعراضهم أن تخرق؛ فيشترونها منه بالمال، فيسكت عنهم أو يمدحهم إذا أجزلوا له العطاء.
وكان أشد الهجاء لذعا بينه وبين حماد عجرد، وسبب تهاجيهما أن حمادا كان نديما لنافع بن عقبة الأزدي والي البصرة، فسأله بشار تنجيز حاجة له من نافع؛ فأبطأ حماد عنها فغمزه بشار بشعره، فغضب حماد وأخبر نافعا فمنع صلاته عن بشار؛ فلحم الهجاء بينهما نحوا من خمس عشرة سنة حتى مات حماد.
على أن حمادا لم يستطع أن يسقط بشارا بشعره، ولكنه هتكه بالزندقة. وأما بشار فقد أسقط حمادا ببلاغته وفضحه، ولم يقصر في رميه بالثنوية
33
والكفر، قيل: أجمع علماء البصرة أنه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار إلا أربعون بيتا معدودة، ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت، ولكن لم يصل إلينا من تهاجيهما إلا شيء قليل لا يعتد به.
وهذا الهجاء على نزارته يبين لنا شيئا من أسلوب الشاعر في هذا الفن، وما فيه من كبرياء ومضاضة وإيلام؛ فبشار إذا هجا رمى خصمه بالكفر والزندقة؛ مع أنه كان في طليعة الزناديق، فقد كفر حماد عجرد والمهدي وواصل بن عطاء وسواهم، وهو إلى ذلك لا يعف عن الأعراض بل يشتمها شتما قبيحا، وربما استخدم شعره للتكسب الأدبي؛ فإن سيبويه عاب قوله في وصف السفينة: «تلاعب نينان البحار»، وأنكر جمع نون على نينان؛
34
فغضب بشار وهجا سيبويه، فتوقاه سيبويه بعد ذلك، وصار إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدا من شعر بشار احتج به استكفافا لشره.
وكذلك الأخفش الأوسط
35
عاب عليه جمع النون على نينان، واستعمال الوجلى والغزلى موضع الوجل والغزل؛ فهدده بالهجاء فجزع وصار يحتج بشعره في كتبه.
وهجاء بشار يجري بين الجزالة والسهولة، وأفخمه ما جاء في الأمراء والقبائل، وفيه من وضوح الألفاظ والتعابير ما يجعله يسير بين الناس هين الحفظ، فيتم للشاعر ما يريد من تشهير المهجو، وترك اسمه مضغة في الأفواه.
المدح
كان بشار يتخذ المدح آلة للتكسب، لا شغفا بمناقب الممدوح أو كلفا به؛ فلم تكن مناقب الناس - مهما حسنت - لتملك عاطفته أو لتهز فؤاده، وهو يبغض الناس ويرى نفسه فوقهم جميعا؛ لذلك لم يخلص في مدحه لأحد، وإنما كان يترقب غيث ممدوحه، فإذا أخلف أو أبطأ استمطره بالهجاء، فقد مدح سليمان بن هشام فلما استقل عطاءه هجاه، ومدح المهدي فلما أعرض عنه لم يحجم عن هجوه والقول فيه: «كذب أملي لأنني كذبت في قولي.» فهو يعترف بأنه مدحه كاذبا.
وتظاهر بالتشيع للعلويين شأن أبناء الفرس، فلما ثار إبراهيم بن الحسن على المنصور أرسل إليه قصيدة يمدحه بها ويهدد الخليفة، فلما علم أن إبراهيم قتل لم يأنف من إنكار تشيعه فغير القصيدة، وجعلها في مدح المنصور وتهديد أبي مسلم.
وله أسلوب في المدح يطلعنا على حقيقة نفسه الطماعة المتعجرفة ، فهو يمدح الشخص ويهدده إن لم يحسن صلته، وقد يتوسل بالوعظ والإرشاد، ولا يخلو مدحه من قحة في السؤال على تذمر لقلة العطاء، فيحض ممدوحه على الجود والسخاء.
ومدح بشار عقبة بن سلم أمير البصرة؛ فأحسن عطاءه، فزاده مدحا حتى قيل إن مدائحه فيه فوق كل مدائحه، وحدث أن وكيل عقبة أخر الجائزة عن بشار ثلاثة أيام؛ فأمر بشار غلامه بأن يكتب على باب عقبة أبياتا فيها يقول: «إن لم ترد حمدي فراقب ذمي.» فخاف عقبة، وضاعف الجائزة، وعجل بإرسالها إليه.
ففي هذا كله ما يدلنا على كذب بشار وعدم إخلاصه لممدوحيه، ولكنه كان يجيد المدح كما يجيد الهجاء؛ فهو شاعر مبدع صادق الشعور الفني وإن لم يكن صادق العاطفة، وأسلوبه في المدح عليه مسحة البداوة في استهلالاته وتعابيره، ولكنه يحليه بالمعاني الدقيقة الطريفة، ويرصعه بالاستعارات السائغة اللطيفة، فيخرج به عن خشونة البدو إلى نعومة الحضر، فإذا هو بين يديه وعليه جدة ريقة زاهية.
الغزل
لم يعرف بشار للحب معنى صحيحا، ولا اختلج فؤاده لمرأى الجمال وهو لا يراه، وإنما كان في نفسه حس دقيق ضاعف العمى قوته، فإذا به شديد الولوع باللذة، يسعى إليها ويتطلبها بإلحاف، وكائن
36
ثارت نفسه لحديث سمعه، أو كف لمسها، أو طيب استنشقه؛ فهو فاسق القلب، شهواني الحب، لا يفهم منه غير اللذة الحيوانية، ولا غرو أن يخرج شعره صورة لنفسه الفاجرة، فيظهر حافلا بالفحش والتعهر.
وقد أجاد بشار الغزل كما أجاد غيره من الفنون، وكأنه شعر بعجزه عن تصبي النساء بجماله وحسن روائه، فاتخذ من براعة فنه وسيلة لإغرائهن، فنظم فيهن الغزل الرقيق الناعم؛ فأقبلن عليه يزرنه في منزله، ويجالسنه في البردان أو الرقيق؛
37
ليستمعن إلى شعره، حتى لم تبق غزلة في البصرة إلا كانت له راوية.
وغزل بشار شديد الخطر على العفاف؛ لأن صاحبه تعمد فيه إغراء النساء، وحضهن على الفجور ؛ فكان ذلك سببا لحمل المهدي على منعه من التشبيب، وقد جعل الخبيث غزله بلغة سهلة لينة، وأوزان خفيفة رشيقة؛ ليهون حفظه وفهمه على النساء، ولا سيما الجواري العجميات - وأكثره فيهن - فلا يستصعبن روايته، واعتمد على الصراحة؛ فروى حوادثه معهن بقالب قصصي، وقد يعنى بتذليل الصعاب للمرأة التي تتجنب الفضيحة وتخشاها.
وهو إلى ذلك يصنع مثلما يصنع الشعراء المتيمون؛ فيكثر من الأنين واللوعة، ووصف سقامه وسهره وحزنه؛ فيخيل إليك أنك تقرأ شعر رجل أضر به الحب حتى أدنفه، مع أنه لم يقف قلبه على امرأة واحدة ليتألم ويسقم إذا ابتعد عنها، ونرى أنه لم يصدق في وصف حبه إلا من تلك الناحية التي ذكر بها اللذة وتهالكه على طلبها، وإن آثر عبدة وأحبها أكثر من غيرها.
وقد أكثر شاعرنا من وصف نحوله على ضخامة جثته، حتى أخذ الناس يضحكون منه، ويعابثونه نكاية له، قيل: مر به بعض أهل الكوفة وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس، فقال: «يا أبا معاذ من القائل:
في حلتي جسم فتى ناحل
لو هبت الريح به طاحا»
38
قال: «أنا». قال: «ما حملك على هذا الكذب! والله إني لأرى أن لو بعث الله الرياح التي أهلكت الأمم الخالية ما حركتك من موضعك!»
وسنحت لبشار معان يرجع الفضل بها إلى عماه، كقوله:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وكان إذا غنته القيان في مجلس لهوه وصف مجلسه وتغزل، وضمن الأبيات التي غنته القيان بها، وقد شاعت هذه الطريقة بين شعراء عصره؛ لكثرة مجالس اللهو والطرب.
الخمر
لم يبق لنا من خمريات بشار إلا نزر يسير ليس فيه غناء، ولا ريب أن الشاعر وصف الخمر في أوقات لهوه، وأكثر من وصفها، ولكن لم يشهر بها كما شهر أبو نواس بعده، ولا تفنن في معانيها تفننه، وإن ما وصل إلينا من شعره الخمري يكاد لا يخرج عن الدائرة التي طوف فيها الأعشى ثم الأخطل، فهو يتوكأ عليهما في النعوت التي نعتا بها الخمرة، والأوصاف التي وصفا بها السكران.
ومهما يكن من شيء فإن بشارا تغزل بالخمرة وأحسن التشبيب بها، ولكنه لم يطبع أوصافها بطابعه الخاص، وإنما جاء مقلدا لسواه، على أنه لو وصل إلينا من خمرياته شيء يذكر لكان بوسعنا أن نحكم عليه حكما أصح وأعدل.
الفخر والحماسة
عرفنا أن ولاء بشار في بني عقيل، وعقيل من عامر، وعامر من قيس عيلان بن مضر، فكان بشار يتعصب لبني عقيل خاصة، وللقيسية أو المضرية عامة، وكان يفتخر بهم كما يفتخر بالفرس أجداده الأول، وقد استحق لقب شاعر قيس في دفاعه عنهم ومهاجاته خصومهم.
وله قصيدة قالها في ابن هبيرة - عامل العراق - عند مسيره إلى محاربة الخوارج، فأثار بها الحماسة في صدور الرجال، وقد استهلها بالغزل على الطريقة القديمة، وأخرجها جزلة الألفاظ قوية التعبير على تصوير بليغ لزحف الجيش، ووقع السيوف، وانكسار العدو، وحسبك منها تشبيه السيوف تحت الغبار بالشهب الساقطة في الظلام، ثم ذلك التقسيم البديع في تصوير الجيش المنهزم؛ فقد جمع فيه ما يلقاه المغلوب من نتائج الحرب ووخيم مغباتها: «فريق في الإسار ومثله قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه»، ويجمل بنا ألا نغفل عن حسن الصنعة في استعارته العتاب للقتال في قوله: «مشينا إليه بالسيوف نعاتبه»، وكان بوسعه أن يقول نضاربه أو نحاربه، ولكن الاستعارة هنا أبلغ وأوقع في النفس، وفيها من دقة المعنى وبراعة المدلول شيء كثير، وأي عتاب أشد من عتاب تنتضى فيه الصوارم بدلا من الألسنة؟!
الرثاء
لم يصل إلينا من رثاء بشار إلا شيء قليل، ونحسب أن الشاعر لم يحفل بهذا الفن لقلة الانتفاع به؛ فهو إنما كان يعنى بإرضاء ممدوحه حيا ليكتسب منه، ولم يكن يهمه أن يمدحه ميتا إن لم يتوقع خيرا من بعد ذلك.
وكأن بغضه للناس أمات فيه عاطفة الحزن واللوعة، فما كان يجزع على فقيد حتى يرثيه رثاء صادقا؛ فنفس بشار أصلب من أن ترثي لمصائب الناس، وقد رثى عمر بن حفص العتكي
39
وكان محسنا إليه، فوفق بعض التوفيق، وأصيب بولده فجزع لموته، ولكن نفسه أبت عليه التفجع والإرنان، فلم يستطع رثاءه بأحسن مما رثى به العتكي.
وكان له عصبة من الأصدقاء الخلعاء يصاحبونه في مجالس لهوه، فلما نزلت بهم صروف الدهر شعر بفراغ حوله، فشجاه فراقهم، فرثاهم بقصيدة يقول فيها:
كيف يصفو لي النعيم وحيدا
والأخلاء في المقابر هام
40
آراؤه وعقائده
كانت لبشار آراء وعقائد أورثه إياها أصله الفارسي، وعصره الذي تفشت به المذاهب والبدع، بعد أن خرج العرب من جمودهم العقلي، وأخلدوا إلى التأمل والتفكير.
ولعل الحيرة أظهر شيء في آراء بشار؛ فتراه على شعوبيته وكرهه للعرب لا يستنكف من الافتخار بمضريته، وعلى تفقهه بالدين وتضلعه من علم الكلام لا يصلي ولا يأبه للفروض والأنفال، وقد يدين بالجبرية
41
ثم لا يلبث أن ينقضها، فيقر بالبعث والحساب.
وربما حن إلى أصله المجوسي،
42
ففضل النار على جميع العناصر، وفضل إبليس على آدم وبنيه:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
وكان سيئ الظن بالناس لا يركن إلى صداقتهم، وإنما يراهم جميعا مخادعين غيابين؛ على أنه يوصي بمداراة الصديق والتغاضي عن هفواته، والاقتصاد في معاتبته.
حشوه وتخليطه
وبشار على جلالته لم يخل شعره من الحشو والتخليط، فروي له شيء غث لا يليق بشاعريته، وهذا ما جعل إسحاق الموصلي لا يعتد به، ويفضل عليه مروان بن أبي حفصة، وكان يقول فيه: «هو كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضا، أليس هو القائل:
إنما عظم سليمى حبتي
قصب السكر لا عظم الجمل
43
وإذا أدنيت منها بصلا
غلب المسك على ريح البصل
لو قال كل شيء جيد ثم أضيف إلى هذا لزيفه.»
على أنه مهما يكن من تخليط بشار فإن إسحاق الموصلي قد جار بحكمه عليه، فقد يسف الشاعر الفحل ويروي له الغث البارد، ولكن ذلك لا يحط من قدره، ولا يضير شاعريته، ولا يضيع ما له من الحسنات، وبشار نفسه كان يعتذر من هذا التخليط بقوله: «هذه أشياء كنا نعبث بها في الحداثة.»
وقد يخلط بشار متعمدا لحاجة في النفس، أو مراعاة لمقتضى الحال؛ فيسف غير حافل بالتعبير، كما في قوله لجاريته ربابة:
ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
وقد سئل عن ذلك فقال: «لكل وجه وموضع، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، وهذا عندها أحسن من «قفا نبك» عندك.»
ومن عبث بشار قوله على لسان حمار له مات، وزعم أنه رآه في النوم فقال له: «لم مت، ألم أكن أحسن إليك؟!» فقال الحمار:
سيدي خذ بي أتانا
عند باب الأصبهاني
44
تيمتني ببنان
وبدل قد شجاني
45
تيمتني يوم رحنا
بثناياها الحسان
46
وبغنج ودلال
سل جسمي وبراني
47
ولها خد أسيل
مثل خد الشيفران
48
فلذا مت ولو عش
ت إذن طال هواني
فقال له أحدهم: «ما الشيفران؟» قال: «وما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله.» (7-3) منزلته
أجمع الرواة - أو كادوا - على أن بشارا زعيم الشعراء المحدثين، وكان الأصمعي شديد الإعجاب به، فإذا سئل عنه قال: «بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم.» وقد فهم بشار عقلية النقاد في عصره، فقال: «أزرى بشعري الأذان.»
وقال ابن شرف القيرواني: «شعره ينفق عند ربات الحجال،
49
وعند فحول الرجال، فهو يلين حتى يستعطف، ويقوى حتى يستنكف.»
50
وسئل بشار: «بم فقت أهل دهرك، وسبقت رجال عصرك؟» فقال: «لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي.»
ولكنه - على عنايته بتنخل شعره - لم يخرج به عن طبعه، وإنما أضاف إليه براعة الفن فصقله وهذبه وتصرف فيه تصرف المالك في ملكه؛ فجد وهزل ورصن وخف، فإذا هو على حالتيه دقيق المعاني يحسن توليدها، طلي الألفاظ يجيد انتقاءها، وكان لأصله الفارسي أثر في شاعريته فعنت له أغراض لم تخطر لشعراء العرب الخلص.
ولعماه تأثير عظيم في إذكاء قريحته، وتقوية حسه؛ إلا أنه أضعف صوره وألوانه، فكان يتوكأ بها على غيره، متفننا في تأليفها وإخراجها كقوله:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وجملة القول أن بشارا شاعر ساحر، لعوب بالمعاني والألفاظ، يحسن البديع والاستعارة والتشبيه، ويتفنن في جميع أبواب الشعر، وهو إلى ذلك شاعر مطبوع ، غزير المادة، لا يتكلف النظم تكلفا، ويعد خير صلة بين العصرين الأموي والعباسي؛ فقد خلع الفن على شعره روعة القديم وجلاله، ورقة الجديد وجماله، وغير عجيب أن يتبوأ كرسي الرئاسة، ويستقر عليه سعيدا إلى أن يخليه بعد موته لأبي نواس. (8) أبو نواس 762-814م/145-199ه (؟) (8-1) حياته
ليس في ما جاءنا عن نسب أبي نواس ما يصح الاقتناع به والاطمئنان إليه، فالأقوال فيه متضاربة والاختلاف غير قليل، على أن المشهور عنه أنه الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح، وأن جده كان مولى الجراح بن عبد الله الحكمي
51
والي خراسان، فنسب إليه، وأن أباه كان من جند مروان بن محمد، وهو من أهل الشام، وأن أمه فارسية من الأهواز، واسمها جلبان.
52
وكان يكنى في أول أمره أبا علي، ثم تكنى بأبي نواس
53
لذؤابتين
54
كانتا تنوسان على عاتقه وهو صبي، وقيل إن أستاذه خلفا الأحمر كان له ولاء في اليمن، فقال له يوما: «أنت من اليمن فتكن باسم ملك من ملوكهم الأذواء.»
55
فاختار ذا نواس، فكناه أبا نواس بحذف صدره، فغلبت عليه.
وكانت ولادته في الأهواز من فارس، ذلك أن أباه هانئا انتقل إليها مع الجيش للرباط، فتزوج فيها جلبان، فولدت له عدة أولاد منهم الحسن، ومات أبوه وهو طفل، فانتقلت به أمه إلى البصرة وله من العمر سنتان؛ فنشأ هناك، ولما شب أسلمته إلى عطار يبري عود البخور.
أبو نواس في صباه
ولكن نفسه ما كانت لترضى هذه الصنعة، وبها نزوع شديد إلى الأدب؛ فكان لا يفتر عن مخالطة أهل المسجد والأدباء المجان، وأخذ يتردد على باب أبي عمرو بن العلاء، وكان الرواة والشعراء يجتمعون عنده؛ فاتصل بهم وهو في العقد الأول من عمره، فاكتسب منهم أدبا وعلما، ولكنهم أضروا بأخلاقه، فتهتك صبيا.
ولم يكن له من بسطة العيش ما يقيه الحاجة فيصون ماء وجهه، فكان أصحاب المجون إذا أرادوا الخروج إلى نزهة استأجروه بدينار، فيحمل لهم أدواتهم، ويبقى معهم حتى يعودوا.
وكأن الأقدار أبت إلا أن تذيقه كأس الأدناس حتى الثمالة، فأرسلت إليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر الكوفي الخليع، فلقيه عند العطار يبري العود، فافتتن به وأعجبه ذكاؤه وأدبه، فحمله إلى الكوفة، وعني بتخريجه في الشعر؛ فأدبه بأدبه، وخلقه بأخلاقه، وعرفه بأصحابه المجان؛ فأصبح لا يطيب له إلا الاجتماع بهم، وفيهم أمثال مطيع بن إياس، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، وحسبك بهم من عصابة سوء.
ولم يشأ أبو نواس أن يعرف بالشعر قبل أن يخالط العرب الخلص ويأخذ عنهم الغريب، ويستوي لسانه على الكلام الفصيح شأن كل شاعر يريد أن ينبه في ذاك العصر؛ فسأل أستاذه والبة أن يسمح له بالخروج إلى البادية مع وفد بني أسد، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام في البادية سنة ثم قدم الكوفة، فلبث فيها مدة قليلة ثم فارق والبة ورجع إلى البصرة، فاختلف إلى كبار أئمتها، فأخذ عنهم شيئا كثيرا ثم شخص إلى بغداد.
في بغداد
قدم أبو نواس بغداد وسنه أربت على الثلاثين، ومقاليد الخلافة في يدي هارون الرشيد؛ فأتيح له أن يتصل به، فقربه الرشيد وأحبه وأنعم عليه، وتغاضى عن فسقه وسكره واستهزائه بأحكام الدين، وعفا عنه مرارا وأطلقه من سجنه، على أنه لم يخصه بذاته، فلقد كان الرشيد شديد الحرص على وقار الخلافة، شديد الحفاظ على تقاليد الدين، ولا سيما أمام الرعية، فلم ير من الحكمة أن يجعل الشاعر الخليع مختصا بقصره، لذلك لم يحظ أبو نواس الحظوة التي كان يأملها عند الرشيد، فتفرغ لمصاحبة المجان، فكانوا يجتمعون على الصراة
56
أو في سوق الكرخ أو في روضة أو في منزل، فيتذاكرون الشعر ويشربون الخمر، ويستمتعون بأنواع الملذات التي ألفتها أذواقهم، فما يتركون محرما إلا اتفقوا على إتيانه غير متورعين ولا مستحيين، وأشهر أصدقائه الخلعاء في بغداد: داود بن رزين الواسطي، والحسين بن الضحاك الأشقر الخليع، والفضل الرقاشي، وعمرو الوراق، والحسين الخياط، وعنان جارية الناطفي، وإسماعيل القراطيسي، ورزين الكاتب أخو دعبل، وربما تولى أحدهم دعوة رفاقه فيهيئ لهم مجلسا في بيته أو في غير بيته، فيكونون في ضيافته، وقد تكون هذه الدعوات بأن يقول كل واحد منهم شعرا يصف به ما عنده من أسباب اللهو والملذات، فمن افتن فيها أكثر من غيره قبلوا دعوته وصاروا إليه، فهذه الحياة الماجنة المسرفة كانت تدفع شاعرنا إلى التبذير في نفقاته وهو مشهور بسخائه، فلم تكفه عطايا الرشيد على جزالتها، فكان يشكو ويتذمر حتى اضطر إلى أن يقصد مصر ويمدح الخصيب أميرها، ولولا حاجته لما ترك بغداد وما فيها من أصحاب وملاه وحانات.
في مصر
انتجع الشاعر مصر صفر اليدين متألما من كساد سوقه، وفي ذلك يقول:
إني لآمل يا خصيب على
يدك اليسارة آخر الدهر
وكذاك نعم السوق أنت لمن
كسدت عليه تجارة الشعر
ومدح الخصيب بعدة قصائد جياد، فأحسن الخصيب صلته، وأخذ أبو نواس ينادمه على الشراب ويلهو وإياه ويعبثان معا، حتى أصبحت للشاعر دالة عليه، ويسرت حاله بعد عسر، فتفرغ للهو والمجون فعله في بغداد.
على أن عطايا الخصيب لم تكن لتغني أبا نواس أو تنسيه ملاهي بغداد وقصر الخليفة العباسي؛ فنوابغ الشعراء لم يكن لهم غير دار السلام حاضرة تستثير قرائحهم، وتذكي عبقريتهم، وتشبع مطامعهم، ولعل الخصيب ضاق ذرعا برغبات الشاعر؛ فإن بعض الرواة يتحدثون بأنه بعد أن أعطاه ثلاث جوائز كل جائزة بألف دينار قال له: «ارتحل فما لك مقام عندنا.» ويؤيد هذه الرواية ما نعلمه من أن أبا نواس ترك الخصيب غير راض عنه وعن عطاياه، فكان إذا سئل: «كم وهب لك الخصيب مع مدائحك فيه، وقصدك من العراق إليه؟» قال: «لا والله، لم يهب لي إلا مائة دينار والناس يكثرون في ذلك.» وقد هجاه بعد مفارقته إياه ورماه بالتقتير على بنيه.
ولكنه لم يوفق في الرجوع إلى بغداد، فإنه شرع يهجو القبائل النزارية لما اشتدت صولة الشعوبيين، ولم يعف عن قريش وفيها الخلافة وقبلها النبوة؛ فحبس وطال حبسه حتى مات الرشيد واستخلف الأمين.
اتصاله بالأمين
عرف أبو نواس أولاد الخلفاء منذ قدومه بغداد وهو شاب، فنادم أولا ولد المهدي ولازمهم، فلم يلق مع أحد من الناس غيرهم، ثم نادم القاسم بن الرشيد، ولكنه لم يلبث أن فارقه وتقرب من أخيه الأمين، وكان يومئذ صبيا يدرس النحو واللغة على الكسائي، وزاده اتصالا بولي العهد أن الرشيد أمر الكسائي أن يحضر أبا نواس لينشد الأمين الشعر النادر ويعلمه الغريب، فلزمه شاعرنا ولم يفارقه، وراقت الأمين صحبة أبي نواس؛ فاتخذه نديما، وشاطره اللهو والمجون، فانحطت أخلاقه في صباه، وكان انغماسه في العبث والفسوق من الأسباب التي أضاعت ملكه.
ولما بويع بالخلافة بعد أبيه جعل الشاعر في بطانته، فكان ألزم له من ظله، ولا ريب أن خلافة الأمين كانت أسعد أيام أبي نواس وإن لم يطل عهدها أكثر من خمس سنوات، وخمس سنوات شيء يذكر في عمر الشاعر المتنعم، على أنها لم تخل بعض الأحيان من تنغيص؛ إذ كان الخليفة يضطر إلى حبسه على أعين الناس حين يتهم لديه بالكفر والفجور والمجاهرة بشرب الخمر.
وألحف عليه بالتشديد يوم اعصوصب الشر بينه وبين أخيه المأمون، وكان ذو الرئاستين
57
في خراسان يخطب بمساوئ الأمين، وقد أعد رجلا يحفظ شعر أبي نواس، فإذا انعقد المجلس قام فذكر الأمين وقال: «ومن جلسائه رجل ماجن، كافر مستهزئ، متهكم يقول كذا وكذا» وينشد من قبائح شعره، ويذكر أهل العراق فيقول: «أهل فسق وفجور، وخمور وماخور»، ويلعنهم من يحضر من أهل خراسان.
كان للأمين عيون في خراسان، فكتبوا إليه يخبرونه بالأمر؛ فجزع له وتوعد أبا نواس، وحرم عليه شرب الخمر، وذكرها في شعره، فكان صاحبنا يتألم لهذا المنع فيطيع مكرها، لا خوفا من غضب الأمين وبطشه، وإنما حبا له وحفاظا على سمعته، وربما مرت به ساعات فما يستطيع عن الخمر صبرا، فيشربها غير مبال، ويسب الأمين ويهزأ به، والأمين يتغاضى عنه ولا يطيق أن يؤذيه، ورمي مرة بالثنوية وشهد عليه عدة نفر، فأمر به الأمين إلى السجن، فتذمر أبو نواس وشكا واستنجد بالمأمون، إذ يقول:
أما الأمين فلست أرجو دفعه
عني فمن لي اليوم بالمأمون!
وكان المأمون يود أن يرى عنده شاعرا كأبي نواس، فلما بلغه استنجاده به قال: «والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله.» على أن الشاعر لم يشأ أن يترك الأمين مع ما لقي منه في آخر عهده، وكان من حقه أن يناصر المأمون لو جارى نزعته الشعوبية وميله إلى الفرس، والشعوبية والفرس منهم يظاهرون المأمون، ولكنه آثر البقاء مع الأمين لأسباب منها أنه كان يحبه وتلذ له معاشرته ومنادمته، فلا طاقة له بالابتعاد عنه، ومنها أن له من الدالة عليه ما لا يأمل أن ينال مثله عند المأمون، ومنها أن أهل خراسان شيعيون يشددون في أمر الغفران كأصحاب الاعتزال، وكان أبو نواس عظيم الاتكال على عفو الله، ففضل عليهم أهل السنة؛ لأنهم لا يحظرون العفو على مسلم ارتكب الكبيرة إذا خرج من الدنيا على غير توبة، بل يجعلون حكمه عند الله؛ فإما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع به النبي إذ قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.» وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته، ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار.
فهذه الأسباب كانت تدفع الشاعر إلى إيثار الأمين على أخيه، مع ما رأى فيه من ضعف وخمول وتقلب آراء.
توبته وموته
ولما قتل الأمين وظفر المأمون بالخلافة أصاب أبا نواس شيء من الجزع والقنوط، وتنكر له الدهر فتبرم الحياة وسئم ملاذها وغرورها، وأبى أن يتقرب من المأمون أو يمدحه، وكان المأمون قد جعل مقر الخلافة في خراسان، ولبث هناك نحوا من ست سنوات حتى استتب له الأمر في بغداد فانتقل إليها.
وكان بوسع الشاعر أن يتصل به ويستميله بالمديح، ولكن اليأس الذي ساوره بعد مقتل الأمين جعله يزهد في الحياة الدنيا، وتراءى له شبح الموت فراعه، وأحس أن قواه تحطمت من كثرة فسوقه واستهتاره؛ ففزع إلى ربه يستغفره، وأقلع عن المجون وشرب الخمر، وتنسك حتى هلك وهو على أشد ما يكون من الندم. وكانت وفاته في بغداد وله من العمر نحو من أربع وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي.
صفاته وأخلاقه
وصفه ابن منظور فقال: «كان حسن الوجه، رقيق اللون، حلو الشمائل ،
58
ناعم الجسم، عظيم الرأس، شعره منسدل على وجهه وقفاه دائما، وكان ألثغ بالراء يجعلها غينا، وكان نحيفا وفي حلقه بحة لا تفارقه.» ا.ه.
وكان إلى ذلك رقيق الطبع، ظريف النكتة، خفيف الظل، شديد السخر والاستهزاء، ماجنا لا يبالي ما يقول وما يفعل، وقد يتزيا بزي الزهاد ليتوصل إلى فاحشة يرتكبها أو معصية يقترفها، وكان يؤثر المجاهرة بفجوره وسكره، ويكره التستر والمتسترين، وصراحته جعلته لا يحفل بأقوال الناس فيه، ولا يخجل من التحدث بتعهره.
وكان كريما متلافا لا يذخر للغد ما يكسبه في يومه:
واشرب وجد بالذي تحوي يداك لها
لا تذخر اليوم شيئا خوف فقر غد
59
وكان يحتقر الأغنياء الذين يستعبدون الناس بأموالهم، فإذا ضمه وإياهم مجلس تكبر عليهم، وكان يكره الإلحاح في المسألة، ويرعى عهد أصحابه فما يغتابهم، ويريد منهم أن يحفظوا مغيبه.
على أنه لم تسلم طباعه من التبرم بالناس، واليأس من صدق مودتهم، ويبدو ذلك منه عند ضيقه في حبسه أو إفلاسه، وكثيرا ما لازم الإفلاس شاعرنا لعظم سخائه، فتراه متشائما، شاكيا متبرما يقول:
عليك باليأس من الناس
إن الغنى ويحك في الياس
فهذا الشاعر السمح الطروب، السادر في فتكه وغلوائه، لم يخل عيشه من ساعات سود تجده فيها عابسا قنوطا.
تلونه في نسبه
سأله الخصيب في مصر عن نسبه فأجاب: «أغناني أدبي عن نسبي.» وقيل إنه كان يخجل به فيخفيه، ويخفي اسم أمه لئلا يهجى، وقيل أيضا إنه كان يجهله، فلذلك كثر تلونه فيه وتنقله في القبائل؛ فزعم في أول دعوته أنه من ولد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من تيم اللات من بكر وائل، فقيل له: «إن الرجل الذي تدعى إليه لا عقب له؛ لأنه فلج ومات ولا ولد له، فلو أنك قلت من ولد أبان بن زياد أخي عبيد الله قلنا معك.» فاستحيا أبو نواس وهرب من تيم اللات، وادعى أنه تميمي من ولد الفرزدق، وتكنى بأبي فراس وهي كنية الفرزدق، وأخذ يتعصب للنزارية ويهجو اليمن، حتى وقع بينه وبين الحكم بن قنبر التميمي ملاحاة، فهجاه الحكم ودفعه عن تميم، وعيره نسبه وذكر بريه العود، فافتضح أبو نواس، فانقلب على النزارية وادعى اليمنية، وانتسب إلى قبيلتي حاء وحكم، فزجره يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، وقال له: «أنت خوزي
60
فما لك ولحاء وحكم.» فقال: «أنا مولى لهم.» فتركته اليمانية، وقال بعضهم لبعض: «إنه لظريف اللسان، غزير العلوم فدعوه، وبهذا الولاء يتعصب لنا، ويكايد عنا ويهجو النزارية.» فكان كما قالوا؛ فانقلب إلى اليمن، وعدل عن كنيته بأبي فراس، واكتنى بأبي نواس، وتندم على هجاء اليمن، وكان قد هجا معها هاشم بن حديج الكندي، فاعتذر له ومدح اليمن.
فيتبين من ذلك أن شاعرنا لم يكن ذا عصبية عربية، وإنما انتسب إلى نزار ليعتز بها، فلما دفعته نزار وهجاه أحد أبنائها لجأ إلى اليمن، ومع أن اليمن رضيت به مولى لها فقد كان يؤثر التعاجم، ويفضل الفرس على العرب، ويشايع الشعوبية، وقد أفضى به تعاجمه إلى السجن، كما مر بنا.
أساتذته وعلومه
رغب أبو نواس في العلم والأدب منذ صباه، فقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي حتى حذقه، فقال له يعقوب: «اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة.» وجلس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة.
واختلف إلى كثير من العلماء والأدباء، وكان والبة بن الحباب أكثر أستاذيه تخريجا له، وجلس في البصرة بعد تبديه إلى أبي عبيدة يأخذ عنه أخبار العرب وأيامها، وإلى خلف الأحمر يسأله عن الشعر ومعانيه، وإلى أبي زيد الأنصاري يكتب عنه الغريب من الألفاظ، ثم نظر في نحو سيبويه، ثم طلب الحديث فأخذه عن عبد الواحد بن زياد العبدي، ويحيى القطان، وأزهر السمان، وغيرهم من كبار محدثي البصرة، ولم يتخلف عن أحد منهم حتى برع في كل علم طلبه؛ فإذا هو راوية للشعر واسع الرواية، يحفظ الأحاديث بالإسناد، محكم القول، عالم باللغة لا يخطئ، مطلع على الحكمة الهندية واليونانية، حتى قال فيه بعض من شاهدوه: «كان أقل ما في أبي نواس قول الشعر.» يريدون بذلك تفوقه في علوم عصره.
قال إسماعيل بن نوبخت: «ما رأيت أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه، ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطرا
61
فيه كتاب مشتمل على نحو وغريب لا غير.»
نظمه الشعر
ظهرت النجابة على أبي نواس وهو صغير السن طري العود، لم يطر شاربه بعد، فنظم الشعر، وعرف بفصاحة اللسان، وأشهر شعره في صباه قوله:
حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب
وقيل له: «كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟» قال: «أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي والسكران صنعت الشعر، وقد داخلني النشاط، وهزتني الأريحية.»
62
وقال أيضا: «لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة، وأكون في بستان مونق،
63
وعلى حال ارتضيتها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة، وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارا لا أرضاها.»
وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أياما، ثم يعرضها على نفسه، فيسقط كثيرا منها ويترك صافيها، ولا يسره كل ما يقذف به خاطره، ولكن هذا التنخل لم يتناول جميع شعره؛ فروي له شيء من الساقط المرذول، وكان يهمه الشعر في الخمر، فلا يعمله إلا في وقت نشاطه، ولم يكن في النظم بالبطيء ولا بالسريع، بل كان في المنزلة الوسطى.
آثاره
ديوان شعر مختلف لاختلاف جامعيه؛ فإنه عني بجمعه رهط من الأدباء منهم: أبو بكر الصولي، وعلي بن حمزة الأصبهاني، وطبع غير مرة في فينا ومصر وبيروت، وفي صدر الطبعة المصرية فصل لجامعه الأصبهاني في منزلة شعر أبي نواس ونقده، وهذه المجموعة تتضمن أكثر من ثلاثة عشر ألف بيت، رتبت على اثني عشر بابا؛ فالأول: في نقائضه مع الشعراء وأخباره معهم ومع القيان، والثاني: في المديح، والثالث: في المراثي، والرابع: في العتاب، والخامس: في الهجاء، والسادس: في الزهد، والسابع: في الطرد، والثامن: في الخمر، والتاسع: في ما جاء بين الخمر والمجون، والعاشر : في غزل المؤنث، والحادي عشر: في غزل المذكر، والثاني عشر: في المجون. وقد أهمل الناشر
64
الباب الأخير فلم يثبته في الطبعة؛ لأنه رأى فيه ما يصم الآداب، وحسنا فعل، ولكننا لا ندري بأي عين نظر إلى الباب التاسع فإن فيه من التعهر ما لا يقل عما ورد في الباب الثاني عشر.
وجمع ابن منظور صاحب «لسان العرب» تاريخ أبي نواس ونوادره وشعره ومجونه في كتاب سماه «أخبار أبي نواس»، وقد طبع الجزء الأول منه في مصر سنة 1924 مضبوطا بالشكل، مشروحا بعض الشرح، ولكن الحكومة المصرية منعت متابعة نشره لما فيه من فحش مضر بالأخلاق.
وكتب الأدب حافلة بأخبار أبي نواس وأشعاره؛ لشدة اهتمام الناس برواية شعره، فإنهم كانوا يتفكهون به، ويؤثرونه على أشعار القدماء؛ فسار على الأفواه كل مسير، فروي له في مصر أشعار لم يعرفها أهل العراق، وضاعت له قصائد لم يبق منها شيء، أو بقي بيت أو بيتان، ونحل شعرا كثيرا لم ينحل مثله أحد، ذلك أنه سلك طريقا جديدا في الشعر، فإن أكثر أشعاره في اللهو والتشبيب والمجون، وكان في عصره طائفة من المجان يذهبون مذهبه، وليس لهم حظ من الشاعرية والشهرة مثله، فأصبح الناس يلحقون به كل شعر في الخمر والمجون لم يعرف صاحبه، ولم يعن الرواة بشعره.
وأضيف إليه من النوادر والأخبار كما أضيف إليه من الأشعار، فقد وضع عليه ابن الداية - وكان مشهورا بصحبته - روايات لا صحة لها، وفي «أخبار أبي نواس» لابن منظور المصري نوادر أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، مما يدل على أن أهل مصر شغفوا بالشاعر كأهل العراق، فراحوا يتفننون في اصطناع الأخبار الغريبة عنه، فحملوه أحمالا ثقيلة زادت سمعته تشويها، ونحن - وإن كنا لا يخامرنا ريب في خلاعته وحوداثه المجونية - لا يسعنا إلا أن نشك في بعض نوادره التي يظهر عليها التفنن وحب التفكهة والإغراب، وسنعتمد في درس شعره على المشهور منه الذي لا يشك في نسبته إليه. (8-2) ميزته
ما ترك أبو نواس غرضا من الشعر إلا خاض فيه ونال قسطا منه، فقد أوتي شاعرية جوادة يفيض بها الطبع السمح الطرب، ويثقفها الفن الدقيق البارع، فإذا هي تنطق بشعر كالماء سلاسة وعذوبة، وكالرياض قطعا وألوانا، تختلف باختلاف أشكالها وأنواعها، فمنها ما ينفرد به صاحبنا فما يجاريه متقدم ولا متأخر وذلك في الخمر والعبث والمجون، ومنها ما يجيده ولا يقصر به وذلك في المدح والهجو والطرد والزهد، ومنها ما يقصر به ولا يجيده وذلك في الرثاء والغزل البريء، ولا سيما المؤنث منه.
فشعر أبي نواس كما يظهر لنا على ثلاثة أقسام؛ قسم: يطبعه بطابعه الخاص، ويحتكره احتكارا لا ينازعه فيه أحد، وقسم: يشارك فيه غيره من الشعراء، وقسم: يجري به وراء المجلين فما يشق لهم غبارا، وسنحاول تحليل هذه الأقسام الثلاثة؛ لنظهر ميزتها واضحة، فيبدو ما لشاعرنا من خصائص جعلته مثالا صادقا لعصره من ناحيتي الجد والعبث، وبوأته منزلة لا يسمو إلى مثلها غير عباقرة الشعراء.
ونشرع أولا في درس خمرياته وما يتبعها من لهو ومجون وآراء وعقائد، ثم ندرس غزله فمدحه فرثاءه فهجوه فطرده فزهده، حتى نتبين ذاتيته ومنزلته، وما كان له من أثر بليغ في عصره.
الخمر والمجون
إذا أردت أن تغوص في أعماق نفس أبي نواس، وتتبين حقيقته فما تستطيع ذلك في شعره الجدي، وإنما تستطيعه في عبثه ولهوه، في خمرياته ومجونه؛ فهي مرآة صافية تنعكس عليها ذاتية الشاعر الماجن.
وأبو نواس يشرب الخمر ويتعبد لها، فإذا ذكرها افتن في وصفها، وشبب بها تشبيبه بأحب الناس إليه، وقد سنحت له معان في وصفها لم يفتضها سواه؛ فعرف بها وعرفت به، وجعلته في هذا الفن نسيج وحده.
وإذا وصف الخمرة صورها أحسن الصور، وأحاطها بألطف التشابيه والاستعارات، ووصف معها الكئوس والنديم والساقي والخمار ومجلس لهوه، وقص أخباره الفاحشة لا متكتما ولا مستحيا؛ فهو صريح يؤثر المجاهرة، ويكره التستر، ويود لو يستوعب اللذة من جميع نواحيها، لئلا يفوته طرف منها، فتسمعه يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فكأنه أراد أن يلتذ سمعه بذكرها، كما التذت العين برؤيتها، واليد بلمسها، والفم بذوقها، والأنف بشمها، أو لعله أراد المجاهرة بذكرها، فأمر الساقي أن ينادي باسمها.
فأشعاره تطلعنا على صراحته؛ فنراه مجاهرا بتعبده للخمر وسكره المتواصل، مجاهرا بفتكه ومجونه، وقد يستوقفنا قوله:
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة
فإن طال هذا عنده قصر الدهر
فكأنه يريد أن يقصر أيام حياته بالسكرات المتواصلة لا يعقبها صحو، وهذا شأن رجل لا يخلو عيشه من شقاء ويأس وحب انتحار، وأبو نواس لم يكن بنجوة من مرارة العيش؛ فقد ذاق طعم الحاجة، وحبس وقهر مرارا وانتقص من قدره أحيانا، وكانت علته ترافقه وهو في ميعة شبابه، فلا غرو أن يبدو عليه شيء من التطير والقنوط، فيؤثر ساعة السكر على ساعة الصحو؛ لكي لا يشعر بشقاء نفسه.
وقد يظل في شرب متواصل حتى يفلس فيرهن ثيابه أو يبيعها، ليشرب بها:
فبعت قميصا سابريا وجبة
وبعت إزارا معلم الطرفين
65
ويؤثر اصطباحها عند صياح الديك، ولذلك كثر إسراؤه ليلا إلى بيوت الخمارين، وشعره أوعب معجم لأسماء الحانات والملاهي في بغداد وغير بغداد، فلا يترك موضعا تنسب إليه الخمر الطيبة إلا ذكره ووصف خمرته.
فإذا تم له خمرة يصطحبها في أحد هذه المواضع، فتلك لذة العيش عنده، كيف لا والخمرة شقيقة نفسه، يتعبد لها ويؤثرها على الصلاة، ويسميها أحسن الأسماء، ويصفها ألطف الأوصاف، ويبكي عليها لأن القرآن حرمها وهو يريد تحليلها، ولكنه يشربها وإن حرمت:
ولكنني أبكي على الراح أنها
حرام علينا في الكتاب المنزل
سأشربها صرفا وإن هي حرمت
فقد طالما واقعت غير محلل
66
ولذلك يؤثرها مطبوخة بالشمس لا بالنار؛ لئلا تصير نبيذا محللا:
فاطبخ الراح بشمس
فكفى بالشمس نارا
وما ينتهي من التشبيب بها إلا ليصف مجالس لهوه، ويتحدث بما يأتي من الأعمال الشائنة، فيشتد حينئذ مجونه، ويكثر فحشه واستهزاؤه، وتبدو أخلاقه بما فيها من مرض وفساد، وأحسن المجالس عنده في الرياض والبساتين، بين الأزهار والرياحين، وعلى الأخص إذا جاء فصل الربيع، ويطيب له الشراب على آلات الطرب وأصوات المغنين، يحف به الساقي والنديم، وتراه شديد الاهتمام بهما، يصفهما وصفا دقيقا، وقد يفضلهما على الخمرة التي يتعبد لها، وأكثر ما يكون ساقيه من الغلمان، فإذا وصفه شبهه بأبناء الخلفاء والملوك من عباسيين وغساسنة، وربما دارت عليه بالكأس جارية، ولكنها تكون غالبا غلامية مطمومة الشعر.
67
وإذا وصف النديم لمست في شعره عاطفة الإعظام له والعطف عليه، والعناية بمصاحبته ومداراته؛ فيطلعنا على أدبه معه، ثم على خير الندامى عنده، وعلى آداب المنادمة عموما، فيضع لأصحاب اللهو والشراب قوانين ليسيروا عليها، وعنايته باختيار النديم ثم إعظامه للخمر جعلاه يحرم شربها على اللئام، وعلى الذين ليسوا بأكفائها.
ولا يغفل عن وصف الكئوس فيقف إزاءها موقف مصور بارع، فيرسم ما عليها من التصاوير والخطوط؛ فيعطينا فوائد جليلة في حسن صناعتها عند الشعوب التي خالطت العرب، وفيما كان ينقش عليها من الصور التاريخية.
ثورته على القديم
وخمرياته تطلعنا على تجدده وثورته على القديم، فهو - كما عرفنا - شعوبي النزعة يؤثر الفرس على العرب، وينفر خصوصا من الحياة البدوية، ولا يأنس بأساليب الأعراب، من وقوف على الأطلال وبكاء على الدمن، ولا يلذ له وصف النوق والشياه والوحش والقفار، وإنما يطيب له أن يصف ملاهيه ومجالس لذته، فكان يهزأ بالشعراء الذين يقفون على الديار، ويبكون الأطلال البالية، ويستنطقون آثارها، ويسألونها عن ليلى وهند وسواهما من عرائس الشعر، ويدعوهم إلى اتباع مذهبه:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
آراؤه وعقائده
لم يكن لشاعرنا مذهب يعتمده إلا اللذة، فعليها وحدها بنى آراءه وعقائده، وفي خمرياته ومجونه يظهر لنا مذهبه هذا، مسخرا له أحكام الدين وشرائعه، قانعا من دنياه بكأس وحبيب:
رضيت من الدنيا بكأس وشادن
تحير في تفصيله فطن الفكر
وإذا لامه في ذلك لائم صاح به:
يا من يلوم على حمراء صافية
صر في الجنان ودعني أسكن النارا
وأبو نواس مسلم يؤمن بالله وبالرسول، ولكنه مستهزئ فاتك، حريص على لذته، فإذا عرضت له تناولها من أية ناحية بدت، ولو خالف فيها شرائع الإسلام، وإذا طلب إليه أن يحج ويتوب إلى ربه قال:
وقائل: هل تريد الحج؟ قلت له:
نعم إذا فنيت لذات بغذاذ
68
وحج لما حجت صاحبته جنان ولولاها لما حج، وكان يضن بوقته أن يضيعه في الصلاة وهو على شرابه، فإذا سمع نداء المؤذن قال لساقيه:
عاطني كأس سلوة
عن أذان المؤذن
ويصوم رمضان مكرها، فما يفتأ يتذمر عليه، فإذا ضاق به ذرعا هجاه وأفطر وشرب وتعهر، وكان شديد الاتكال على عفو الله، وله في ذلك نظر فلسفي:
خلق الغفران إلا
لامرئ في الناس خاطي
69
ويريد أنه لولا الخطيئة لما كان الغفران، والغفران بلا خطيئة لا معنى له، وقد يلتمس العفو بطريقة مجونية ظريفة، فيقول:
وضع الزق جانبا
ومع الزق مصحفا
واحس من ذا ثلاثة
واتل من ذاك أحرفا
70
خير هذا وشر ذا
فإذا الله قد عفا
فلقد فاز من محا
ذا بذا عنه واكتفى
واتكاله على عفو الله جعله ينكر على النظام - شيخ المعتزلة - تشدده في أمر الغفران، ويرميه بالكفر والإزراء بالدين، فيقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة:
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء!
وجملة ما يقال في أبي نواس والخمر أنه أحبها حتى العبادة، فافتن في وصفها افتنانا لم يجاره أحد فيه، حتى قيل: «لقد وصف أبو نواس الخمر وصفا لو سمعه الحسنان
71
لهاجرا إليه، ولعكفا عليه.» وحتى إن أصحابه سجدوا لشعره عندما أنشدهم: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
وخمرياته أصدق صورة لنفسه الخالعة الرسن، وللروح البغدادية الماجنة في عصره.
غزله
لأبي نواس غزل كثير، فيه من المجون والصراحة ما يصور حقيقة هذا الشاعر المتهتك، وكان أصدق عاطفة في غزل المذكر منه في غزل المؤنث؛ لقلة اعتداده بالنساء، وقد حاول بعض أهله أن يزوجوه ليردوه عن غوايته فأبى، وقيل إنه تزوج جارية من أهل بيته، ولكنه ما أمسى حتى طلقها، ومن كانت هذه حاله فلا بدع أن تضعف فيه عاطفة الغزل في النساء.
ولكنه عاشر بعض الإماء، وشبب بهن لا لأنه أحب واحدة منهن حبا صادقا، بل لأنهن كن غير مصونات لا يتحرجن من مجالسة الخلعاء على الشراب، وكن إلى ذلك يصلحن للمنادمة؛ لبراعتهن في الشعر والرواية والغناء، فأبو نواس لم يعرف من الحب غير إشباع شهواته، فصدف عن الحرائر المتحصنات، وقنع منهن بالمبتذلات، وكان يؤثر الغلاميات على غيرهن، وهن الجواري اللواتي كن يتزيين بزي الغلمان، وكثيرا ما ذكرهن في شعره، ووصف أشكالهن وأزياءهن.
وقيل إنه أحب جنان جارية آل عبد الوهاب الثقفي، وكانت جميلة المنظر، أديبة ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار، ولما حجت حج معها ليجمعه وإياها المسير، واشتهر شعره بها؛ فعرفت مولاتها فبعثت إليه: «إن أردت وهبتها لك.» فأخبرت جنان بذلك فرضيت، ولكنها اشترطت عليه أن يقلع عن فجوره وقبح سيرته؛ فأبى ولم يضمن لها هذا الشرط، فحرم محبتها كما حرم محبة عنان جارية الناطفي، وغيرهما من ظرائف الإماء، وهذا يدلنا على أن حبه لجنان لم يكن صادقا وقويا كما تصوره بعض الرواة، وإنما كان يؤثرها على غيرها من الولائد، حتى إذا هجرته لم يؤلمه هجرها، ورجت منه مرة أن ينقطع عن زيارتها لتكف ألسنة الناس عنها؛ فعمد إلى نكايتها وتشهيرها، فقال:
يا معشر الناس فاسمعوه وعوا:
إن جنانا صديقة الحسن
وروى صاحب «الأغاني» أن أبا نواس رآها مرة في ديار ثقيف فجبهته بما كره فغضب وهجرها مدة؛ فأرسلت إليه رسولا تصالحه فرده ولم يصالحها، فلو صدق حبه لها لما تأبى مصالحتها وأعرض عنها.
ورووا أنه رآها مرة في مأتم تندب وتلطم، فقال:
لا زال موتا دأب أصحابه
وذاك أن أبصره دابي
72
فلو كان يحبها حقيقة لما تمنى تتابع الوفيات في أهلها وأصحابها؛ ليراها أبدا سافرة لاطمة نادبة، فهذا حب وحشي يجعل صاحبه يتلذذ بألم محبوبه، ولم يكن أبو نواس كذلك مع من يحب.
وفي «الأغاني» رواية عن بعض آل ثقيف يكذب فيها حب أبي نواس لجنان يقول: «إن ذلك لم يكن إلا عبثا خرج منه.» وهذا ما نعتقده؛ فإن الشاعر لم يخلص في حبه لجارية ثقيف؛ لأن نفسه الفاسقة صرفته عن الحب الصحيح، ولم يصاحب الإماء والجواري إلا للهو والعبث، فلم يحظ عندهن لعلمهن بأمره، وقد تغزل بهن كثيرا؛ فكان هذا الغزل ضعيف العاطفة، متكلفا في أكثره، ولا سيما العفيف منه.
والغزل العفيف قليل في شعر أبي نواس، وبعضه جميل لبراعة فنه، وبعضه الآخر ضعيف ظاهر التكلف.
مدحه
لأبي نواس في المدح لغة غير اللغة التي يتحدث بها إلى الغلمان والإماء في الخمر والمجون والغزل، فإذا رأيت الطبع والسهولة والرقة في تلك فستلقى الرصانة وتخير الألفاظ، وتكلف الغريب في هذه، فهو - في عبثه - يحادث الطبقة العامة على الأخص، فيفرغ معانيه في قالب لطيف لا يعسر فهمه؛ فيحفظه الناس ويتغنى به القيان والمغنون. وأما في مدحه فيتحدث إلى طبقة خاصة تتألف من الخلفاء والأمراء وهؤلاء يؤثرون اللغة الشريفة بلفظها الرصين وأسلوبها القديم، فكان شاعرنا يجاري أهواءهم، ويغتنم من ذلك فرصة ليرى أصحاب اللغة براعته في معرفة الغريب، واطلاعه على مذاهب العرب العرباء، فإذا هو كالشاعر الجاهلي يقف على الديار، ويذكر الأحبة، ويصف ناقته حتى يتخلص إلى ممدوحه فيسبغ عليه حلل الثناء.
فإذا أنت قرأت هذا الشعر، ورأيت ما فيه من جزالة وشدة أسر، أنكرت أن يكون أبو نواس صاحبه بعد أن عرفت الرقة والسهولة في خمرياته وغزله، فأبو نواس في مدحه محافظ أكثر منه مجددا، متكلف مقلد على كره منه، مغال أحيانا حتى يبلغ حد الإحالة، وتكاد شخصيته لا تبين في بعض مدائحه لولا خاطرات منثورة يلمحها الناقد البصير.
ولعل شخصيته تذوب في أكثرها عندما يمدح الرشيد والبرامكة؛ لأن الرشيد كان مهيبا، فيترصن في مدحه أكثر مما يترصن في مدح غيره من الأمراء الذين تقرب إليهم ونادمهم فأصبح له دالة عليهم، وهكذا كان شأنه في مدح البرامكة؛ لأن هؤلاء لم يقربوه كثيرا، فتوسل إليهم بالمديح خشية منهم، وطمعا في نوالهم.
وكان في مدح الأمين أصدق عاطفة منه في مدح غيره، ولا غرو فإنه أحب الأمين، وكان له خلا ونديما، وأكثر ما ينعته بالشباب والجمال، وشرف الأخلاق، وسخاء الكف، وحسن التدين، وغير ذلك من النعوت الحسنة، وله قصيدة قالها في العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور هي من أطيب شعره وأروعه، تمثل أبلغ تمثيل لغة الشاعر وأسلوبه في المدح، وقد استهلها بخطاب صاحب له، خانه في مودته ومال إلى غيره؛ فتخلى أبو نواس منه، وطرده عنه، وافتخر عليه بأصحابه ووفائه لهم، وبسعة صدره وطول أناته في مداراة الخلان، وإن كانوا ينطوون على حقد وبغضاء.
ثم ينتقل انتقالا بديعا إلى وصف بعيره الذي قطع به القفار إلى ممدوحه، فيتخلص بذلك إلى المدح.
فهذه القصيدة من أبلغ شعره الجدي وأشرفه لفظا ومعنى، وأوقعه رنة ونغما، فقد ارتفع بها الشاعر ارتفاعا أدهش الرواة وعلماء اللغة، ففضلها أبو عبيدة على قصيدة امرئ القيس التي أولها: رب رام من بني ثعل.
ولما سمعها ابن الأعرابي قال: «أحسن والله، لو تقدم هذا الشعر في صدر الإسلام لكان في صدر الأمثال السائرة.» وكان أبو نواس يقول: «إذا أردت الجد قلت مثل قولي: أيها المنتاب عن عفره.»
رثاؤه
ليس في رثاء أبي نواس كبير غناء، فكأن نفسه في تطلبها السرور، ونفورها من الأشجان؛ أبت عليه أن يعرف الحزن الصحيح فيجيد الرثاء، ولم يكن له أسرة يهمه أمرها فيحزن إذا أصيب أحدها بمكروه.
وروي له بيتان في رثاء ابن له، ولا ندري كيف جاءه هذا الولد؛ لأن رواة أخباره يؤكدون أنه أعرض عن عروسه وطلقها يوم زواجه بها، فلم تبت ليلة عنده، ومنهم من يزعم أنه لم يتزوجها، وهبه رزق ولدا منها أو من غيرها فليس في رثائه لهذا الولد شيء من الحنو الأبوي، وإليك ما يقول فيه:
لعمرك ما أبقى لنا الموت باقيا
نقر به عينا غداة نئوب
73
كأني وترت الموت بابن أفاده
على حين حانت كبرة ومشيب
74
وكان كثير الأصدقاء، وأكثرهم من المجان، ولكن ليس له في رثاء أحدهم شيء يعتد به؛ فقد كان يريدهم للهو والعبث لا للحزن والبكاء، ورثى أستاذه والبة، فجاء رثاؤه ضعيف العاطفة مع ما كان بينهما من مودة قديمة، ولا عجب فالمودات لا يطول لها عمر؛ بل تخف وتزول بالافتراق والتباعد، وكرور الأيام والسنين، ومات الرشيد فلم يجزع عليه؛ لأنه لم يمدحه عن حب وإخلاص، ولم يستطع رثاءه بأكثر من بيتين جافين باردين.
ولعل نفسه لم تشعر بفراغ حولها إلا يوم مصرع الأمين، فقد استولى على أبي نواس يأس وقنوط، وآلمه فقد خليله ومورده العذب، وأحس الخسارة الجسيمة التي لا تعوض؛ فبكى صديقه ورثاه، وكان صادق البكاء، عاطفي الرثاء، ومع ذلك فقد ضاقت ذراعه عن رثائه بأكثر من بضع مقطعات لا تزيد واحدتها على أربعة أبيات، منها قوله:
طوى الموت ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنية ناشر
فلا وصل إلا عبرة تستديمها
أحاديث نفس ما لها الدهر ذاكر
75
وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
لئن عمرت دور بمن لا أوده
لقد عمرت ممن أحب المقابر
76
وكان صاحبنا يشعر بعجزه في هذا الفن، فإذا رثى أحدا وتعمد الإطالة ستر عجزه بوصف الطيور والوحوش، فيذكر مناعتها في الجو والآكام والجبال، ثم يستفيض في إظهار قوتها ونشاطها وشدة فتكها؛ ليستخلص من جميع ذلك حكمة ساذجة، وهي أن هذه السباع المنيعة لا تنجو من الموت، ولو نجا حي من الموت لكانت أولى من غيرها بالنجاة، ثم ينتقل إلى مرثيه فيزوده ببضعة أبيات ليس فيها ما يحزنك أو يرضيك.
وفي هذا النوع يكثر تكلفه وغريبه، بحيث تشعر أنه يتعمد الإغراب تعمدا؛ ليستر ضعفه وقصر يده، ولنا في رثائه لأستاذه خلف الأحمر أصدق شاهد على ذلك، فقد جاء به وحشي الألفاظ غريبا، يشغل القسم الأكبر منه ذكر الجوارح والوحوش.
هجوه
الهجو في شعر أبي نواس على ثلاثة أقسام: سياسي شعوبي قبلي، وتكسبي، وشخصي ومنه العبثي؛ فالسياسي ما ظهرت به شعوبيته في هجو القبائل العربية، ولا سيما النزارية بعد انتسابه إلى اليمن، وإن تكن حياته الماجنة لم تجعل منه شعوبيا جديا، وكان هجاؤه شديد الوطأة فاحشا مؤلما، فلم يدع قبيلة إلا مزق أعراضها، حتى إنه لم يعف عن قريش بل تهكم بها وعيرها التجارة، ولكنه كان أرفق بها من غيرها؛ لأن النبوة والخلافة فيها.
وكان شديد الإعجاب بجرير، وبمهارته في الهجاء؛ فلذلك يحذو حذوه في اللذع والتعيير، ثم في رصانة العبارة وجزالة اللفظ، فكأنه أراد أن يجعل هجاءه لقبائل الأعراب صورة عن الهجو الذي تعودوه من شعراء صدر الإسلام؛ فخاطبهم باللغة التي يألفون، ويبدو لنا في هذا القسم من الهجاء اطلاع الشاعر على أحوال العرب وعاداتهم وأخبارهم، ومثالبهم وأيامهم.
وأما هجاؤه التكسبي فلم يكن يصطنعه للإلحاح في السؤال، أو لتهديد الممدوح إن لم يحسن صلته فعل بشار؛ فأبو نواس لم يكن على شيء من هذه الغلاظة، وإنما كان معجبا بشاعريته، عارفا قدر نفسه، شديد الحرص على منزلته الأدبية، فإذا بخسه أحد حقه نقم عليه وهجاه، وكان إلى ذلك شديد التبذير لا يغنيه القليل من العطاء، فإذا قتر عليه الممدوح أو ظهرت له منه جفوة رحل عنه وهجاه؛ فقد حقد على البرامكة وهجاهم أخبث هجاء، لأنهم استهانوا بمكانته، وقدموا عليه أبان بن عبد الحميد اللاحقي، وما كان أبان ليستحق هذه التقدمة، وهجا الخصيب بعد أن مدحه لأنه لم يلق منه ما كان يتوقعه، أو لأن الخصيب ضاق ذرعا بتبذيره، فطلب منه أن يرحل عنه، وهجا الهيثم بن عدي؛ لأن الهيثم لم يقرب مجلسه لما دخل عليه، وكان لا يعرفه، وهجا أبان بن عبد الحميد؛ لأن أبانا حسده فلم يضعه في المرتبة التي يستحقها لما عهد إليه البرامكة في تفريق الجوائز على الشعراء.
وأما هجاؤه الشخصي العبثي فكان يتناول به العلماء والشعراء، والبخلاء والثقلاء، وسواهم؛ فمنه ما يقصد به إلى المنافسة، ومنه ما يقصد به إلى الدعابة، وأكثره خال من الضغينة والكره، ولكنه حافل بالفحش والرذيلة كهجائه النظام وأبا عبيدة وعنان والرقاشي وغيرهم.
ومما ينبغي ذكره أن لغته في هجوه السياسي أجزل وأحكم من لغته في سائر هجائه، ولا سيما ما كان منه دعابا فإنه لا يخلو من لين وإسفاف وتكلف الصنعة.
طرده
يكاد أبو نواس يعنى بطردياته عنايته بخمرياته؛ فإن الصيد كان من أسباب ملاهيه، وملاهي الأمراء الذين نادمهم ، فوصفه وصفا دقيقا، وأجاد في بعضه كل الإجادة، وأكثر طردياته أراجيز، فقد ذكر الرواة أنه لم يقل في الطرد إلا تسعا وعشرين أرجوزة، وأربع قصائد، فما كان زائدا على ذلك فهو منحول.
وأراجيزه تعتمد على قافية واحدة، ولغته في وصف الصيد شديدة الأسر، كثيرة الغريب كلغته في مدائحه. فهذا الفن وإن يكن من ملاهي الشاعر فإن صاحبنا حباه من قوة الإحكام بشيء كثير. ولا يخفى أن الغريب من ميزات الأراجيز، فلم يشأ أبو نواس أن يجاوز هذا التقليد الموروث، فسار على خطة رؤبة بن العجاج وأبيه،
77
ولكنه وشى شعره بالصناعة الجميلة وحلاه بالمعاني الحضرية الجديدة.
وأكثر طردياته في وصف الكلاب، وأقلها في الفهد والبازي والصقر والفرس والديك الهندي وسواها. وإذا نعت الكلب وصف لونه وأذنيه وقوائمه، وأظافره وذنبه وقده، ووصف حركاته ونشاطه، ووثباته عندما يقوده الكلاب، ثم انطلاقه وراء الصيد وغير ذلك، حتى يصوره تصويرا دقيقا متناهيا.
ويبدأ أرجوزته - على الغالب - بقوله: «انعت كلبا ... انعت ديكا.» أو يستهلها ذاكرا هبوبه في الصباح، وإيقاظه الكلب للصيد.
زهده
لم يكن أبو نواس زنديقا ملحدا، وإنما كان مستهزئا، مسرفا في الخلاعة والمجون، شديد الاتكال على عفو الله؛ فغير عجيب أن يتزهد في آخر حياته بعد أن شبعت نفسه من المعاصي، وبرى الداء جسمه بريا، فإذا أنت قرأت زهدياته لمست فيها ندامة صادقة وإيمانا بالله كبيرا، وقد قال بعضها في شبابه يوم كان راكبا رأسه، مرخيا لعنان شهواته، فكأنه كانت تمر به ساعات خوف وندم، فتخرج من صدره أحر التأوهات والزفرات.
ما أدرك عليه
روي لأبي نواس شعر ساقط لا يليق بجلالة قدره في دولة القريض، ولعل ذلك مما نحلوه إياه، أو مما قاله في حال سكره؛ فإنه كان يكثر الارتجال والتعابث حين يسكر؛ فيجوز ما لا يجوز، ولم يكن ليرضاه في صحوه، وربما عبث باللغة نكاية بالعلماء المتشددين، فيشذ عن القواعد اللغوية غير مبال، وهذا ما يقع له غالبا في شعره المجوني، وإذا وقع له في شعره الجدي دافع عنه وأخرجه على وجه يرضاه العلماء، كما أخرج قوله: «ككمون النار في حجره.» ومما يؤخذ عليه قوله:
رشأ تواصين القيان به
حتى عقدن بأذنه شنفا
78
فقد جعل فاعلين لفعل واحد وهذا مكروه، وقال شنفا والصواب شنفا. وقوله:
رأيت كل من كان أحمقا معتوها
في ذا الزمان صار المقدم الوجيها
يا رب نذل وضيع نوهته تنويها
هجوته كيما أزيده تشويها
79
فهذان البيتان لا يستقيمان على بحر من البحور المعروفة. وشغف أبو نواس بأوجه البيان والبديع فجد في طلبها حتى أفرط أحيانا وتبغض، كقوله:
لما بدا ثعلب الصدود لنا
أرسلت كلب الوصال في طلبه
فقبيح أن تدخل الثعالب والكلاب في غزل يشكو به المحب هجر حبيبه.
وأدرك عليه سرقات توكأ فيها على معان سبق إليها، ولكنه كساها حللا جميلة، فسارت بين الناس وعرفت له. وأكثر ما عيب عليه تصرفه في قواعد الصرف والنحو والعروض، وجنوحه إلى الغلو حتى الإحالة كقوله في مدح الرشيد:
حتى الذي في الرحم لم يك صورة
لفؤاده من خوفه خفقان
فهذا محال؛ لأن ما لا صورة له لا وجود له، فكيف يشعر بالخوف من لا وجود له، وكيف يكون له فؤاد؟ (8-3) منزلته
قال أبو عبيدة: «أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين، فتح لهم هذه الفطن، ودلهم على المعاني، وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه.» وقال ابن عائشة: «من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب.» وقال أبو حاتم: «كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس.» وقال أبو عمر الشيباني: «لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الأرفاث
80
لاحتججنا بشعره؛ لأنه كان يحكم القول ولا يخلطه.»
فيتضح من هذه الأقوال - على تباين نزعاتها - ما كان لشاعرنا من المنزلة السامية عند الأدباء الأقدمين. وكان أشدهم محافظة على القديم - كابن الأعرابي وأبي عبيدة والأصمعي - يقبلون على رواية شعره، ولا سيما الخمري مع ما فيه من مجون وأرفاث وخروج على القديم؛ وما ذلك إلا لأنهم كانوا يشعرون بلذة هذا الجديد، وما فيه من لطف وظرف، وإن كانوا يقدسون القديم وينزهونه.
وقد أوتي أبو نواس من سيرورة الشعر ما جعله يغير على معاني غيره، فيأخذها ويحسنها فتروى له ولا تروى لأصحابها. وأقبل الناس على رواية شعره لسهولته وجدة معانيه وألفاظه، ثم لأنهم رأوا فيه صورة صادقة لعصرهم، وراقهم ما به من ظرف ومجون؛ فأحبوه وحفظوه.
وأبو نواس في تصويره عصره يتناول ناحيتي الجد والعبث، فيجمع بشعره ما في عصره من خلاعة وفتك ومجون، وما فيه من ثقافة وعلم وفنون؛ فشعره يحمل لغة الجواري والغلمان بتخنثها وظرفها، ولغة الخمارين والمجان وأخبارهم ومعابثاتهم، وكثيرا من الألفاظ المولدة التي لم يعرفها المتقدمون، كاستعمال باس بمعنى قبل، ونعت الحبيب بالمولى والسيد، ويصور مشاهد الحضارة الجديدة بصناعتها وفنونها، وحدائقها وملاهيها، ومواخيرها وحوانيتها، وأزيائها وأشكالها، وفيه نتعرف الزي الغلامي الذي شاع في صدر الدولة العباسية حين أخذ الجواري يقصصن شعورهن؛ تشبها بالغلام الرومي أو التركي أو الديلمي؛ فأطلق أبو نواس وعصبته لفظة الغلامية على كل جارية مقصوصة الشعر، وهذه اللفظة تناسب لفظة “La garçonne”
التي يطلقها الفرنجة اليوم على الفتيات المتشبهات بالغلمان.
وأبو نواس يطلعنا في شعره على مبلغ ما وصل إليه مجتمعه من استهتار بالمعاصي، واستهزاء من الدين بسبب انتشار البدع، وفي اعتماده على الله يطلعنا على اختلاف آراء السنة والمعتزلة في شأن الغفران، وفي هجائه العرب وتفضيله الحضارة الفارسية يمثل إلى حد ما تلك الجماعة الشعوبية التي كانت تكره العرب وتناوئهم، وفي عبثه ومجونه يرفع لواء التجديد والمجددين، وفي جده ورصانته يصور طبقة المحافظين خير تصوير.
ويرينا من علوم عصره واختلاط الثقافات فيه لغة العرب ومذاهب الكلام عندهم، وحضارة الفرس وأوصافهم، ومنطق اليونان ودقة معانيهم، واصطلاحات أصحاب الكلام في مجادلاتهم، فمن أي ناحية أتيته تجده شاعر الشخصية وشاعر العصر معا.
وكان أثره بليغا في الآداب؛ لأنه بث روح التجدد في الشعراء، وفتح لهم كنوز المعاني الحديثة فاقتفروا معالمه، وتحداه بعضهم في إنكار القديم، واستكراه أساليب الأعراب، وحضهم بمجونه وصراحته على الاسترسال في العبث والتهتك فاسترسلوا وراءه، وعبثوا وتهتكوا، وفتحوا باب الخلاعة على مصراعيه. (9) أبو تمام 788-845م /172-231ه (؟) (9-1) حياته
هو حبيب بن أوس الطائي، منسوب إلى طيء القبيلة العربية المشهورة، وكنيته أبو تمام وبها عرف. ومنهم من يدفع نسبته إلى طيء، ويزعم أن والده نصراني من أهل جاسم
81
يقال له تدوس
82
العطار، فلما أسلم غير اسمه فصار أوسا.
ولد أبو تمام في القرية المذكورة، فحمله والده إلى مصر وهو طفل، فنشأ فيها حتى إذا ترعرع أخذ يسقي الماء في الجامع، وقيل: بل كان يخدم حائكا ويعمل عنده.
ثم اختلف إلى مجالس الأدباء وأهل العلم فأخذ عنهم، وكان ذكيا فطنا يحب الشعر، فلم يزل يعانيه حتى برع فيه ونبه ذكره، فاتصل بالأمراء ومدحهم فأجازوه ورفعوا قدره.
ويتبين من شعره أنه وفد على المأمون في خلافته فمدحه، ولكنه لم يتصل به كما اتصل بأخيه المعتصم من بعده، فإن المعتصم أعجب بشعره، وقدمه على شعراء زمانه؛ فبعد صيته، واتسعت ذات يده، وكان ولوعا بالأسفار؛ فطفق يتنقل في الولايات ويمدح أمراءها، وهؤلاء يسبغون عليه نعمهم، ولما مات المعتصم واستخلف بعده ابنه الواثق مدحه أبو تمام، ولكنه لم يتصل به اتصاله بأبيه؛ لذلك قلت مدائحه فيه.
وكان الحسن بن وهب قد ولاه بريد الموصل، فأقام أقل من سنتين ومات بها؛ فبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة خارج باب الميدان على حافة الخندق، وأراد بذلك أن يبالغ في إكرامه بعد وفاته؛ لما له من المراثي البليغة في أبيه.
83
صفاته وأخلاقه
كان مديدا، أسمر اللون، يتمتم إذا تكلم لحبسة في لسانه، ولا يحسن الإنشاد؛ فكان غلامه الفتح ينشد شعره عنه. وكان قوي الحافظة، قيل إنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد.
ومما يروى عنه أنه كان يوما في مجلس أبي سعيد الطائي،
84
فدخل البحتري - وهو فتى - وامتدح أبا سعيد بقصيدة؛ فحفظ أبو تمام أكثرها وادعاها وقال إن البحتري انتحلها، فصدق أبو سعيد كلامه لمكانته في الشعر، ووبخ البحتري لمدحه إياه بشعر مسروق؛ فخجل البحتري. فلما رأى أبو تمام ذلك قال: «الشعر لك يا بني، والله ما قلته قط ولا سمعت به إلا منك، ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد مضاهاتي ومكاثرتي، حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ، ولوددت ألا تلد طائية إلا مثلك.»
85
وهذه الرواية لا تقتصر على إظهار قوة الحافظة في الشاعر، بل تظهر أيضا عصبيته في بني طيء، واعتداده بشاعريته، وهذا الاعتداد جعله يتحامى الدنايا، ويأبى التذلل إذا مدح، ويحدثنا صاحب «الأغاني» أن أبا تمام مدح عبد الله بن طاهر وهو على خراسان فنثر عليه ألف دينار؛ فلم يمسسها بيده ترفعا عنها، فالتقطها الغلمان.
وكان فطنا حاضر البديهة، كريم الأخلاق، كثير المروءة، ولطالما استخدم نفوذه وشعره لمساعدة من يلوذ به ويعتمد عليه.
وعاش في بيئة رفيعة، فلم يصحب غير الخلفاء والأمراء؛ لذلك قل تبذله واستتر في معاصيه، ولم يمعن في شرب الخمرة، على أنه تسرى بالجواري والغلمان كغيره من أهل عصره، وشبب بهم، ولكنه لم يتعهر في شعره كأبي نواس؛ بل صانه عن المجون، فلم يرو له من فاحش القول غير شيء قليل.
وكان إلى ذلك حسن الإسلام، قوي عاطفة الدين، وإن لم يحافظ جد المحافظة على شرائعه وأحكامه.
آثاره
لم يجمع شعر أبي تمام حتى جاء الصولي فرتبه على الحروف، ثم رتبه علي بن حمزة الأصبهاني على الأنواع، وشرحه الصولي وغيره، ولكنهم لم يتوسعوا في شرحه؛ فبقي أكثره غامضا، فقل الإقبال عليه، وطبع ديوانه في بيروت سنة 1889، مشتملا على 463 صفحة قطعها متوسط، مرتبا على ثمانية أبواب؛ أولها في المدح، ويستغرق ثلثي الديوان، والثاني في الرثاء، والثالث في المعاتبات، والرابع في الأوصاف، والخامس في الغزل، والسادس في الفخر، والسابع في الوعظ والزهد، والثامن في الهجاء.
وأبو تمام أول شاعر عني بالتأليف، فاشتهر باختياراته؛ منها مختار كتاب الحماسة، وهو أشهر مختاراته، وقد وصل إلينا، ويعرف بحماسة أبي تمام؛ تمييزا له عن حماسة البحتري، وفيه طائفة من الشعراء المقلين، والشعراء المغمورين غير المشهورين، بوبه عشرة أبواب: الأول في الحماسة، وهو أطول الأبواب؛ لذلك سمي الكتاب به من باب تسمية الكل باسم الجزء، والثاني في المراثي، والثالث في الأدب، والرابع في النسيب، والخامس في الهجاء، والسادس في الأضياف والمديح، والسابع في الصفات، والثامن في السير والنعاس، والتاسع في الملح، والعاشر في مذمة النساء. وقد شرحه كثيرون وطبع غير مرة. ومنها نقائض جرير والأخطل، صدرها بكلمة في حرب قيس وتغلب، ونشرت في بيروت، نشرها الأب صالحاني اليسوعي. (9-2) ميزته
لم يترك أبو تمام بابا من الشعر إلا ولجه وكان له حظ فيه، ولكن شهرته قامت على مدحه ورثائه؛ فرأينا أن نخصهما بالدرس والتحليل؛ لنتبين فيهما ميزته، على أن نلم بعد ذلك بسائر الأبواب إلماما فنحيط بشعره من جميع أطرافه، ونستجلي خصائص هذا الشاعر الذي شغل الناس في عصره وبعد عصره زمنا طويلا.
مدحه
وقف أبو تمام معظم شعره على المدح، فلم يدع خليفة ولا أميرا عاصره إلا رحل إليه ومدحه وتكسب منه واتصل به، ولكنه قلما تذلل في استجدائه؛ بل تغلب عليه الأنفة والرصانة، وأكثر مدائحه فخمة جليلة، منها في الخلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق، ومنها في الأمراء، والقواد والوزراء، كنسيبه أبي سعيد الطائي، وأبي دلف العجلي من قواد المأمون والمعتصم، ومالك بن طوق التغلبي صاحب الجزيرة، والوزير ابن الزيات، وآل وهب من وزراء الدولة، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، وسواهم.
ومدائح أبي تمام على ثلاثة أنواع من حيث الاستهلال؛ فمنها ما يتحدى به الأقدمين، فيبتدئ بوصف الديار الخالية، وذكر الأحبة، والنياق والقفار، ثم ينتقل إلى المدح، وربما كان انتقاله اقتضابا فعل الشاعر الجاهلي، ومنها ما يبتدئ فيه بالحكم، أو بوصف الطبيعة، أو بوصف الخمر، وفيه يكثر حسن تخلصه؛ لأنه يبتعد به عن الأسلوب القديم، ومنها ما يتناول به الغرض ابتداء دون توطئة واستطراد.
ويمتاز مدحه بفرة فوائده التاريخية؛ فإنه يحمل إلينا فيه أخبار الحروب التي جرت بين المسلمين وأعدائهم، وعلى الأخص بينهم وبين الروم، أو بينهم وبين الخرمية، ويصف انتصارات العرب، وهزائم العداة، وخراب ديارهم، ويذكر أسماء القواد والفرسان، وأسماء الأماكن التي جرت فيها الحروب، وقد يطلعنا على عادات أهل العصر، وأخلاقهم واعتقاداتهم ، وتغمر العاطفة الدينية مدائحه، وخصوصا ما كان منها في المعتصم؛ فإنه يحسن كل عمل يأتيه، ويجعله من الله، ولو نتج عن هذا العمل خراب بلد بأسره .
ومن ميزاته الغلو، وهو ميزة عصره، ولكنه قليل الإفراط فيه، وإذا أفرط جعل الشرط مانعا مثل قوله:
لو أن طول قناته يوم الوغى
ميل إذا نظم الفوارس ميلا
86
ويمتاز أيضا بما في مدحه من منطق واتساق أفكار، وحكم وأمثال سائرة، مبثوثة في تضاعيف أبياته، وبما فيه من عصبية عربية تحمله على الإسراف في ذكر مناقب العرب، وتزيين الحياة البدوية، ومساكن الأعراب وقبائلهم وشعرائهم.
وكان أصدق لهجة في مدح أنسبائه منه في غيرهم، ولعل مدحه للخلفاء أضعف عاطفة من غيره إلا ما كان منه في ذكر حروب الروم والخارجين على الخلافة، وبطش المسلمين بهم، ويعود ذلك على أن الشاعر كان يتشيع للعلويين مع تقربه من العباسيين، وأكثر الناس في ذاك العهد كانوا يعطفون على أبناء علي، ويحبونهم ويؤثرونهم على سواهم، ويرون فيهم ضحايا بريئة على مذابح السياسة، ولكن فيهم فئة معتدلة لم تر الخروج على السلطان، ولم تستنكر الأمر في العباسيين؛ لأنهم هاشميون لهم الحق في الخلافة كالطالبيين، ومن هذه الفئة كان شاعرنا؛ فإنه لم يستنكف من مدح العباسيين وموالاتهم، والدفاع عن حقوقهم في الخلافة، غير أنه لم يستطع كتمان حبه لأبناء فاطمة فمدحهم منددا بمن ناوأهم واضطهدهم ونكل بهم:
فعلتم بأبناء النبي ورهطه
أفاعيل أدناها الخيانة والغدر
87
ثم يقول:
جعلت هواي الفاطميين زلفة
إلى خالقي ما دمت أو دام لي عمر
وهذا التنديد يتناول العباسيين والأمويين على السواء، ولكنه لم يحمل خلفاء بني العباس على إقصاء الشاعر والانتقام منه؛ لأنه خصهم بأحسن مدائحه، ودافع عن حقهم في الخلافة خير دفاع.
وينبغي أن نعلم أن أبا تمام لم يمدح العلويين إلا يوم كان فتى دون السابعة عشرة من عمره، يدل على ذلك قوله في الرائية نفسها:
وإن الذي أحذاني الشيب للذي
رأيت ولم تكمل لي السبع والعشر
88
وكان يومئذ في مصر كما يستفاد من قصيدته هذه، فلما اتصل بالعباسيين أفاض عليهم مدائحه، واعتصم بالتقية؛ فسكت عن مدح العلويين فلم يحقد عليه بنو العباس.
وأبو تمام شديد الإعجاب بشعره، فإذا تم له ما أراد من إطراء ممدوحه وذكر مآثره، ووصف غاراته وانتصاراته؛ استطرد على الغالب فختم قصيدته بإهدائها إلى ممدوحه كما تهدى العروس إلى خاطبها، فيصف فضائلها وما فيها من جدة وحسن لا تبليهما الأيام، ويغلب استطراده بقوله: خذها، أو ما أشبه ذلك:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
والليل أسود رقعة الجلباب
89
بكرا تورث في الحياة وتنثني
في السلم وهي كثيرة الأسلاب
90
ويزيدها مر الليالي جدة
وتقادم الأيام حسن شباب
91
ومن أروع شعره بائيته التي مدح بها المعتصم بعد فتحه عمورية
92
سنة 223ه/837م، وكان الشاعر في صحبته، وشهد الواقعة بنفسه؛ فوصفها أبدع وصف. وقد استهلها بتكذيب المنجمين الذين زعموا أن الزمان غير موافق للفتح؛ فندد بهم وبكتهم، وفي ذلك يقول:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
93
رثاؤه
شموس كاسفة، ونجوم غائرة، وظلام يطبق الآفاق.
عيون ذارفة، ونفوس حائرة، وغصص آخذة بالخناق.
خطب ينتظم العالم بشجنه، وعالم متفجع بطوله وعرضه.
الفضل لف في كفنه، والبأس غيب في أرضه.
تلك أظهر خصائص الطائي في الرثاء، متلهف، كثير التفجع، جياش العاطفة، صادق اللهجة، ولا سيما رثاؤه لأنسبائه؛ فإن فيه الشعور القوي بالخسارة، والمباهاة بالميت، والمغالاة في ذكر صفاته. هو رثاء مدح وفخر وتعظيم وإكبار للخطب الشامل، لا رثاء ضعف عاطفي، وبكاء أليم، وليس له رثاء تظهر فيه نفسه متألمة حزينة ضعيفة إلا ما قاله في أخيه وابنه. وعلى الجملة فإن أحسن مراثيه ما جاء في أهله وأقربائه؛ فجعل له منزلة تعادل منزلته في مدحه على قلة مراثيه، وفرة مدائحه.
ومع اتصاله بالعباسيين لم يحسن رثاء واحد منهم؛ فقد مدح المأمون ولم يرثه، وبالغ في مدح المعتصم يوم كان متصلا به، فلما مات المعتصم لم يخصه بمرثية، بل جعل رثاءه في قصيدة هنأ فيها الواثق بالخلافة، فغلبت عليها صفة المدح؛ لأن الشاعر لم يقصد إلى الرثاء إلا على سبيل تعزية الابن بأبيه، أو ليأخذ بنوع طريف من البديع وهو الافتنان؛ أي أن يؤتى بفنين متضادين في قصيدة واحدة، كالتهنئة والتعزية، أو كالمدح والهجاء.
ومن ذلك نفهم أن الشاعر لم يكن شديد الإخلاص لبني العباس، وإنما توسل إليهم بمدائحه ليفيد منهم، ولا ينبغي أن ننسى تشيعه، وإن كان في تشيعه معتدلا حكيما.
وأكثر ما يستهل مراثيه بنعي الميت إلى أحياء العرب، أو بشكوى الدهر، أو بدعوة الناس إلى العويل، وإذا جاشت عاطفته واندفعت في حماستها، تضاءل عندها العقل فما تجد منه واعظا أو حكيما، بل ملتاعا متفجعا، وقد يرسل المثل السائر، ولكنه مثل عاطفي أكثر مما هو عقلي، كقوله في نسيبه محمد بن حميد الطوسي الطائي:
94
هيهات لا يأتي الزمان بمثله
إن الزمان بمثله لبخيل
فعمل العقل في رثاء أبي تمام وسط، وما العمل الأكبر إلا للاندفاع العاطفي، وأحسن مراثيه في محمد بن حميد هذا، ثم في خالد بن يزيد الشيباني.
95
عتابه
كان أبو تمام يضن بشعره أن يذهب ضياعا فما ينال به جائزة؛ فكان إذا أبطأ عليه ممدوحه عاتبه متلطفا، وذكره القصائد التي مدحه بها، ولكنه لا يلحف في عتابه ولا يهدد، بل يؤنب ممدوحه تأنيبا لطيفا، ويظهر له منزلة شعره في شيء من الترفع والإباء، ويطعن في شعر غيره فيجعله خسيسا مرذولا.
وصفه
الوصف في شعر الطائي: منه مستقل بقصائد وأراجيز ومقطعات، ومنه مبثوث في مدائحه وسواها من الأغراض، وقد وصف شاعرنا الحرب والخيل والإبل والنساء والغلمان والشيب واحتضار الميت والطبيعة والشراب، فأفاض في ذكرها جميعا، ولكن وصفه يبدو عليه أحيانا شيء من الجمود والانقباض، فما تدفعك صوره إلى الانجذاب معها في الخيال الفسيح، ويعود ذلك على أن الشاعر يغوص في عباب معقوله أكثر مما يطير في سماوات مخيلته، ويسرف - على الغالب - في استعمال الغريب وأوجه البديع، حتى تجف صوره وتجفو، وتفقد كل حركة وحياة.
غزله
قد يطول تعبك ويعز طلبك إذا حاولت أن تلتمس العاطفة الصادقة في الغزل الذي كان أبو تمام يوطئ به مدائحه وتهانيه، فهذا الغزل لم يأت به الشاعر تلبية لهمسات فؤاده، وإنما جاء به إرضاء لنزعات نفسه إلى التقليد، فإذا هو يقف على الطلول، ويسلم على الديار، ويبكي على الرسوم، ويستنطق الآثار، ويذكر عرائس الشعر اللائي شبب بهن المتقدمون.
وهذا الغزل جاف في أكثره، جاف في معانيه، وإذا عثرت فيه على تشبيب حسن يرضيك، فما تعثر على شعور رقيق يؤثر فيك، وقد تلفي فيه الصنعة على غرابة لفظه وبداوة معانيه، ولكنك لا تتبين نفسية صاحبه في قوافيه، فهو غزل كاذب لا يصور عاطفة العاشق المحب، بل يمثل كلف الشاعر بتقليد المتقدمين، وإعجابه بمذاهب أهل الخيام، وعرائس الشعر عندهم.
على أن لأبي تمام غزلا غير هذا يصور عاطفته أصدق تصوير، وهو الذي تجده في ديوانه مقطعات صغيرة، منها بيتان ومنها أربعة، وقلما زادت كبراها على ستة، فهذه المقطعات إن هي إلا زفرات مشتعلة تتقد بها نفس الشاعر المستهام، فترى منه محبا شديد الغيرة على محبوبه، يتلظى غيظا إذا زاحمه فيه مزاحم.
وفي هذا النوع من الشعر ترق ألفاظه، وتلطف معانيه، ويقل تكلفه لاقتصاده في طلب الصنعة.
ولم يتعهر في هذا الغزل إلا قليلا؛ ذلك بأن أخلاق الطائي تأبى المجاهرة بالخلاعة، وتؤثر الترصن والوقار، غير أنه لم يشذ عن خطة معاصريه في التذلل للمحبوب، وإظهار العبودية له.
وأضيفت إليه أبيات رويت لأبي نواس، ومن الصعب تحقيق نسبتها إلى أحدهما، على أن في بعضها من النكتة والظرف ما يدفعنا إلى أن نرده على شاعر الأمين.
فخره
كان أبو تمام عربيا في نزعته ينتمي إلى طيء بالولاء على الأرجح؛ فافتخر بعروبته، وافتخر بقومه، وذكر أجوادهم وفرسانهم، وفيهم أمثال حاتم وزيد الخيل، وكان شديد الإعجاب بشعره؛ فافتخر به وفاخر الشعراء، ونزل المشيب برأسه وهو في السابعة عشرة من عمره، فجعل منه موضوعا لفخره، كيف لا والشيب عنده عنوان الكمال!
الوعظ والزهد
لم يتنسك أبو تمام كما تنسك غيره من الشعراء، ولا عرف الزهد إلى نفسه سبيلا، بل ظل يجني من الحياة أحلى ثمارها، ويستنشق أطيب أزهارها، لا يتورع من إثم يرتكبه، ومحرم لا يجتنبه، فقد كان من طلاب اللذة ولكنه آثرها مستترة.
وكان ككل خاطئ ابتلي بالمعاصي، تمر به ساعات خوف وندم، فتتمثل له الآخرة وعذابها، فتطير نفسه شعاعا؛ فيفزع إلى ربه مستغفرا متندما، ويقف من نفسه موقف الواعظ الحكيم، فيؤنبها على استهتارها وغفلتها، ويذكرها الموت والفناء والعذاب.
وليس له شعر كثير في الزهد؛ لأن هذا النوع لم يكن من طلباته، وإنما كان يعرض له على كره منه، فينظمه خاضعا لتأثير نفساني طارئ لا يلبث أن يزول، ويبدو هذا التأثير عظيما عندما تسمعه يتمنى أن يصبح بعد موته رفاتا محضا، لا نفس له خالدة في نعيم أو جحيم:
فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي
أكون رفاتا لا علي ولا ليا
ولكنه حسن الإيمان بالله، شديد الاتكال عليه، فإذا الخوف والرجاء يعتلجان في صدره:
أخاف إلهي ثم أرجو نواله
ولكن خوفي قاهر لرجائيا
96
ويقول أيضا:
وإني جدير أن أخاف وأتقي
وإن كنت لم أشرك بذي العرش ثانيا
وهذا البيت يظهر لنا الشاعر كبير الذنب، ولكنه صادق في عقيدته، مخلص لإسلامه.
هجوه
لم يعن أبو تمام بالهجو السياسي؛ لأنه كان علوي النزعة، مقربا من العباسيين، فلم يتأت له أن يهجو الشيعة ولا بني العباس، وكان عظيم الحظوة عند الأمراء وأكثرهم من الموالي؛ فأقصر عن هجاء الشعوبية، والرد على شعرائها الذين أفحشوا في تعيير العرب، واقتصر على هجاء الشعراء الذين تعرضوا له حسدا، فعابوا شعره ورموه بالسرقة والانتحال، واقتصر أيضا على هجاء طائفة من الفتيان الذين صحبوه ثم ملوا صحبته؛ فندد بهم ونشر مخازيهم، وجاء هجوه لهم مفعما بالغيرة الخانقة، وحب الاستئثار، وهجاؤه - في جملته - غير بريء من التعهر وانتهاك الحرمات، وهو إلى ذلك سهل الألفاظ، قليل التكلف، عاطفي يجري مع الطبع.
حكمه وآراؤه
ليس لأبي تمام شعر خاص بالحكمة، وإنما كان يبث حكمه في قصائده على اختلاف أغراضها، وكانت كتب الفلسفة والمنطق قد نقلت عن اليونانية، واطلع عليها الناس فشغفوا بها؛ فسبق أبو تمام الشعراء إلى الاستفادة منها، فغاص على معانيها الدقيقة، واستخرجها من أبعد أغوارها، وجعل المنطق له إماما، فأكثر من الأخذ بالأدلة العقلية، وأرسلها حكما وأمثالا، حتى روي له منها ما يربي على مائتي بيت.
فالحكمة في شعر أبي تمام لا تقتصر على اختباراته لحوادث الأيام وتجاربها شأن الشاعر الجاهلي، بل تتعداها إلى التفكير الصحيح؛ لأنه كان يتطلبها بإلحاف، ويتعمدها أكثر مما يأتي بها عفوا.
وحكم الطائي - في جملتها - قائمة على المواعظ الأدبية، والنظر في أخلاق الناس، وتعظيم العقل، وذم الزمان؛ لأنه يشقى به العاقل وينعم الجاهل.
وإذا شئت أن تستخلص لشاعرنا رأيا خاصا بالحياة فبوسعك أن تحصره في دائرة صغيرة، ألا وهي الصبر، ومصانعة الأيام ومداورتها، والاغتراب طلبا للرزق ومحاربة للفقر، فمن ذلك قوله:
ما يحسم العقل والدنيا تساس به
ما يحسم الصبر في الأحداث والنوب
الصبر كاس وبطن الكف عارية
والعقل عار إذا لم يكس بالنشب
97
وهذان البيتان يظهران اعتماد الشاعر على الصبر في مصانعة الأيام، ويظهران حبه للمال وتعظيمه له؛ فإنه على شدة إجلاله للعقل يراه عاريا ضائعا إن لم يكسه المال ويحفظه من الضياع، وحب المال جعل الشاعر يؤثر الاغتراب في طلبه؛ فتنقل بين الولايات، وتكسب من مدح الأمراء.
ما أدرك عليه
أفرط أبو تمام في استعمال البديع، فجره تعمد التجنيس والطباق والإرصاد إلى سقطات كان غنيا عنها، فمن ذلك قوله:
فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت
سلام سلمى ومهما أورق السلم
98
فهذا على لغة الآمدي من كلام المبرسمين.
99
وأفرط في استعمال الاستعارات، فلم يسلم من العثار، ورويت له استعارات مضحكة لا تليق بشاعريته، كقوله:
في كماة يكسون نسج السلوقي
وتعدو بهم كلاب سلوق
100
فقد أراد التجنيس والإرصاد بين السلوقي وسلوق، فجعل خيول الفرسان كلابا، وإسرافه في طلب هذه الأشياء ورطه في مضادات جمة لأصول الفصاحة، وجعل في شعره غموضا لا تحل رموزه إلا بشق النفس، وزاده إبهاما إيثار الألفاظ الحوشية بل الوحشية، مثال ذلك قوله:
أهيس أليس لجاء إلى همم
يغرق الأسد في آذيها الليسا
101
فالأهيس والأليس والليس ثقيلة على السماع، ثم استشنعت لاجتماعها في بيت واحد، وقد فصل الشاعر بين النعت والمنعوت بغريب في قوله: يغرق الأسد في آذيها الليسا. وأشبع حركة الياء في أهيس وأليس؛ تشبها بالمتقدمين، مع أن المولدين أخذوا يتحامون أمثال هذا الزحاف بعد وضع العروض، والزحاف في شعر أبي تمام جد كثير، قلما خلت منه قصيدة، وربما تواطأت عدة زحافات على بيت واحد فحطمته تحطيما.
ولم يقتصر على الإسراف في البديع، والخروج على قواعد العروض؛ بل استباح قواعد النحو فلم يرع لها ذمة. وأدركت عليه سرقات كثيرة جره إليها جمعه لأشعار المتقدمين، وسعة روايته؛ فكان يسل المعاني الحسان ويدخلها في شعره، ولكن خصومه بالغوا في تسريقه، فزعم دعبل أن أبا تمام أغار على قصيدة لمكنف بن أبي سلمى من ولد زهير بن أبي سلمى فسرق أكثرها، وأدخله في قصيدته «كذا فليجل الخطب»، وروى صاحب «الأغاني» أبياتا منها جاء في أواخرها:
كأن بني القعقاع يوم مصابه
نجوم سماء خر من بينها البدر
توفيت الآمال يوم وفاته
وأصبح في شغل عن السفر السفر
وهذان البيتان تجدهما في رائية أبي تمام مع بعض التغيير، على أننا نشك في صحة ما زعم دعبل؛ لأن الأبيات التي ذكرها بينة التوليد لا تشبه أشعار المتقدمين، والأرجح أن دعبلا نظمها ونحلها ابن أبي سلمى؛ بغية إسقاط أبي تمام.
وأورد الآمدي في موازنته بين الطائيين
102
طائفة كبيرة من سرقات أبي تمام، وذكر معها الموارد التي استقى الشاعر منها، فأصاب في بعضها وأخطأ في بعضها الآخر؛ لأنه لم يبرأ من التحامل على أبي تمام والميل إلى البحتري، فقد روى له أبياتا وزعم أنها مسروقة، مع أن السرقة فيها ضعيفة غير ظاهرة، وعاب عليه أبياتا أخر دون أن يراعي معانيها الشائعة المشتركة التي لا ينفرد بها شاعر عن شاعر. (9-3) منزلته
شغل أبو تمام الناس بشعره فانقسموا حزبين: حزبا يفرط في التعصب له ويقدمه على كل سالف ومحدث، وحزبا يفرط في التعصب عليه، ويتعمد الرديء من شعره فينشره ويطوي محاسنه.
وغير عجيب أن يشتد الخلاف في هذا الشاعر، فقد حمل إلى الشعر أشياء غير مألوفة، فلم تتفق جميع الأذواق على استياغها والارتياح إليها؛ فإنه جعل الشعر صنعة، وبعد به عن الطبع السمح؛ لإسرافه في طلب التجنيس والطباق والاستعارات. قال الآمدي: «حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه إلا مع الكد والفكر، وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس.» ا.ه.
وأفرط في اتخاذ الأدلة العقلية بعد اطلاعه على كتب يونان، فازداد شعره إبهاما وتعقدا، وأصبح لا يميل إليه إلا من آثر الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، وكان لمختاراته التي جمع فيها أشعار العرب المتقدمين اليد الطولى في تضليعه من غريب اللفظ ووحشيه، فشغف به وأفرط في استعماله، حتى تأبد أكثر شعره واخشوشن، وسمج وقعه في الآذان، فضاعت فيه معانيه الحسان، فما تعثر على واحد منها إلا كما تعثر على لؤلؤة وضاءة في أكوام من الفحم؛ فأعرض سواد الرواة عن حفظه، وكان ابن الأعرابي يقول: «إن كان هذا شعرا فكلام العرب باطل.» وابن الأعرابي من أولئك العلماء الذين وقفوا على لغات العرب ومذاهبهم، وآثروا الأسلوب القديم والغريب من اللفظ على الأسلوب الجديد واللفظ الرقيق، ولكنه أنكر على أبي تمام تأبده وغموضه، وتعسفه في طلب البديع والأدلة العقلية، وبعده عن الطبع، مع أن أبا تمام كان يحب الغريب مثله ويترسم البدو في أساليبهم، غير أنه أفسد شعره بكثرة التصنع والإبهام.
وكان إذا قيل له: «لم تقول ما لا يفهم؟» قال: «لم لا تفهمون ما يقال؟!» وفي هذا الجواب من المكابرة ما يدل على اعتداد الشاعر بنفسه وارتضائه بجميع ما تفيض به قريحته، حتى إنه ليبخل ببيت ظاهر عيبه فما يسقطه من قصيدته، وكان يرد على لائمه بقوله: «أنا والله أعلم منه مثلما تعلم، ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه، فهو وإن أحب الفاضل لم يبغض الناقص، وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر .»
وإسراف أبي تمام في الصنعة والغريب، وبخله بشعره، من الأسباب التي كان لها الأولية في الإكثار من رديئه، فاشتهر جيده لقلته، والجيد في شعره ما اجتمع فيه حسن اللفظ والمعنى، فجاء آية في الإبداع؛ لذلك كان البحتري يقول: «جيده أحسن من جيدي، ووسطي ورديئي خير من وسطه ورديئه.»
ولو وفق أبو تمام لتجميل ديباجته كما وفق في تصيد المعاني لما بلغ شأوه بالغ؛ لأنه أوتي من جودة القريحة، وسعة الخيال، وتنبه الذهن، ما يجعل منه شاعرا لا يجارى، ولو عمل بوصيته للبحتري إذ قال له: «وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام.» لوقى شعره سقطات كثيرة، ولكن جعل همته في الغوص على المعاني ولم يعن بتقويم ألفاظه، فكان إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ اتفق له من ضعيف أو قوي، لا يعنيه منه إلا أن يدخل فيه طباقا أو جناسا، أو استعارة أو إرصادا؛ فنتج عن ذلك أن سقط معظم معانيه، فجاء بعده من أخذها عنه، وأفرغها في قالب حسن فنسبت إليه.
وعلى الجملة فإن أبا تمام شاعر عبقري يجاري أحيانا الطبقة الأولى من الشعراء المولدين، ولكنه شاعر ضل طريقه فما يلبث أن يتقهقر فتنحط منزلته عن منزلة المبرزين منهم، ولولا تعسفه وصنعته لما فضله مولد، وهو أول شاعر انكشفت له الحكمة اليونانية فاغترف من بحرها، ومهد السبيل من بعده للمتنبي وأضرابه، وأول شاعر عمد إلى التأليف فسخر له اختياره لأشعار المتقدمين من المعاني ما لم يسخر لسواه، ويمتاز شعره بطول النفس، وفخامة الابتداء، وبعد مرامي التفكير، على اندفاع عاطفي. وله المكانة العالية في الرثاء ثم في المدح، ويعد من المجددين في عصره من حيث التزام البديع، ونظم الأدلة المنطقية، والآراء الفلسفية، وقد أغنى اللغة بمعان لم تعرف قبله، كما أغناها بأنواع الاستعارة والتجنيس والطباق. (10) دعبل 765-860م/148-246ه (10-1) حياته
هو دعبل
103
بن علي بن رزين الخزاعي، ينتهي نسبه إلى قحطان، وكنيته أبو علي، وقيل إن دعبلا لقب له، وإن اسمه الحسن أو عبد الرحمن أو محمد، وكنيته أبو جعفر، وذكر ابن خلكان أن جده رزينا كان مولى عبد الله بن خلف الخزاعي، ولم يذكر ذلك غيره، بل اتفقوا على صحة عروبته، ونسبته في خزاعة.
وكانت ولادته في الكوفة وبها نشأ، فلما ترعرع جعله مسلم بن الوليد
104
في كنفه، فتخرج عليه في الشعر، ولم يأذن له بإظهار شعره إلا بعد أن استوسقت ملكته وسمع منه قوله: «أين الشباب وأية سلكا.»
وكان دعبل في صباه يلقب بمياس؛ لتخنثه وسوء سيرته، ولما اشتدت قواه أخذ يصحب الشطار
105
والصعاليك، فحبس وضرب وهو غلام لجناية جناها، ولكنه لم يرتدع، بل ظل يصلت
106
على الناس في الليل، حتى خرج مرة هو ورجل من أشجع
107
فيما بين العشاء والعتمة، فجلسا على طريق رجل من الصيارفة، وكان يروح كل ليلة بكسبه إلى منزله، فلما طلع مقبلا عليهما وثبا إليه فجرحاه، وأخذا ما في كمه، فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة، ولم يكن كيسه ليلتئذ معه، ومات الرجل مكانه، واستتر دعبل وصاحبه، وجد أولياء الرجل في طلبهما، وجد السلطان في ذلك؛ فطال على دعبل الاستتار، فاضطر إلى الهرب من الكوفة، ولم يرجع إليها إلا بعد أن علم أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد.
واتصل الشاعر بالرشيد وهو شاب لم ينبه ذكره بعد، وسبب اتصاله به أن بعض المغنين غنى في قوله: «لا تعجبي يا سلم من رجل.» فغني به بين يدي الرشيد، فطرب له وسأل عن قائله، فقيل له: «دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة.» فأمر بإحضاره، وخلع عليه وأجازه، وأجرى عليه رزقا سنيا؛ فكان أول من حرضه على قول الشعر حتى نبغ واشتهر اسمه.
ولم يتصل بعد موت الرشيد بغيره من الخلفاء؛ لأنه كان متعصبا للعلويين، يريد الإمامة فيهم، ويؤلمه ما نالهم من التقتيل؛ فنقم على بني العباس، وهجاهم، وأقذع فيهم القول، فبقي دهره كله خائفا، هاربا متواريا، وكان يقول: «أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ أربعين سنة
108
ولست أجد أحدا يصلبني عليها.»
وظل يتنقل من بلد إلى آخر مستخفيا عن أعين الخلفاء حتى مات، وكان الشراة
109
والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه، ويؤاكلونه، ويشاربونه، ويبرونه، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ، ودعا بغلاميه نفنف وشعف - وكانا مغنيين - فأقعدهما يغنيان، وسقاهم، وشرب معهم، وأنشدهم.
موته
يحدثنا الرواة أن دعبلا قصد مالك بن طوق أمير الجزيرة، ومدحه فلم يرض ثوابه؛ فخرج عنه غاضبا، وهجاه فأفحش فيه القول، فطلبه مالك فهرب فأتى البصرة، وعليها إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، وكان قد بلغه هجاء دعبل للنزارية تعصبا للقحطانية فقبض عليه، ودعا بالنطع والسيف ليضرب عنقه؛ فحلف بالأيمان المحرجة أنه لم يقلها، وأن عدوا له قالها ونسبها إليه ليغري بدمه، وجعل يتضرع إليه ويقبل الأرض ويبكي بين يديه؛ فرق له وقال: «أما إذا أعفيتك من القتل فلا بد من أن أشهرك.» ثم دعا له بالعصي، فضربه حتى سلح، وأمر به فألقي على قفاه، وفتح فمه فرد سلحه فيه، والمقارع تأخذ رجليه، فما رفعت عنه حتى بلع سلحه كله، ثم خلاه فهرب إلى الأهواز.
وبعث مالك بن طوق رجلا حصيفا مقداما، وأعطاه سما وأمره أن يغتاله كيف شاء، وأعطاه عشرة آلاف درهم، فلم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السوس فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة، فضرب ظهر قدمه بعكاز لها زج
110
مسموم، فمات من الغد، ودفن بتلك القرية، وقيل: بل حمل إلى السوس فدفن فيها، وكانت وفاته في أواخر خلافة المتوكل.
111
صفاته وأخلاقه
كان في صباه على شيء من الملاحة والهيف، فلقب بمياس كما مر بنا، ولعله أصيب بالصمم بعد أن تقدمت سنه فأصبح أطروشا، وكان في قفاه
112
سلعة،
113
وقيل: بل في عنفقته
114
ربما حباه بها تشطره ولصوصيته.
ولم يكن على شيء من كرم الخلق؛ فقد عرف باللؤم، وخبث اللسان، والحسد والغدر واللصوصية والدناءة، وغمط النعمة، وكره الناس، وسمعه بعضهم يقول: «ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته.» وله رأي في مصاحبة الناس ومخالقتهم، لا يختلف في شيء عن رأي بشار؛ فإنه كان يقول لمن يلومه على كثرة هجائه للخلفاء والأمراء: «ويحك! إني تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالى الشاعر - وإن كان مجيدا - إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة - ولم يكن ذلك فيه - انتفع بقولك، فإذا رآك أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك! إن الهجاء المقذع آخذ بضبع
115
الشاعر من المديح المضرع.»
116
فدعبل كبشار يكره الناس، ويحب التكسب، ويؤثر أن يطلبه بالهجاء بدلا من المديح، وهو كبشار سيئ الظن في أبناء عصره، فعيوب الناس عنده أكثر من محاسنهم؛ غير أنه يختلف عن بشار في أنه صاحب عصبية عربية، ويختلف عنه أيضا في أنه كان دونه أنفة وكبرا؛ فقد ضرب بشار حتى مات ولم تذل نفسه ولم يتضرع، وهدد دعبل بالموت فبكى وتذلل، ثم ضرب فسلح وبلع سلحه.
ولم يبر أحدا إلا أبناء علي، فقد كان صادق التشيع لهم، يرجو بهم الشفاعة في الآخرة، ولكن تشيعه لا يعني أنه كان حسن التدين، يحافظ على شعائر الإسلام؛ فدعبل لم يتحوب من القتل والسلب، وتمزيق الأعراض، والتخنث والفجور، وشرب الخمر، ولكنه كان أقل فجورا وسكرا من بشار.
وعلى الجملة فليس في أخلاق دعبل ما يستحق الحمد والثناء، فهو عصارة اللؤم المصفى.
آثاره
لم يشهر دعبل في الشعر إلا بعد أن اكتمل شبابه واتصل بالرشيد، فأجازه وحرضه على القول. وأما الشعر الذي نظمه في صباه فإن أستاذه مسلم بن الوليد لم ير فيه خيرا؛ فأمره بكتمه، فكتمه ولم يظهره.
ولكن دعبلا عمر طويلا، ونظم شعرا كثيرا، فقد روى الجاحظ أنه سمعه يقول: «مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذر شارقه إلا وأنا أقول فيه شعرا.» غير أن هذا الشعر ضاع، ولم يبق منه إلا بعض قصائد ومقطعات مبثوثة في كتب الأدب، وأكثرها في الهجاء، ومدح آل البيت. ولعل إقذاعه في هجو الخلفاء العباسيين كان السبب في ضياع شعره، وإخمال ذكره؛ لأن الناس أهملوه بعد موته تهيبا لبني العباس، فلم يرووا شعره ولم يجمعوه. (10-2) ميزته
لا نبتغي دراسة عامة لشعر دعبل وقد ضاع أكثره، على أن ما بقي منه كاف لأن يظهر لنا الخصائص التي اشتهر بها هذا الشاعر، ألا وهي الهجاء المقذع والمتاجرة به، والعصبية القحطانية، والتشيع لأبناء علي.
هجوه وتكسبه
كان دعبل يحب التكسب كغيره من شعراء العصر العباسي، وأوتي من خبث اللسان ولؤم الطباع ما جعله عند الناس بغيضا مقيتا؛ فابتعدوا عنه، ونفروا منه، وتمنوا هلاكه، حتى إن ممدوحيه كانوا يجيزونه قطعا للسانه لا حبا له، فلم يسبغوا عليه وافر النعم، ولا أغنوه من فقر؛ فانقلب عليهم وهجاهم، وقدر له أن يعيش هاربا خائفا متواريا لإفراطه في هجاء الخلفاء والأمراء، فلم يطمئن به مضجع ولا رحب به مصر؛ فاشتدت نقمته على الناس، وازداد كرها لهم، وأبت نفسه الخبيثة أن تأنس برؤية من يصنع المعروف معها، فتمنت هلاكه لئلا تضطر إلى مجاملته والتودد إليه، ووافق هواها شتم الناس، فرأت أن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. وهذه النظرية سبق بشار إليها فاختطها دعبل من بعده، وكان مسلم بن الوليد يقول بها، ولكنه لم يؤيدها كما أيدها تلميذه؛ لأنه لم يكن مثله لئيما دنيئا، ولم يكن يكره الناس.
واعتماد دعبل على الهجاء في التكسب جعله يهيئه قبل أن يجد المهجو، فإذا استحقه أحد أتحفه به، وذكر اسمه وشهره. وأكثر الذين هجاهم من أمراء ووزراء وقواد - كابن الزيات، ومالك بن طوق، والفضل بن مروان، وغيرهم - كانوا من ممدوحيه، فلم يرضه عطاؤهم فنقم عليهم.
ولم يسلم من شره أنسباؤه وأصدقاؤه والمتشيعون مثله؛ فقد هجا آل طاهر بن الحسين الخزاعي مع شدة ميله إليهم، وكثرة افتخاره بهم، وقصد مصر؛ فمدح أميرها المطلب بن عبد الله بن مالك - وهو قريب له - فأجازه، وولاه أسوان. وحدث أن رجلا من العلويين كان قد تحرك بطنجة، وأخذ يبث دعاته إلى مصر؛ فخافه المطلب؛ فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها، فجاء دعبل فمنع؛ فأغلظ للذي منعه، فقنعه هذا بالسوط وحبسه، ثم عرف المطلب بالأمر فأطلقه وخلع عليه، فقال له: «لا أرضى أو تقتل الموكل بالباب.» فقال له: «هذا لا يمكن لأنه قائد من قواد السلطان.» فغضب دعبل وهجاه جاحدا قرابته وفضله عليه.
وبلغ المطلب هجاؤه إياه فعزله عن أسوان؛ فراح يفحش فيه القول ويوجع عرضه.
وبلغ به لؤمه وحبه للكسب أن مكر بأستاذه مسلم بن الوليد عندما ولاه الفضل بن سهل
117
البريد بجرجان؛
118
فصار إلى مرو قاعدة خراسان، وكتب إلى الفضل بيتين يحرضه بهما على إقصاء مسلم؛ لأنه لا يحفظ مودة؛ فبلغا مسلما - أبلغه إياهما الفضل - فهجا دعبلا، وهجاه دعبل، ثم تهاجرا فما التقيا.
وحسبك من ذلك شاهد على لؤم دعبل، وخبث لسانه، ودناءته في طلب الرزق، وغدره بأقرب الناس إليه.
عصبيته القحطانية
لا نرى بنا حاجة إلى الاستفاضة في أسباب العداء المستحكم بين العدنانية والقحطانية، فحسبك أن تعلم أنه أثر باق من عصبية العرب في جاهليتهم، وتنافس قبائلهم من نزارية وحميرية. وجاء الإسلام فزيدت قريش شرفا بالنبوة، ثم استقلت بالخلافة، فدلت قبائل معد على قبائل اليمن، فاشتدت الخصومة بينهم وعظم التنافس، فكانت شعراء نزار تهجو اليمانية، وشعراء اليمن تهجو النزارية ولا تعف عن قريش.
وكان دعبل من خزاعة، وخزاعة قبيلة قحطانية لها شرف عادي تكنفها في الجاهلية والإسلام؛ فغير عجيب أن تثور عصبيتها فتدفع شاعرها إلى مفاخرة العدنانية ومنافستها، وبلغ التعصب بدعبل أن هجا الكميت بن زيد الأسدي
119
وناقضه في قصيدته التي هجا بها قبائل اليمن، وأولها: «ألا حييت عنا يا مرينا.»
120
وكان الكميت قد مات، فلم يرع حرمة الميت فيه، وكان الكميت شيعيا مثله فلم يرع حرمة تشيعه، ولم يعف عن قريش في نقيضته، بل هجاها بقوله:
من اي ثنية طلعت قريش
وكانوا معشرا متنبطينا
121
وكأن الشاعر خشي شر هذا البيت، فكان إذا سئل عنه تبرأ منه وقال: إن خصمه أبا سعد المخزومي دسه عليه في نقيضته.
وأبو سعد هذا شاعر من موالي قريش اسمه عيسى بن خالد بن الوليد، انبرى لدعبل يهاجيه وينقض أقواله بعد أن رد على الكميت وهجا النزارية؛ فاستطال عليه دعبل، فخاف بنو مخزوم أن يعمهم الهجاء؛ فنفوا أبا سعد عن نسبهم، وكتبوا بذلك صكا، فقال دعبل يهجوه:
كتبوا الصك عليه
فهو بين الناس آيه
فإذا أقبل يوما
قيل: قد جاء النفايه
122
ولحم الهجاء بينهما، هجاء فاحش فاجر، وكان شعر دعبل أسير من شعر أبي سعد؛ لسهولته وخفته، فسار على أفواه الصبيان وعابري السبيل، وكان أبو سعد يتضور منه ويقول: «ما أجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهدرون به.» وقيل: إن دعبلا كان إذا هجا أبا سعد دعا الصبيان، وأعطاهم جوزا ليصيحوا بشعره، فدعبل - كما ترى - شاعر عصبية متحمس لقحطانيته.
تشيعه للعلويين
إذا شئت أن تتبين مبلغ تعصب دعبل لأبناء علي، فعليك بشعره الذي هجا به الخلفاء العباسيين، فهو أصدق شاهد على تشيع هذا الشاعر، وكرهه لبني العباس الذين استأثروا بالملك دون أبناء عمهم من هاشم.
وكان الرشيد أول خليفة سلط دعبل لسانه عليه، ولكن بعد موته، ولم يهجه في حياته لأسباب، منها: أن الرشيد كان مرهوب الجانب، ومنها: أن دعبلا كان محظوظا عنده؛ فأشفق من أن تزول عنه هذه النعمة؛ فكظم تعصبه في صدره، ورضي بالصمت على أمل أن تتبدل الأحوال بتبدل الأزمان، ومات الرشيد واستخلف الأمين من بعده وشاعرنا لا ينبس ببنت شفة، ثم وقعت الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون، فانتصر الفرس للمأمون لأن أمه فارسية، وكان المأمون ذا دهاء، فرأى من الحكمة أن يتودد إلى العلويين استكفافا لسخطهم، واسترضاء للفرس أنصاره وأشياعهم، فلما تم له الأمر بعد مقتل أخيه عهد في الخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا - من ولد علي بن أبي طالب - فاغتبطت الشيعة وارتضت، ولكن العباسيين سخطوا فبايعوا إبراهيم بن المهدي في بغداد، فخشي المأمون أن يفلت الأمر من يده بخروج العباسيين عليه، وميلهم إلى عمه إبراهيم؛ فود لو يتخلص من هذه الورطة ليصفو له الجو، فلم يلبث أن تحققت أمنيته فتوفي علي الرضا فجأة، وزعموا أنه أكثر من أكل العنب فمات، وقال آخرون: بل دس المأمون له السم فقضى عليه. وكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بموته؛ فخلعوا إبراهيم ودعوا للمأمون بالخلافة.
وأثار موت علي الرضا بهذا الشكل ظنون العلويين؛ فهاج بعصبيتهم وأيقظ النقمة في صدورهم، غير أن المأمون استطاع أن يخضد شوكتهم بدهائه؛ فقربهم إليه، وشغلهم بالخطط العالية، ولم يحجم عن اغتيال من يخشى شره منهم، فعله بوزيره الفضل بن سهل، وبقائده طاهر بن الحسين.
وكان دعبل في جملة الناقمين، وساءه أن يغدر المأمون بعلي الرضا، ثم يدفنه عند قبر أبيه الرشيد في طوس؛ فهجا الرشيد والعباسيين، وبكى على العلويين ضحايا أبناء عمهم، وفي ذلك يقول:
قبران في طوس خير الناس كلهم
وقبر شرهم هذا من العبر!
123
وبوسعنا أن نتبين هنا خطأ الرواية التي أثبتها أبو الفرج في أغانيه، وتناقلتها كتب الأدب من بعده، وهي قولهم: «ما بلغ دعبلا أن الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله من العطاء السني، والغنى بعد الفقر، والرفعة بعد الخمول، بأقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت - عليهم السلام - وهجا الرشيد.» ثم يروون قوله: «قبران في طوس.» ولا يروون له غير ذلك في الرشيد.
فهذه القصيدة لم تنظم إلا بعد وفاة علي الرضا؛ أي سنة 203ه/818م، والرشيد مات سنة 193ه/809م، وقد أخطأ صاحب «معاهد التنصيص» في زعمه أن الشاعر أراد في قوله: «اربع بطوس على القبر الزكي.» قبر موسى الكاظم؛ أي والد علي الرضا؛ فموسى الكاظم لم يدفن في طوس، بل في مقابر الشونيزي في بغداد.
فيتضح - مما تقدم - أن الشاعر بقي نحو عشر سنوات بعد الرشيد لم يقل هجرا في العباسيين، وانقضت خلافة الأمين دون أن يهجو أحدا منهم، حتى مات علي الرضا؛ فاستيقظت عصبيته فهجا الرشيد، ثم هجا المأمون، وإبراهيم بن المهدي، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.
وكان المأمون أرحبهم صدرا في استماع هجائه؛ ذلك أنه كان يزن الأمور بمعيار فطنته، فلم يجد بأسا على الخلافة من هجاء دعبل فلم يعبأ به، ولم يشأ أن يسيء إلى الشيعة بقتل محازبهم، ولا أن يرزأ بني خزاعة بشاعرهم، وهم أنصاره في ثورته على أخيه.
وسأله أبو سعد المخزومي أن يأذن له بقتله فأبى وقال: «هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا، فأما قتله بلا حجة فلا.»
ولطالما حاول أن يقربه ويصطنعه، فكان يأخذ عطاياه ثم يعود إلى هجائه، والمأمون يتحلم عنه وقد يجيزه إذا سمع منه هجاء في عمه إبراهيم؛ لأن إبراهيم طمع في الخلافة وأرادها لنفسه دونه، فكان المأمون يتعمد نكايته والتشفي منه، قيل إنه لما سمع قول دعبل فيه:
إن كان إبراهيم مضطلعا بها
فلتصلحن من بعده لمخارق
124
ضحك وقال: «قد صفحت عن كل ما هجانا به؛ إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة، وولاه عهده.» (10-3) منزلته
قال البحتري: «دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد؛ لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذهبهم.»
والبحتري ينظر في ذلك إلى طبع دعبل وصناعة أستاذه، فمذهب مسلم في الشعر مختلف؛ فحينا يسهل فيسيل عذوبة وطبعا، وحينا يحزن فيغرب، ويتكلف البديع فيفسد شعره، ويبعد به عن مذاهب الأعراب.
وغريب أن دعبلا لم يتأثر أستاذه إلا من الناحية السهلة المطبوعة، فلغتهما فيها أشبه من الماء بالماء، وأما الناحية الثانية فقلما سلك دعبل إليها، ولا نعرف له فيها غير قصيدة مدح بها الفضل بن مروان وزير المعتصم، والتزم في جميع قوافيها لفظة الفضل فجاءت غير مألوفة في عصرها، وإن يكن التكلف أخذ يفشو فيه. ودعبل نفسه استغربها فقال فيها:
ولم أر أبياتا من الشعر قبلها
جميع قوافيها على الفضل والفضل
ولا غرو أن يبتعد دعبل عن التصنع، ويأنس بكلام العرب الخلص؛ فهو عربي النبعة لا أعجميها كأستاذه، بدوي النزعة لا حضريها، وقضى حياته هاربا من وجه السلطان، مستخفيا في الجبال والقفار، فلم تملك نفسه زخارف الحضارة ومباهجها؛ فظل شعره أقرب إلى الطبع من شعر مسلم، وأدخل منه في كلام العرب الصرحاء.
ويمتاز شعره في رشاقته، وحسن انسجامه، وطلاوته، ووقع أنغامه، فهو لطيف على غير ضعف، قوي على غير خشونة، ولولا إمعانه في هجاء الخلفاء وإسرافه في سفساف القول، لكان من أسير الشعراء شعرا ؛ لسهولة ألفاظه ووضوح معانيه، ولكنه أفسد هذا الشعر بالفحش والإقذاع، وشتم الملوك والأمراء؛ فأهمله الرواة بعد موته وأخملوا ذكره.
على أنه كان في حياته من أعظم الشعراء خطرا، وأخوفهم جانبا؛ فكان الناس يخشون شره، ويتحامون إغضابه، ويقطعون لسانه بالصلات استكفافا لبلائه. روى أبو الفرج أن ديكا لدعبل طار من داره إلى دار جار له فاصطاده جاره وطعمه، فعرف دعبل فهجاه، فذاع الهجاء؛ فخاف الجار، فلم يدع ديكا ولا دجاجة قدر عليه إلا اشتراه، وبعث به إلى دعبل؛ ليسكت عنه. وقيل لابن الكلبي: «لو أخبرت الناس أن دعبلا ليس من خزاعة.» فقال: «يا هذا أمثل دعبل تنفيه خزاعة! والله لو كان من غيرها لرغبت فيه حتى تدعيه. دعبل - والله يا أخي - خزاعة كلها.»
فهذه الروايات - على علاتها - تشهد لدعبل بما كان له من مكانة في عصره؛ فخبث لسانه، وعصبيته القحطانية، وتشيعه لأهل البيت جعل منه هجاء مسافها، وشاعرا قوميا، ومحاميا حزبيا؛ فمنزلته إذن قائمة على شعره الهجائي، ولا سيما السياسي منه. وهو يشبه بشارا بإقذاعه وفحشه، وسلاطته على الأعراض، ولكنه يفوقه خطرا لنسبته في خزاعة، وتشيعه للعلويين.
هوامش
الفصل الثالث
الكتاب المولدون
العصر الأول (1) ميزة النثر
لم يكن أثر امتزاج العرب بالأعاجم مقصورا على لغة الشعر وحدها، بل تعداها إلى لغة النثر؛ فجدد في ألفاظها ومعانيها، ونوع في فنونها وأغراضها، وذلل أوضاعها لمباحث ليس لها عهد بها؛ فبلغ الإنشاء العربي أرقى درجات الفن والبلاغة، وامتاز في سهولة العبارة، ووضوح المعنى، وحسن تخير الألفاظ وتزيينها، وذاع التسجيع القصير الفقرات، فتكلفه المترسلون تكلفا، وقصدوا إليه قصدا، ولكنهم لم يلتزموه التزاما، ولا أنزلوه منزل السخف والإسفاف.
وليس تزيين اللفظ من مواليد هذا العصر، بل هو خدن الآداب العربية من أبعد عصورها. ولنا في إنشاء القرآن شاهد على ذلك، والقرآن أصدق صورة نتعرف بها طراز الإنشاء القديم، ولكن التزيين في القرآن وفي رسائل الإسلاميين وخطبهم خال من التصنع، جار مع الطبع؛ فقد تجد السجع والموازنة، وضروب الاستعارات والتشابيه، وأنواع البديع دون أن تشعر بالتكلف لها ، والتعمل في اصطناعها، وإنما تبدو لك نازلة في منازلها، ملبية داعي الحاجة إليها، لا مضطربة ولا متقلقلة.
وعلى الجملة فإن كتاب العصر الأول العباسي وما يليه كانوا جد مقتصدين في تنميق ألفاظهم وتحسينها، يتعمدونه ولا يرون إلى الإسراف فيه سبيلا، وإنما هم يريدون تأدية المعنى الجميل في القالب الجميل، فإذا نمقوا فخدمة وإيضاحا للمعنى الذي يقصدون؛ لذلك لم تكن المحسنات اللفظية من لزومياتهم، بل كانت أكثر شيوعا في الشعر منها في النثر، فعرفوا بتنويع العبارة وتشكيلها، فمنها المسجعة ومنها المرسلة، ومنها الحالية ومنها العارية، ومنها الطويلة ومنها القصيرة، ومنها المردفة ومنها المفردة. وغلب عليهم الإطناب فأمعنوا فيه، ولم يسلموا من الإملال، وجعلوا للإيجاز مقاما، ولكنهم لم يسلموا من الإخلال.
وأكثروا من استعمال الألفاظ الدخيلة؛ فغلبت الفارسية على الأشياء المادية من أسباب العمران، كأدوات المنزل وأثاثه، والملابس والرياش، والحلي والأطعمة، والأشجار والأزهار، والصيد والقنص، وآلات الغناء والطرب، وغير ذلك. وغلبت اليونانية على العلوم العقلية كالفلسفة والطب والرياضيات وعلم الفلك ونحوها. (2) لغة التخاطب
هذا في النثر الفني، وأما لغة التخاطب فإنه أخذ يدب فيها الفساد منذ العصر الأموي؛ بسبب اختلاط العرب بالأعاجم وتزاوجهم، ونشوء جيل جديد غير صافي العروبة؛ ففشا اللحن على أفواه العامة، وفسدت مخارج الحروف، وذاعت اللكنة والرطانة، فأصبح زياد ابن أبيه - وهو من علمت فصاحته - يستمع إلى مولى له يخاطبه بقوله: «أهدي إلينا همار وهش» يريد حمار وحش. ولم يقتصر فساد اللفظ على العامة، بل تعداها إلى الخاصة، فأبو عطاء السندي كان من مجيدي الشعراء، ولكنه لا يحسن إخراج الحروف، فإذا سئل: «كيف بصرك باللغز يا أبا عطاف؟» قال: «هسن.» وإذا ألغزوا له بجرادة وزج وشيطان حل ألغازهم، ولكنه يقول: «زرادة، وزز، وسيتان.» ورووا عن بشر بن مروان أنه قال - وعنده عمر بن عبد العزيز - لغلام له: «ادع لي صالحا.» فقال الغلام: «يا صالحا.» فقال له بشر: «ألق منها ألف.» فقال له عمر: «وأنت زد في ألفك ألفا.» ورووا أن أول لحن سمع بالبادية: «هذه عصاتي.»
1
وأول لحن سمع بالعراق: «حي على الفلاح.»
2
وكان الأمويون يستنكرون اللحن ويهجنونه، وينعونه على أصحابه. قال عبد الملك بن مروان: «اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه.»
فلما جاء العصر العباسي، طما سيل الأعاجم واندس بهم العرب؛ فازدادت لغة التخاطب فسادا، وتفاقم فيها اللحن، وظهرت اللهجات العامية خليطة من العربية المشوهة، والأعجمية الدخيلة؛ فغلبت على الكلام الفصيح، ولم يسلم منها إلا أهل الخيام من جزيرة العرب، فقد لبثوا يتخاطبون باللغة الفصحى إلى أواسط القرن الرابع للهجرة، فكان إذا أراد كاتب أو شاعر حضري تقويم اعوجاج لسانه، تبدى وخالطهم مدة، حتى يقف على أساليبهم ومذاهبهم في الكلام، ثم غزتهم العامية كما غزت سائر الممالك العربية، فأصبح لكل بلد لهجة خاصة يتحادثون بها، ولكنهم ترفعوا عنها في كتاباتهم فلم يدونوا آثارهم إلا باللسان الفصيح. (3) أنواع النثر
كان الإنشاء في العصر الإسلامي مقصورا على الخطب ورسائل الدواوين، وإذا تعداها فإلى بعض المصنفات، ولكنها لم تصل إلينا، فلما قامت الدولة العباسية، وقامت معها الحضارة الجديدة، وانتشرت الكتابة والقراءة، وارتقى المستوى العقلي في المسلمين، تنوعت أساليب الإنشاء بتنوع العلوم والفنون، فتعددت أغراض الرسائل وطرائقها، وظهرت الكتب المصنفة على مباحث شتى من علم وأدب، ولكن الخطابة استولى عليها الضعف شيئا فشيئا، وما زالت تتضاءل حتى تلاشت في أواسط العصر الثاني. (3-1) أسباب ضعف الخطابة
عرفنا كيف ازدهرت الخطابة في صدر الإسلام، وما كان لها من منزلة سامية ومقام رفيع، على أن العوامل التي وفرت يومئذ لتقدم هذا الفن لم تتفر له في أعصر المولدين؛ لأن الشعب العباسي الخليط لم يكن له ما كان للعرب العرباء من فصاحة فطرية، وبراعة التصرف في ضروب الكلام؛ فشيوع اللحن واللهجات العامية بينهم جعل حظهم قليلا من سهولة النطق بالكلام الفصيح، ثم إن العنصر العربي الخالص أخذ يعود إلى مواطنه الأولى بعد ما رأى من نفاذ العنصر الأعجمي وتسلطه عليه، وأبى أن يخضع لقواد من الفرس؛ فنفر من التجند، وأصبح معظم الجيش من الموالي، فاضمحلت الخطب العسكرية، وبات الإقناع للسيف لا للسان.
ولم تكن الخطب السياسية أوفر حظا من الخطب العسكرية؛ لأن الأحزاب أضعف شأنها، وخضدت شوكتها بالحروب والتقتيل، وضرب العباسيون بأيديهم على حرية الأفراد والجماعات، فجعلوا بينها وبين سياسة العرش حدا مصونا، وصار الولاة والأمراء إذا عصاهم بلد أو فتق بينهم خارجي أوقعوا به ولم يعتمدوا على البيان في قمع شره.
وأما الخطب الدينية فلا غنية عنها في الجمع والأعياد، ولكن قل فيها الارتجال، ثم جعل لها صور خاصة لا تتبدل، فأصبحت تحفظ وتردد في كل موسم وحفل.
على أنه عرف في هذا العصر جماعة من الخطباء المحسنين، وأخطبهم مخضرمو الدولتين كخالد بن صفوان خطيب بني تميم، وشبيب بن شيبة المنقري خطيب البصرة، واشتهر من الخلفاء المنصور والمأمون. (3-2) إنشاء المترسلين
كان عبد الحميد بن يحيى أول من وضع للرسائل أصولها، وميز فصولها، وأطنب في بعض شئونها وأسهب، وأجمل في بعضها الآخر وأوجز، وأطال التحميدات في صدورها، وجعل لها استهلالات يفتتحها بها، وذيولا يختتمها بها؛ فترسم الكتاب خطاه، واقتفروا معالمه، حتى إذا اطمأن الملك في بني العباس، وأنشئت له الدواوين، ووضعت له الأنظمة، تعددت أغراض الرسائل بتعدد الأعمال، وقامت معها الإخوانيات على أنواع مختلفة، فمن عتاب وشكوى، إلى تهنئة وشكر، إلى تعزية ورثاء، إلى استغاثة واستعطاف، إلى ذم ووعيد، فافتن المترسلون فيها وأبدعوا، ونمقوا عباراتها وزخرفوا، وأطالوا فيها وأوجزوا، وغلب الإطناب عليهم في العهود السياسية، والمناظرات، ووصف الانتصارات، وغير ذلك مما ينبغي إيضاحه وتقريره في أذهان العوام. ولك مثال على هذا، عهد طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله، ورسالة الخميس من الخليفة المأمون إلى مبايعيه أهل خراسان؛ ففيهما من الإطناب شيء كثير. وغلب الإيجاز عليهم في الإخوانيات، وبلغوا به حد السرف في التوقيعات
3
فوقعوا أحيانا في الغموض.
ويبدءون رسائلهم غالبا بقولهم: «الحمد لله.» أو «أما بعد، فالحمد لله .» وهذه طريقة عبد الحميد، وربما ابتدءوا بالبسملة وأردفوها بالدعاء، كقول سهل بن هارون في رسالة البخل: «بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمركم وجمع شملكم ...» ومن ابتداءاتهم قولهم: «أما بعد.» دون أن يعقبها دعاء أو حمدلة، وقولهم: «كتابي إليك.» ويتبعونها الدعاء أو لا يتبعونها إياه.
وإذا استهلوا بالحمدلة تابعوا التحميد، فيطيلونه أو يقصرونه، فمن تحميداتهم قول المأمون في رسالة الخميس: «أما بعد، فالحمد لله القادر القاهر، الباعث الوارث، ذي العز والسلطان، والنور والبرهان، فاطر السموات والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمن والطول على أهلهما، قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته دليلا هاديا لهم إلى معرفته ... إلخ.»
ويكثر في رسائلهم الاستشهاد بآيات القرآن، ثم بالأحاديث والأمثال، وأقوال الحكماء والعظماء، وربما تخللها الدعاء في جمل اعتراضية، كقول أحمد بن يوسف وزير المأمون: «ونحن نسأل الله - عز وجل - الذي جمع بأمير المؤمنين - مد الله في عمره - ألفتنا ... إلخ.»
ويختمون غالبا بقولهم: «والسلام.» أو «والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» أو «إن شاء الله.» وقد يطول الدعاء في الختام إذا كان الكتاب إلى خليفة أو أمير، أو من خليفة أو أمير إلى رعيته، فلا يلتزم في نهايته ما يلتزم في غيره من السلام، وربما ختم بآية كقول أحمد بن يوسف: «ونحن نسأل الله - عز وجل - الذي جمع بأمير المؤمنين - مد الله في عمره - ألفتنا، وعلى طاعته أهواءنا وضمائرنا، وأنالنا من الغبطة في دولته وسلطانه، ما لم تحوه شيعة إمام، ولا أنصار خليفة، أن يتم نور أمير المؤمنين، ويعلي كعبه، ويمتعنا ببقائه، حتى يبلغه سؤله وهمته في الاستكثار من البر وادخار الأجر، واستيجاب الحمد والشكر، وأن يلم به الشعث، ويرأب به الصدع، ويصلح على يديه الفساد، ويرتق به فتوق هذه الأمة، ويثخن بسياسته ونكايته في عدوها، ويتابع الفتوح في بلدانهم حتى يؤتيه من نجح السعي، ورغائب الحظ في الدنيا، ما يجزل عليه ثوابه في الآخرة، وأرشد نجباءه وأصفياءه الذين يقول لهم:
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
وتمتاز رسائلهم في حسن اتساقها، وترتيب أفكارها، وشرف ألفاظها ومعانيها، وهي في أكثرها إنشائية خطابية، لا خبرية قصصية.
والمترسلون كثير عددهم، منهم الملوك والأمراء والوزراء والمتصلون بهم، فمن الملوك المنصور والمأمون وإبراهيم بن المهدي، ومن الأمراء طاهر بن الحسين وأبو دلف، ومن الوزراء يحيى البرمكي وابنه جعفر، وذو الرئاستين الفضل بن سهل، وأحمد بن يوسف، وعمرو بن مسعدة،
4
وابن الزيات، ومن المتصلين بالأمراء عبد الله بن المقفع. وإليك مثالا من إخوانياتهم:
كتب عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل يهنئه بمولود: «أما بعد، فإن هبة الله لك هبة لأمير المؤمنين، وزيادته إياك في عدده لمحلك عنده، ومكانك في دولتك من دولته، وقد بلغ أمير المؤمنين أن الله وهب لك غلاما سريا
5
فبارك الله لك فيه، وجعله بارا تقيا، مباركا سعيدا زكيا.»
وكتب ابن المقفع إلى صديق له ولدت له جارية: «بارك الله لك في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زينا، وأجرى لكم بها خيرا، فلا تكرهها فإنهن الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات. ورب غلام ساء أهله بعد مسرتهم، ورب جارية فرحت أهلها بعد مساءتهم.»
ودونك شيئا من توقيعات الملوك والأمراء:
رفع إلى جعفر البرمكي غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم،
6
وكان عمرو بن مسعدة يوقع بين يديه، فرمى بها إليه وقال: «أجب عنها.» فكتب: «قليل دائم خير من كثير منقطع.» فضرب جعفر على ظهر عمرو وقال: «أي وزير في جلدك!» وشكا أهل الكوفة إلى أبي جعفر المنصور سوء معاملة عاملهم فوقع في كتابهم: «كما تكونون يؤمر عليكم.» ووقع هارون الرشيد إلى عامل مصر في خراسان: «داو جرحك لا يتسع.» ووقع جعفر البرمكي في كتاب جاءه في شكوى بعض عماله: «لقد كثر شاكوك، وقل شاكروك؛ فإما اعتدلت، وإما اعتزلت.» ووقع إلى محبوس يسأله العفو: «ولكل أجل كتاب.» (3-3) إنشاء المصنفين
إن هذا العصر - لا جرم - يعتبر مثالا للنشاط الفكري، فقد عم فيه التدوين والتأليف والجمع والنقل، فتكاثرت الكتب المصنفة، واختلفت أساليبها باختلاف موضوعاتها، وكان إنشاء الكتب الأدبية - على الإجمال - بليغا فنيا، واضحا طليا، وكان إنشاء الكتب العلمية والفلسفية معقدا لا يخلو من ضعف، جافا لا يخلو من غموض، وهذا لا نعول عليه في دراستنا النثر العباسي، وإنما معولنا على الأول ذاك الذي ظهر فيه أسلوب ابن المقفع، وسهل بن هارون
7
والجاحظ.
ونحن نجتزئ الآن بدرس ابن المقفع؛ لأنه أقدم كاتب بليغ وصلت إلينا مؤلفاته، فكانت في أسلوبها قدوة للمنشئين من بعده، ونرجئ دراسة الجاحظ إلى العصر التالي متتبعين حياته فيه، وإن يكن عاش أكثر عمره في هذا العصر. وأما سهل بن هارون فلم يصل إلينا شيء من كتبه التي اشتهر بها، فنستطيع الكلام عليه. (4) ابن المقفع 724-759م/106-142ه (4-1) حياته
هو في مجوسيته روزبة بن دازويه المقفع، وكنيته أبو عمرو، وفي إسلامه عبد الله، وكنيته أبو محمد، ولقب والده بالمقفع؛ لأنه كان يتولى خراج فارس فاختلس من مال الدولة، فضربه أمير العراقين
8
على يده حتى تقفعت
9
يده.
والمقفع فارسي الأصل، نشأ نشأة عربية في الأهواز
10
ولكنه لم يسلم بل مات على مجوسيته، وكان له ولاء في آل الأهتم، وهم أهل فصاحة وبيان، وولد ابنه روزبة، ونشأ في البصرة مجوسيا مستعربا مثله، والبصرة يومئذ كعبة العلم والأدب، وفيها المربد عكاظ الإسلام، فلما مات المقفع أخذ الولد يتكسب بصناعة والده، فكتب وهو في العشرين من سنيه أو نيف عليها لداود بن هبيرة. وأبو داود هو يزيد بن عمر بن هبيرة والي العراقين من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء أمية.
ولما انتقل الملك إلى العباسيين اتصل ابن المقفع بسليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، وأعمام السفاح والمنصور، فكتب لعيسى أيام ولايته على كرمان، وجعله إسماعيل والي الأهواز ثم الموصل مؤدبا لبعض بنيه، ثم كتب لسليمان وهو أمير على البصرة، وترجم للمنصور في أثناء ذلك عدة كتب، ولكنه لم يتصل به، بل لبث منقطعا إلى أعمامه حتى مات.
موته
كان عبد الله بن علي عم المنصور واليا على الشام، فخرج على ابن أخيه سنة 137ه/754م، وطلب الخلافة لنفسه، فأرسل عليه المنصور جيشا مقدمه أبو مسلم الخراساني، فانتصر أبو مسلم وهرب عبد الله إلى البصرة، ونزل على أخيه سليمان واستتر عنده، ثم إن المنصور عزل سليمان عن البصرة سنة 139ه/756م، وولى مكانه سفيان بن معاوية من آل المهلب.
ولبث عبد الله مستخفيا عند أخويه سليمان وعيسى، فطلبه المنصور منهما، فأبيا تسليمه إلا بأمان يمليان شروطه؛ فرضي المنصور بذلك، فتقدما إلى كاتبهما ابن المقفع بأن يكتب الأمان، ويبالغ فيه كي لا يغدر المنصور بعمه، فكتبه ابن المقفع وشدد فيه حتى قال في جملة فصوله: «ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس،
11
وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته.»
12
فعظم ذلك على المنصور، ولا سيما أمر البيعة، وغضب على ابن المقفع؛ فأوعز بقتله إلى سفيان بن معاوية والي البصرة.
وكان سفيان شديد الحنق على ابن المقفع؛ لأن كاتبنا غيظ من توليه البصرة مكان سليمان بن علي، فراح يستخف به، ويتنادر عليه، وينال من أمه؛ فقد سمعه مرة يقول: «ما ندمت على سكوتي قط.» فقال له: «الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟!» وكان أنف سفيان كبيرا، فكان ابن المقفع إذا دخل عليه قال: «السلام عليكما.» يعني سفيان وأنفه.
فلما جاءه كتاب المنصور يأمر بقتله تربص به حتى دخل عليه يوما، فأمسكه وأمر به فقتل، واختلف في طريقة قتله فقيل: إنه ألقي في بئر، وردمت عليه الحجارة، وقيل: أدخل حماما وأغلق عليه بابه فاختنق، وقيل: بل قطعت أطرافه عضوا عضوا، ثم ألقي في تنور وأطبق عليه.
وكيف كان الأمر، فإن ابن المقفع دخل دار سفيان ولم يخرج منها، فبلغ الخبر سليمان وعيسى ابني علي، فخاصما سفيان إلى المنصور، وأحضراه إليه مقيدا، وشهد أناس أن ابن المقفع دخل داره ولم يخرج منها، فقال المنصور للشهود: «أرأيتم إن قتلت سفيان به، ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت - وأشار إلى باب خلفه - وخاطبكم، ما تروني صانعا بكم، أفأقتلكم بسفيان؟» فخاف الشهود ورجعوا عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره ، وعلما أنه قتل برضى المنصور.
وذكروا أن من أسباب قتله اتهامه بالزندقة، ومعارضة القرآن، وترجمة كتب الزنادقة. ومات وله من العمر ست وثلاثون سنة، وخلف ولدا اسمه محمد.
صفاته وأخلاقه
وصفه الجاحظ فقال فيه: «كان جوادا فارسا جميلا.» وعرف بالمروءة وكرم الخلق والوفاء للأصحاب، وكان يقول: «ابذل لصديقك دمك ومالك.» ولم يحجم عن تحقيق هذا القول يوم طلب صديقه عبد الحميد بن يحيى بعد مقتل مروان بن محمد، فلجأ إليه في الجزيرة، وفاجأهما الطلب وهما في بيت واحد، فقال لهما الجند: «أيكما عبد الحميد؟» فقال ابن المقفع: «أنا.» مؤثرا صاحبه على نفسه، وهم الجند بالقبض عليه، فصاح عبد الحميد: «ترفقوا بنا، فإن كلا منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر، ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم.» ففعلوا، وأخذ عبد الحميد وقتل، ونجا ابن المقفع على كره منه.
وعرف أيضا بسهولة الطبع على رصانة، وبالتعفف والابتعاد من الكذب والحسد. على أن حبه للأدب والأدباء ونزوعه للزندقة جعلاه لا يستنكف من مصاحبة جماعة من الخلعاء كمطيع بن إياس، وحماد عجرد، وبشار بن برد، ووالبة بن الحباب، وأضرابهم؛ فكانوا يجتمعون على الشراب وقول الشعر، وكلهم متهم في دينه، ولكنه إذا لها وشرب لم تكن الخمر لتقوده إلى الإثم، وتنزل به في المنازل الدنية، وفي ذلك يقول:
سأشرب ما شربت على طعامي
ثلاثا ثم أتركه صحيحا
13
فلست بقارف منه إثاما
ولست براكب منه قبيحا
14
وكان يحب الغناء ويهتز للصوت الحسن، فقد غنته يوما جارية وليس لديه دراهم، فجاء بصك ضيعة له وقال: «هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم فما عندي منها شيء.»
وكان - على سهولة طبعه ورصانته - حاد اللسان، شديد السخر بمن لا يملأ عينه، فعله بسفيان بن معاوية.
زندقته
إذا شئت أن تلتمس زندقة ابن المقفع في ما خلف لنا من الآثار، فإنما أنت تتعب على غير طائل؛ لأن آثاره الباقية ليس فيها إلا كل ما يلائم مع الإسلام، ولا ينافي أحكامه، ولكن ابن المقفع زنديق في حكم المؤرخين المتقدمين، وهم يروون على ذلك أخبارا مختلفة، منها أنه يوم أراد أن يدين بالإسلام جاء إلى عيسى بن علي وقال له: «قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك.» فقال له عيسى: «ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر.» ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم
15
على عادة المجوس. فقال له عيسى: «أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟» فقال: «أكره أن أبيت على غير دين.»
ومنها أنه مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حدر العدى وبك الفؤاد موكل
16
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
ورووا أن سفيان لما قتله ومثل به، قال: «ليس علي في هذه المثلة
17
بك حرج؛ لأنك زنديق، وقد أفسدت الناس.» وإن المهدي كان يقول: «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع.» وذكروا أنه عارض القرآن وصاحب المتهمين في دينهم.
فمن هنا يتضح أن زندقة ابن المقفع لا تقوم على دليل من آثاره، وإنما تقوم على أقوال الرواة والمؤرخين، على أنه غير عجيب أن يكون ابن المقفع زنديقا وهو حديث العهد بالإسلام، لم يزل يحن إلى ديانته الأولى، تلك التي نشأ عليها، وانتحلها معظم حياته، وهو لم يسلم إلا حفاظا على كرامته، وطمعا في الشهرة والجاه، وتقربا إلى مواليه العباسيين.
غير أن أعداءه عجزوا عن إثبات زندقته؛ لأنه اعتصم بالتقية فلم يجاهر بكفره، ولعله كان يتنصل من الكتب التي بث فيها آراء الزنادقة، وطمست فلم تصل إلينا، ولو استطاعوا إثبات زندقته لما عمد المنصور إلى اغتياله سرا، بل كان مثل به على رءوس الأشهاد.
أساتذته وعلومه
لم يعرف من أستاذي ابن المقفع إلا واحد ذكره ابن النديم، وهو أبو الجاموس ثور بن يزيد، وكان أعرابيا يفد البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة.
ونشأ ابن المقفع في البصرة على ما ينشأ عليه أبناء اليسار، فعني والده بتعليمه وتقويم لسانه على الكلام الفصيح؛ فبرع في العربية والفارسية، وتضلع من آدابهما، واطلع على حكمة اليونان في الكتب التي ترجمت إلى لغة الفرس زمن كسرى أنوشروان، فجمع بين ثقافتي العرب والعجم.
وأوتي ابن المقفع من الذكاء ما جعله واحد زمانه في بلاغته وعلمه، وقد قال فيه ابن سلام: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.»
18
وعده ابن النديم أحد بلغاء الناس العشرة، وذكره في مقدمتهم، وأقر له الجاحظ بالتقدم فقال: «ومن المعلمين ثم البلغاء المتقدمين عبد الله بن المقفع، كان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة، واختراع المعاني، وابتداع السير، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله.»
آثاره
كان عصر ابن المقفع عصر نقل في أكثره؛ لرغبة أولي الأمر في الاطلاع على علوم الأعاجم والاستفادة منها، وكان ابن المقفع مالكا ناصيتي العربية والفارسية؛ فأحب أن يري العرب آداب قومه، ويتقرب بها إلى ذوي السلطان؛ فأكب على النقل، فأتحف العربية بطائفة من الكتب النفيسة، ولم يصل إلينا إلا بعضها، فكان أعظم شاهد على جلالتها.
وليس لابن المقفع من الكتب إلا ما هو منقول من الفارسية، فله فيه فضل المترجم البارع، لا فضل المؤلف المخترع، ولذلك كان الخليل بن أحمد يقول فيه: «علمه أكثر من عقله.»
على أن هذا القول لا يعني أن ابن المقفع كان ضعيف التوليد، فهو - كما علمت - أذكى أعجمي عرفته العرب، ولكنه كان مفتونا بآداب قومه وعلومهم، فصرف همته إلى نقلها ليبهر العرب بها، على أنه لم يتقيد بأصول الكتب التي ترجمها، بل تصرف فيها فزاد عليها أشياء وأنقص منها أشياء، وكان الذي زاده من توليده واختراعه.
وآثاره في الترجمة كثيرة نكتفي بذكر ما وصل إلينا منها، وهي: كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير.
فأما كليلة ودمنة فإنه أقدم كتاب عربي في الأخلاق وتهذيب النفس، وضعه بيدبا الفيلسوف الهندي لدبشليم - ملك الهند - منذ عشرين قرنا ونيف، وكان دبشليم قد صعد إلى العرش بعد فتح الإسكندر 326ق .م، فطغى على الرعية، فأراد بيدبا إصلاحه؛ فألف هذا الكتاب واستتمه في مدة سنة، وجعل النصح فيه على أفواه البهائم والطيور. ويرى جرجي زيدان أن الداعي إلى ذلك هو أن البراهمة يعتقدون تناسخ الأرواح، هذا وإن إصلاح الملوك البغاة على سبيل الحكايات والإشارات أسلم عقبى من محاولة إصلاحهم بإظهار هفواتهم، ونهيهم عن الوقوع بها؛ لأن فيهم من الكبر والعتو ما يأبى عليهم أن يظهر لهم أحد خطأهم وينهاهم عنه.
وكتب بيدبا كليلة ودمنة باللغة الهندية السنسكريتية، وبوبه أربعة عشر بابا، أولها باب الأسد والثور. وأصول هذا الكتاب في الهندية تعرف باسم «بنجه تانترا»؛ أي الكتب الخمسة.
فلما صار عرش الفرس إلى كسرى أنوشروان 531-579م بعث الطبيب برزويه بن أزهر الفارسي إلى بلاد الهند، فنقل الكتاب من السنسكريتية إلى الفهلوية،
19
ومنها نقله عبد الله بن المقفع إلى العربية. وصدر الأصل الهندي بمقدمات فارسية وعربية، وألحقت به في بعض النسخ أبواب ليست منه.
وشغف العرب به عند ظهوره، فقام منهم من نقله ثانية من الفارسية، وهو عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى البرمكي في خلافة المهدي، ولكن ترجمته ضاعت، وعارضه سهل بن هارون - أحد كتاب المأمون - بكتاب سماه ثعلة وعفرة، وضاع أيضا. وتصدى جماعة من الشعراء لنظمه، أولهم أبو سهل الفضل بن نوبخت من خدم المنصور والمهدي، ثم أبان بن عبد الحميد اللاحقي نظمه للبرامكة، ثم علي بن داود كاتب زبيدة زوج الرشيد، ونظمه بشر بن المعتمد، وكل هذه المنظومات فقدت إلا منظومة أبان فقد بقي منها قطعة حسنة في كتاب «الأوراق» للصولي.
ونظمه ابن الهبارية المتوفى سنة 504ه/1110م، وسماه «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة» وهو مطبوع، ونظمه ابن مماتي المصري المتوفي سنة 606ه/1209م وضاع نظمه، ثم نظم منه أقساما عبد المؤمن بن الحسن من رجال القرن السابع للهجرة، ونظمه جلال الدين النقاش من أهل القرن التاسع الهجري، والنظمان غير مطبوعين.
وأما الأدب الصغير والأدب الكبير فكتابان في الحكمة والأخلاق والسياسة والاجتماع والنصائح، وكلاهما مطبوع.
20
ومن آثار ابن المقفع الباقية فقر حكمية، ورسائل متفرقة، وتحميدات جمعها محمد كرد علي في كتابه «رسائل البلغاء»، وله شعر قليل. (4-2) ميزته
لم تقم ميزة ابن المقفع إلا على كتابه الخالد «كليلة ودمنة»؛ ففي هذا الكتاب يتجلى أسلوبه البديع الذي رفع به مستوى النثر العربي إلى أعلى درجات الفن وأشرفها، فعلى هذا الكتاب نعول في درس ابن المقفع، وإظهار أسلوبه، ولكن لا غنية لنا عن أن نلم بالأدبين الصغير والكبير؛ لنتبين خصائص الكاتب في مختلف موضوعاته ومباحثه.
كليلة ودمنة: أبوابه وأغراضه
سمي هذا الكتاب كليلة ودمنة من باب تسمية الكل باسم الجزء؛ لأن خبر كليلة ودمنة لا يتناول غير بابين من أبوابه، وهما باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة.
وكليلة ودمنة أخوان من بنات آوى، جعلت قصتهما مثلا على المتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، ومدارها أن دمنة سعى بالفتنة بين الأسد ملك الوحوش والثور جليسه وصديقه؛ فأفسد فيما بينهما ولم يصخ لنصائح أخيه كليلة، فقتل الأسد الثور، ثم تبين له أنه بريء مما اتهم به، فأمر بحبس دمنة، وفي باب الفحص عن أمر دمنة يمثل المتهم في حضرة القاضي، ويرد على أقوال خصومه، ويدافع عن نفسه رابط الجأش، ثم يثبت عليه الجرم بشهادة شاهدين فيقتل ويصلب على رءوس الأشهاد، وأما كليلة فإنه يموت من حزنه في أثناء الفحص عن أمر أخيه.
وترى في دمنة مثال الداهية المحتال، والحسود الطماع الذي يستهين كل كبيرة لبلوغ ما يشتهيه من الرفعة والمال، وترى في كليلة مثال المخلص الوفي للأصحاب، والقنوع الرضي الأخلاق، والحكيم البصير بالأمور، الذي يحب السلامة، ويخشى مصاحبة السلطان، ويحاذر بطشه وصولته.
وأما بقية الأبواب فكل باب منها قائم بنفسه، ولكنها ترمي إلى غاية واحدة وهي تهذيب النفس، والإرشاد إلى حسن السياسة، وحسن اختيار الأصحاب؛ فالباب الأول مقدمة الكتاب لبهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، ذكر فيها السبب الذي من أجله وضع بيدبا هذا الكتاب لدبشليم الملك، والباب الثاني بعثة برزويه إلى بلاد الهند لنقل الكتاب، والباب الثالث عرض الكتاب لابن المقفع وبه يشتد في تنبيه قارئ كتابه على «أن يديم النظر فيه من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته إنما هي الإخبار عن حيلة بهيمتين، أو محاورة سبع لثور؛ فينصرف بذلك عن الغرض المقصود»، فكأن الكاتب - وقد حمل إلى العرب أدبا جديدا لم يتعودوه - خشي أن يلتهوا بقشوره دون لبابه، فلا يروا فيه غير التفكه بأحاديث البهائم والطيور، فحضهم على تفهمه، وإدراك معانيه.
وفي هذا الباب يقسم الكتاب إلى أربعة أغراض: «أحدها:
21
ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة من مسارعة أهل الهزل من الشبان إلى قراءته، فتستمال به قلوبهم؛ لأن هذا هو الغرض بالنوادر من حيل الحيوانات، والثاني: إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان؛ ليكون أنسا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد؛ للنزهة في تلك الصور، والثالث: أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا، والغرض الرابع، وهو الأقصى: مخصوص بالفيلسوف خاصة.»
فيتبين من ذلك أن الكتاب كان ذا صور في الأصل، وأن ابن المقفع كان يرجو خلوده في نوادره، وصوره وأصباغه وألوانه، ولم يخطر له يومئذ أن الخلود مكتوب على بلاغة إنشائه.
وأما الباب الرابع، وهو برزويه الطبيب لبزرجمهر بن البختكان وزير كسرى، فقد ذكر فيه فضل برزويه، ونسبه وحسبه وصناعته وأدبه وكيف كان أمره، وذكر بعثته إلى الهند، وجعله قبل باب الأسد والثور، وجعل الكلام فيه على لسان برزويه الطبيب، وأكثر هذا الباب مباحث وتعابير طبية، وهو يدل على حكمة الطبيب، وبصره بالأمور، وخوفه من الدنيا، وميله إلى الزهد فيها؛ فهذه الأبواب الأربعة هي المقدمات الفارسية والعربية للأصل الهندي، فيكون مجموع الأبواب معها ثمانية عشر بابا تشتمل على كثير من الحكم والأمثال والمواعظ، ويمكن تلخيصها بأنها تدعو إلى النسك والزهد بما فيها من أخبار النساك والأمثال عنهم، وتأمر بالتقوى والنظر إلى الآخرة أكثر من النظر إلى الأولى، وتوصي بالمشورة وقلة الكلام، ومداراة السلطان ونصحه وإرشاده بضرب الأمثال، وتحديثه بعيوب غيره فيعرف عيبه، ولا يجد إلى الغضب على مؤدبه سبيلا، وتحث على الشهامة والجود والرحمة والعفو والحلم، وتغري بالشجاعة والإقدام، والصداقة والوفاء للأصحاب، وتزين الحزم والصبر والقناعة، وتنهى عن الحسد والاحتيال والنميمة، والطمع والشراهة والظلم والبغي وكلام السوء، وتدعو إلى الابتعاد عن سماع كلام الساعي والنمام، وتبين وخامة عاقبة الأشرار ومنافع الأصحاب، ومضار الإهمال والغفلة، وآفة التعجيل وقلة الروية.
والروح الإسلامية مبثوثة في تضاعيف فصولها؛ مما يدل على أن ابن المقفع تصرف في الأصل فجعله ملائما لأهل عصره، وهذا الذي جعل بعضهم يشكون في أن الكتاب مترجم، وزعموا أنه من وضع ابن المقفع، وأن الكاتب ادعى ترجمته لما كان للنقل من المنزلة الرفيعة في زمانه، وضاعف شكهم ما رأوا في الكتاب من وحدة التأليف بين الأبواب الهندية والفارسية والعربية، فرجحوا وحدة المؤلف.
ولكن ذلك لا يكفي للدلالة على أن الكتاب موضوع لا منقول، فأثر الترجمة بين في إنشائه، والحكمة الهندية الفارسية ظاهرة فيه كل الظهور بآدابها وأمثالها، فمن الراجح أن ابن المقفع نقله وهذبه وغير فيه وبدل، وتصرف في جمع أبوابه فظهرت عليه وحدة التأليف، وقد جهد في أن يجعل روحه إسلامية؛ كيما يصلح لتأديب الأمراء المسلمين، فوفق في غرضه، غير أنه ترك أسماء الأعلام فارسية أو هندية.
وبوسعك أن تتبين الروح الإسلامية في قوله على لسان برزويه: «وأضمرت في نفسي ألا أبغي على أحد ولا أكذب بالبعث ولا القيامة، ولا الثواب ولا العقاب، وأن لا إله إلا الله الفرد الصمد.»
فهذا الإيمان وما فيه من التوحيد إسلامي محض لا ينطق به فارسي مجوسي كبرزويه، وقد رأيت أن دمنة لم يقتل إلا بشهادة شاهدين؛ لأن شهادة الواحد لا توجب حكما. زد على ذلك ما في الكتاب من اعتقاد عظيم بالقضاء والقدر.
كليلة ودمنة: أسلوبه الإنشائي
حمل ابن المقفع إلى النثر العربي في كتابه هذا أسلوبا جديدا لم يعرف من قبل، وهو سرد الحكايات على أفواه البهائم والسباع والطير، تتخللها محاورات أدبية لذيذة فإذا هي تبدو في ظاهرها هزلا وتسلية، على حين أن باطنها جد وحكمة، ويزيد هذه الحكايات رونقا أن أساسها قائم على ضرب الأمثال، والأمثال كلام الأنبياء، فكل باب في مجموعه مثل مستقل، ولكنه يشتمل على عدة أمثال يتفرع بعضها من بعض.
وأول الكتاب باب الأسد والثور يفتتحه دبشليم بقوله لبيدبا: «اضرب لي مثلا لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال حتى يحملهما على العداوة والبغضاء.» فيورد بيدبا مثلا ويفرع منه أمثالا على ألسنة الحيوانات التي ذكرها في هذا المثل، حتى إذا انتهى وأراد الانتقال إلى باب آخر قال الملك: «قد سمعت مثل المتحابين إلخ، فحدثني عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض؟» فيوطئ الفيلسوف لغرضه بمقدمة تناسب المثل، يراد منها النصح أو التحذير أو ما شاكلهما كقوله: «إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا، فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه، ومن أمثال ذلك الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب والسلحفاة.» فيقول له الملك: «وكيف كان ذلك؟» فيستهل المثل بقوله: «زعموا.»
ويختم الباب غالبا بذكر ما ضرب المثل لأجله فيجعله نتيجة لما تقدم، مثال ذلك: «فهذا مثل إخوان الصفاء وائتلافهم في الصحبة.»
ويمهد للأمثال المتفرعة كما يمهد للمثل الأصلي، ويختمها على الغالب بقوله: «وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم.»
والكتاب حافل بالأقوال الحكمية والمواعظ والنصائح، وربما استرسل الكاتب في فقر حكمية متساوقة حتى يخرج بها عن الموضوع الذي يتكلم فيه، مثال ذلك أنه لما أراد دمنة أن يغري الأسد بالثور، أخذ يدعوه إلى قبول نصيحته بهذه الأقوال، وفيها ما يلائم الموضوع وفيها ما لا يلائمه: «وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة، وخير الأعمال أحمدها عاقبة، وخير النساء الموافقة لبعلها، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأفضل الملوك من لا يخالطه بطر ولا يستكبر عن قبول النصيحة.»
ولما كانت الحيوانات غير العاقلة عاقلة في كليلة ودمنة، فالكاتب يتكلم على ذكورها بصيغة المذكر العاقل، فيقول مثلا: «زعموا أن جماعة من القردة كانوا ساكنين.»
ويمتاز أسلوبه بخاصتة الرياضية التي اختصت بها فلسفة اليونان ، ولا سيما الفلسفة الفيثاغورية،
22
وما فيها من عدد وتقسيم، حتى ظن بعض المستشرقين أن لكليلة ودمنة أصلا يونانيا، وأن ابن المقفع كان عارفا بلغة اليونان. على أن كلا الأمرين لم يثبتا، وإنما الثابت أن ابن المقفع اطلع على حكمة اليونانيين في كتب الفرس التي نقلها، فراض عقله على هذا الأسلوب المنطقي، وأتحف به لغة العرب، وكانت لا تعرفه من قبل. ولا تنحصر خاصته هذه في كليلة ودمنة، بل تجدها في الأدب الصغير والأدب الكبير. ودونك مثالا عليها قوله في باب الأسد والثور: «يا بني، إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء: أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق، والمنزلة في الناس، والزاد للآخرة. وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة، فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود نفعه في الآخرة.»
ويكثر في هذا النوع من إنشائه استعمال أما التفصيلية، وتراه حافلا بالقياسات ومنها المدرجة المتسلسلة، كقوله في باب الحمامة المطوقة: «وجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا مال له لا عقل له ولا دنيا ولا آخرة؛ لأن من نزل به الفقر لا يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت نفسه، ومن مقت نفسه كثر حزنه، ومن كثر حزنه قل عقله وارتبك في أمره، ومن قل عقله كان أكثر قوله وعمله عليه لا له، ومن كان كذلك فأحر به أن يكون أنكد الناس حظا في الدنيا والآخرة.»
ويختلط الأسلوب القصصي بالأسلوب المنطقي في إنشاء كليلة ودمنة، فيدمثه ويسهله، ويزيل عنه الجفاف والتعقيد اللذين يعمان كتب المنطق والفلسفة. وتبدو عبارته واضحة كل الوضوح بريئة من الغموض، تتناولها الأفهام بخفة، فما يصعب عليها تحصيل معانيها.
وعلى الجملة، فإن كليلة ودمنة يمتاز بسهولته وانسجامه ووضوحه وسلاسته، واتساق أفكاره وتساوق أمثاله، وإسهابه واسترساله. وهو أخلد كتاب عرفته اللغة العربية، فقد نيف على الألف من السنين، والأيدي تتداوله، والمدارس حافلة به.
الأدب الصغير
لم يكن ابن المقفع مخترعا في الأدب الصغير، وإنما هو ناقل متصرف في النقل فعله في كليلة ودمنة، ولا يرى غضاضة في ذلك، بل يحسنه ويزينه إذ يقول: «ومن أخذ كلاما حسنا عن غيره فتكلم به في موضعه على وجهه، فلا يرين في ذلك عليه ضئولة، فإنه من أعين على حفظ قول المصيبين، وهدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه أن لا يزداد؛ فقد بلغ الغاية.» وهذا يدل على أن الكاتب يعتقد أن الذين تقدموه من الحكماء بلغوا الغاية، فلم يتركوا زيادة لمستزيد، ويوضح ذلك في قوله: «وجل الأدب بالمنطق، وكل المنطق بالتعلم. ليس حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.» ا.ه. فهو يزين العلم، ولا يشترط الاختراع، ولذلك يقر بأنه أخذ كتابه هذا عن غيره، فيقول: «وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب، وصقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير.»
والأدب الصغير عبارة عن دروس خلقية اجتماعية، تحث على طلب العلم، وتشترط على العالم التواضع وعدم الاعتداد بالنفس، وتدعو المرء إلى تأديب نفسه ومحاسبتها، وتحسن له الزهد والتصوف، وهي مع ذلك تعظم شأن المال وتقدسه، ولا تنهى عن جمعه: «ومن لا مال له فلا شيء له، والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس.»
على أن الكاتب ينهاك عن الاغترار بالمال الكثير، ويدعوك إلى القناعة بالقليل منه، لأنه يريده مانعا للفقر ليس غير. وتراه اشتراكيا لا يحب الاحتكار والاستئثار: «لا تعد غنيا من لم يشارك في ماله.» ولا غرو أن يدعو إلى الاشتراك وهو الذي يوصي الإخوان بالتعاون والتعاضد، ويقدس المودة والوفاء للصديق.
وإذا أوصى بالصديق لا يغفل عن العدو، بل يحذرك منه ويرشدك إلى سياسته، وينهاك عن استصغار الأمور: «لأن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبير.» ولا يرى في المشورة غضاضة، ولو كان الرأي الصائب من شخص حقير.
ويتكلم على سياسة الملوك والولاة، فيشير عليهم أن يتعهدوا عمالهم: «حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن، ولا إساءة مسيء.»
وله في المرأة ظن سيئ لا تحمده النساء عليه، فإنه يلح في النهي عن عشقهن، والاطمئنان إليهن؛ لأن مودتهن لا تدوم.
وهو على نصائحه الاجتماعية والأدبية لا يغفل عن المواعظ الدينية، فيأمر بالتقوى، والتعبد لله ومعرفة نعمه، والشكر له؛ لتزداد هذه النعم.
وجماع القول أن الأدب الصغير رسالة نفيسة في سياسة الاجتماع وتهذيب النفس، ورياضتها على الأعمال الصالحة، ومعرفة الخالق.
وأما إنشاؤه فيختلف بعض الاختلاف عن إنشاء كليلة ودمنة؛ لأن صاحبنا اتخذ فيه الأسلوب المنطقي الصرف، فظهر عليه بعض الجفاف، وتخللته جمل اعتراضية فلم يخل من التعقيد. وازدحمت فيه المعاني الفلسفية الدقيقة، فصعب التماسها؛ لأنها أفرغت في قالب إنشائي بحت، كله تحذير وتحضيض، وأقيسة وأعداد وتقاسيم، فلم يتم لها الوضوح الذي تم لها في حكايات كليلة ودمنة.
وفي الأدب الصغير أقوال واردة في كليلة ودمنة بحروفها، ولكنها مندمجة هناك في القالب القصصي السهل، وقائمة هنا بنفسها.
ولا يخلو الأدب الصغير من ضرب المثل، ولكن أمثاله قصيرة لا تشبه أمثال كليلة ودمنة التي ساقها مساق النوادر والأقاصيص.
الأدب الكبير
لا يتناول ابن المقفع موضوع كتابه إلا بعد أن يذكر الأسلاف، ويعظم ما تركوا للخلف من علوم. ويريد بهؤلاء الأسلاف الأمم الأعجمية، وإليهم يشير بقوله: «إن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم، والكلمة من الصواب، وهو بالبلد غير المأهول، فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط
23
ذلك على من بعده.» ثم يعترف أنه أخذ لكتابه هذا من أقوال المتقدمين.
والأدب الكبير قسمان؛ قسم يتكلم به على السلطان والمتصلين به، وقسم يتكلم به على الصديق. ويستهل القسم الأول بقوله: «وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة إلخ.» ثم يأخذ في نصح السلطان، فيوصيه وصايا حسنة تتناول سياسته للعمال والرعية، وما ينبغي له أن يتحلى به من الخصال الحميدة؛ فمن جملة نصائحه له أن لا يزيد من ساعات شهوته ودعته، وينقص من ساعات عمله وتعبه، وأن لا يعرف بحب المدح، وأن يتحلى بثلاث خصال: رضى ربه، ورضى سلطانه إن كان فوقه سلطان، ورضى صالح من يلي عليه. وأن يتخذ بطانته من أهل الدين والمروءة، وأن لا يأنف من المشورة؛ لأنه يطلب الرأي للانتفاع به لا للافتخار به.
ويوصيه أن لا يعاجل بالثواب ولا بالعقاب؛ فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي، وأن يصبر على أهل العقل والسن والمروءة دون غيرهم، وينهاه عن الحسد والغضب والحلف.
ويوصيه بتفقد فاقة الأحرار ليسدها، وطغيان السفلة ليقمعه، ويريد بذلك أن يكون الوالي يقظا متنبها لجميع أحوال رعيته.
ثم ينتقل إلى الكلام على المتصلين بالسلطان فيعطيهم نصائح تتعلق بسياستهم معه. وفيها أشياء كثيرة اعتمد عليها بعده الفارابي وابن سينا في كلامهما على سياسة المرءوس لرؤسائه؛ فمنها هرب المرءوس من صحبة وال لا يريد صلاح رعيته؛ لئلا يهلك في دينه إذا صحبه، وفي دنياه إذا صحب الرعية وأغضبه، ومنها مداراة الوالي والنظر إلى ما يحب وما يكره، ومنها تزيين رأي الولاة وقلة استقباح ما يصنعون، وغير ذلك من النصائح التي تختص بمصاحبة الملوك في زمن كان الملك فيه ظل الله على الأرض؛ فلا بدع أن تصطبغ هذه النصائح بألوان العبودية والخنوع، وإن كان ابن المقفع قد أراد بها إظهار استبداد أولي الأمر، والتنفير من مصاحبتهم. ونعتقد أن أبا جعفر المنصور لم يكن راضيا عنها؛ لما فيها من ذم للسلطان.
وأما القسم الثاني فقد خصه بالصديق، وابن المقفع - كما علمت - عظيم المودة والوفاء للأصدقاء، ويستهله بقوله: «ابذل لصديقك دمك ومالك.» ومن وصاياه في مخالقة الصديق أن لا ينتحل الإنسان رأي صديقه لئلا يثير سخطه عليه، وأن لا يشارك محدثا في حديث يعرفه؛ فإن في ذلك خفة وسوء أدب وسخفا، وأن يحسن الاستماع ويخفض الصوت عند الكلام ، ولا يسفه أقوال جلسائه، وأن لا يذمن اسما من الأسماء لعله موافق هوى بعض خلطائه.
وابن المقفع، في أثناء كلامه على الصديق، ينهاك عن أشياء لا يصح التخلق بها، ويوصيك أن تحترز من سكر السلطة، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب. وهو أبدا شديد الوطأة على المرأة، فما يتركه التنفير من الولوع بها، والتحذير من التهافت على الازدياد من النساء.
ويختم كتابه بذكر الصفات الحسنة التي ينبغي للمرء أن يتحلى بها في حياته، وهي خلاصة مباحثه في الأدب الكبير.
وإنشاء الأدب الكبير خطابي محض، كله أمر ونهي، وقد خلا من الأمثال ولم يغلب عليه الأسلوب المنطقي، فقلت قياساته، فجاءت عبارته أسهل من عبارة الأدب الصغير وأوضح. (4-3) منزلته
إذا شئت أن تفسر البلاغة كما فسرها بعضهم بقوله إنها كلام قلت ألفاظه وكثرت معانيه، فقد ظلمت ابن المقفع وأخرجته من طبقة البلغاء؛ لأنه كان يجنح إلى الإسهاب أكثر منه إلى الإيجاز.
على أن هذا التفسير فيه نقص بين؛ إذ لا يصح أن تحصر البلاغة في الكلام الموجز المفيد، وللإسهاب إذا خلا من الحشو والتطويل نصيب منها غير يسير. وأحسن من هذا التفسير قول ابن المقفع: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.» والجاهل لا يتفهم الكلام إلا إذا كان سهلا واضحا، فإن فهمه طمعت نفسه في احتذائه، غير عالم أن البليغ السهل صعب الرياضة بعيد المنال؛ ذلك أن تتبع الألفاظ الفصيحة المأنوسة، واجتناب الألفاظ الغريبة يجعل نطاق اللغة ضيقا، ومادتها قليلة، ولأن يدخل الكاتب على البلاغة من طريقها الوعر أيسر له من أن يسلك إليها السهل الممتنع، وابن المقفع سلكه مطمئنا، ثابت الأقدام، فنال من معجزها ما لم ينله سواه، ولطالما أوصى الكاتب بترسم خطاه، فقال: «إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر.»
وهو كغيره من المتقدمين لا يحفل بتسجيع الألفاظ وتزويقها، ولا يقصد إليه البتة إلا ما جاء عفوا، وقضت به الفصاحة في أثناء الكلام. ولم يؤثر أصله الفارسي في صحة طبعه ، مع أن الفرس أهل حضارة قديمة تميل بهم إلى الزخرف والتزيين، وسبب ذلك أنه نشأ زمن بني أمية نشأة عربية خالصة، بعيدة من التصنع والتكلف، نازعة إلى البداوة والفطرة. ثم إن الفرس لم يكن لهم في أيامه الأثر البليغ الذي صار لهم فيما بعد، فانطبع إنشاؤه على بلاغة العرب وفطرتهم، وخلص من تمويه الحضارة الجديدة وتزويقها، فجاء متنوع العبارة، يجري مع الطبع.
على أن بعد الكاتب من التعمل لا يعني أنه لم يكن يتخير ألفاظه وينتقيها؛ فلقد كان كالصائغ الماهر كثرت جواهره، فأحسن اختيار فرائدها. قال الراغب الأصبهاني: «كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب. فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.»
وامتاز في حلاوة ألفاظه ورصانتها، وطول نفسه، وبعده من الغلو، وفي اتساق أفكاره وحسن تساوقها، واستيفاء القياس وقوة المنطق، والغوص على المعنى الفلسفي الدقيق. قال فيه أبو العيناء: «كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح. كأن بيانه لؤلؤ منثور، وروض ممطور.»
والأقوال فيه كثيرة، وكلها تدل على منزلته الرفيعة في دولة النثر، وتظهر ما كان لأسلوبه من الأثر الكبير في عصره؛ مما جعل بلغاء الكتاب يضربون على غراره، وحسبك منهم سهل بن هارون.
وابن المقفع عجمي التفكير في جميع مؤلفاته، ليس له من العرب إلا اللغة وروح الإسلام، وقلما استشهد بأشعارهم وأقوالهم، ولكن فضله على العربية عظيم، فإنه أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية الهندية، ومنطق اليونان، والطريقة الفيثاغورية، وعلم الأخلاق، وسياسة الاجتماع، فذلل أوضاعها لمباحث عقلية لا عهد لها بها، ووطأ السبيل للفارابي وابن سينا من بعده.
وهو أول كاتب عمد إلى الترجمة والتأليف ووصل إلينا بعض آثاره، وكان من حظه الخلود، وأول عالم مفكر تناول الموضوعات العقلية بإنشاء رفع به لغة الأدباء، وبز به لغة العلماء، تلك التي غلب عليها الغموض وركاكة التعبير، فحبب دراسة الحكمة بجمال أسلوبه ووضوحه، ولا سيما أسلوب كليلة ودمنة الذي أفرغ فيه الجد في قالب الهزل، فأرضى به الخاصة والعامة معا. وكان أول كاتب عربي جعل الكلام على ألسنة الحيوان، وجعل تأديب الملوك بالحكايات والإشارات والأمثال. (5) علوم اللغة (5-1) الصرف والنحو
ذكرنا في الكتاب الأول أن اللحن أخذ يفشو في صدر الإسلام بسبب اختلاط العرب بالأعاجم، وأن أبا الأسود الدؤلي أول من اشتغل بالنحو ونسب إليه وضع بعض أبوابه، فلما استشرى الفساد في اللغة أيام الدولة العباسية نشط العلماء إلى وضع قواعد الصرف والنحو، وكانا يومئذ علما واحدا غير منقسم، ويرجع الفضل في ضبط الأصول واستقرائها إلى البصرة ثم إلى الكوفة. (5-2) البصرة والكوفة
البصرة والكوفة مدينتان بالعراق مصرتا في خلافة عمر بن الخطاب، فأهلتا بطوائف العرب والموالي، وحفلتا بالشعراء والعلماء، فكان بينهما تنافس في الشعر والرواية، والنحو واللغة، والفقه والحديث، وعلم الكلام.
البصريون
وسبق البصريون أهل الكوفة إلى الاشتغال بالنحو ولغات العرب،
24
فإن أبا الأسود الدؤلي بصري، وأخذ عنه من علماء البصرة يحيى بن يعمر، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي وغيرهم.
ثم كان من بعدهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهو على رواية ابن سلام أول من مد القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو بن العلاء، فشهر ابن أبي إسحاق بالنحو وتجريد القياس، وشهر أبو عمرو بمعرفة لغات العرب. وأخذ يونس بن حبيب، والخليل بن أحمد عن أبي عمرو بن العلاء. وأخذ عيسى بن عمر الثقفي عن ابن أبي إسحاق، وعيسى هذا أول من ألف في النحو، فقد ذكر له الخليل كتابي الجامع والإكمال ولكنهما فقدا، ثم كان سيبويه.
سيبويه 796م/180ه
هو أبو بشر عمرو بن عثمان، مولى بني الحارث بن كعب، ولقب بسيبويه لجمال وجهه، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح. وكانت ولادته بفارس ونشأته بالبصرة. وأخذ النحو عن الخليل ويونس وعيسى بن عمر. وأخذ اللغة عن الأخفش الأكبر، فأصبح شيخ البصريين غير مدافع.
وزعموا أنه قدم بغداد وافدا على البرامكة، فوقعت بينه وبين الكسائي مناظرة خذل فيها سيبويه، فخرج من بغداد حزينا، وقصد إلى بلاد فارس، وتوفي بالبيضاء من قرى شيراز.
وترك من آثاره الكتاب في النحو، وهو مجلدان كبيران يحتويان على عشرين فصلا وثماني مائة، وقد شرحه أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، وله طبعات كثيرة، ونقل إلى الألمانية.
وكان أثره بليغا في أيامه حتى إنهم أطلقوا عليه اسم الكتاب إجلالا لقدره، فإذا قيل بالبصرة: «قرأ فلان الكتاب.» علموا أنه كتاب سيبويه. وكان المبرد شديد الإعجاب به، فإذا أراد مريد أن يقرأه عليه يقول له: «هل ركبت البحر؟» تعظيما للكتاب واستصعابا لما فيه. ومن هذا البحر الفياض اغترف جميع النحاة من متقدمين ومتأخرين، فكان له الفضل العميم.
الكوفيون
واقتفر الكوفيون معالم أهل البصرة، وأخذوا عنهم النحو، وانصرفوا إلى تدارسه والنظر فيه، فبرع منهم معاذ الهراء
25
وهو أقدم نحاتهم وأول من وضع الصرف. وبرع أيضا ابن أخيه أبو جعفر الرؤاسي، وهو أول كوفي ألف في النحو، واسم كتابه الفيصل، وقد ضاع. ثم كان الكسائي.
الكسائي 804م/189ه
هو علي بن حمزة مولى بني أسد، وأصله من فارس، ولقب بالكسائي؛ لأنه دخل الكوفة أو أحرم وهو ملتف بكساء، فنسب إليه. وأخذ النحو عن معاذ الهراء وأبي جعفر الرؤاسي، ثم خرج إلى البصرة ولقي الخليل وأخذ عنه، ثم طاف بالبادية، واطلع على لغات العرب ومذاهبهم، فلما رجع إلى الكوفة استقدمه المهدي إلى بغداد، وجعله في حاشية ابنه الرشيد. وجعله الرشيد مؤدب ولده الأمين، فارتفع مقامه، وظل وجيها مكرما حتى مات، ودفن بالري.
26
وهو شيخ الكوفيين، وأحد القراء السبعة، وله كتب كثيرة لم يبق منها سوى رسالة فيما تلحن فيه العوام، وهي رسالة في اللغة. وكان - على بصره باللغة والنحو - قليل البضاعة في الشعر حتى قيل: «ليس في علماء العربية أجهل من الكسائي بالشعر.»
مناظرات البصريين والكوفيين
أخذ الكوفيون النحو عن البصريين، ولكنهم لم يلبثوا أن خالفوهم فيه، وجعلوا لأنفسهم مذهبا غير مذهب أهل البصرة، فاشتد التنافس بين المذهبين، وكثرت مناظرات أصحابهما، وتعصب كل فريق لمذهبه فتشعبت الآراء، وسادت التمحلات والتعليلات حتى كادوا لا يتفقون على وجه من الوجوه، فإذا قال البصريون: «الفعل مشتق من المصدر.» قال الكوفيون: «المصدر مشتق من الفعل .» وإذا جوز البصريون تقديم الخبر على المبتدأ رفض الكوفيون تجويزه؛ لأنه يؤدي إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره، نحو: قائم زيد؛ ففي قائم ضمير زيد، ورتبة ضمير الاسم بعد ظاهره، إلى غير ذلك من المناقضات الكثيرة التي أورثت المتأخرين طوائف من الآراء لا يعدم معها من يلحن وجها للصحة يرد إليه كلامه. وجعلت دراسة النحو صعبة المنال لا يضطلع بها إلا كل ذي رغبة وجلد. زد على ذلك ما أدخل على الشعر من أبيات منحولة اصطنعها العلماء، وجعلوا منها شواهد على مذاهبهم، وحججا لمناظراتهم.
وكان الكوفيون شديدي التعصب للأعراب، يريدون العصمة فيهم؛ فإذا سمعوا قولا من أقوالهم فيه تجوز يخالف القواعد المقررة، جعلوه قاعدة غير معتدين بالشذوذ.
وأما البصريون فقد كانوا أصح استنباطا من أهل الكوفة، وأكثر اعتدالا، وأحفل بالمنطق والقياس، غير أن الكوفيين ظهروا عليهم؛ لأنهم كانوا متصلين بالعباسيين، وقربهم الخلفاء أكثر من نحويي البصرة فجعلوهم مؤدبي أولادهم، فنبه ذكرهم، ورجحت كفتهم، وشهر منهم جماعة في بغداد كالفراء، وابن الأعرابي، وابن السكيت وغيرهم. وقد يكون لفوز الكسائي على سيبويه أثر في ظهور حجة الكوفة، وإقبال طلاب العلم عليها؛ لأن انتصار شيخها على شيخ البصرة عد انتصارا لمذهبها في ذلك الحين، غير أن المذهب البصري ما لبث أن تمت له الغلبة، ورجحت كفته على كفة المذهب الكوفي بعدما زالت تأثيرات الأمراء، واصبحت السيادة في العصر العباسي لأهل المنطق وعلماء الكلام. (5-3) اللغة
ولم يكن حرص العلماء على ضبط القواعد بأشد من حرصهم على ضبط ألفاظ اللغة، وجمع شتاتها، والتمييز بين لهجاتها، فكانوا يطوفون بالبادية يأخذون الكلام عن أهلها. وكان الأعراب يأتون أمصار العراق فيسمع العلماء منهم، ويدونون ما يحفظونه عنهم، فألفوا في بدء الأمر رسائل صغيرة في موضوعات خاصة كأسماء الوحوش والأبل، وخلق الإنسان، والدارات، والنخل والكرم للأصمعى، وأسماء البئر وصفاتها والخيل وأنسابها لابن الأعرابي، وغريب القرآن لمؤرج السدوسي، والمثلثات لقطرب، فكانت هذه الرسائل نواة المعاجم اللغوية، على أن هناك كتابا في اللغة ظهر قبل هذه الرسائل كلها مرتبا على مخارج الحروف، ومباحث عامة لا خاصة، وهو كتاب العين للخليل.
الخليل 718-786م/100-170ه (؟)
حياته
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي
27
الأزدي. ولد في البصرة وبها نشأ، وتخرج على أئمة زمانه. ذكر منهم ولدا أبي الأسود الدؤلي عطاء وأبو الحارث، ويحيى بن يعمر، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل. وتبدى غير مرة وخالط الأعراب وسمع منهم، وأخذ شيئا كثيرا عنهم، فنبغ في اللغة والنحو. وكان له براعة في تصحيح القياس، واستخراج المسائل النحوية وتعليلها. وعنه أخذ سيبويه واستمده لكتابه الشهير في النحو. وتخرج عليه كثير غير سيبوبه منهم مؤرج السدوسي، والنضر بن شميل، والأصمعي.
وكان له معرفة بالنغم والحساب. وذكر بعضهم أنه ألم باليونانية إلماما تاما. ولعله أخذها عن تلميذه حنين بن إسحاق العبادي، فإن حنينا كان يحكم اللسان اليوناني، وقد لزم الخليل مدة حتى برع في لغة العرب، فغير عجيب أن يتعلم الخليل منه اليونانية، وهو الذي عرف بحب العلم ونادر الذكاء.
وظل في البصرة يشتغل بالتأليف والتعليم حتى مات، وكان زاهدا متعففا، حليما وقورا.
آثاره
وله من الآثار شيء كثير منها في اللغة، ومنها في الأنغام، وأشهرها كتاب العين في اللغة والنحو، دون فيه ما جمعه من الألفاظ والقواعد، ورتبه على حروف الهجاء، وقدم الحلقية منها لأنها أبعدها مخرجا. وابتدأ بالعين لأنه أعمق حروف الحلق وهي: ع. ح. ه. خ. غ، وجعل بعدها حرفي اللهاة، وهما: ق ك، ثم الشجرية
28
وهي: ج. ش. ض، ثم النطقية وهي: ط. د. تاء، ثم اللثوية وهي: ظ. ذال. ثاء، ثم الذولقية وهي: ر. ل. ن، ثم الشفهية وهي: ف. ب. م، ثم حروف العلة وهي: ي. و. ا.
وأطلق عليه اسم العين من باب تسمية الكل باسم الجزء، وتسمية الكتاب باسم الباب الأول منه عادة شاعت عند كثير من الأمم. وقد رأينا أبا تمام يفعل مثل ذلك في مختاراته، فيسميها باسم الباب الأول منها وهو باب الحماسة. وقيل إن الخليل جرى في ترتيب كتاب العين مجرى وضاع المعاجم السنسكريتية، فإن الهنود يبدءون بأحرف الحلق، وينتهون بالأحرف الشفهية.
ويقول صاحب وفيات الأعيان: «إن أكثر العلماء العارفين باللغة يقولون إن كتاب العين ليس من تصنيف الخليل. وإنما كان قد شرع فيه، ورتب أوائله، وسماه بالعين. ثم توفي فأكمله تلامذته النضر بن شميل، ومن في طبقته كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي وغيرهما، فما جاء عملهم مناسبا لما وضعه الخليل في الأول، فلهذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع الخليل في مثله.»
والخلل الذي يشير إليه ابن خلكان ناتج في أكثره عما ورد في كتاب العين من شواهد النحو على المذهب الكوفي مع أن الخليل بصري، فقد ناقض فيه نفسه، وخالف ما جاء في كتاب سيبويه مما رواه سيبويه عنه. ولا يدفع ذلك قولهم إن الخلاف بين البصرة والكوفة لم يقم إلا بعد الخليل؛ لأن الكلام ليس على ذاك الخلاف وإنما هو التناقض في آراء الخليل، وهذا ما نجله عنه كما نجل سيبويه عن الكذب في روايته عن أستاذه. ولذلك نرجح ما رواه ابن خلكان من أن الخليل مات قبل أن يتم كتابه، فعاثت فيه أيدي تلاميذه، ومنهم كوفيون، فأفسدوا فيه، وأوقعوا كثيرا من الخلل، فشك فيه بعض العلماء وانتقدوه، منهم الأزهري صاحب التهذيب، وابن سلمة الكوفي، والسيوطي في كتابه المزهر.
وظل كتاب العين معروفا حتى القرن الرابع عشر للميلاد ثم ضاع. ولم يصل إلينا منه سوى ما أخذه سيبويه لكتابه، والسيوطي لمزهره. ويقول صاحب الفهرست إنه كان في ثمانية وأربعين جزءا. وقد اختصره أبو بكر الزبيدي المتوفي سنة 379ه/989م فحفل الناس به، وفضلوه على الأصل؛ لأن الزبيدي حذف منه الشواهد المختلفة، والحروف المصحفة، والأبنية المختلة. ومنه نسخ خطية في مكاتب برلين والأسكوريال ومدريد والأستانة.
ومن آثاره الخالدة علم العروض، فهو الذي استنبطه وابتدعه، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيه الأخفش الأوسط بحر الخبب، ويسمى المتدارك لأنه تداركه. وحاول بعضهم أن يزيدوا بحرين آخرين، وهما: المستطيل ووزنه: مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن، مرتين. والممتد ووزنه: فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن، مرتين . ولكنهما لم يرزقا الحياة بل وقفت البحور عند الستة عشر، وحافظ الشعراء على أجزائها حتى في الموشحات.
ويرى جماعة أن معرفة الخليل بالأنغام نبهته على وضع العروض؛ لأن الموسقى والشعر متقاربان في المأخذ. ويستدلون على ذلك من رواية لحمزة بن الحسن الأصبهاني ذكرها ابن خلكان، وهي أن الخليل فطن لوضع العروض من سماعه وقع مطارق الصفارين
29
على الطسوت بانتظام.
ويرى البستاني صاحب دائرة المعارف أن إلمام الخليل باللغة اليونانية نبهه إلى ذلك؛ لأن علم العروض قديم عند اليونان، ولأرسطو فيه كتاب جليل. وهذا ما نرجحه نحن. ولا غضاضة فيه على الخليل، فإنما له أبدا فضل الواضع المبتكر.
منزلته
أعظم خاصة يمتاز بها الخليل هي أنه كان ذا عقل مفكر مولد. وهذه الخاصة النادرة اشتقت له طريق الابتكار، فكان أول من ضبط البحور ووضع أوزانها، وأول من جمع ألفاظ اللغة في كتاب، ومهد السبيل لتصنيف المعاجم، فأخذ عنه من جاء بعده. وله فضل المتقدم في الدراسة الصوتية لمخارج الحروف، وفي ضبط أصول الغناء وفروعه وأنغامه وآلاته.
30
وكان سبب موته أنه دخل المسجد وهو يعمل فكره في اختراع نوع من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها، فصدمته سارية
31
وهو غافل عنها، فانقلب على ظهره وارتج دماغه، واعتل حتى مات. وروي أنه اخترع للشطرنج جملين في طرفي الرقعة فاستعمل مدة ثم ترك.
فحسبك من هذه الأشياء وغيرها شواهد تنطق بفضل الخليل، ورجحان عقله، وقوة استنباطه. وقد شهد له ابن المقفع في ذلك فقال: «عقله أكثر من علمه.» وقال فيه ابن سلام: «سمعت أشياخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع.» (6) العلوم الدخيلة (6-1) الترجمة
ما انتظمت الممالك الإسلامية وامتدت أطرافها، وتم اختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم، حتى أدرك العرب أن عند الأعاجم علما غير العلم الذي يعرفون، وأنهم لا قبل لهم بمنافسة الأمم المتحضرة التي غلبوها على أمرها، إلا إذا أخذوا علومها، وجاروها في المدنية والعرفان، وذلك ما يقضي به الناموس الطبيعي على كل شعب بدوي يفتتح بلادا عريقة في الحضارة.
ورأوا أن لا سبيل إلى إدراك بغيتهم إلا بنقل العلوم الدخيلة إلى العربية؛ لأن مدارستها باللسان الأعجمي تفضي إلى انحطاط لغة الضاد، وإعطاء السيادة للغة الأعاجم. وما كانوا ليرضوا بذلك وهم جد حراص على لغة قرآنهم وشعرهم وآدابهم، فعمدوا إلى الترجمة، وكان بدؤها في العصر الأموي، غير أنه لم يتعاظم خطرها إلا في بني العباس لما استخلف أبو جعفر المنصور، فإنه أمر بنقل طائفة من كتب الطب والهيئة والهندسة. ولكن حركة النقل فترت في عهد المهدي والهادي، ولم تستأنف سيرها إلا زمن الرشيد فمشت متباطئة حتى كان العصر الذهبي في خلافة المأمون، فسطعت مشاعل العلوم في أرجاء المملكة العربية، وأنشأ هذا الخليفة المحب للعلم يراسل ملوك الروم في طلب الكتب، وربما جعل إخراجها إليه من شروط الصلح، فكان الملوك يلبون طلبه راضين أو مكرهين. وأرسل بعثة من العلماء إلى البلاد الرومية، فعادوا بطائفة من المصنفات في مختلف العلوم. ونظم دواوين الترجمة، واستحضر لها مشاهير النقلة، وأفاض عليهم المال الوفر، وأعطاهم حرية الفكر والقلم، فأكبوا على العمل المتواصل لا يلهيهم نصب ولا سأم، فأخرجوا من نفائس الأسفار ما غص به بيت الحكمة.
32
وأخذ المأمون يحرض الناس على قراءتها وتعليمها، وحبب إليهم الفلسفة بعد أن أحجم آباؤه عنها. وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم، ويلتذ بمذاكراتهم.
طريقة النقل
سار المترجمون على طريقين مختلفين في النقل، ذكرهما صاحب الكشكول عن الصلاح الصفدي، وهذان الطريقان هما المعول عليهما إلى يومنا هذا. ودونك ما جاء في الكشكول: «وللترجمة في النقل طريقان؛ أحدهما: طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما. وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين؛ أحدهما: أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. والثاني: أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني في التعريب: طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما. وهو أن يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذا الطريق أجود؛ ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيما بها، بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.» ا.ه.
مصادر النقل
للكتب المنقولة إلى العربية عدة مراجع أقواها أربعة: اليوناني والسرياني والفارسي والهندي. فأما اليوناني فأعظمها شأنا، وعنه أخذت أكثر العلوم لإعراقه في القدم، ثم لانتشاره في سوريا ومصر، فكانت مدرسة الإسكندرية تعلم الطب والفلسفة وسائر العلوم اليونانية، ومثلها مدارس السريان والنساطرة في سوريا، وأشهرها الرها وقنسرين ونصيبين، فالمرجع السرياني - كما يتبين - يوناني في أصله. وهكذا يصح القول في المرجع الفارسي؛ لأن علوم الفرس لم تظهر إلا زمن سابور بن أردشير (241-272م)، فقد ذكر عنه أبو الفداء أنه بعث إلى بلاد اليونان واستجلب كتب الفلسفة، وأمر بنقلها إلى الفارسية، واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها وتدارسها.
ولما اضطهد يوستنيانوس (527-565م) - قيصر الروم - الفلاسفة الوثنيين، وأقفل هياكلهم ومدارسهم، هاجر بعضهم فرارا من الضيم، ووفد سبعة منهم إلى كسرى أنوشروان (531-579م) فرحب بهم، وأنزلهم مكرمين بين ظهرانيه، فنقلوا إلى الفارسية الفلسفة والمنطق والطب، وألفوا فيها.
والتحق بهم مهاجرون من النساطرة أمضهم الاضطهاد فلجئوا إلى فارس، وأسسوا في جنديسابور مجتمعا علميا راقيا، ثم أنشأ كسرى في جنديسابور مدرسة ومستشفى يعرف بالبيمارستان، فكانت علوم اليونان تدرس باللغة السريانية. ثم اختلطت الثقافة الهندية بالثقافة اليونانية الفارسية لما نقل كسرى بعض علوم الهند وآدابهم. وكان لمدرسة جنديسابور فضل كبير لأنها أخرجت أطباء وفلاسفة للفرس والعراق وسوريا، منهم الحارث بن كلدة الثقفي، ومنهم أبناء بختيشوع أطباء الخلفاء العباسيين .
وأما المرجع الهندي فقد تلقى العرب بعضه مع المرجع الفارسي، وأخذوا بعضه الآخر من علماء الهند الذين استقدمهم خلفاء بني العباس. (6-2) المترجمون والعلوم المنقولة
كان النقلة من أهل سوريا والعراق وفارس ومعظمهم من السريان النساطرة لبراعتهم في اليونانية، وأشهرهم أبناء بختيشوع، وحنين بن إسحاق - شيخ المترجمين - وولده إسحاق، ويوحنا بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق وغيرهم، نقلوا من اليوناني الفلسفة والسياسة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم.
واشتهر من نقلة الفرس عبد الله بن المقفع وآل نوبخت وغيرهم، ونقلوا من الفارسي السير والأدب والسياسة والحكم والتاريخ والنجوم.
واشتهر من نقلة الهنود منكه الهندي وابن دهن وسواهما، نقلوا من الهندي الطب والعقاقير والنجوم والموسيقى والحساب والأرقام.
فالكتب التي نقلت في هذا العصر تشتمل في مجموعها على الطبيعيات والرياضيات والفلسفة.
العلوم الطبيعية
ومنها الكيمياء، وكانت يومئذ شعوذة يبحث فيها أصحابها عن الحجر الفلسفي الذي يحول كل معدن ذهبا.
ومنها الطب، وكان ساذجا محصورا ببعض صفات حتى ترجمت كتب أبقراط وجالينوس، فاعتمد الطب العربي عليهما، يرفده الطب الهندي من ناحيته. ونبغ أطباء كثيرون أشهرهم من النصارى النساطرة كأبناء بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق. وكان للأطباء عموما ولهؤلاء خصوصا منزلة عالية عند الخلفاء وأصحاب الأمور، فقربوهم على نصرانيتهم، وأكرموا جانبهم، وخصوهم بوافر النعم، ليطمئنوا إلى إخلاصهم في مداواة أمراضهم، وتخفيف أوجاعهم.
العلوم الرياضية
ومنها الجبر والحساب، فإن العرب أخذوا الأرقام عن الهنود، ودعوها بالأرقام الهندية. أخذها أبو عبيد الله محمد بن موسى الخوارزمي، وكان في أيام المأمون، وهو الذي ألف كتاب الجبر والمقابلة. ويكاد هذا العلم يكون من وضعه؛ لأن الهنات التي استمدها من الهند والفرس واليونان لا تفي بالمراد، ولكنه استخرج منها علم الجبر الحقيقي.
ومنها الهندسة، فقد ترجم الحجاج بن مطر أصول إقليدس على عهد الرشيد، ثم اشتهر أبناء شاكر واستخرجوا مسائل لم يصل إليها متقدموهم، كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام.
ومنها الفلك، ترجمت له كتب اليونان والفرس والهند والكلدان. ونقل الحجاج بن مطر كتاب المجسطي لبطليموس، وكان العرب كاليونان يعتقدون أن الأرض محور الكون، ولكنهم اعتقدوا باستدارتها، واشتهر منهم أبو معشر البلخي وأبناء شاكر، وهؤلاء بنوا مرصدا على جسر بغداد.
ومنها التنجيم، تفرع من علم الفلك، وقوامه ادعاء معرفة الغيب بالدلالات النجومية، ومقتضى أوضاعها في الفلك، وآثارها في العناصر، وهو قديم عند العرب، يرجع إلى عهد جاهليتهم. ولكنه أصبح في العصر العباسي علما متدارسا، فتمت له السيادة، ووقف الناس أعمالهم عليه، وأصبح الخلفاء إذا أرادوا حربا شاوروا المنجمين قبل مباشرتها، حتى الأطباء أناطوا إعطاء العلاجات بحركات الكواكب. قال ابن أبي أصيبعة: «إن بختيشوع بن جبريل كان يأمر بالحقن والقمر متصل بالذنب
33
فيحل
34
القولنج
35
من ساعته، ويأمر بشرب الدواء والقمر على مناظرة الزهرة فيصح العليل من يومه.»
ومنها الموسيقى، أخذوها عن اليونان والفرس والهنود؛ لأنها من لزوميات الغناء، والغناء قديم عند العرب، وكان على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والفتيان، وهو الحداء الرقيق، ويقال له المرائي. وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشى بالدف والمزمار فيطرب. قال إسحاق الموصلي: «هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية. وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.» ولما ترجمت الكتب اليونانية، أخذوا يبحثون في الموسيقى بحثا علميا، فارتقى فنها ونبغ جمهرة من المغنين المتفننين كابن جامع ومخارق وإبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وتلميذهما زرياب. وقد جمع الأصبهاني أخبارهم وأخبار من تقدمهم في أغانيه.
العلوم الفلسفية
أخذ المسلمون الفلسفة عن اليونان، واعتمدوا خصوصا فلسفة أرسطو وأفلاطون، وأضافوا إليها ما يتناول عقائدهم الدينية. وأكثر الذين تعاطوها كانوا من الأطباء؛ لأن الطب كان يومئذ يلازم الحكمة، ولهذا لقب الطبيب بالحكيم. ويعود فضل النهضة الفلسفية على الأطباء النصارى كحنين بن إسحاق مترجم جمهورية أفلاطون ومنطق أرسطو، ويوحنا بن البطريق مترجم سياسة أرسطو، ويوحنا بن ماسويه الذي نقل كتبا عديدة في الفلسفة. (6-3) العلوم التي لم تنقل
ونرى مما تقدم أن العرب نقلوا جميع العلوم اليونانية إلا التاريخ والأدب، مع أنهم نقلوا من الفارسية تواريخ الفرس وأخبار ملوكهم، ونقلوا في الأدب كليلة ودمنة وغيرها. وسبب ذلك أنهم لما أصبحوا دولة منظمة تذهب كل مذهب في الرقي والحضارة شعروا بحاجتهم إلى ما ينقصهم من العلوم، فدعاهم نظام المملكة، وعمران البلاد، وترف العيش إلى نقل الحساب والهندسة والطب والنجوم، والجغرافيا
36
والموسيقى. ووجدوا في عصر شاعت به البدع والمذاهب، وكثر التمحيص في الأديان، فاضطروا إلى نقل الفلسفة والمنطق للدفاع عن عقائدهم، والرد على أقوال خصومهم. وأما التاريخ فقد كان يهمهم أن يعلموا أحوال جيرانهم من أهل الممالك القديمة، فكانوا يسمعون أخبارهم من القصاصين. ولكن الحاجة لم تمسهم إلى العناية بنقل تواريخ الأعاجم؛ لأنهم كانوا وقتئذ منصرفين إلى تحقيق أنسابهم، وتدوين السيرة النبوية، وأخبار فتوحهم. ولم يكن بين المترجمين من اللغة اليونانية أروام فيندفعوا بعامل العصبية إلى نقل تاريخ أمتهم وإظهار مناقبها ليفاخروا العرب بها، كما اندفع إلى ذلك المترجمون من اللغة الفارسية وهم من أبناء الفرس الأقحاح.
وأما الأدب فإن العرب لم يعبئوا بنقله عن الأعاجم؛ لإعجابهم بشعرائهم وخطبائهم، ولاعتقادهم أن لا أدب فوق أدبهم، وكانوا في هذا العصر منصرفين إلى جمع شعرهم، وأخبار شعرائهم يتلقونها على أفواه الرواة. أضف إلى ذلك أن نقلة اليونانية لم يكونوا يحسنون العربية ليصطنعوا بها لغة الشعر والأدب، بخلاف نقلة الفرس؛ فإنهم كانوا يحسنون لسان العرب كأبنائه، وفيهم من بذ أبناءه ببراعة الإنشاء. ثم إن مدارس سوريا والعراق ومصر كانت همتها في تدريس العلوم اليونانية من فلسفة وطب ورياضيات وطبيعيات، ولم تعن بالأدب والتاريخ اليوناني؛ لأنهما لم يهاجرا إلى البلاد التي تلمذ لها العرب كما هاجر الطب والفلسفة والهندسة؛ لذلك لا تجد بين مترجمي السريان والنساطرة إلا كل فيلسوف وطبيب ورياضي، ولا تجد بينهم شاعرا أو كاتبا أو مؤرخا.
ورغب العرب عن اقتباس فنون التشريح والتصوير ونحت التماثيل؛ لاعتقادهم أن الإسلام يحرمها، ولكنهم برعوا في البناء والحفر، وشادوا الأبنية الجميلة على الطراز العربي المأخوذ من الطراز البيزنطي بما فيه من زخرف ونقوش، وكان أشهر البنائين من السوريين. (7) العلوم الدينية (7-1) التفسير
شرع المسلمون منذ بداءة عهدهم بالدين يعنون بدراسة القرآن، وتفهم معانيه، واستنباط الأحكام منه، فنشأ عن ذلك علم التفسير، وعرف من المفسرين المتقدمين عبد الله بن عباس،
37
وابن سيرين، والحسن البصري وغيرهم. على أن هذا العلم لم يتم جمعه وتدوينه إلا في الدولة العباسية. وشهر من المفسرين في هذا العصر سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وإسحاق بن راهويه، والفراء وغيرهم. (7-2) الحديث
هو علم تعرف به أقوال النبي وأفعاله، وليس منه وحي القرآن، ويكون إما حديث رواية يبحث فيه عن الأسانيد المتصلة أو المنفصلة حتى يبلغ بها إلى الرسول، وإما حديث دراية يبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظه، وعن المراد منها مبنيا على قواعد العربية، وضوابط الشريعة، ومطابقا لأحوال النبي. وللحديث أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات، ذكرها العلماء، وشرحها المحدثون والفقهاء، منها العلم بصفات الرواة وأخلاقهم، وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم، إلى غير ذلك مما يصح أن يتخذ مستندا لقبول روايتهم، والاطمئنان إلى صحة الأحاديث المنقولة عنهم.
وقد احتاج المسلمون إلى جمع الحديث ليستعينوا به على تفهم القرآن، وتأويل ما بين أيديهم من آيات يتعذر عليهم إدراك معانيها. وليستندوا إليه في الأحكام والفتاوى التي ليس لها نص صريح في كتابهم، فلذلك كان المحدثون والفقهاء يعانون الرحلات الشاقة طلبا للأحاديث الصحيحة، يتلقونها بالإسناد المتسلسل. ولكنهم لم ينهضوا لهذا الأمر إلا في المائة الثانية للهجرة، بعد أن مات الصحابة والتابعون، وهم الذين يرجع إليهم في نقل الحديث، فكان أن تفرقت الأحاديث وتخالفت، واتسع مجال الوضع، فروي من كاذبها مئات وألوف، وضعها الزنادقة وذوو المآرب تنفيذا لغاياتهم، وتأييدا لمذاهبهم، وربما وضع الحديث لغرض سياسي، فاستند إليه في الإفتاء.
وكان الإمام مالك في طليعة من دونوا الأحاديث؛ فإنه جمع في كتابه الموطأ نحو ثلاثمائة حديث. ثم جاء الإمام ابن حنبل فألف كتابه المسند، وضمنه نحو خمسين ألف حديث، على أن هذا العلم لم ينضج إلا عند البخاري
38
حجة المحدثين وإمامهم، فإنه عني بجمع الأحاديث وتمحيصها، وطوف الآفاق يسمع من محدثيها حتى استخرج كتابه صحيح البخاري من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، جمع فيه تسعة آلاف ومائتي حديث، منها ثلاثة آلاف مكررة بتكرر وجوهها.
وكان مسلم بن الحجاج القشيري
39
من معاصريه، فحذا حذوه وألف كتابه الجامع الصحيح، ويعرف بصحيح مسلم، وبثاني الصحيحين، وبوبه على أبواب الفقه، وحذف منه الأحاديث المكررة.
وجاء بعدهما من نهج نهجهما، وزاد عليهما، كابن ماجة، وأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي. ومؤلفات هؤلاء الستة هي أصح كتب الحديث وإليها المرجع في هذا العلم، وتعرف بالستة الصحاح، وكل ما ألف بعدها كان شرحا أو تلخيصا لها. بيد أن الصحيحين الأولين هما خير ما ألف في الحديث إلى اليوم. (7-3) الفقه
هو علم تعرف به الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين حلالها وحرامها. وكانوا يستخرجونها قديما من الكتاب والسنة،
40
فلما عظمت أمصار الإسلام، واتسع سلطانه في الآفاق، وتعددت الحوادث واختلفت باختلاف الزمان والمكان، اضطروا إلى الاجتهاد في الاستنباط، فاستخرجوا علم الفقه. وسلكوا فيه طريقين: طريق أصحاب الرأي والقياس، وهم العراقيون. وطريق أصحاب الحديث، وهم الحجازيون. وكان أهل العراق ذوي علم وبصر؛ لأن أكثرهم من الأعاجم المعرقين في الحضارة، فآثروا تحكيم آرائهم، وضعفت ثقتهم بالأحاديث لما نالها من الاصطناع، فلم يركنوا سوى إلى القليل منها، وصاحب هذا المذهب أبو حنيفة وهو فارسي الأصل. وأما أهل الحجاز فإن الحديث كان متوافرا عندهم، لكثرة الصحابة في المدينة ومكة، فاعتمدوا عليه في أحكامهم، ونبذوا الرأي والقياس؛ لأنهم أهل بداوة ليس لهم من العلم والثقافة ما لأهل العراق، وصاحب هذا المذهب مالك بن أنس الأصبحي. واختص مذهبه بدليل آخر غير الكتاب والسنة، وهو الإجماع، ويريد به ما أجمع عليه أهل المدينة من عمل أو ترك باعتبار أنهم تابعون لمن قبلهم حتى يبلغوا إلى الجيل الذين عاصروا الرسول وأخذوا عنه.
ونبذ القياس أيضا طائفة من العلماء وهم الظاهرية، وإمامهم داود بن علي الأصبهاني، وجعلوا محور مباحثهم ظاهر الكلام بمعزل عن كل تأويل، ولكن مذهبهم لم ينتشر، ولم يعد من المذاهب المقررة في الإسلام، وهي أربعة عند السنيين: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، ومذهب الشافعي، ومذهب ابن حنبل.
أبو حنيفة 699-767م/80-150ه
هو النعمان بن ثابت، فارسي الأصل، نشأ بالكوفة، وأخذ عن علمائها، واستنبط فقهه من القرآن، وما صح عنده من الحديث، وعدده قليل لا يجاوز السبعة عشر. وكان اعتماده في الغالب على الرأي والقياس، وتابعه في ذلك أكثر أئمة العراق. واستقدمه المنصور من الكوفة إلى بغداد، لينافس به مالك بن أنس، بعد أن أفتى مالك بخلع بيعته، وتأييد دعوة محمد بن عبد الله العلوي.
وقضى أبو حنيفة حياته بالزهد والورع، وأريد على القضاء غير مرة فرفض مخافة أن يصدر عنه خطأ يحمل وزره. وقيل إن المنصور حبسه لرفضه القضاء وآذاه حتى مات. وقيل بل حبسه لأنه رأى منه تشيعا.
وكانت وفاته في بغداد، ولم يصل إلينا شيء من آثاره في الفقه. وإنما وصل إلينا كتب تلاميذه وعلى الأخص أبو يوسف الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني، ويعرفان بالصاحبين؛ أي صاحبي أبي حنيفة.
والمذهب الحنفي أعم المذاهب، وأبعدها انتشارا في بلاد الإسلام كالعراق وسوريا وتركيا والعجم والهند وغيرها. ذلك أنه في اعتماده على الرأي والقياس، يقرب من التساهل ويبتعد عن الضغط الشديد، فيلائم أحوال الشعوب المتحضرة أكثر من سواه.
مالك 713-795م/95-179ه
هو مالك بن أنس الأصبحي، عربي الأصل، ولد بالمدينة، وأخذ الحديث عن علمائها، وبرع في علوم الدين. وكانوا يعولون عليه في الفتوى حتى قيل: «لا يفتى ومالك بالمدينة.» وقد استنبط مذهبه من الكتاب والسنة، ويختلف عن أبي حنيفة في كثرة اعتماده على الحديث، وهو أول من ألف فيه. وكان يتشيع للعلويين، حتى إنه أفتى بخلع المنصور؛ فأمر به والي المدينة، وكان يومئذ جعفر بن سليمان عم المنصور، فجرد من ثيابه، وضرب بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه. على أن ذلك لم يضع من شأنه، بل زيد رفعة وعلاء، وكان الرشيد إذا قدم المدينة حضر مجلسه، وسمع منه.
وكانت وفاته بالمدينة، وأشهر آثاره الباقية كتاب الموطأ في الحديث والفقه. واختص بالمذهب المالكي أهل الحجاز والمغرب والأندلس.
الشافعي 767-819م/150-204ه
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي، ولد بمدينة غزة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ فيها فقيرا، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، ثم رحل إلى البادية، وطلب الشعر واللغة، فنال منهما قسطا حسنا. ثم تفقه وحفظ موطأ مالك، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة . وجاء بغداد فلقي أصحاب أبي حنيفة فأخذ عنهم، ثم رحل إلى مصر وأقام بالفسطاط وأملى مذهبه في الفقه، وهو وسط مزج به طريقة أهل العراق بطريقة أهل الحجاز. وخالف مالكا في كثير من مذهبه، ولكنه تشبث بالحديث.
وعرف الشافعي بالذكاء والحفظ وفصاحة اللسان، وقوة الحجة. وعرف أيضا بالعدل والأمانة والزهد والعفاف والسخاء، وكانت وفاته في مصر فدفن بالعرافة ومقامه معروف، وله من الآثار رسالة في أصول الفقه، والمسند في الحديث. ومقلدو مذهبه هم أهل مصر، وفي سوريا ولبنان طائفة كبيرة من الشوافعة، ولكن المذهب الحنفي هو المتبع في الحكم والإفتاء، انتقل بالإرث عن الأتراك وهم أحناف.
ابن حنبل 780-855م/164-241ه
هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، ولد في بغداد، وبها نشأ وتعلم، وكان من أصحاب الشافعي، فلما خرج الشافعي إلى مصر قال: «خرجت من بغداد، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل.» وفي أيامه اشتد ساعد المعتزلة، فدعي إلى القول بخلق القرآن في مجلس المعتصم، فلم يفعل، فضرب سبعة وعشرين سوطا، ضربا موجعا حتى سال منه الدم وأغمي عليه، ثم حبس وهو مصر على الامتناع.
وكان حسن الوجه ربعة يختضب بالحناء، خضبا ليس بالقاني. وكان أروى الناس للحديث. قيل إنه حفظ منه ألف ألف. ومذهبه في الفقه بعيد من الاجتهاد، ينبذ الرأي والقياس، ويتشبث بالأحاديث.
وكانت وفاته في بغداد وقبره مشهور بها، وذكروا أنه شهد جنازته ثمانمائة ألف من الرجال، وستون ألفا من النساء. وله من الآثار كتاب المسند ضمنه ما ينيف على أربعين ألف حديث. وأتباع المذهب الحنبلي قليل، تجد منهم في بعض نواحي الشام والعراق، وهم أحفظ الناس للسنة. •••
وقد وقف التقليد في الإسلام عند أصحاب المذاهب الأربعة، وسد باب الاجتهاد باعتبار الكمال فيها، غير أن الشيعة العلوية انفردت بمذهب وفقه خاص بها. وقامت اجتهادات علمائها على أساس سياسة الخلافة، وما جرى من الخلاف عليها، والاجتهاد عندهم مفتوح الأبواب. وانفرد بمثل ذلك الخوارج، وكانت الخلافة أيضا أساس مذهبهم واجتهاداتهم. (7-4) البدع
أتيح للشرق أن يكون منبت الأديان ومهبط الوحي والإلهام، ثم أتيح له أن يصبح أخصب مرتع للبدع
41
وما فيها من مذاهب وطرائق، والبدع في الشرق وليدة العلم والتفكير، وربيبة الفلسفة والمنطق؛ فقد انتشرت في النصرانية بعدما استبحر أبناؤها في العلوم، وهكذا كان حظ الإسلام منها، فإن العرب في بداوتهم وفطرتهم تلقوه بإخبات وخضوع، ولم يخطر لهم في بال أن يمحصوه، ويبحثوا في حقيقته وأحكامه، وإنما اكتفوا بالنظر إلى أعراض المسائل الدينية من تفسير أو تأويل. على أن ذلك الإيمان الساذج إذا أقنع العرب في بدء أمرهم فما كان ليقنع الشعوب العجمية التي اختلطت بهم، وتركت عقائدها القديمة، ورضيت الإسلام دينا، ولها من العلم والحضارة ما يخرج بها عن الجمود الفكري، ولكن لم يكن لها يومئذ من الحرية والقوة والنفوذ والعلم بلغة القرآن ما يمكنها من الجدل في الدين، فلم يرتفع لها صوت حتى كان من أثر اختلاطها بالعرب أن نشأ جيل جديد لغته عربية وتفكيره عجمي، فنبغ منه جلة من العلماء والمفسرين، والفقهاء والمحدثين، فانصرفوا إلى تقصي معاني القرآن، والاجتهاد في تفسيرها وتأويلها، فأنكروا ما لا ينطبق على عقولهم، وابتدعوا أقوالا وآراء لا عهد للمسلمين بها، فتعددت فيهم المذاهب، فكان منها مذهب القدرية؛ وهم الذين جحدوا القدر وقالوا بأن الإنسان خالق لفعله، وأن الكفر والمعاصي ليست بتقدير الله.
ومنها الجبرية؛ وهم الذين يجعلون الإنسان مسيرا في أعماله لا مخيرا، وينكرون على الله جميع الصفات، معتقدين أنها ناقصة فيه تعالى كما هي في الإنسان. ومنها المشبهة؛ وهم الذين شبهوا الله بالمخلوقات، وجعلوا له يدا وقدما، ووجها. ومنهم الصفاتية؛ وهم الذين ذهبوا إلى التشبيه في الصفات، فأثبتوا لله الجهة والاستواء، والنزول والصوت. وقد جرهم إلى ذلك ما ورد في القرآن من آيات توهم التشبيه ففسروها على ظواهرها، وغلبوها على أدلة التنزيه، ولكنهم تخلصوا بقولهم: جسم لا كالأجسام وجهة لا كالجهات. ثم كانت المعتزلة، وهي أعظم البدع في الإسلام، وأشدها خطرا، نشأت في البصرة، ومؤسسها واصل بن عطاء.
42
وكان يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف، وقالت الخوارج بتكفير مرتكب الكبائر، وقالت الجماعة بأنه مؤمن وإن فسق بالكبيرة، خرج واصل بن عطاء عن الفريقين، وقال: «إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر: منزلة بين منزلتين.»
43
فطرده الحسن عن مجلسه فاعتزل عنه، وجلس إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما معتزلة.
وقد خالفت المعتزلة المشبهة في تجسيم الذات، ولكنها أسرفت في مذهبها، فقضت بتنزيه الله عن صفات المعاني كالعلم والقدرة والإرادة والكلام، زاعمة أن إثباتها يقضي بتعديد القديم والإشراك بالخالق الأزلي. وقادها نفي الكلام عن الله إلى مخالفة الجماعة في أزلية القرآن فقالت بأنه مخلوق، وخالفت الجبرية فقالت بأن الله منح الإنسان القدرة، وأعطاه الحرية في استخدامها، فأصبح الإنسان خالقا لأعماله خيرها وشرها، والله منزه أن يضاف إليه شر أو خير؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالما، كما لو خلق العدل كان عادلا.
ولما قامت الدولة العباسية ونقلت فلسفة اليونان، وعلم المنطق، أقبل المعتزلة على دراستهما، واعتمدوا عليهما في مباحثهم ومناظراتهم، فتوافرت أدلتهم، واستحكمت حججهم، ورجحت كفتهم، وشالت كفة أهل السنة؛ لأن العلماء السنيين حسبوا دراسة المنطق كفرا وزندقة، فنفروا منه، وأبوا أن يتخذوه معيارا لأدلتهم العقلية. وكانوا يقولون: «من تمنطق شهرا فقد تزندق دهرا.» فقصروا في مناظرة أصحاب الاعتزال، وأفحمهم هؤلاء بجدلهم وفلسفتهم. وازدادت المعتزلة صولة وانتشارا في عهد المأمون والمعتصم والواثق؛ لأن هؤلاء الخلفاء آثروا الاعتزال، وجاهروا بخلق القرآن، واضطهدوا جماعة السنة، وأخفتوا أصوات علمائهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ولا سيما المأمون، فإنه كان أشدهم انتصارا للفلسفة وأصحابها، والمعتزلة وآرائها. ولا ريب أن تغلب الفلسفة على السنة، والمعتزلة على الجماعة، أحدث إيثارا للجديد على القديم، وتغليبا للعنصر الفارسي على العنصر العربي.
وظل المعتزلة أصحاب الكلمة الراجحة حتى استخلف المتوكل في العصر الثاني فاضطهدهم وقتل منهم، وانتصر للسنة، فرفع علماؤها رءوسهم. ثم كان لها من أبي الحسن الأشعري
44
ركن ركين، قاوم المعتزلة وأضعف نفوذها الأدبي في الملة بعد أن استفحل أمرها.
وليس من شأننا في هذا البحث أن نعدد جميع البدع التي تفشت في الإسلام على أثر نقل العلوم اليونانية. ولكن نختصر فنقول إن هذه العلوم وما صحبها من حضارة جديدة، وحرية وتساهل في الأمور الدينية، كان لها أثر عظيم في أفكار المسلمين؛ لأنها جعلت الشك يتغلب على اليقين، فضعف الإيمان واجترأ الناس على الدين، فراحوا يتفلسفون في تأويل شرائعه وأحكامه، فذهبوا فيه كل مذهب، وابتعدوا كثيرا عن أسلافهم في فجر الإسلام. ولم تقم بدعة إلا تفرع منها عدة مذاهب وطرائق، فدخل على الإسلام أشياء كثيرة ليست منه.
على أن هذه البدع وإن تكن أضرت بالدين، فإنها أفادت التفكير الإسلامي، وأعدته إعدادا حسنا لاستنباط الفلسفة العربية. (7-5) علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن عقائد الدين بالأدلة العقلية، وكان ظهوره بعد أن تفشت البدع في الإسلام، واختلف أصحابها وأهل السنة على تفصيل هذه العقائد، فدعا ذلك إلى الجدل والتناظر، والاستدلال بالعقل؛ فعظمت الفتنة وتمسك كل ذي رأي برأيه، واشتد الخصام على الأخص بين المعتزلة والسنة؛ لأن المعتزلة كانوا أشد المبتدعة خطرا؛ ذلك بأن مذهبهم وليد التفكير والفلسفة، وليس كذلك مذهبا الشيعة والخوارج؛ فإنهما قاما على أساس سياسة الخلافة، وكان احتكامهما إلى السيف أكثر منه إلى اللسان، ولم يكن للمذاهب الأخرى شأن عظيم فيحتفل أهل السنة بأصحابها؛ لذلك انصرفوا إلى مناظرة أهل الاعتزال؛ فنهض علم الكلام على أيدي هاتين الفئتين. ثم تم ازدهاره بعد أن نشأت الطريقة الأشعرية، وأقبل علماء السنة على المنطق يتدارسونه؛ لأنهم فرقوا بينه وبين الفلسفة، وعرفوا أنه علم القياس والتعليل والاستنتاج.
ولم يشتهر متكلمو السنة قبل الأشعري شهرة متكلمي المعتزلة؛ فإن هؤلاء ظهر منهم جلة من الفضلاء الأعلام أشباه واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وأبي علي الجبائي وغيرهم. (8) الأدب والرواة
شرع الرواة في العصر الأموي يجمعون أشعار العرب وأقوالهم وأخبارهم، وما أطل العصر العباسي حتى بدأت تظهر المجموعات الأدبية، وتطور النقد بعض التطور، فأصبح أهل العلم ينظرون في صحيح الشعر ومنحوله، ويجعلون للشعراء طبقات متمايزة، ويدركون عليهم سرقاتهم، ومخالفاتهم للقواعد النحوية، وسقطاتهم في الألفاظ والمعاني، غير أنهم لم يخرجوا في أحكامهم عن دائرة من تقدمهم، فكانوا يفضلون الشاعر ببيت من الشعر، ثم يفضلون غيره ببيت آخر، وهكذا كان يفعل أسلافهم، حين يقولون: «فلان أشعر بني فلان، أو أشعر العرب، أو أشعر الناس.»
ويؤخذ عليهم إفراطهم في تقديس القديم، حتى ضل بهم المنطق في النقد، فكانوا إذا أعجبهم شاعر إسلامي أو مولد قالوا: «لو أدرك يوما من الجاهلية لفضل على كثير منهم، أو لما فضل عليه أحد.»
واشتهر في هذا العصر طائفة كبيرة من الرواة نكتفي بذكر أربعة منهم، وهم أبو عبيدة، والأصمعي، ومحمد بن سلام، وأبو زيد القرشي. (8-1) أبو عبيدة 728-824م/110-209ه (؟)
حياته
هو معمر بن المثنى، ينتسب إلى تيم قريش بالولاء. وكنيته أبو عبيدة، وكان جده يهوديا من أهل باجروان.
45
ونشأ أبو عبيدة في البصرة، وبها درس على أبي عمرو بن العلاء، فلما هبت ريحه أقبل إليه طلاب العلم يتخرجون عليه. ثم استقدمه الفضل بن الربيع
46
إلى بغداد سنة 188ه فأقام فيها يؤلف ويفيد من يحضر مجلسه، وجرت بينه وبين الأصمعي مناظرات كثيرة، وكان شعوبيا شديد التعصب على العرب، فراح يطعن فيهم، ويمزق أعراضهم، وينشر مخازيهم في كتابه المثالب؛ فأوغر عليه صدور الناس، فدس له بعضهم سما في موز وهو في البصرة فمات. وكانت وفاته في خلافة المأمون، ولم يحضر جنازته أحد لأنه لم يسلم من لسانه إنسان شريف أو غير شريف.
وكان وسخ الثياب، رث الهيئة، سيئ المنظر، غليظ الشفة، ألثغ، مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلى مذهب الخوارج، شديد التعصب للشعوبية، لا تقبل شهادته لفساد في أخلاقه.
وكان إذا تحدث أو قرأ لحن عامدا، وإذا أنشد بيتا لا يقيم وزنه، ومن قوله: «النحو شؤم كله.»
آثاره
تناهز مؤلفاته المائتين، وهي في القرآن واللغة والأمثال والفتوح، والأنساب والمثالب، وبيوتات العرب وأيامهم، والتراجم وغيرها. ولكن لم يبق منها إلا أقلها، ككتاب نقائض جرير والفرزدق، طبع في ليدن بمجلدين كبيرين، وكتاب طبقات الشعراء، ويسميه الفهرست الشعر والشعراء.
منزلته
لأبي عبيدة مقام سام في طبقات الأدباء؛ فإنه كان أغزرهم مادة، وأوسعهم رواية، عالما بأخبار العرب وأيامهم، وأنسابهم ولغاتهم، يروي الشعر، ولكنه قلما عني بتفسيره ونقده. وله الفضل بأنه مهد الطريق لغيره من جامعي الأخبار، فإن الأصفهاني لما وضع أغانيه اعتمد على كتاب أيام العرب لأبي عبيدة. وروى عنه كثيرون كالقاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وعمر بن شبة.
وهو أول من ألف في علم البيان، وتأليفه يعرف بمجاز القرآن، ولا نعني أنه أوضح طرق ذاك العلم في كتابه هذا، فإنه كان يكتفي بأن يجمع الألفاظ التي استعملت في غير معناها الحقيقي، دون أن يفرق بين أنواع المجاز، ويفصل حدوده وأصوله.
وأجمع أكثر العلماء على صحة روايته فقالوا: إنه لم يكن يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح، ولا سيما كلامه على مفاخرهم، فإنه لم يبالغ فيها فعل غيره من الرواة المتعصبين للعرب، بل نقلها على حقائقها. ويؤخذ عليه شيء من الضعف في عبارته. وكان أبو نواس يتتلمذ له، فإذا سئل عنه قال: «أديم
47
طوي على علم.» أي إن ظاهر كلامه جاف، وباطنه خصب. وفاضل بعضهم بينه وبين الأصمعي فقالوا: «إنه كان كثير الفوائد، جم العلوم مع سوء عبارة، والأصمعي قليل الفائدة مع حسن إنشاء وزخرفة.» وأبو عبيدة أجمع الرواة بلا خلاف. (8-2) الأصمعي 739-831م/122-216ه (؟)
حياته
هو عبد الملك بن قريب، ينتهي نسبه إلى مضر، ويلقب بالأصمعي نسبة إلى أحد جدوده أصمع، ويكنى أبا سعيد. ولد في البصرة ودرس على أبي عمرو بن العلاء، والخليل، وخلف الأحمر، وغيرهم من أئمة عصره. وأكثر الخروج إلى البادية، واختلط بالأعراب وساكنهم، وأخذ عنهم، حتى اجتمع له من الأخبار والأشعار والنوادر والغريب شيء كثير. واتصل بالرشيد واختص به، فأجزل له العطاء، وبالغ في إكرامه، وكانت وفاته بالبصرة أيام المأمون. وعرف بالتقوى والتدين، وقوة الحافظة والظرف، ولكنه كان بخيلا.
آثاره
ذكر له ابن النديم نحو أربعين كتابا أكثرها في اللغة، ثم في الشعر، ولم يصل إلينا إلا بعضها؛ منها في الشعر: الأصمعيات؛ وهي مجموعة اختارها من شعر الشعراء المتقدمين، وضمنها شيئا من النقد، ورجز العجاج؛ وهو مجموع ما رواه الأصمعي للعجاج من الأراجيز، ومنها في اللغة كتاب أسماء الوحوش، وكتاب أسماء الإبل، وكتاب الخيل، وكتاب الدارات، وكتاب النبات والشجر، وكتاب النخل والكرم وغير ذلك.
منزلته
للأصمعي منزلة جليلة في اللغة والرواية والأدب، حتى أصبح اسمه بعد موته صفة تدل على سعة الاطلاع، فيقال هذا رجل أصمعي. وتعود هذه الشهرة في كثرتها على ما أسند إليه من أقاصيص وسير تداولها الناس كقصة عنترة وغيرها، فشهر عند العامة فضلا عن الخاصة.
وكانت تآليفه في اللغة مستندا وثيقا للمعاجم الكبرى. وامتاز الأصمعي في فصاحته وبيانه، وحسن إنشاده الشعر حتى ليضيع عنده الرديء والجيد. وقد فاضل أبو نواس بينه وبين أبي عبيدة فقال: «إن أبا عبيدة لو أمكنوه لقرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته.»
واشتهر بقوة الذاكرة؛ قيل إنه كان يحفظ اثني عشر ألف أرجوزة، منها ما يبلغ مائة بيت أو مائتين. ومما يروى عن قوة ذاكرته خبر انتصاره على أبي عبيدة في حضرة الفضل بن الربيع حينما وقف يسمي أعضاء الفرس عضوا عضوا وينشد ما قالت الشعراء فيه. ولم يستطع ذلك أبو عبيدة على سعة تآليفه في الخيل.
وعرف الأصمعي بمهارته في نقد الشعر، أخذ ذلك عن أستاذه خلف الأحمر. وله في الشعر والشعراء آراء يعول على كثير منها. (8-3) محمد بن سلام 846م/232ه
48
حياته
ليس لدينا عن حياته شيء نذكره، فكل ما نعلم عنه أنه يكنى أبا عبد الله، وأن نسبه ينتهي إلى بني جمح وهم بطن من قريش، وأنه نشأ في البصرة، وأخذ عن الخليل وحماد بن سلمة وغيرهما ، وروى عنه كثيرون، منهم الإمام أحمد بن حنبل، وثعلب، وأبو حاتم، وسواهم. وكانت وفاته في السنة التي مات فيها الواثق وبويع للمتوكل بن المعتصم.
آثاره
ذكر له صاحب الفهرست كتابا في بيوتات العرب، وآخر في ملح الشعر، ولكنهما مفقودان. ولم يصل إلينا إلا كتابه طبقات الشعراء، صدره بمقدمة في نقد الشعر، فتكلم أولا على علماء البصرة، وظهور النحو عندهم، وأول من وضعه منهم، وعدهم واحدا بعد واحد، ذاكرا من أخذ منهم عن الآخر. وهو يستند إليهم في روايته، ولا يرى من علماء الكوفة من يستحق الذكر إلا المفضل الضبي. ولا غرو في ذلك، فابن سلام بصري يتعصب لبلده. وأكثر رواياته عن خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء ويونس وأبي عبيدة والأصمعي. وعلى الغالب يشاركه فيها نسيبه أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، فتسمعه يقول: «أخبرنا أبو خليفة أخبرنا ابن سلام ...» أو «أنا أبو خليفة أنا ابن سلام ...»
وفي كلامه على الشعر وأقوال العلماء فيه يشير إلى ما أدخل الرواة من الشعر المصنوع، ومن ذلك الأقوال التي أضافوها إلى عاد وثمود.
وجعل كتابه في جزءين؛ فالجزء الأول: يختص بالشعراء الجاهليين والمخضرمين. والجزء الثاني: يختص بالشعراء الإسلاميين. وهو يستفيض في أخبار الإسلاميين وأشعارهم أكثر مما يستفيض في أخبار الجاهليين. وإذا ذكر الشاعر ذكر نسبه وأقوال العلماء فيه، وأورد شيئا من شعره وأخباره. وربما أبدى رأيه الخاص وعارض به آراء غيره من العلماء والرواة.
وجعل الجاهليين والمخضرمين عشر طبقات، في كل طبقة أربعة فحول، وألحق بهم طبقة لأصحاب المراثي، ثم أضاف إليهم شعراء القرى وهي المدينة وأكنافها، ومكة والطائف والبحرين، وأما اليمامة فلم يعرف بها شاعرا مشهورا.
وجعل الإسلاميين عشر طبقات أيضا، وفي كل طبقة أربعة شعراء:
الجاهليون والمخضرمون
الطبقة الأولى:
امرؤ القيس، ونابغة بني ذبيان، وزهير بن أبي سلمى، والأعشى.
الطبقة الثانية:
سقط منها شاعران في النسخ، وبقي كعب بن زهير، والحطيئة. وهي متصلة بالطبقة الأولى كأنها منها لسقوط مقدمتها مع سقوط خبر الشاعرين اللذين ذكرهما قبل كعب والحطيئة.
الطبقة الثالثة:
نابغة بني جعدة، وأبو ذؤيب الهذلي، والشماخ بن ضرار، ولبيد بن ربيعة.
الطبقة الرابعة:
طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد.
الطبقة الخامسة:
خداش بن زهير، والأسود بن يعفر، والمخبل بن ربيعة، وتميم بن مقبل.
الطبقة السادسة:
عمرو بن كلثوم، والحارس بن حلزة، وعنترة بن شداد، وسويد بن أبي كاهل.
الطبقة السابعة:
سلامة بن جندل، والحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس.
الطبقة الثامنة:
عمرو بن قميئة، والنمر بن تولب، وأوس بن غلفاء، وعوف بن عطية.
الطبقة التاسعة:
ضابئ بن الحارث، وسويد بن كراع، والحويدرة الذبياني، وسحيم عبد بني الحسحاس.
الطبقة العاشرة:
أمية بن حرثان، وحريث بن محفض، والكميت بن معروف الأسدي، وعمرو بن شاس.
طبقة أصحاب المراثي:
متمم بن نويرة، والخنساء، وأعشى باهلة، وكعب بن سعد الغنوي.
شعراء القرى
المدينة:
من الخزرج: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. ومن الأوس: قيس بن الخطيم، وأبو قيس بن الأسلت.
مكة:
عبد الله بن الزبعرى، وأبو طالب بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، ومسافر بن أبي عمرو، وضرار بن الخطاب.
الطائف:
أبو الصلت بن أبي ربيعة، وابنه أمية بن أبي الصلت، وأبو محجن، وغيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل.
البحرين:
المثقب العبدي، والممزق العبدي، والمفضل بن معشر.
شعراء اليهود
المدينة وأكنافها:
السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد.
الشعراء الإسلاميون
الطبقة الأولى:
الفرزدق، وجرير، والأخطل، وراعي الإبل.
الطبقة الثانية:
البعيث، والقطامي، وكثير، وذو الرمة.
الطبقة الثالثة:
كعب بن جعيل، وعمرو بن أحمر، وسحيم بن وثيل، وأوس بن مغراء.
الطبقة الرابعة:
نهشل بن حري، وحميد بن ثور، والأشهب بن رميلة، وعمر بن لجأ التيمي.
الطبقة الخامسة:
أبو زبيد الطائي، والعجير السلولي، وعبد الله بن همام السلولي، ونفيع بن لقيط الأسدي.
49
الطبقة السادسة: (حجازية): عبيد الله بن قيس الرقيات، والأحوص الأنصاري، وجميل بن معمر، ونصيب بن رباح.
الطبقة السابعة:
المتوكل الليثي، ويزيد بن ربيعة، وزياد الأعجم، وعدي بن الرقاع.
الطبقة الثامنة:
عقيل بن علفة المري، وبشامة بن الغدير، وشبيب بن البرصاء، وقراد بن حنش.
50
الطبقة التاسعة: (رجاز): الأغلب العجلي، وأبو النجم العجلي، والعجاج، وابنه رؤبة.
الطبقة العاشرة:
مزاحم بن الحارث العقيلي، ويزيد بن الطثرية، وأبو دؤاد الرؤاسي، والقحيف بن سليم العقيلي.
منزلته
يمتاز ابن سلام بأنه أول من ألف في طبقات الشعراء، وقلده غيره، فكان كتابه قدوة لسواه . وقد زاد في قيمته أن صاحبه لم يعتمد كل الاعتماد على أقوال الرواة في نقد الشعر والشعراء، بل قابل بعضها ببعض، وانتقدها وأبدى رأيه فيها. وتكلم على صحيح الشعر ومنحوله، وأشار إلى تعصب العشائر في تفضيل الشعراء، وأنحى باللائمة على الرواة الذين أفسدوا الشعر، وخلطوا برواياتهم، فأنكر رواية ابن إسحاق في كثير من العنف، وطعن على حماد وشهره، وما سلم منه خلف والمفضل.
ولم تؤثر أساطير الأقدمين وخرافاتهم في صحة بصره بالشعر، فرفض أن يكون ثمة شعر لعاد وثمود وسواهما من العرب البائدة. ولم يسخف كغيره فيروي شعرا للجن وآدم وإبليس والملائكة.
وقد راعى في تمييز طبقة الشاعر كثرة آثاره وقلتها؛ فجعل طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد في الطبقة الرابعة لقلة شعرهم على أفواه الرواة، ولولا ذلك لوضعهم مع الأوائل.
وهو شديد الاحتياط في المفاضلة بين شعراء كل طبقة، فتراه يذكر الحجة لكل واحد منهم، ثم يذكر الحجة عليه. وحينا يروز أقوال الرواة في تقديم الشاعر أو تأخيره، وحينا يتركها على علاتها، فكأنه يجعل العهدة عليهم في ذلك. وقد استدرك في أول المقدمة، فصرح بأن ذكر الواحد قبل الآخر في كل طبقة لا يدل على الحكم له إذ لا بد من مبتدأ.
ويخلو نقده في الغالب من التعليل والفن، وربما جارى غيره من الأدباء الأقدمين فحكم للشاعر ببيت من الشعر، ثم حكم لغيره بمثل ذلك.
وأما لغة الكتاب فيغلب عليها الإيجاز البليغ، ولكن لا تخلو بعض عباراتها من غموض واختلاط.
وأما الأسلوب فإنه خال من الروعة والفن، ضعيف التنسيق والتأليف، يرينا صورة صادقة عن إنشاء الكتب عند العرب في أول عهدهم بالتصنيف. وتظهر السذاجة الفنية في جعل الشعراء طبقات، في كل طبقة أربعة لهم منزلة واحدة، فمثل هذا الاتفاق في العدد لا يصح أن يعتمد عليه، ولا يمكن التسليم بصحته لأنه يضيق المجال على الناقد الأديب، وهيهات أن يسلم صاحبه من العثار.
على أننا لا نحاول أن نغمط فضل المؤلف، فإن كتابه كان قدوة صالحة لمن جاء بعده من مؤرخي الآداب؛ فاستندوا إليه، وائتموا به، فقد رجع إليه صاحب الأغاني في ذكر طبقات الشعراء، وكذلك فعل القالي والزجاج في أماليهما، والسيوطي في كتابه المزهر. (8-4) أبو زيد القرشي
حياته
هو محمد بن أبي الخطاب القرشي، وكنيته أبو زيد. لم نقف له على ترجمة في الكتب التي بين أيدينا. وذكره جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وجعله من رجال القرن الثالث للهجرة؛ أي العصر العباسي الثاني. وذكره سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة، وجعل وفاته سنة 170 للهجرة؛ أي أواسط العصر الأول. ونحن نرى أن أبا زيد أولى بأن يكون من أهل العصر الأول من أن يكون من أهل العصر الثاني؛ لأنه أورد في كتابه جمهرة أشعار العرب روايات سمعها من المفضل الضبي، والمفضل توفي سنة 171ه أو نحو ذلك. وهذا يدل على أنه عاصره وأخذ عنه.
آثاره
لم يصل إلينا من آثاره سوى كتاب جمهرة أشعار العرب، جمع فيه ما اختاره العلماء من محاسن الشعر الجاهلي والإسلامي. وجعله في سبع طبقات في كل طبقة سبع قصائد، واعتمد في هذا التقسيم على أبي عبيدة والمفضل:
الطبقة الأولى:
أصحاب المعلقات، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة.
الطبقة الثانية:
أصحاب المجمهرات
51
وهم: عبيد بن الأبرص، وعنترة، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب. ويظهر أن النساخ خالفوا في ترتيب الكتاب عمدا أو سهوا، فجعلوا عنترة ثامن أصحاب المعلقات مع أن أبا زيد ذكره في مقدمته بين أصحاب المجمهرات، فغير معقول أن يضعه في كتابه مع أصحاب المعلقات، وهو إنما التزم تقسيم الطبقات سبعا سبعا، وأعلن أسماء كل طبقة في المقدمة.
الطبقة الثالثة:
أصحاب المنتقيات وهم: المسيب بن علس، والمرقش الأصغر، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر الهذلي.
الطبقة الرابعة:
أصحاب المذهبات وهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبو قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئ القيس. جميعهم من الأوس والخزرج.
الطبقة الخامسة:
أصحاب المراثي وهم: أبو ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري،
52
ومحمد بن كعب الغنوي، وأعشى باهلة، وأبو زبيد الطائي، ومالك بن الريب، ومتمم بن نويرة.
53
الطبقة السادسة:
أصحاب المشوبات
54
وهم: نابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، وعمرو بن أحمر، وتميم بن أبي مقبل.
الطبقة السابعة:
أصحاب الملحمات
55
وهم: الفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذو الرمة، والكميت، والطرماح.
وصدر أبو زيد هذا الكتاب بمقدمة انتقادية جعلها على ثلاثة أقسام، فقابل في القسم الأول لغة الشعر بلغة القرآن، ومجازه بمجازه، وغريبه بغريبه. وأظهر أن القرآن لم يأت العرب بلغة جديدة، فكل ما فيه من مجاز وغريب استعمله العرب في شعرهم وقصدوا به إلى المعنى الذي قصد إليه القرآن.
وذكر في القسم الثاني أول من قال الشعر فروى أشعارا للملائكة وإبليس وآدم والعمالقة وعاد وثمود والجن. ثم انتقل إلى رأي النبي وأصحابه في الشعر، فذكر أن النبي كان يسمعه ويجيز عليه، وأنه لم يكن يستنكره كما زعم بعضهم. وأورد أشعارا للخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة.
وأما القسم الثالث فقد خصه بتعيين طبقات الشعراء وذكر أسمائهم، وأورد طرفا من أخبارهم وأقوال العلماء والرواة فيهم.
منزلته
تقوم منزلة أبي زيد على كتابه جمهرة أشعار العرب؛ فإنه جمع فيه تسعا وأربعين قصيدة من أنفس الشعر الجاهلي والإسلامي. وقدم لها تقدمة حسنة في نقد الشعر ومقابلة لغته بلغة القرآن، وذكر أقوال الأدباء في الشعراء وطبقاتهم . ولولا سخفه في القسم الثاني من المقدمة، لصان كتابه من الترهات. ولكن تعصبه الأعمى لدينه ولغته جعله يقبل الأساطير والخرافات على علاتها، فجعل الشعر العربي يرجع إلى عهد آدم، ويشترك في نظمه الإنس والجن وسكان الأرض والسماء وجهنم؛ فأسمعنا أشعارا لإبليس وآدم والملائكة، وأسمعنا أيضا لطائفة من الجن كانت تنتظر بعثة محمد فأسلمت وقالت شعرا قبل أن يظهر الإسلام.
ومن تعصبه أنه أنكر وجود ألفاظ عجمية في القرآن مستندا إلى قول منسوب إلى ابن عباس وهو: «من زعم أن في القرآن غير العربية فقد افترى.» ولذلك جعل كل لفظ دخيل في القرآن عربي الأصل، ولكن له في اللغة العجمية أشباه تقاربه أو توافقه.
ويؤخذ عليه في نقد الشعر أنه أورد أقوال غيره واستند إليها، دون أن يعللها ويمحصها، ويستخرج منها أحكاما يظهر فيها رأيه في الشعر والشعراء.
هوامش
العصر العباسي الثاني
846-946م/232-335ه
يبتدئ بخلافة المتوكل على الله، وينتهي بقيام الدولة البويهية واستقلالها بالسلطان.
الفصل الرابع
لمحة تاريخية
ضعف الخلافة العباسية
كانت خلافة المتوكل أشبه ببرزخ عبرت عليه الدولة العباسية من طور القوة والسلطان إلى طور الضعف والانحلال. وقد اجتمعت عدة أسباب على ثل هذا العرش المورق الأعواد، فلم تزل به حتى قوضته تقويضا. وهذه الأسباب ترجع في أكثرها إلى نفوذ الأتراك والخدم. وإلى نظام ولاية العهد، واختلاف أجناس الجواري أمهات الأمراء، ثم إلى اتساع المملكة العباسية ونظام الإقطاع فيها، ثم إلى ثورات العلويين، ونفور العرب من بني العباس. وإليك بيان ذلك: (1) نفوذ الأتراك
ابتدأ نفوذ الأتراك يذر قرنه في خلافة المعتصم، فإنه أخذ يقربهم ويعلي شأنهم بعد أن ضعفت ثقته بأهل بغداد وأهل فارس؛ لأن فيهم من كان يتشيع للعلويين، وفيهم من يريد الخلافة للعباس بن المأمون، وفيهم فئة عربية ناقمة على العباسيين؛ لاعتمادهم على الفرس دون العرب. وكانت أم المعتصم تركية، فآثر الأتراك على غيرهم من الموالي، وبالغ في اقتناء الغلمان منهم، فكانوا يركضون الدواب في الطرق، فيصدمون النساء والصبيان، فيتأذى العامة ويتذمرون، حتى إذا انفردوا بواحد منهم اغتالوه، فرأى المعتصم أن الابتعاد عن بغداد خير له وأبقى، فجعل مقر الخلافة في سامراء
1
بعد أن جدد بناءها.
فاعتز الأتراك بنفوذهم، وتولوا الخطط العالية، فكان منهم الوزراء والقواد والولاة، وظهر فيهم أمثال وصيف وأشناس وإيتاخ وبغا الكبير والأفشين وسواهم.
وبلغ من تقديم المعتصم لهم أنه كان إذا ترك العاصمة استخلف أشناس، وأجلسه على كرسي، وتوجه ووشحه. ولما مات المعتصم تولى أشناس تتويج الواثق من بعده، وفعل الواثق فعل أبيه فتوج أشناس، وألبسه وشاحين مجوهرين . ومات أشناس فتوج بعده وصيف ووشح، ثم مات وصيف فانتقل التاج والوشاحان لبغا.
2
ولما بويع للمتوكل بعد الواثق توجه إيتاخ ووصيف. وأراد استمالة الأتراك، فأمر لهم برزق ثمانية أشهر، ولم يأمر للمغاربة إلا برزق ثلاثة فأبوا قبولها، فتاه الأتراك واستكبروا حتى تضايق المتوكل منهم، وساءه أن يزحم سلطانهم سلطانه. وكان إيتاخ أكثرهم نفوذا لأن المتوكل ربي في حجره فولاه الحجابة والبريد والجيش وبيت المال، فاستطال إيتاخ وغلب الخليفة على أمره، فسعى المتوكل في إبعاده، فدس عليه من زين له الحج، فاستأذن الخليفة في ذلك، فأذن له وخلع عليه، وجعله أمير كل بلد يمر به؛ فسار إيتاخ وسار العسكر بين يديه، وجعلت الحجابة إلى وصيف. ولما عاد إيتاخ قبض عليه المتوكل غيلة وحبسه، ومنع عنه الماء حتى مات.
ولم يشأ المتوكل أن يقدم الفرس على الأتراك مع أن أمه فارسية؛ لأنهم كانوا يشايعون العلويين. وراعه أن يغلب نفوذ الأتراك على سلطانه، وهو لا قبل له بهم لأن الجند في أيديهم، فآثر الابتعاد عنهم فبنى مدينة المتوكلية على قرب من سامراء، ونقل إليها الخلافة، وراح يتودد إلى السنيين، على أمل أن يسترضي العرب بعد نفورهم من العباسيين لتقديمهم الموالي، فبالغ في التعصب للدين، وشدد في إقامة أحكام السنة. وجاهر العلويين البغض والعداء، فاضطهدهم وجار عليهم، وهدم قبر الحسين في كربلاء، وأذن للناس أن يلعنوا عليا في حضرته. واضطهد النصارى، وهدم كنائسهم وقبورهم، ومنعهم من الخروج بصلبانهم في أعيادهم، وجعل على أبواب دورهم صور شياطين. ولكن هذا التعصب الممقوت لم يفده شيئا لأن الأتراك ائتمروا به وقتلوه. وكان مقتله سببا لتضاعف شوكتهم، فازدادوا جراءة واستقلوا بشئون الدولة، فأصبحت حياة الخلفاء والأمراء في أيديهم، ينصبون من شاءوا، ويخلعونه متى شاءوا، ويقتلون أو يحبسون من يخشى شره ولا يرون به خيرا لهم؛ فقتلوا المستعين، والمعتز، والمهتدي، وحبسوا القاهر، وسملوا أعين المتقي، والمستكفي؛ فسقطت هيبة العباسيين من النفوس، ونشبت الثورات الداخلية، وأخذت الولايات البعيدة تستقل بعد أن رأت الضعف مستحكما في قلب المملكة. وهي إنما كانت تخضع كارهة، ولا سيما الفرس الذين كان لهم ملك ضخم فأديل منه، فما انفكوا من الحنين إليه، والتربص لاستعادة سابق عزه. (2) نفوذ الخدم
وكان للخدم نفوذ في قصور الخلفاء؛ ذلك بأن الأتراك كانوا يحبسون ولاة العهد، ويجعلونهم في عهدة الخدم لتضعف نفوسهم بمعاشرة الخصيان. وكان الخلفاء يرتاحون إلى عزلة أولادهم وأنسبائهم، مخافة أن يواطئوا الأتراك عليهم، فكان ولي العهد إذا استخلف لا يجد غير الخدم أصدقاء له لأنه صحبهم مدة طويلة، وتخلق بأخلاقهم، فيكثر منهم في قصره، ويجزل لهم العطاء ليردوا عنه كيد الأتراك إذا ثاروا به، وأرادوا اغتياله. روي أن المقتدر بالله اتخذ نحوا من أحد عشر ألف خادم من الروم والسودان وسواهم، وولاهم قيادة الجند، فأتيح له أن يحكم بهم خمسا وعشرين سنة. وفي أيامه ظهر مؤنس الخادم، فقبض على زمام المملكة، وتصرف فيها على هواه، وكانت له قيادة الجيش، وإمارة الأمراء، ووزارة بيت المال، وحدث خلاف بينه وبين المقتدر، فما انتهى الأمر إلا والخليفة مقتول.
ولم يكن نفوذ الخدم في قصور الخلفاء إلا ليزيد في إنقاص هيبتهم، ويبالغ في تنفير الناس من ولايتهم. (3) نظام ولاية العهد
لم يكن نظام ولاية العهد في خلافة الأمويين أشد تأثيرا منه في خلافة العباسيين، فإن فتنة الأمين والمأمون من أجل الخلافة جعلت العرب يناصرون الأمين لأن أمه عربية. وجعلت الفرس يناصرون المأمون لأن أمه فارسية، فلما قتل الأمين واستخلف المأمون اعتز الفرس وازدادوا رفعة ونفوذا. وهان العرب وتضاءل سوادهم، وغلبوا على أمرهم، فنفروا من العباسيين ونقموا عليهم، وأبوا أن ينخرطوا في الجند؛ لأن قواده من الفرس، فأصبح الجيش العباسي عجميا، ينضم إليه الفارسي والديلمي، والتركي والمغربي وهلم جرا، فباتت الدولة في استنادها إليه تحت رحمة الأعاجم. ولكن الفرس كانوا يشدون أزر المأمون، وكان المأمون صلبا حزيما، داهية ذكيا، فقبض على الملك بيد فراسة فأقام عموده، ووطد أركانه.
وأثر أيضا نظام ولاية العهد في خلافة المتوكل، فإن المتوكل ساء ظنه بالمنتصر ابنه البكر، واتهمه بأنه يريد الأمر لنفسه في حياته، وكان يلقبه بالمستعجل والمنتظر، فعزم على خلعه ونقل الوصية إلى ابنه المعتز أحد صغار أولاده، فحقدها عليه المنتصر، وواطأ الأتراك على قتله، فما إن قتل حتى صار الأمراء العباسيون يثور بعضهم على بعض. (4) أمهات الأمراء
وكان من إسراف الخلفاء في الاستمتاع أن بالغوا في اقتناء الجواري الأعجميات والتسري بهن، فنجلوا أولادا من أمهات مختلفات الأجناس، فرأينا الأمين يعتمد على العرب لأن أمه عربية، والمأمون على الفرس لأن أمه فارسية، والمعتصم على الترك لأن أمه تركية، فنتج من ذلك أن اختلفت أجناس الجند في الدولة، فحفل الجيش بخليط من العناصر، أضعفها عنصر العرب.
واختلاف أجناس النساء في قصور الخلفاء جعل تلك القصور موطنا للدسائس والوشايات والمؤامرات، يشترك فيها الملوك والأمراء والقواد والحاشية رجالها ونساؤها، فانتهى الأمر إلى أن شغب الجند على القادة، وتنازع القادة السيادة فيما بينهم، فسادت الفوضى وعمت أنحاء المملكة. (5) نظام الإقطاع
ولنظام الإقطاع أثر سيئ في وحدة الممالك العباسية؛ فإن اتساع أراضي الدولة وترامي أطرافها جعل مسافات شاسعة بين العاصمة وأكثر الولايات. ولكن الخلفاء في الصدر العباسي كانوا أشداء حزمة، فاستطاعوا أن يلموا شعث هذا السلطان الضخم، فلما غلبوا على أمرهم، وفسدت طاعة الجند، شعر الولاة بضعف ملوكهم، فأهملوا رعاية أعمالهم، وانصرفوا إلى المال يجمعونه، وحبسوا رزق العمال عن أصحابه، فما يدفعون لهم إلا بعد أن يقتطعوا نصيبا يأخذونه، فضجت البلاد، واشتد السخط، فعمد الخلفاء إلى اغتيال الولاة والكتاب استكفافا لشرهم، فكثر العصيان والخروج، واضطربت أحوال المملكة، وفقد الأمن وقامت الثورات من كل ناحية، فلا ترى حيث التفت إلا جماعة خارجة على السلطان. (6) ثورات العلويين
وأشد الثورات ما قام به العلويون، فإنهم لما رأوا بني العباس استقلوا بالأمر دونهم، نفروا منهم كما نفروا من بني أمية، وراحوا يبثون دعوتهم، على تعدد فرقهم، فظهر دعاتهم في المغرب والعراق، واستولوا على النواحي القاصية وأسسوا لهم ممالك فيها؛ فكان منهم الأدارسة في المغرب الأقصى، والعبيديون
3
بالقيروان، ثم في مصر، والقرامطة بالبحرين، والدواعي بطبرستان، ثم فيها من بعدهم الديلم والأطروش. فخروج العلويين المتواصل، وانتشار دعاتهم في جميع الأمصار، وإقبال الناس على دعوتهم، مكن لهم في كثير من الولايات. فما جاء العصر العباسي الثالث إلا والمملكة العباسية أجزاء مستقلة، وأعظم هذه الأجزاء يسيطر عليه دويلات العلويين. (7) ميزة العصر
فلا عجب أن يمتاز هذا العصر بالنفوذ التركي، وقد رأيت ما كان للأتراك من تأثير في مجرى الخلافة العباسية، إذ جعلوا المملكة ألعوبة في أيديهم، فكان عصرهم معقلا للذعر والإرهاب والاضطهاد، وموطنا للتمثيل والتقتيل والاغتيال، وملعبا للدسائس والرشى والاختلاسات.
وأصيبت حرية الفكر والدين في الصميم، فخرست ألسنة الفلاسفة، وعلماء الكلام من أهل الاعتزال، وخصوصا في أوائل العصر. وحرم عليهم البحث في مسألة خلق القرآن، ولم يسلموا من الحبس والتنكيل. واضطهدت الشيعة العلوية، واضطهد النصارى فكان الاستبداد والجور من أظهر ميزات العصر.
هوامش
الفصل الخامس
الشعراء المولدون
العصر الثاني (1) ميزة الشعر
لم يكن الأتراك أهل حضارة وعرفان ليحملوا إلى العربية علومهم وآدابهم فيجعلوا فيها أثرا بينا كما جعل الفرس من قبلهم، ولم يعنوا بدراسة لغة العرب وأدبهم عناية أهل فارس، فيخرج منهم شعراء وكتاب يحدثون في الأدب أحداثا طريفة بليغة؛ لذلك بقيت ميزة الشعر على حالها ولم يتغير شيء من تلك الحضارة الجديدة التي زفها الفرس والروم إلى العرب. ولا عبرة في التبدل السياسي، وقيام نفوذ الأتراك على أنقاض نفوذ الفرس؛ لأن البحث يدور على التاريخ الأدبي لا على التاريخ السياسي، والحوادث السياسية لا تكون سببا دائما لتطور الآداب. ولكن الذين وضعوا نظام البكالوريا اللبنانية حاولوا أن يجدوا فرقا بين العصر الأول والثاني ، فاختلط عليهم الأمر، فتكلفوا للعصر الثاني خصائص تكاد لا تختلف عن خصائص العصر الأول، فجعلوا ميزة الشعر: «المدح والهجاء والوصف.» مع أن هذه الأنواع اشترك فيها العصران فلم يختلف فيها أحدهما عن الآخر. وليس في زعمهم أن في العصر الأول شعر القصور أو الشعر المترف، ما يدعو إلى تمييز العصر الفارسي من العصر التركي، ففي شعر ابن المعتز والبحتري وابن الرومي من الترف ومدح أصحاب القصور ما في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام.
لذلك نرى أن فصل العصر الثاني عن الأول لا مسوغ له. ونحن لم نجعلهما عصرين إلا مجاراة لنظام البكالوريا، ثم لأننا أفردنا لكل عصر لمحة تاريخية خاصة به. (2) البحتري 820-897م/205-284ه (2-1) حياته
هو الوليد بن عبيد،
1
عربي صريح ينتهي بأبيه إلى طيء، وبأمه إلى شيبان،
2
ويلقب بالبحتري نسبة إلى بحتر أحد أجداده. ويكنى بأبي عبادة وأبي الحسن، والأولى أشهر.
وكانت ولادته في بادية منبج
3
وبها نشأ نشأة عربية خالصة. ونظم الشعر وهو حدث. وكان يمدح في أول أمره أصحاب البصل والباذنجان. ثم أحب علوة بنت زريقة الحلبية فشبب بها، وشهرها بشعره.
على أن نباهته لم تبتدئ إلا بعد اتصاله بأبي تمام، وتخرجه عليه. واختلفت الروايات في حقيقة هذا الاتصال فقيل إن البحتري صار إلى حبيب وهو بحمص فعرض عليه شعره فاحتفل به أبو تمام، وسأله عن حاله، فشكا إليه خلة،
4
فكتب إلى أهل معرة النعمان يشهد له بالحذق، ويوصيهم بإكرامه، فأكرموه بكتابه، ووظفوا له
5
أربعة آلاف درهم، فكانت أول مال أصابه.
وقيل بل كان أبو تمام في مجلس أبي سعيد الطائي، فدخل البحتري وهو يومئذ حديث السن، فأنشد قصيدة امتدح بها أبا سعيد، فحفظ أبو تمام أكثرها وادعاها، فصدق أبو سعيد دعواه لمكانته في الشعر، ووبخ البحتري لمدحه إياه بشعر مسروق. فخرج البحتري يجر رجليه. ولكن ما أبعد حتى تبعه الغلمان وردوه، وأقبل عليه أبو تمام وقال له: «الشعر لك يا بني، والله ما قلته قط، ولا سمعت به إلا منك. ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي ، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي، من غير معرفة كانت بيننا، تريد مضاهاتي ومكاثرتي. حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك. ولوددت أن لا تلد طائية إلا مثلك.»
ورويت هذه الحادثة على وجه آخر لم يدع فيه أبو تمام القصيدة، بل اهتز لها طربا، وقبل الغلام الشاعر بين عينيه، وجعل له جائزته، ثم لزمه البحتري واقتدى به وأخذ عنه.
والبحتري كغيره من الشعراء لا يرى موردا عذبا لشاعريته إلا دار الخلافة أبغداد كانت أم سر من رأى؛ لذلك قصد إلى بغداد في خلافة الواثق
6
وامتدح وزيره ابن الزيات بقصيدة يقول فيها:
دق فهما وجل حلما فأرضى
الله فينا والواثق بن الرشيد
ومدح الحسن بن وهب، وأخذ منه الجوائز، وكان الحسن يتولى ديوان الرسائل من قبل ابن الزيات. وامتدح غيرهما من الأمراء والقواد، ولكنه لم يتصل بالواثق، ولا اتخذ العراق له دارا إلا بعد أن بويع للمتوكل،
7
فاختص بخدمته وخدمة وزيره الفتح بن خاقان، ولقي عندهما الحرمة حتى قتلا معا على مشهد منه، فحزن عليهما، واسودت العراق في عينيه، فعاد إلى منبج. على أنه كان يختلف إلى بغداد وسر من رأى يمدح فيهما الخلفاء والأمراء، ولكنه لم يختص بواحد منهم، ولعله اتصل بالمعتز
8
أكثر من غيره، فكثرت مدائحه فيه، غير أنه لم يجعل العراق في عهده مقاما له كما جعلها في عهد المتوكل. ولم يستقدم إليها عيلته بل تركها في منبج، لذلك نراه يلتمس من المعتز إذن شهرين ليرى صبيته، ويصلح خلة ضيعة يأمر له بها، قال:
هل أطلعن على الشآم مبجلا
في عز دولتك الجديد المونق
9
فأرم خلة ضيعة تصف اسمها
وألم ثم بصبية لي دردق
10
شهران إن يسرت إذني فيهما
كفلا بألفة شملي المتفرق
ولبث البحتري يتنقل بين العراق والشام حتى أواخر خلافة المعتمد،
11
وهو آخر خليفة اتصل به ومدحه. ولم تستقر به منبج إلا في خلافة المعتضد
12
فأقام فيها لا يبرحها حتى مات، وكانت وفاته بالسكتة.
صفاته وأخلاقه
قال صاحب الأغاني: «كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة، وأبخلهم على كل شيء. وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا، فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان، فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول: كلا! أجاع الله أكبادكما، وأطال جهادكما!» ا.ه.
على أنه لا يسعنا أن ننقل هذه الرواية إلا في شيء من التحفظ؛ لأن دراستنا لشعر البحتري أطلعتنا على ناحية بينة من حياته وأخلاقه، فأرتنا فيه رجلا حريصا على التكسب وجمع المال، حتى إنه وقف شعره على المدح، وتاجر بغلام له فكان يبيعه ثم يشبب به ويمدح من اشتراه، فيستعيده بشعره. وما زال كذلك حتى مات الغلام وكفي الناس أمره. وقد أفاد البحتري ثروة حسنة من شعره، فجريت عليه الأرزاق، وامتلك الضياع فكان يتعهدها، ويرم خلاتها في كثير من الاعتناء، فلقد كان ممن يتعبدون للمال، ولا يقع لهم فتور عن اكتنازه. ولكنه لم يكن يفتر على نفسه، ويبخل بالنفقة على ملاذه. وهو صاحب لهو ولذة، يشرب الخمرة، ويحضر مجالس الطرب، ويعبث ويفتك ويمجن. على أننا لا نشك في أن البحتري كان بخيلا على الناس، وأنه صحبهم ليأخذ منهم لا ليعطيهم:
صحبت أناسا أطلب المال عندهم
فكيف يكون المال مطلبا عندي؟!
ولكنه لم يكن كزا شحيحا كما أفرط بعض الرواة في وصفه. وربما آنست فيه أريحية واهتزازا للمعروف إذا علمت أنه مدح طاهر بن محمد
13
الهاشمي. وكان طاهر قد أنفق ماله على الشعراء والزوار، وركبته الديون فقعد في داره، فلما وصلت إليه مدحة البحتري، بكى وقام فباع داره بثلاثمائة دينار، وأخذ صرة وأنفذ منها مائة إلى البحتري. وكتب إليه معها رقعة فيها أبيات يعتذر فيها من قلة العطاء لضيق ذات يده، فلما وصلت الرقعة والدنانير إلى البحتري ردها على صاحبها، وكتب إليه أبياتا يقول فيها:
غير أني رددت برك إذ كا
ن ربا منك والربا لا يحل
14
وإذا ما جزيت شعرا بشعر
قضي الحق والدنانير فضل
15
فهذه عاطفة طيبة لا تدل على خساسة ودناءة.
ومن صفاته أنه كان شديد الغرور بشعره، كثير الاعتداد بنفسه حتى ليتبغض في إنشاده زهوا وإعجابا، فقد روي أنه كان إذا أنشد أخذ يتشادق ويتزاور
16
في مشيته مرة جانبا ومرة القهقرى. ويهز برأسه مرة وبمنكبه أخرى. ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت ويقول: «أحسنت والله!» ثم يقبل على المستمعين، فيقول: «ما لكم لا تقولون لي أحسنت! هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله!» على أن ذلك لا يعني أن البحتري كان ثقيل الظل مقيتا، فشعره يدل على خفة روح ولطف ودعابة.
ويجمع الرواة في شاعرنا صفتين متناقضتين وهما الوفاء والخيانة ، ومن الغريب أن يجتمع النقيضان في واحد فيكون تارة برا وفيا، وطورا غدارا خئونا، فبينا نسمع المرزباني يقول في موشحه إنه لم ير أقل وفاء من البحتري لأنه هجا أربعين رئيسا ممن مدحهم، ونقل نحوا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفر حظه منهم عليها إلى مدح غيرهم، وأمات أسماء من مدحه أولا، نرى صاحب الأغاني يحدثنا بوفائه لأستاذه فإذا هو يرد على من يقول له: أنت أشعر من أبي تمام: «كلا والله إن أبا تمام للرئيس والأستاذ. والله ما أكلت الخبز إلا به.» ويحدثنا بوفائه لأبي سعيد الطائي وابنه واختصاصه بهما حتى إنه رثاهما بعد مقتلهما فكانت مراثيه فيهما أجود من مدائحه. ولنا أيضا بينة على وفائه قصيدته التي رثى بها المتوكل وهجا المنتصر
17
وهدده بالقتل فعرض نفسه لسخطة كادت تودي بحياته، ولو لم يشفع له أحمد بن الخصيب - وزير المنتصر - ويسترضي الخليفة الجديد، لما عفا عنه وأجازه على قصيدة مدحه بها وأوصلها إليه الوزير. ولكن البحتري كافأ ابن الخصيب شر مكافأة يوم نكبة المستعين،
18
فإنه حرض الخليفة على قتله واستصفاء أمواله، وفي ذلك يقول:
والرأي كل الرأي في قتله
بالسيف واستصفاء أمواله
فهذه الأخبار المتناقضة تجعلنا في حيرة من أمر هذا الرجل فنقف موقف الشك بين خيانته ووفائه، لا نقطع بأنه خئون، ولا نقطع بأنه وفي. غير أننا نرجح الجانب الأول؛ ذلك أن البحتري لم يخلص للمتوكل والفتح ابن خاقان ولم يذكرهما بخير بعد موتهما إلا لأنه فقد بهما جنته في الحياة الدنيا، فقد كان يرتع في جنابيهما في بحبوحة من العيش الخضيل، فلما هلكا وأحس بنجم سعوده يغور في إثرهما صرخ صراخ اليائس المستميت، وبكى على حظه في رثائه للمتوكل، ولم يفطن إلى أنه قد عرض بنفسه إلى التهلكة في شتمه المنتصر. ولكنه ما ثاب إلى رشده حتى صمت واعتصم بالتقية، ثم سعى إلى استرضاء الخليفة الجديد. غير أنه لبث يذكر المتوكل والفتح في كل سانحة وبارحة؛ لأنه لم يجد بعدهما خليفة ولا وزيرا يملأ الفراغ الذي أحدثاه في نفسه. ومدح بعدهما طائفة من الخلفاء والأمراء وتكسب منهم دون أن يخلص الولاء لأحدهم؛ لأنه كان يتوقع أبدا تبدل الولاة والملوك، فصاحبهم على دخل يمدحهم في عزهم، ويتنكر لهم في نكبتهم، وهو إنما يماشي زمانه في ذلك. وقد وجد في زمن قل فيه الوفاء وكثر الغدر والرياء. والزمان كأهله وأهله كما ترى.
وليس وفاؤه لأبي سعيد وابنه إلا لأنهما من طيء وكانا يعطفان عليه، ويحسنان صلته، فأحبهما حب النسيب لنسيبه، وحب المنتفع لمن ينتفع منه؛ فمدحهما وتعصب لهما، ورثاهما أحسن رثاء. وأما وفاؤه لأبي تمام فوفاء التلميذ لأستاذه والقريب لقريبه. ولكن لا نجد له قصيدة في رثائه تظهر قيمة هذا الوفاء إلا بعض أبيات رثى بها دعبلا وذكره فيها معه.
وفي البحتري خاصة ظاهرة في شعره وهي حب الوطن، فإنه كثيرا ما يحن إلى منبج وحلب، ويحسب نفسه غريبا في العراق، مع أن شهرته لم تقم إلا فيه، وثروته لم تجمع إلا هناك.
وكان يتعصب لليمن عموما ولطيء خصوصا، ولكنه لم يكن مفرطا في تعصبه، وربما لمحت فيه شيئا من التعاجم؛ لأنه كان مفتونا بحضارة الفرس، ولأنه وجد في عصر كانت السيادة فيه للموالي لا للعرب، فضعفت فيه العصبية كما ضعفت في كثيرين من أمثاله.
على أنه كان شديد التعصب للإسلام، وربما نزع إلى التشيع فتسمعه يمدح الطالبيين، ويهجو علي بن الجهم لتعرضه لهم بالهجاء. ولكنه كان يتحفظ ولا يسرف في إظهار تشيعه، وخصوصا في عهد المتوكل، فإنه لما جاء العراق أراد أن يتكنى بأبي الحسن بدلا من أبي عبادة ليتشبه بعلماء الشيعة، فرأى من المتوكل كرها شديدا للعلويين فعدل إلى كنيته الأولى، وكتم تشيعه، أو تركه، ولكنه لم يقل هجرا في الطالبيين.
آثاره
ديوان شعر أكثره في المدح، وأقله في الهجاء والرثاء. وفي مدحه غزل كثير، ووصف مختلف الوجوه والأنواع. وبقي شعر البحتري متفرقا حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف. وجمعه علي بن حمزة الأصفهاني ورتبه على الأنواع. وشرحه أبو العلاء المعري، وسماه عبث الوليد . وطبع هذا الديوان بالأستانة في جزءين كبيرين، ثم طبع في بيروت مشكولا، ومشروحا بعض ألفاظه. وكلتا الطبعتين لا ترتيب فيهما، وليس لهما فهرست تعرف به القوافي، وفيهما قصائد مكررة لم ينتبه إليها من جمعها.
وعني البحتري بالتأليف كأستاذه فجمع كتاب الحماسة معارضة لكتاب أبي تمام، اختاره من أشعار العرب للفتح بن خاقان، وجعله مائة وأربعة وسبعين بابا، ضمنها معظم المعاني الأدبية التي تناولها الشعراء المتقدمون.
وهذه الأبواب على كثرتها صغيرة لا يتجاوز بعضها الصفحة الواحدة. ولم يتقيد فيها البحتري بأبواب الشعر المعروفة، بل نظر فيها إلى الأغراض والمعاني، فجاءت جديدة في نوعها. مثال ذلك: الباب الأول فيما قيل في حمل النفس على المكروه. الباب الخامس عشر: فيما قيل في استطابة الموت عند الحرب. الباب الثاني والستون: فيما قيل في ذم عاقبة البغي والظلم إلخ ... وقد خلت من الغزل والفحش والمجون.
وتشتمل حماسة البحتري على أقوال لنحو ستمائة شاعر من الجاهلية وصدر الإسلام، وفيهم نفر أدركوا بني العباس كيحيى بن زياد، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، ومطيع بن إياس. وطبعت في بيروت ومصر. وله أيضا كتاب معاني الشعر لم يصل إلينا. (2-2) ميزته
البحتري طائر غريد سبح بأنغامه في أفق علوي، خصب الخيال، متنوع الأصباغ، فأشرف على جلال الطبيعة وجمالها، وحوم فوق جبالها ومروجها، وأنهارها وغيطانها، ورفرف على زخارف المدنية وعمرانها، فعلقت جميع هذه الصور بقوادمه وخوافيه، فصبغتها بأشكال من الرسوم والتلاوين.
ولا تقوم شاعرية البحتري على المدح أو الغزل أو الرثاء وإن برع في كثير منها، وإنما تقوم على جمال الفن وانطلاق الخيال، وإتقان الوصف والتصوير. ونحن سنعنى بدراسته من جميع نواحيه حتى تتكشف خصائصه التي يمتاز بها في أنواع الشعر وفنونه.
مدحه
وقف البحتري شعره على المدح لا يلتفت لفن غيره إلا غرارا، فغير عجيب أن يجيد هذا الفن، ويبرع فيه. وله من أهبته شاعرية فياضة، ونزوع شديد إلى التكسب والاستجداء.
وأدرك البحتري عشرة خلفاء من المأمون إلى المعتضد. ولكنه لم يمدح غير ستة، وهم المتوكل بن المعتصم، والمنتصر بن المتوكل، والمستعين بن المعتصم، والمعتز بن المتوكل، والمهتدي بن الواثق، والمعتمد بن المتوكل. وأكثر مدائحه في المتوكل ثم في ابنه المعتز.
ومدح من الأمراء والوزراء طائفة كبيرة، منهم الفتح بن خاقان وزير المتوكل، والحسن بن مخلد وزير المعتمد، وإبراهيم بن المدبر من كبار رجال الدولة. وآل سهل، وإسماعيل بن بلبل الشيباني، وأنسباؤه أبو سعيد الثغري وابنه يوسف، وآل حميد الطوسي وسواهم. وأحسن مدائحه، وأصدقها عاطفة، ما قاله في المتوكل والفتح وأبي سعيد. وهو إذا مدح المتوكل مدح خليفة في عز دولته، وقوة سلطانه، لا سيطرة للموالي عليه، كسيطرتهم على من جاء بعده من الخلفاء، فترى الشاعر يمعن في وصف جلال الملك ووقاره. ويشبه المتوكل بالنبي، ويستفيض بذكر تقواه، وتعزيزه للدين، وإقامته أحكام السنة. ويجعل له زلفة عند الله، فإذا احتبس المطر استسقى للمسلمين فينهل الغمام:
لما تعبد محل الأرض واحتبست
غر السحائب حتى ما نرجيها
19
وقمت مستسقيا للمسلمين جرت
غر الغمام وحلت من عزاليها
20
ويظهر أن المطر احتبس يومذاك فصلى المتوكل صلاة الغيث، ثم أمطرت السماء فجعلها البحتري من كرامات ممدوحه. ويذكر له كرامة أخرى وهي طاعة الوحوش له وسيرها في ركابه:
وطاعة الوحش إذ جاءتك من خرق
أحوى وأدمانة كحل مآقيها
21
إن سرت سارت وإن وقفتها وقفت
صورا إليك بألحاظ تواليها
22
وقد يعرض لسياسة الخلافة في مدحه المتوكل، فيؤيد حق العباسيين، ولكنه لا يهجو الطالبيين مع علمه بكره الخليفة لهم؛ لأن هواه فيهم، ولم يجاهر بميله إليهم إلا بعد مقتل المتوكل وقيام المنتصر. وكان المنتصر ينكر على والده اضطهاده العلويين، وإذنه للناس بلعن علي، ولطالما عارضه في ذلك فلقي منه التحقير والطرد، فلما مدحه البحتري بعد أن ولي الخلافة، ذكر عطفه على العلويين، وجاهر بتفضيل علي على عمر قال:
وإن عليا لأولى بكم
وأزكى يدا عندكم من عمر
ولم يعرض بعد المتوكل لسياسة الخلافة إلا في الندرى؛ ذلك بأنه لم يخلص الحب لخليفة إخلاصه إياه للمتوكل. ثم إنه رأى ضعف الخلائف الذين توالوا بعد المتوكل، فعلم أن من العبث الكلام على سياسة الخلافة بين العباسيين والطالبيين ما دام الأمر فيها للموالي. وأصبح لا يمدح خليفة إلا مدح الموالي معه وازدلف إليهم. ويكثر ذكره لهم في مدح المعتز، ولعله كان يشفق عليه من سطوتهم، أو يخشى على نعمته أن تزول بزواله، وهو قد اتصل به وحظي عنده أكثر منه عند غيره، فإذا مدحه أشاد بذكرهم وجعلهم جند الله لتأييد الخليفة ونصرته، واعتذر عنهم إذا أساءوا إليه أو أثموا:
وليت نصره الموالي فأعطته
علو السماك أو هو أعلى
أما الموالي فجند الله حملهم
أن ينصروك فقد قاموا بما احتملوا
23
وضعف الخلفاء حمله على استنهاض هممهم، فكان يذكرهم آباءهم العظام، ويزعم أنهم متشبهون بهم، سائرون على خطاهم، كقوله في مدح المهتدي:
له عزمة ما استبطأ الملك نجحها
ولا استعتب الأيام وري زنادها
24
رشيدية في نجرها واثقية
يرى الله إيثار التقى من عتادها
25
وإذا رأى بادرة عزم من أحدهم تنفس الصعداء، وشاقه أن تستعيد عزة الملك سابق عهدها، فنسمعه يقول بعد أن فتك المعتز ببغا:
فاليوم عاودت الخلافة عزها
وأضاء وجه الملك بعد ظلام
أضحى بغاء وأقربوه وحزبه
وكأنهم حلم من الأحلام
والبحتري يصدر مدحه على الغالب بالغزل. وقلما عني بحسن التخلص، بل ينتقل وثبا، ويقتضب اقتضابا كأستاذه أبي تمام. ولكنه يختلف عنه بأنه أقل غلوا منه، وأشد تزلفا لممدوحه، وأكثر تحدثا بنعمه. وشعره كشعره حافل بالفوائد التاريخية، ففيه أخبار الوقائع والحروب التي جرت في أيامه، وأخبار الذين خرجوا على العباسيين من علويين وسواهم، وفيه غير ذلك من الحوادث التي تظهر لنا اضطراب الحالة السياسية في ذاك العصر.
وصفه
والوصف هو الذي رفع منزلة البحتري، وأحله في الطبقة الأولى؛ فقد أوتي من قوة المخيلة وروعة التصور ما جعله يتناول الأشياء المادية فيرسمها بشعره لمحا، فيخرج لها صورا دقيقة بارعة الفن. وقد يرتفع عن المرئيات فيمعن في سماء الخيال، ثم يعود بمختلف التصاوير والتهاويل، ملؤها حركة وحياة، فتحس كأنك تسمع جرسها، وترى خطراتها وتلمسها بأناملك العشر.
وكان لنشأة الشاعر في بادية منبج يد في تصفية خياله، فشب على ما يشب عليه أهل البداوة من دقة الحس، وصدق المخيلة، ورفت عليه منبج بجمالها الطبيعي الذي تغنى به الشعراء، فاستمد منها خياله البديع، ثم زاده ثروة بأسفاره إلى الأمصار المتحضرة، فبهرته المدنية الجديدة بمشاهدة عمرانها، فشغف بها، وصورها أحسن تصوير، كوصفه إيوان كسرى، وبركة المتوكل، وقصر المعتز، ومجالس اللهو والخمر، أو وصفه للمناظر الطبيعية، كدجلة والربيع. حتى إن أوصافه البدوية، على ماديتها الظاهرة وضيق حدودها، وسلوكه في أكثرها مسلك من تقدمه، لا يعدوها جمال الفن ولا سيما قصيدة الذئب.
وصف الإيوان
لم يخبرنا الرواة عن السبب الذي حمل البحتري على السفر إلى المدائن حتى زار قصور الأكاسرة، وطاف بها وبكى عليها. ولكن الشاعر يذكر في مستهل قصيدته أنه شخص إليها وملء فؤاده يأس وتشاؤم، فهو حزين لأنه استبدل العراق بالشام، وهو مثقل بالهموم يشكو جفاء ابن عمه له، فسفره كان إذن لتفريج الكرب، وللترفيه عن النفس.
وكان الإيوان يوم طاف به الشاعر خرابا، معرى من أثاثه، بعد أن أمر المنصور بهدمه، فأخذ البحتري بجلال معالمه ورسومه، واجتذبته روعة الفن، فانخطف على أجنحة الخيال، وتمثلت له عظمات الأكاسرة بما عرف من أخبارهم، وشهد من آثارهم. وذكر اليمن وغارة الأحبوش عليها، وانتصار كسرى لها، ورده الملك على أميرها ابن ابن ذي يزن، فأخذ يصف الإيوان، ويتغنى بفضل الفرس الذين أيدوا استقلال بلاده.
ويقف أمام صورة تريك وقعة بين الروم والفرس في مدينة أنطاكية، فيتناولها بالوصف فتحس أن الحياة تدب فيها، ويبدو لك أنك تشاهد التحام الفرسان، ووقع الأسنة. وتتمثل كسرى في ثيابه الملونة يسوق الصفوف تحت رايته. وما أنت إلا منجذب مع الشاعر في خياله الجميل:
فإذا ما رأيت صورة أنطاكية
ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشروان
يزجي الصفوف تحت الدرفس
26
فقصيدة الإيوان أبلغ مثال لدقة الوصف، وسمو الخيال عند البحتري. وقد أدهش بها معاصريه؛ لأنه فتح بها فتحا جديدا في الأدب، وهو البكاء على الممالك الزائلة، ووصف أطلالها الدارسة، فإذا ابن المعتز يقول: «لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى - فليس للعرب سينية مثلها - وقصيدته في وصف البركة لكان أشعر الناس في زمانه.»
غزله
ليس للبحتري غزل قائم بنفسه، وإنما هو في صدور مدائحه، فمنه تقليدي بدوي يترسم به الأقدمين من وقوف وبكاء على الأطلال، ويكثر فيه ذكر أسماء عرائس الشعر كسعاد وأسماء وليلى، وذكر أماكن البدو كنجد وإضم وخبت، وهذا النوع لا يطالعك بشيء طريف، ومنه الجديد المترف، وهو الذي تحس فيه نفسية الشاعر، وتلمس عاطفته المتوقدة. وفيه يصف عواطف نفسه وأهواءها، وشجونها وارتياحها، ويصف مواقف اللقاء والوداع، ومجالس اللهو والأنس، والخمرة والحبيب. ويصف استكانته للحب وخضوعه، وإذعانه لمشيئة محبوبه. وقد يتهتك في تشبيبه ولكنه لا يبلغ فيه مبلغ أبي نواس.
وأول ما عرف الحب قلب البحتري يوم تعشق علوة الحلبية، فأذكت الجذوة الأولى في فؤاده، فأذابت عاطفته على قوافيه. ثم ابتعد عنها إلى العراق، فكان لا يفتر عن ذكرها، والتشبيب بها، والحنين إليها. والظاهر أن علوة هذه كانت فتاة تياهة يلذ لها العبث بقلوب الفتيان، وليس للتصون عندها حظ كبير، لذلك لم يكن حب البحتري لها عذريا ولا صلته بها طاهرة، حتى إذا بلغه أنها تزوجت هجاها، وأوجع عرضها، ورماها بكل شائنة. وغزله فيها يظهر لنا حقيقة هذا الحب وبعده من العفاف.
على أن البحتري لم يقصر حبه على علوة بل أحب أشخاصا آخرين، احتلوا فؤاده، واشتركت عاطفته فيما بينهم، فذكرهم في شعره وشبب بهم جميعا.
وكأن صاحبنا لم يسعد طالعه بمن يهواهم ، فابتلي بالافتراق عنهم، فكان يتشوق إليهم، ويتلهف على أيام لقائهم، فإذا لجت به الذكريات، وتغلبت عليه الأشواق، تمثلت له أخيلتهم في المنام، فإذا هب من نومه، وكذبت اليقظة الحلم، تضاعف التياعه وازداد وجده، فراح يشبب بطيف الحبيب، ويأسى على فراقه، كأن الحلم حقيقة. ولما كثر ذلك منه طارت له شهرة في وصف طيف الخيال.
وغزل البحتري في أكثره لطيف ناعم، يزدان بحسن الوصف، وفيه ما يستأسر القلوب، ويثير العواطف في النفوس.
رثاؤه
كاد البحتري يحصر رثاءه في نسيب يعز عليه فقده، أو صديق يشجوه بعده؛ فقد رثى المتوكل وكان أحب الخلفاء إليه، ورثى أبا سعيد وابنه يوسف وآل حميد وجميعهم من أنسبائه، ورثى غلامه قيصر وكان يحبه، وجارية له وكان يهواها؛ لذلك جاء رثاؤه على قلته عاطفيا صادق التفجع.
على أنه لم يرث الفتح بن خاقان مع حبه له وحزنه على موته، فقد ثاب إليه رشده بعد رثائه المتوكل، فشعر بالخطر المحدق به فلم يجرؤ على رثاء الفتح؛ لأن المنتصر ادعى، بعدما بويع بالخلافة، أن الفتح قتل المتوكل، وأنه قتل الفتح ثأرا لأبيه.
وليس للبحتري غير مرثاة واحدة في المتوكل، ولكنه ظل يذكره ويذكر الفتح في سوانح شعره، ويتلهف على أيامهما. ولم يرث خليفة غيره، مع أنه شهد مقتل جماعة منهم كان متصلا بهم يمدحهم؛ ذلك بأنه لم يخلص الحب لخليفة بعد المتوكل ولم يشأ أن يستهدف لغضب الموالي وولاة العهد، وهو يعلم أن أكثر الخلفاء الذين ماتوا في زمنه قتلوا إما بسيوف الأتراك، وإما بمكيدة يشترك فيها ولي العهد.
وأكثر مراثي البحتري يتخللها المدح، ولا سيما ما جاء في رثاء الأمراء الذين يفيد منهم، فإنه يبكي الميت ويتفجع عليه، ثم يفرغ إلى تعزية ولده أو بعض أهله فيمعن في مدحهم، فكأنه يوطئ من رثائه سبيلا للاتصال بهم؛ فقد رثى نسيبه أبا سعيد رثاء صادقا لا شك فيه، ولكنه مدح في القصيدة نفسها ولده يوسف؛ ورثى وصيفا القائد التركي، ومدح في المرثاة ولده صالحا؛ وتجد له مديحا في محمد بن عبد الله بن طاهر أدمجه في رثائه لأخيه طاهر وعمه الحسين.
ويستهل مراثيه على الغالب بتعظيم الخطب وإكباره، وذم الدهر والتوجع من صروفه ونوائبه. ومما يؤخذ عليه في رثاء النساء أن المرأة مضعوفة عنده، فهو يرى فيها رأي الفرزدق زاعما أنها أهون ميت على الرجل، وأن البكاء عليها عيب وغضاضة. ولعله يتكلم بلسان عصره، فإن المرأة كانت يومئذ ذليلة الجانب، محتقرة المكان، فمن ذلك قوله يعزي نسيبه أبا نهشل الطوسي عن ابنة افترطها:
ولعمري ما العجز عندي إلا
أن تبيت الرجال تبكي النساء
وقوله مستندا إلى حديث لا ندري مبلغ صحته:
ومن نعم الله لا شك فيه
حياة البنين وموت البنات
لقول النبي عليه السلام:
موت البنات من المكرمات
عتابه
برع البحتري في العتاب، وأحسن في اللوم والاسترضاء، حتى قال صاحب العمدة: «وأحسن الناس طريقا في عتاب الأشراف شيخ الصناعة وسيد الجماعة أبو عبادة البحتري.» ويمتاز عتابه في نعومته وتلطفه، فإنه يؤنب قليلا، ويسترضي كثيرا، ويلوم ولا يهدد. وإذا هدد لا يغلظ ولا يتبغض.
فخره
وله في الفخر أشياء حسنة. وأكثر مفاخره بشعره، ثم بقومه بني طيء، وربما افتخر على أنسبائه إذا لحقته جفوة منهم، فيؤنبهم، ويتسامى عليهم ليظهر أن حياته فخر لهم، فمن ذلك قوله من قصيدة:
ومن الأقارب من يسر بميتتي
سفها وعز حياتهم بحياتي
إن أبق أو أهلك فقد نلت التي
ملأت صدور أقاربي وعداتي
حكمه
وله بضاعة قليلة في الحكم لأنها ليست من طلباته، فهو يرى أن الشعر لم يخلق للمنطق، وفي ذلك يرد على بعض لائميه:
كلفتمونا حدود منطقكم
في الشعر يلغى عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج
بالمنطق ما نوعه وما سببه
27
والشعر لمح تكفي إشارته
وليس بالهذر طولت خطبه
ونشأته البدوية هي التي جعلته لا يأنس بالأدلة العقلية والتفكير المنطقي، ولا يرى خيرا في الشعر إلا إذا انطلق من هذه الأغلال محمولا على أجنحة الخيال الحر الفسيح، فجاءت حكمه على قلتها ساذجة مشتركة التفكير، تدور معانيها على ألسنة الناس، وأكثرها في شكوى الزمان.
هجاؤه
والبحتري كأستاذه أبي تمام ليس له يد طويلة في الهجاء، وبضاعته فيه نزرة، وجيده قليل، وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن والده عند موته أمره بإحراق جميع ما قاله في هذا الفن ففعل. ونحن نشك في رواية أبي الغوث، ونرى أن الابن أراد أن يستر عجز أبيه، فزعم ذلك الزعم. ووصل إلينا من هجاء البحتري ما يكفي للدلالة على ضعفه في هذا النوع الذي لم يكن من مذهبه. ولما تعرض له ابن الرومي وأوجع عرضه لم يجرؤ على مهاجاته لعجزه عن لحاقه. وخطر له يوما أن يرد عليه ليسكته فأهدى إليه تخت
28
متاع وكيس دراهم. وضم إلى ذلك بيتين سخيفين وهما:
شاعر لا أهابه
نبحتني كلابه
إن من لا أعزه
لعزيز جوابه
على أن هذا التمحل لا يستر ضعف البحتري وتقصيره عن ابن الرومي في الهجو. وكان ابن الرومي يعرف ذلك فيه، فقد ذكر المرزباني في موشحه أنهما اجتمعا مرة، وكان اجتماعهما سببا للمودة بينهما، فقال البحتري: «عزمت على أن أعمل قصيدة في الهجاء.» فقال له ابن الرومي: «إياك والهجاء يا أبا عبادة، فليس من عملك وهو من عملي.» فقال له: «نتعاون.» وعمل البحتري ثلاثة أبيات، وعمل ابن الرومي ثمانية، فلم يلحقه في صنعه.
ولكن البحتري كان يهاجم الشعراء المغمورين فيهجوهم غير خائف شرهم. وصب أكثر هجائه على الطبقة العالية من الناس، حتى إنه هجا أربعين رئيسا من الذين مدحهم وأخذ جوائزهم؛ منهم خلفاء ووزراء وقواد وكتاب وقضاة وولاة ومن جرى مجراهم من الكبراء.
وهو في هجائه فاحش متعهر، بذيء الألفاظ، يجعل مهجويه على الغالب مخنثين فاقدي النخوة والحياء. ولم يجد له صاحب الأغاني غير قصيدتين جيدتين في الهجو إحداهما في أبي قماش، والثانية في يعقوب بن الفرج النصراني. والأولى فيها شيء من مذهبه في الوصف والتصوير، ولكنها لا تجعل منه شاعرا هجاء على كل حال.
ما أدرك عليه
قال الآمدي في موازنته بين الطائيين: «وما رأيت شيئا مما عيب به أبو تمام إلا وجدت في شعر البحتري مثله. إلا أنه في شعر أبي تمام كثير، وفي شعر البحتري قليل.» وقد صدق الآمدي، وإن يكن تعصبه على أبي تمام لا يحتاج إلى دليل، فالبحتري وقع في مثل ما وقع فيه أستاذه، فروي له شعر مسروق جعله ابن أبي طاهر ستمائة بيت منها مائة مسروقة من شعر أبي تمام. وسواء صح هذا العدد كله أو بعضه فالأستاذ فاق بالسرقة تلميذه. وخصوصا إذا نظرنا إلى ما ترك أبو عبادة من الشعر الكثير الذي يبلغ ضعفي شعر أبي تمام، ثم إلى المعاني المشتركة التي سرقوه إياها وهي لا يستقل بها شاعر دون آخر، فمما أخذه من أبي تمام وحسنه قوله:
ولو أن مشتاقا تكلف غير ما
في وسعه لسعى إليك المنبر
وقال أبو تمام:
ديمة سمحة القياد سكوب
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى
لسعى نحوها المكان الجديب
وقوله وقصر فيه عن أستاذه:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة
إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
وقال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
وأدرك عليه معان لم يوفق في استخراجها. فمنها ما كان ضعيف المدلول. ومنها ما خالف فيه أدب الشعر كقوله يمدح المعتز بالله:
لا العذل يردعه ولا
التعنيف عن كرم يصده
وهذا على رأي الآمدي من أهجن ما مدح به خليفة وأقبحه. ومن ذا يعنف الخليفة أو يصده؟ إن هذا بالهجو أولى منه بالمدح.
وهو كأستاذه يحتذي مثال الأقدمين في إشباع الحركات حتى يخرج منها حرف لين، وهذا الزحاف نفر منه جمهور الشعراء المولدين، وإن أجازه أصحاب العروض. على أن البحتري لم يتورط فيه تورط أبي تمام.
ولا يخلو شعره من أبيات فيها ضعف وإسفاف. وقد تمر بألفاظ تنكر عليها الفصاحة، وتعجب أن يكون البحتري صاحبها، فمن ذلك استعماله فعل اختشى، وهذا غير مسموع، كقوله في مدح ابن الفياض:
يختشي زلة الخطار وأرجو
عودة من عوائد الله تمنى
29
ويمكننا أن نعزو هذه الأشياء إلى إكثاره من النظم، ثم إلى اختلاف الروايات فإنها حملت عليه أقوالا منحولة، فنسبت إليه على براءته منها.
ومهما يكن من شيء فإن الذي أدرك على البحتري يكاد لا يذكر بالإضافة إلى غزارة شعره. (2-3) منزلته
نسب إلى أبي العلاء المعري أنه قال: «أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» ومنهم من يضيف هذا القول إلى المتنبي نفسه فيزعم أنه قال: «أنا وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.» وكلا الأمرين عندنا مشكوك فيه؛ لأنه إما مخالف لعقيدة أبي العلاء في شاعرية أبي الطيب وقد كان يسميه وحده الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه كما قال ابن الأثير، وإما مخالف لعقيدة أبي الطيب وإيمانه القوي بشعره. على أن البحتري أصح من أبي تمام طبعا، وأقل تكلفا، وأوضح الثلاثة ديباجة، وأكثرهم انسجاما، وأسلمهم من الغموض والتعقيد؛ ذلك بأن نشأته البدوية جعلته لا يحتفل بالمعاني الفلسفية والأدلة العقلية، ولا يتورط في التزام البديع؛ لأنه يخالف أذواق أهل البادية المطبوعين على الشعر. ولا يسرف في طلب الغريب؛ لأن معرفته ليست فضيلة عند البدو كما هي فضيلة عند الحضر. فكل بدوي يعرف الغريب، ولا يعرفه كل حضري؛ لذلك كان البحتري يحذفه وينفيه عن شعره ليقربه من أفهام ممدوحيه إلا أن يأتيه طبعه باللفظة بعد اللفظة في موضعها من غير طلب لها، فأوتي ديباجة رائقة، قلما ظفر شاعر بمثلها حتى ضرب المثل بها فقيل ديباجة بحترية، وشبه شعره لأجلها بسلاسل الذهب؛ لتناسقه، وتماسكه، ورونقه، وحسن انسجامه. واتخذ طرازا أعلى للطريقة الشامية التي شغف بها الصاحب بن عباد، وحث الناس على رواية أشعار أصحابها. وكأنما شعره وضع للغناء؛ لما فيه من إيقاع وترجيع، ومزاوجة ألفاظ ومطابقتها، ثم لما فيه من الطراوة والرقة، والبعد من التداخل، على خفة في المعنى وقرب متناوله.
وكان إذا تشبه بأستاذه فطلب المجاز والبديع يحسن اختيار الألفاظ وتأليفها، ويجعل استعاراته وتمثيلاته، وجناساته ومطابقاته، نازلة في منازلها، لا تستخدم المعنى، وإنما تزيده تصويرا ورونقا. وكأن وصية أبي تمام له أثرت فيه أحسن تأثير فاهتدى بهديها، فأنقذ شعره من الشوائب التي علقت بشعر أستاذه ، فإذا هو كما أوصاه: «يتقاضى المعاني، ويحذر المجهول منها، ولا يشين شعره بالألفاظ الزرية.» وشهد له أبو تمام فقال: «أنت أمير الشعراء بعدي.»
ويرى طائفة من أهل الأدب أنه لم يأت بعد أبي نواس من هو أشعر من البحتري، ولا بعد البحتري من هو أطبع منه على الشعر. وذكر الآمدي في موازنته أن أبا عبادة قد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخبرهم، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء دونهم.
وإذا صح أن إنشاء الأديب صورة لنفسه ، فشعر البحتري بما فيه من ديباجة رائعة، وخيال جميل، وغزل لطيف، يجعلنا نشك في ما يزعمه بعض الرواة من أنه كان وسخا بغيضا، فأناقة عباراته لا تدل على قذارة آلته، ورقة ألفاظه ولطف معانيه لا يلائم غلاظة طباعه.
وما أدراك أن أولئك الذين شنعوا عليه كانوا من خصومه، فأرادوا إسقاطه ليفضلوا صاحبهم أبا تمام، ونحن نرى غيرهم من الرواة لا يصفونه بمثل هذه الأوصاف، بل ينعتونه بحسن الخلال. ومهما يكن الأمر فشعر البحتري يجعل صاحبه محببا إلى النفوس، ولا يرسم لنا تلك الصور الممقوتة التي يرينا إياها بعض الرواة.
والخلاصة أن البحتري يتحلى بجمال الديباجة، وبراعة الوصف والتصوير، ولا سيما وصف الطبيعة ومظاهر العمران، يسمو به خيال لطيف، يسبح في سماء صافية الأديم، معطرة الأرجاء، عليلة النسيم. وهو زعيم الطريقة الشامية، وفي طليعة من قال مدحا في خلافة العباسيين، ومنزلته في الطبقة الأولى بين الشعراء المولدين. (3) ابن الرومي 835-896م/221-283ه (؟) (3-1) حياته
أبى المؤرخون الأوائل أن يتركوا لنا ترجمة وافية لابن الرومي، فلم يدونوا إلا أخبارا متقطعة الأوصال ليس فيها غناء كبير للباحث في الآداب، فهم يعلموننا أن اسمه علي بن العباس بن جريج أو جورجيس. وأن لقبه ابن الرومي، وكنيته أبو الحسن. وأنه مولى لعبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور أحد الأمراء العباسيين، وأنه ولد في بغداد وبها نشأ. وهنا تنقطع سلسلة أخباره فما تجد منها غير نتف لا لحمة بينها ولا سدى. حتى إذا بلغنا خبر موته علمنا أنه مات مسموما سمه القاسم بن عبيد الله الوهبي وزير المعتضد. وكان هذا الوزير ظلاما عاتيا، فخاف أن يهجوه الشاعر لما عرف من فلتات لسانه، فدس عليه من أطعمه خشكنانجة
30
مسمومة فمات بها. وكانت وفاته في بغداد ودفن في مقبرة البستان.
ويزيد ابن خلكان على هذه الرواية قوله: «فلما أكلها أحس بالسم فقام؛ فقال له الوزير: «إلى أين تذهب؟» فقال: «إلى الموضع الذي بعثتني إليه.» فقال له: «سلم لي على والدي.» فقال له: «ما طريقي على النار.» وخرج من مجلسه وأتى منزله، وأقام أياما ومات.» ا.ه.
ولكن هذا القول مضعوف بدليل أن والد القاسم مات بعد ابن الرومي ببضع سنوات، فلا معنى لقول القاسم: «سلم على والدي.» ويؤيد ذلك رواية لابن رشيق في العمدة تطلعنا على أن عبيد الله أبا القاسم هو الذي أوعز إلى ولده بأن يتخلص من الشاعر؛ لأن لسانه أطول من عقله.
ولئن بخس المؤرخون حق ابن الرومي فلم يعنوا بجمع أخباره فقد كان الشاعر أحرص منهم على ذلك، فجاء شعره تاريخا صادقا لحياته، وصورة ناطقة بأخلاقه وصفاته، فإذا أردت حقيقة نسبه فهو رومي من ناحية أبيه، وفارسي من ناحية أمه:
كيف أغضي على الدنية والفر
س خئولي والروم أعمامي
وإذا أردت ولاءه فهو عباسي:
قومي بنو العباس حلمهم
حلمي كذاك وجهلهم جهلي
مولاهم وغذي نعمتهم
والروم حين تنصني أصلي
31
ويخبرنا في شعره أنه عاش فقيرا ضيق العيش:
أيلتمس الناس الغنى فيصيبهم
وألتمس القوت الطفيف فيلتوي؟
يستجدي الكساء ليقيه قر الشتاء، فيماطل حتى يخشى أن يأتي الصيف قبل أن يعطى بغيته فيقول:
إنك إن ماطلتني المواعدا
وأضرم الصيف الأجيج الصاخدا
32
جاء الكساء عند ذاك باردا
وتركبه الديون فيتذمر على الوزير ويشكو إليه:
وارتكاب الديون إياي في ظل
ك يهجوك باللسان الفصيح
ويستعطي درهمين من كل صديق ليسد عوزه:
لي في درهمين في كل شهر
من فئام ما يطرد الحوجاء
33
ولكن أصحابه كانوا يعرضون عنه أكثر الأحيان، ولا يلبون نداءه، فيعاتب ويؤنب ويهجو.
على أن الشاعر لم يعش طول حياته معدما محروما، فقد كانت تمر به أوقات يلهو بها وينعم، ثم لا تلبث أن تمضي سراعا، فيعود إليه بؤسه. وكان له ضيعة فخانه الحظ فيها، ولم تجده فتيلا:
أعاني ضيعة ما زلت منها
بحمد الله، قدما، في عناء
وجمع ثروة فالتهمت منها النيران:
حدوث حوادث منها حريق
تحيف ما جمعت من الثراء
34
وكان له دار فاضطره بعضهم إلى بيعها:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
35
وقد ضامني فيه لئيم، وعزني
وها أنا منه معصم بحبالكا
36
وتملك دارا أخرى فغصبته إياها امرأة فراح يتظلم إلى الوزير القاسم:
تهضمني أنثى، وتغصب جهرة
عقاري، وفي هاتيك أعجب معجب!
37
فكل ذلك يدل على أن الشاعر عاش مضعوفا مهينا، وحالفه الشقاء ونكد الطالع، فلم يبتسم له الدهر إلا ساخرا منه؛ فقد لقي من الناس تحرشا وشرا، وخذله أصدقاؤه وابتعدوا عنه، وأقصاه الملوك ولم يقربوه؛ فعاش خاملا، مضطهدا، متنقصا، ضيق الرزق، كثير العوز، وأصيب بأولاده الثلاثة وامرأته وأمه وأخيه، فمات وهو على أشد ما يكون من البؤس والتطير.
واختلف في تاريخ موته، فقيل إنه كان سنة 282ه، وقيل سنة 283، وقيل بل سنة 276. ولكن ابن الرومي يخبرنا في شعره أنه بلغ الستين:
طربت ولم تطرب على حين مطرب
وكيف التصابي بابن ستين أشيب!
فبلوغه الستين ينفي قول من زعموا أنه مات سنة 276، ويؤيد التاريخين الآخرين؛ لأنه لا خلاف في تاريخ ولادته، فوفاته إذن بين السنة الثالثة والثمانين والرابعة والثمانين بعد المائتين، فيكون قد أدرك تسعة خلفاء أولهم المعتصم وآخرهم المعتضد، ولكنه لم يتصل بواحد منهم.
صفاته وأخلاقه
يصف ابن الرومي نفسه في عدة مواضع من شعره، فيرينا أنه كان في صباه جميل الوجه، أبيض اللون، أسود الشعر، حسن القامة معدولها. ولكن هذا الجمال لم يلبث أن خبا نوره؛ لاستهتاره بالملذات، فاصفر وجهه وتجعد، وتقوس ظهره، وضعف سمعه وبصره، ووهنت قواه، ونحل جسمه واستدق:
سلبت سواد العارضين وقبله
بياضهما المحمود، إذ أنا أمرد
38 •••
وأضحت قناة الظهر قوس متنها
وقد كان معدولا، وإن عشت فخخا
39
وأحدث نقصان القوى بين ناظري
وسمعي، وبين الشخص والصوت، برزخا
40 •••
أنا من خف واستدق فما يثقل
أرضا، ولا يسد فضاء •••
شغفت بالخرد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
41
كي يعبد الله في الفلاة ولا
يشهد فيه مساجد الجمع
42
وعلا رأسه المشيب وله من العمر إحدى وعشرون سنة. وأصيب بالصلع، فاتهم عمامته، ولكنه أبى خلعها لتستر صلعته:
فظلم الليالي أنهن أشبنني
لعشرين يحدوهن حول مجرم
43 •••
عزمت على لبس العمامة حيلة
لتستر ما جرت علي من الصلع
وكان مضطرب المشية يهتز كالغربال في يد المغربل:
إن لي مشية أغربل فيها
آمنا أن أساقط الأسقاطا
44
وهو إلى ذلك دقيق الحس، عصبي المزاج، تغلب عليه السوداء، فيثور، ويشتد غضبه ويسلط لسانه إذا عبث به عابث، ولكنه سريع الرضا، صفوح إذا استرضي. وكان يحب الحياة ويتعشقها مع ما لقي فيها من بؤس وشقاء. والحياة عنده لذة يتطلبها ويستمتع بها. واللذة عنده شهوة إلى الجمال يتبعه أينما بدا له، فيستعذبه في وجوه الملاح، وفي أصوات المغنين والقيان، وفي الطبيعة وما عليها من صور وألوان. واللذة عنده شهوة إلى المآدب، فهو منهوم لا يشبع من طعام وفواكه وشراب.
وطلبه لهذه الملذات على فقره وحرمانه جعله يحسد كل ذي نعمة، فيتمناها لنفسه، ويستكثرها في صاحبها، وجعله يلحف في السؤال، ويعاتب ويتذلل حتى يتبغض.
وكان على حبه للتكسب يجبن عن إدراك رزقه، فقد يدعوه بعض الأمراء فما يجرؤ أن يصير إليه؛ لأنه يخشى الأسفار ويخيفه البر والبحر والصيف والشتاء، فهو موسوس ضعيف العقل، متشائم، متطير.
وزاده طيرة ما ناله من الأرزاء والمحن، فأصبح يتوهم النحس توهما، ويتمثله في تصحيف الأسماء وقلبها وتحليلها، وفي صور الأشخاص، وأشكال الأشياء، حتى بات الناس يضحكون منه، ويعابثونه، فيهجوهم، ويثخن في أعراضهم ويسخر منهم، وهم يمعنون في نكايته ولا يبالون. ذكر صاحب معاهد التنصيص: «أن أصحابه كانوا يرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلا، ويمتنع من التصرف سائر يومه. وأرسل إليه بعض أصحابه غلاما حسن الصورة اسمه حسن، فطرق الباب عليه، فقال: «من؟» قال: «حسن.» فتفاءل به وخرج، وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها درفتين كهيئة اللام ألف. ورأى تحتها نوى تمر فتطير وقال: «هذا يشير بأن لا تمر.» ورجع ولم يذهب معه. وكان الأخفش الأصغر علي بن سليمان يقرع عليه الباب إذا أصبح، فإذا قال: «من القارع؟» قال: «مرة بن حنظلة» ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها، فيحبس نفسه في بيته، ولا يخرج يومه أجمع.» ا.ه. وأخبار ابن الرومي في الطيرة كثيرة نكتفي بما ذكرنا منها للدلالة على وسوسته وجبنه واختلاط عقله.
ومن صفاته الحسنة أنه كان صادق المودة لأصحابه، محبا لأولاده وأهله، عطوفا على الفقراء والمساكين.
آثاره
لابن الرومي شعر كثير رواه عنه المسيبي.
45
ولم يكن مرتبا فعمله الصولي على الحروف، وجمعه أبو الطيب وراق بن عبدوس من جميع النسخ، وزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت. وذكر المستشرق كليمان هيوار أن أبا عثمان سعيدا الخالدي من العلماء المتصلين بسيف الدولة كتب ترجمته مفصلة، ولكن لم تصل إلينا.
وبقي شعره متفرقا في كتب الأدب حتى قام بعض الأدباء في مصر، فعنوا بطبعه ونشره. وعني بدراسته جماعة، منهم عباس محمود العقاد فإنه وضع كتابا خاصا به، فهذا الشاعر الذي أهمله عصره، وتنكر له أبناء زمانه، عرف قدره بعد موته فدونت أشعاره، وجمعت أخباره. ونبشت آثاره فإذا هي عنوان العبقرية والنبوغ.
ولابن الرومي بقايا في النثر منها رسائل صغيرة إلى الوزير القاسم وإلى بعض أصدقائه، ومنها نبذة في تفضيل النرجس. ونثره حسن الأسلوب يجري به مع بلغاء الكتاب. وكان يفتخر بنثره كما يفتخر بشعره مشبها نفسه بالأخطل والجاحظ:
ألم تجدوني آل وهب لمدحكم
بشعري ونثري أخطلا ثم جاحظا؟ (3-2) ميزته
هذا شاعر حاول التكسب بشعره فلم يفلج سهمه، وقلت حظوته فما أتيح له أن يرضي ممدوحيه فيرضوه، فعاتبهم واستعتبهم، فما أجداه العتاب، ولا أعطي العتبى، فسخط وهجا، وانتقم أخبث انتقام.
هذا شاعر تنكر له الدهر، وقعد به الجد، وأزرى به معاصروه، وصفرت كفه، فقادته مضاضة الفقر إلى ذل السؤال، فألح وألحف، فنهر ورد، وليس للملحف غير الرد.
هذا شاعر أحب الحياة ونعيمها، فتهالك على شهواتها وملاذها، فأذاقه الله لباس الجوع، فإذا هو منهوم لا يشبع، يرى الدنيا وما فيها لذة واستمتاعا.
هذا شاعر كتب الشقاء له في لوح الأقدار، فقد ارتزق فلم يرزق. واشتهى فحرم. وأحب فنبذ. وطلب الراحة في ظل عيلته، فمات أولاده، وماتت زوجه، ومات أخوه، وماتت أمه. وغصبت داره. وبقي وحده حيا يشقى ، فتشاءم وتطير، فسخر الناس به، وقالوا: مجنون موسوس. وقد صدقوا، فابن الرومي لم يسلم من اختلاط في عقله يرفده الشقاء، وتشده الخيبة. ولكن الشاعر مدين بعبقريته لجنونه وشقائه وخيبته؛ فلو لم يطرحه الناس، وينكروا عليه غرابة أطواره، ولو لم يخفق ويتعس ويتألم، لشغل شعره بالمديح وما يشبه المديح، ولما جاءنا بهذه الآيات البينات التي صور بها عواطف نفسه، وأخلاق أهل زمانه، وصور الأشياء التي رغب فيها وأحبها وظل طوال عمره يشتهيها، والأشياء التي كرهها ونفر منها وتطير.
مدحه
لم يمدح ابن الرومي من الخلفاء الذين عاصرهم غير المعتضد، وليس له فيه شيء يعتد به؛ لأنه لم يحظ عنده، ولكنه مدح جماعة من الوزراء والأمراء، فوفق لشيء من الإجادة. وأشهر ممدوحيه إسماعيل بن بلبل وزير المعتمد، ومحمد بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد وأمير خراسان، وأخوه عبيد الله بن طاهر، وكانت له ولاية الشرطة بعد أخيه، والقاسم بن عبيد الله الوهبي وزير المعتضد.
على أن مدائحه فيهم لم تكن لتغنيه من فقر؛ لأنهم لم يحسنوا صلاته، ولم يقربوا مكانه، وربما أقصوه عنهم أو سمعوا شعره دون أن يجيزوه عليه. وغير عجيب أن يخفق عندهم، وهو على اضطراب عقله، وضيق أخلاقه، وسلاطة لسانه، وسوء تصرفه في مصاحبة الناس، لا يصلح للمجالس فيتخذ نديما. وكان إلى هذا شديد الإلحاف، فتبرموا به وحرموه، فآلمه ذلك لأمرين: أحدهما حاجته إلى المال، والآخر ذهاب شعره ضياعا؛ فإنه كان مفتونا بلذة الحياة ونعيمها فلم يقدر له من الرزق ما يشبع به شهواته، وكان حريصا على شاعريته فأمضه أن يبخس حقها، فكثر عتابه لممدوحيه، وأرهقهم بالسؤال والاستعطاف حينا، وبالتأنيب والتهديد آخر. وقد يعتد بنفسه فيطلب أن يكون نديما لهم يحضر مجالس اللهو معهم، أو كاتبا في دواوينهم تستودع عنده أسرارهم، فيرتد خائبا مزبونا، يتظلم ويشكو.
وكيف يفلح شاعر مثله، وهو لا يحسن المدح إلا إذا سأل وعاتب وهدد. ولم يكن له من ظرف اللسان، وحميد المخالقة، ورجحان العقل ما يحببه إلى الأمراء فيرغبوا في مجالسته ومنادمته . وكانت طيرته عونا عليه، فازداد بها بؤسا وخيبة؛ لأن وسواس عقله جعله جبانا قلق النفس، مروع الفؤاد يتخوف أشياء يتوهمها توهما، فإذا دعاه أمير أن يتجشم إليه السفر ليسمع شعره ويثيبه، أبى أن يذهب خوفا من مشاق البر وغرق البحر، وطلب إليه أن يجيزه دون أن يركبه هذا المركب الخشن. ولعل معاصرته للبحتري أضرت به، وغمرته عند الأمراء؛ لأنه مدح أكثر الذين مدحهم أبو عبادة، فلم يحفلوا به ولا التفتوا لفته، مع أنهم أكرموا البحتري وخصوه بسني الجوائز. ويرجع ذلك إلى أن الوليد أبرع منه في المدح، وأرصن في المجالس وأعقل، وأحسن تصرفا في استرضاء ممدوحيه.
هجوه
لابن الرومي شهرة في الهجاء لا تتقدمها شهرة دعبل وبشار. ويفوقهما بما امتاز فيه من دقة التصوير، فإن هجاءه لا يقتصر على القذف والطعن والسخر، بل يتعداه إلى وصف أخلاق المهجو، وتصوير أشكاله حتى يبرزه مثلة شوهاء مضحكة.
وبواعث الهجاء عند الشاعر كثيرة، فمنها أنه كان محروما يستجدي فلا يعطى إلا القليل، فيغضب ويهجو من يمنعون صلتهم عنه. ومنها أنه كان يحسد ذوي النعمة الذين يتمتعون بملاذ الحياة دونه فيهجوهم. ومنها أن الناس كانوا يعلمون ضيق أخلاقه، وغرابة أطواره، فيعبثون به ويضايقونه، ويعيبون شعره وينتقدونه، فيثور ثائره ويهجوهم. ومنها أنه كان دقيق الحس ينفر من الأشياء التي لا تلائم طبعه، ولا يستاغها ذوقه، فيذمها كما في هجائه لصاحب اللحية الطويلة، والغناء القبيح. ومنها أنه كان شديد الطيرة يتوهم النحس في الأشخاص والأسماء والعاهات والعيوب، فهجا كل شيء يتطير منه. ومنها أنه كان شرها منهوما لا يصبر عن الطعام، فإذا جاء رمضان تضايق من الصوم فهجاه. ومنها أنه كان يتشيع للعلويين مع ولائه في بني العباس، فهجا العباسيين وأفحش فيهم لما رأى ما أصاب الطالبيين من التنكيل.
رثاؤه
لم يكن ابن الرومي حظيظا عند الملوك فيتخذ الرثاء آلة للتكسب؛ لذلك قلت مراثيه، وليس له منها ما يستحق الذكر إلا الذي قاله في أولاده وزوجه وأمه وأخيه، وإلا الذي قاله في بستان المغنية وكان يهواها ، وفي أبي الحسين يحيى بن عمر الطالبي؛ لأنه كان يتشيع للعلويين، فساءه أن يفتك به العباسيون وكان قد ثار بهم، فبكى عليه وهجا بني العباس وآل طاهر أعوانهم على قتله. والذي قاله في بكائه على البصرة لما دخلها الزنج سنة 257ه/870م وأحرقوها ومثلوا بأهلها، فقد راعه ما دهاها وهي منبت العلماء والأدباء، وعكاظ الإسلام، فرثاها والها وصور خرابها أبرع تصوير.
وابن الرومي شديد التفجع على الميت إذا كان عزيزا عليه، ولا غرو فإنه من طبيعته ضعيف الإرادة، قوي العاطفة، دقيق الإحساس، مضطرب العقل، فأخلق به أن يغلب عليه الجزع إذا رزئ بمن يحبه، فيتأجج بركانا عاطفيا ينفث نيرانه عن نفس يصهرها الحزن، ويضغطها التطير، ويحفزها تتابع النكبات، فتنفجر بالبكاء والأنين. وأحسن مراثيه قصيدته في ولده الأوسط واسمه محمد، وقد مات منزوفا وهو لم يزل طفلا، فهي من أفجع ما قال والد في رثاء ولد، وهي تصور جزع الشاعر أدق تصوير، وتخرج مشهدا تاما عن حياة طفله ومرضه وذبوله وموته.
وابن الرومي على تفجعه لا يرثي فقيده غير مرة. وقلما جاوزها إلى المرتين أو الثلاث شأنه في رثاء أمه وامرأته؛ مما يدل على أن الحزن لا يلح عليه طويلا، وإنما تحرقه الجمرة ساعة سقوطها، ثم لا تلبث أن تنطفئ فينسى أو يتناسى. ولعل هذا راجع إلى تقلب طباعه، واضطراب مزاجه، وسرعة تنقله من حال إلى حال، أو راجع إلى توالي المصائب عليه، فإن حرمانه وخسرانه، ثم موت أمه وأخيه، ثم موت أولاده وزوجه لا بد أن يجعل في نفسه شيئا من الاستسلام والقنوط، فيصبح وهو أليف الأرزاء والتطير، يتوقع كل يوم رزءا جديدا، فينسى الماضي لاشتغال فكره بتنظر الآتي.
غزله
كان ابن الرومي تبع جمال يجري وراءه طلبا للذة فهي عنده زينة الحياة الدنيا، ولا بهجة للحياة بدونها، فأفرغ ماء شبابه على أشواك شهواته. وما راعه إلا بارقة البياض تلوح بمفرقه، فبكى على الصبى وتلهف، وذم المشيب وهجاه. وهو لم يأسف على فراق الشباب إلا لأنه سيفارق اللذة بعده. وما كان ليحب ويعشق لولا التهالك على اللذة والاستمتاع. ومثل هذا الحب تغمره المادة، وتسيطر فيه على الروح فينحط بصاحبه إلى الدنايا، ويجعل المرأة أداة للهو والتسلية، ويهبط بها عن عرشها السامي الذي رفعه الله لتوضع عليه.
وصاحب هذا الحب لا يتعشق شخصا واحدا فيقف فؤاده على حبه، وإنما لذته في التنقل، فكلما بدا له وجه جميل افتتن به، وجد في أثره. وهيهات أن يطمئن إلى معاشرة الحرائر المحصنات، أو يكتفي بزوج أمينة وديعة يسكن إليها، ويغض طرفه عن سواها، فابن الرومي بقي مدة طويلة لا يأنس بالحياة الزوجية، ولا يتغزل إلا بالقيان والغلمان، ولا يجد اللذة إلا في مكانس الريب وحوانيت الخمارين، حتى نفدت قواه أو كادت، فتزوج، وكان زواجه في أواخر كهولته، فرزق أولادا ضعاف البنية، فلم تكتب لهم الحياة.
وليس لشاعرنا غزل كثير على شدة شغفه بالجمال؛ لأن الحب لا يؤثر في نفس طالب اللذة تأثيره في نفوس المتيمين، ولا يمتزج بها إلا أوقاتا معلومة يموت في خلالها حينا ثم ينبعث ويحيا، ثم يموت. ويغلب على غزل ابن الرومي وصف القينة والساقي ومجلس لهوه، وتجد هذا الغزل في صدر أهاجيه كما تجده في صدر مدائحه.
وهو في تهافته على اللذة لا يشفى فؤاده إلا إذا استوعبها من أقصى قراراتها، فيود لو أنه يستغرق في ذات من يهواه فتمتزج روحه بروحه، حتى لتظنه من أصحاب مذهب الاتصال الذين يزعمون أنهم يستغرقون في ذات الله سبحانه وتعالى عما يأفكون:
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يرى الروحين يمتزجان
وصفه
والوصف عند ابن الرومي أخص ميزة يعرف بها، فهو من أي النواحي أتيته تجده وصافا بارعا ومصورا دقيقا. وفي شعره أوصاف جديدة لم يسبقه إليها شاعر، استمدها من حياته وتأثرات نفسه، فإنه لتطيره من المناظر القبيحة كان يتعشق الجمال على اختلاف مظاهره واتساع معانيه، فأحب الطبيعة ولا سيما طبيعة الربيع، فاتصل بها وجعل منها شخصا حيا، مازجا شعوره بشعورها، وأغرم بجمالها كما أغرم بالوجه المليح، فأصبح إذا وصفها شبهها بالمرأة، وإذا وصف المرأة شبهها بالطبيعة، فمن ذلك قوله يصف الأرض في الربيع:
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
46
وكان يحب الصوت الجميل ومجالس اللهو، فوصف القينة وغناءها، والساقي وكأسه، والخمرة وآنيتها. وله براعة في نعت الصوت الحسن تدل على صحة شعوره بالفن كوصفه للقينة وحيد.
وكان له من شراهته وحرمانه ما ضاعف نهمته إلى المآدب. وأوتي معدة خبيثة لا تشبع ولا ترتوي. ولم يخطئ نعتها إذ قال فيها متلهفا على أكلة:
لهفي عليها وأنا الزعيم
بمعدة شيطانها رجيم
47
ولهذا أكثر من ذكر أنواع الطعام والشراب. وهو أول شاعر - فيما نعهد - عني بوصف السمك والفراريج والبيض والقطائف والزلابية والمشمش والموز والعنب وغير ذلك من المآكل.
وهو لدقة إحساسه قوي الشعور بالشيء يستكرهه، كما أنه قوي الشعور بالشيء يستحسنه. وكان له من تطيره وضعف عقله ما جعله يكره أو يتخوف الأشياء التي يجفو عنها طبعه، ولا يستاغها ذوقه ومزاجه، فيهجوها ويصفها فعله بالأحدب وصاحب اللحية الطويلة، وسفر البر والبحر، والقينة شنطف، والمغني دبس لأنه استقبح صوتهما. وفعله بنفسه بعد أن شاب، وضعفت قواه، وشحب لونه، فقد أكثر من وصف مشيبه والبكاء على شبابه؛ لأنه فقد بهما لذة الحياة.
وضيق ذات يده جعله يستفيض في وصف فاقته. وقد جره فقره إلى حسد الأغنياء، فهجاهم ووصف ترفهم كما في قصيدته التي هجا بها الكتاب المتنعمين بأموال الدولة.
وتنكر له الناس، وعبثوا به، فحقد عليهم، ورأى الخير في الحقد فمدحه وبين منافعه. وهجا الناس، ومزق أعراضهم، فحقدوا عليه، فرأى الشر في الحقد، فذمه وأظهر مساوئه وأضراره. وصور أخلاق الحقود أدق تصوير.
وكان له من حياة الزهاد تعزية وسلوى في حرمانه، وتوالي الخطوب عليه، فوصف معيشتهم وتعبدهم ولكن نفسه التي استعبدتها الشهوات لم تكن لترتاح إلى حياة المتزهدين، فتتنسك مثلهم.
ولزم بغداد فما استطاع البعد عنها إلا غرارا، فإذا فارقها حن إليها، وصور ذكرياته فيها أبدع تصوير:
بلد صحبت به الشبيبة والصبى
ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أفنان الشباب تميد
48
ووصف الصيد كغيره من الشعراء المولدين، ولكنه لم يلتزم له بحر الرجز، ولا أمعن في الغريب مثلهم.
ويمتاز وصفه في الاسترسال والتبسط، ودقة النظر، فإنه حريص على إظهار الأشياء دقيقها وجليلها، متفنن في إبرازها وتصويرها، سواء عليه أبتشبيه كانت أم بغير تشبيه وبتمثيل أم بغير تمثيل. وكثيرا ما يتتبع المعنى ويستقريه حتى يستتمه ويستوفيه، ويظهره على حقيقته لا غلو فيه ولا تمويه.
آراؤه وعقائده
ذكر أبو العلاء المعري في رسالة الغفران أن ابن الرومي كان يتعاطى الفلسفة. وفي شعره أمثلة تدل على أنه كان ملما بعلوم عصره، واقفا على الفلسفة اليونانية والآداب الفارسية. ولكن ذلك لم يجعل منه مفكرا ذا مذهب معروف، وإنما جعله صاحب آراء وعقائد لا تخلو من التناقض لما كان عليه من اضطراب العقل، وغريب الأطوار، وتقلب الأفكار؛ فقد كان يتشيع للعلويين بدليل قصيدته التي رثى بها أبا الحسين يحيى بن عمر الطالبي، وهجا العباسيين من أجله وأفحش فيهم. ثم كان يقول بمذهب المعتزلة والقدرية معا، وقد يميل إلى الجبرية مع بعدها عن القدرية، فمن ذلك قوله في الاعتزال:
أأرفض الإعتزال رأيا؟
كلا! لأني به ضنين
وقوله في القدرية:
الخير مصنوع بصانعه
فمتى صنعت الخير أعقبكا
49
والشر مفعول بفاعله
فمتى فعلت الشر أعطبكا
ومن قوله في الجبرية وقد أوجعه ترف الكتاب وحياتهم الناعمة بين القيان:
لو ترى القوم بينهن لأجبر
ت صراحا، ولم تقل باكتساب
50
ولهذا اعتقد بالحظ، وقوي إيمانه به:
إن للجد كيمياء إذا ما
مس كلبا أحاله إنسانا
واعتقاده بالحظ جعله ينيطه بطوالع الكواكب شأن أبناء عصره.
وكان يقول بالطبيعتين،
51
فطبيعة الخير في النفس لأنها سماوية، وطبيعة الشر في الجسم لأنه أرضي، والشر كامن في الأرض كمون اضطرار وجبر، والأرض مضطرة إلى قبوله، مجبرة عليه؛ ولذلك يوصي الإنسان بتطهير نفسه من الطبيعة الأرضية الشريرة.
وله في الحقد رأي مختلف، فطورا يحسنه فيظهر فضله، وتارة يذمه فيظهر شره. وهكذا رأيه في الجود والبخل.
وكان على حبه للحياة وملاذها ينظر إليها بعين سوداء؛ لكثرة ما ناله فيها من الويلات والمحن، فيرى أن بكاء الطفل ساعة ولادته إنما هو ناشئ عن خوفه من صروف الدهر، وهذا رأي ساذج كما لا يخفى، ولكنه يكشف عن نفس حزينة متألمة متطيرة:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وساء ظنه بالناس؛ لأنهم في زعمه لئام لا يصاحبون المرء إلا في السراء، ويتخلون منه في الضراء، فمن الخير عنده أن لا يكثر الإنسان من الأصحاب.
وكان يوصي بالصبر على شدة جزعه، ويحاول أن يقنع نفسه بأن الصبر والجزع ليسا من الطوابع المركبة في الإنسان بل هما في اختياره، يستطيع أن يتصرف فيهما كيف يشاء.
وهو على حبه للمرأة سيئ الظن بها كسائر أهل زمانه، ينعتها بالمكر والخداع والكيد، وحسبك أن تقرأ حديقة الشعر فتتبين حبه لها وضعف ثقته بها.
ما أدرك عليه
لم يدرك على ابن الرومي سرقات جمة مع كثرة شعره، ذلك لغزارة مادته في الاختراع والتوليد. وكان يتجنب استباحة أفكار غيره، إلا إذا اقتبسها ليولد منها معنى جديدا. وكان يزدري الشعراء الذين يغيرون على أكفان الموتى ويسلبونهم إياها، فعله بأبي عبادة البحتري، ومع هذا فلم يسلم من العثار بعض الأحايين، فمن سرقاته قوله في وحيد:
ليت شعري إذا أدام إليها
كرة الطرف مبدئ ومعيد
52
أهي شيء لا تسأم العين منه
أم لها كل ساعة تجديد؟
أخذه من قول أبي نواس:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
ويؤخذ عليه في بعض شعره لين قد يبلغ به حد الإسفاف، فمن غثه البارد قوله في ختام أبيات يمدح بها المعتضد:
دامت سلامته وطال بقاؤه
ومع البقاء العز والنعماء
فهذا أشبه بختام رسالة يكتبها بعض العامة. وربما استعمل ألفاظا عامية تنكرها الفصاحة كقوله:
لست أهجيك ما حييت ببيت
وستهجوك عني الأحدوثه
53
فقوله: أهجيك خطأ لأنه واوي. قال الجوهري: «لا تقل هجيته والعامة تقوله.» ولم يخل شعره من الإقواء وزحاف الإشباع، ولكن ذلك فيه قليل. (3-3) منزلته
قال العميدي صاحب الإبانة في كلامه على المتنبي: «ولا أقيسه في امتداد النفس، وعلم اللغة، والاقتدار على ضروب الكلام، وتصوير المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة، والحكم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي.» وقال ابن رشيق صاحب العمدة: «وكان ابن الرومي ضنينا بالمعاني، حريصا عليها. يأخذ بالمعنى الواحد ويولده، فلا يزال يقلبه ظهرا لبطن، ويصرفه في كل وجه وإلى كل ناحية حتى يميته، ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد.» وقال أيضا: «وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر؛ لكثرة اختراعه، وحسن افتنانه.» وقال ابن خلكان: «صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب؛ يغوص على المعاني النادرة، فيستخرجها من مكامنها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية.»
فهذه الأقوال كافية لأن تعرفك منزلة الشاعر عند الأدباء المتقدمين، فتعلم أن إهمال عصره له لم يضيع فضله بعد موته، فقد قام أصحاب الأدب ينشرون ذكره، ويفضله بعضهم على أكابر الشعراء أمثال المتنبي وسواه. وقد استحق ابن الرومي هذه المنزلة لأسباب منها براعة وصفه وتصويره، ودقة نظره في مراقبة الأشياء. ومنها خصب معانيه المولدة والمخترعة، واسترساله معها حتى يستوفيها إلى آخرها، ويبرزها جلية تامة، بأشكالها وألوانها، وصفاتها وتوابعها. وقلما غفل عن شيء منها أو مما يتصل بها مهما دق شأنه، وقل خطره.
واسترساله مع المعاني جعله يطيل قصائده فيبلغ بها مائتي بيت أو ثلاثمائة. وهذا الطول لم نعهده في شاعر قبله، إذا استثنينا منظومات كليلة ودمنة وما شاكلها؛ لضعف الروح الشعرية فيها. ثم إذا أنكرنا ما يزعمه الرواة من أن بعض المعلقات بلغت ألف بيت؛ لأن زعمهم يحتمل الشك أكثر من اليقين.
وتمتاز قصائده على طولها بقربها من وحدة الموضوع، فهي، وإن تعددت أغراضها أحيانا، لا تخلو من الصلة المعنوية التي تربط أجزاءها بعضها ببعض. ولابن الرومي شعر كثير نظم في غرض واحد.
ولعل أصله الأعجمي كان له يد في طول نفسه، وميله إلى وحدة الموضوع، كما كان له يد في اتساق أفكاره، ودقة معانيه، وإحاطته بهنات الأمور، وخروجه إلى أغراض جديدة كوصف الأخلاق والعادات، وتصوير الأشخاص تصويرا سخريا مضحكا، وغير ذلك مما يتصل بحياة المرء في هزله وجده، وفرحه وكدره.
ويظهر اتساق أفكاره في ارتباط معانيه وأغراضه، ثم في اعتماده على الأسلوب المنطقي، فإنه اتخذه إماما له وعلى الأخص في احتياجه إلى الرد على خصومه ومعيريه، وإلى معاتبة ممدوحيه واسترضائهم، وإلى إبداء آرائه في الحياة وصروف الدهر. وتختلف أحكامه المنطقية بين القوة والضعف، فمنها ما يستقيم له ومنها ما لا يستقيم؛ ذلك أن قوة التفكير عنده تنازعها قوة العاطفة. ولا غرو فإنه موسوس عصبي المزاج سريع التأثر، فأجدر به أن يكون عبدا للعاطفة، يستخدم منطقه لإرضائها، ومجاراة أهوائها. وحسبك أن ترى محاولته تزكية الطيرة، وإمعانه في تزيين الحقد، وتبغيض السفر، لتتبين كيف يسخر تفكيره لعاطفته.
وهو على قوة عاطفته وتفكيره، مديد الخيال، عميق التصور. وخياله مع اتساع مجاريه ينطلق بهدوء وانتظام، يسايره المنطق، فلا يجنح بصاحبه إلى الغلو والإحالة، بل يعمد في الغالب إلى إظهار حقائق الموصوفات فيخرجها في أحسن صور وأصدق تمثيل باعثا فيها حياة تجعلها تهتز وتتحرك، هائما في واد كئيب تتفجر من جوانبه ينابيع الدموع، وتدمي رياحينه أشواك الشهوات والآلام. وابن الرومي أشغف الشعراء بالطبيعة وألوانها، يتصل بها ويعيش معها ويحسها إحساسا قويا.
ولكن ليس لشعره على الإجمال ديباجة؛ لأن انصرافه إلى توليد المعاني واستخراجها من أبعد قراراتها، ثم اهتمامه باستيفائها وشرحها، جعله يهمل اللفظ فما يحفل به، فإذا هو لا يعنيه إلا أن يظفر بالمعنى الطريف سواء أفرغ في القالب الجميل أو لم يفرغ، فرويت له أبيات ضعيفة البناء لا روعة فيها ولا رونق، تخلو ألفاظها من الموسيقى الشعرية، فما تهتز لها ولا تطرب. ولولا حسن معانيها لكانت خليقة بالإغفال.
وإهماله اللفظ جعله لا يحتفل بالزخرف والتزويق، فاقتصد في استعمال البديع، وفي طلب التشابيه والاستعارات، فعرف له منها شيء قليل بالإضافة إلى كثرة شعره، ولكن قليله جيد رائع. وأجوده ما جاء من التشابيه بصورة المركب التمثيلي، فإنه غاية في الإبداع. وأكثر من استعمال الغريب لطول نفسه، ثم لركوبه القوافي الغليظة كالثاء والخاء والشين والضاد وما أشبه، فإنه كان يرى أن المدح تسقط قيمته إذا سلكت إليه القوافي السهلة. ثم لاقتداره على ضروب الكلام، فإن تضلعه من اللغة جعله ينتقي اللفظ المؤدي حقيقة المعنى، ولو كان غير مأنوس، وكثيرا ما يعمد إلى تحليل الألفاظ والتلاعب بمعاني مشتقاتها فيغث بيانه وينضب ماؤه.
على أن غريبه لم يورث شعره غموضا لسهولة تعبيره ووضوحه، وسلامة ألفاظه من التداخل. ولم يؤثر فيه الأسلوب المنطقي كما أثر في شعر أبي تمام؛ لأنه لم يعتمد الأدلة العقلية العويصة، بل تناول منها أقربها سبلا، وتولى في نظمه شرحها وإيضاحها. ولم يجار الطائي في التزام البديع، والإفراط في التجنيس والمطابقة، فيقع في التعقيد مثله ويصعب على الناس فهمه.
وعلى الجملة فابن بالرومي أطول الشعراء نفسا، وأكثرهم اختراعا للمعاني، واستيفاء لها، وأبعدهم نظرا في وصف دقائق الأشياء، وأقربهم إلى وحدة الموضوع. وأبرع من صور الأخلاق والصفات، وجعل لمهجويه تصاوير هزلية مضحكة، وأصدق مؤرخ لحياته في ملذاتها وأفراحها، وفي مكارهها وأحزانها. ولئن أهمله عصره، ولم يقدره حق قدره، لقد كان على الرغم من عصره في طليعة الشعراء المولدين.
هوامش
الفصل السادس
الكتاب المولدون
العصر الثاني (1) ميزة النثر
ليس في ميزة النثر ما يدعو إلى فصل هذا العصر عن الأول، فأسلوب الرسائل بقي على حاله لم يتبدل فيه شيء إلا ما كان من ازدياد التزيين والسجع، وهذا طبيعي قضت به سنة النشوء والارتقاء، كما قضت بتقدم فن التصنيف وشيوعه عند الكتاب. وفي هذا العصر تمت السيادة لأسلوب الجاحظ، وما الجاحظ إلا من كتاب العصر الأول عاش فيه معظم عمره، وصنف فيه أكثر كتبه وأشهرها. ولم يعش في الثاني إلا عشرين سنة ونيفا مضى به نصفها الأخير وهو مفلوج مقعد ليس به غناء، فالعصران عصر واحد في الأدب شعره ونثره وإن فصلتهما السياسة. (2) الجاحظ 775(؟)-868م/159(؟)-255ه
1 (2-1) حياته
هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، وقيل بل كناني صليب، والأول أشهر. وكان له جد أسود اللون يقال له فزارة كان جمالا لعمرو بن قلع من بني كنانة. ولقب بالجاحظ لجحوظ عينيه، وربما قيل له الحدقي لكبر حدقتيه. وكني بأبي عثمان.
وكان مولده في البصرة، فلما ترعرع طلب العلم في الكتاب، وخالط المسجديين من أهل العلم والأدب، فأخذ عنهم. وكان يكتري حوانيت الوراقين ويبيت فيها للمطالعة. على أن ضيق ذات يده لم يتح له أن ينقطع إلى العلم في أول أمره، فقد شوهد يبيع الخبز والسمك في سيحان،
2
ولعله أفاد من هذه التجارة ما أغناه بعض الشيء فانصرف يجلس إلى علماء البصرة ويسمع من العرب الخلص في المربد.
وبدأت نباهة الجاحظ في خلافة المأمون، ووصلت كتبه إلى الخليفة فأعجب بها واستقدمه إليه، وصدره ديوان الرسائل، فاستعفى بعد ثلاثة أيام، فأعفي. وكان سهل بن هارون يقول: «إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتاب.» ويعزو ابن شهيد الأندلسي إخفاق الجاحظ في منصب الكتابة إلى أمرين؛ أولهما: دمامة وجهه والملوك يؤثرون الكتاب الحسان الوجوه. والثاني: خفته وعبثه، والكتاب يحمد فيهم الترصن والوقار.
ولما صارت الخلافة إلى المعتصم، وتقلد الوزارة ابن الزيات اتصل به الجاحظ اتصالا مكينا، وأقام معه يكتب له ويمدحه، وقدم له كتاب الحيوان فأفاد منه مالا وفرا. وتأتى له أن يقوم برحلات إلى دمشق وأنطاكية وربما إلى مصر، فوسعت هذه الأسفار خياله وزادته علما وخبرة واطلاعا.
وكان بين ابن الزيات والقاضي أحمد بن أبي دؤاد من الشنآن ما جعل كاتبنا ينحرف إلى صديقه الوزير، ويتنكر لابن أبي دؤاد، فلما استخلف المتوكل، وفتك بابن الزيات، خاف الجاحظ على نفسه؛ لأن المتوكل كان يكره أصحاب الاعتزال وأبو عثمان منهم، فهرب واختفى عن الناس، فجد القاضي في طلبه حتى قبض عليه. وجيء به مغلول العنق بسلسلة، مقيد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقع نظر القاضي عليه قال: «والله ما علمتك إلا متناسيا للنعمة، كفورا للصنيعة، معدنا للمساوئ. وما قصرت باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك، ورداءة دخلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طبعك.» فقال له الجاحظ: «خفض عليك، أيدك الله! فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن في الأحدوثة عنك من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام مني.» فقال له ابن أبي دؤاد: «قبحك الله! ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام. وقد جعلت ثيابك أمام قلبك، ثم اصطفيت فيه النفاق والكفر.» ثم قال: «جيئوا بحداد.» فقال: «أعز الله القاضي! ليفك عني أو ليزيدني؟» فقال: «بل ليفك عنك.»
فجيء بالحداد فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ ويطيل أمره قليلا، ففعل؛ فلطمه الجاحظ وقال: «اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي وليس بجذع ولا ساجة.»
3
فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال القاضي: «أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه.» ثم قال: «يا غلام صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى، واحمل إليه تخت
4
ثياب وطويلة
5
وخفا.» فلبس ذلك ثم أتاه فتصدر في مجلسه. ثم أقبل عليه القاضي وقال: «هات الآن حديثك يا أبا عثمان!»
وانقطع الجاحظ إلى ابن أبي دؤاد سنة كاملة، وقدم له كتاب البيان والتبيين فأجازه عليه بخمسة آلاف دينار. ولما فلج القاضي وخلفه في القضاء ابنه أبو الوليد، لزمه الجاحظ حتى غضب عليه المتوكل لكثرة شاكيه، فأمر به، فصرف عن القضاء، وصودر على أمواله، وذلك سنة 237ه/851م.
واتصل الجاحظ بالفتح بن خاقان وزير المتوكل، وقدم له كتبه، منها كتاب في مناقب الترك وعامة جند الخلافة، وكانت بينهما مودة ومراسلات.
ولطالما أثنى الفتح على الجاحظ عند المتوكل وأخذ له الجوائز والمشاهرات. ولكن دمامة أبي عثمان حالت بينه وبين الخليفة، فلم يقرب مكانه. حدث الجاحظ عن نفسه قال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.»
موته
أجمعت الروايات على أن الجاحظ أصيب بالفالج والنقرس
6
في أواخر حياته، فانتقل إلى البصرة في خلافة المتوكل وربما في السنة التي قتل فيها.
7
ويروون لعلته خبرا لا ينبغي التعويل عليه، وهو أنه كان على مائدة أحمد بن أبي دؤاد فأكل مضيرة
8
وسمكا ففلج ونقرس من ليلته لجمعه بين السمك واللبن.
ونرى أن الجاحظ كان يشكو علته في عهد ابن الزيات، وقبل أن يتصل بأحمد بن أبي دؤاد؛ لأنه أشار إليها في كتاب الحيوان، واعتذر بها إلى نقاده. قال: «وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب.» فهذه العلة التي يذكرها ولا يسميها رافقته وهو ابن سبعين وكان لم يزل متصلا بابن الزيات. ولكننا لا نقطع بأنها هي الفالج؛ لأن الجاحظ أصيب بالنقرس أيضا. وكان به حصاة لا ينسرح له البول معها، فقد تكون هذه العلة الحصاة، وقد تكون أعراضا من ألم النقرس، أو خدر الفالج. على أنه لم يقعده المرض إلا بعد أن نيف على الثمانين. فمكث مدة في سر من رأى ثم انتقل إلى البصرة فأقام فيها حتى مات.
صفاته وأخلاقه
كان الجاحظ مشوه الوجه جهما، ناتئ العينين، قصير القامة، لا تنفتح العين على أبشع منه منظرا. وكان إلى ذلك خفيف الروح، حسن المعاشرة، ظريف الحديث، طيب النكتة، مطبوعا على السخر والتهكم. وليس سخره بالجارح الحاد، وإنما هو لطيف ناعم، مصور لنفسه المرحة التواقة إلى الدعابة. ولطالما التمس الجاحظ النكتة وأوردها ولو كانت على نفسه، وأخباره في ذلك كثيرة، قال: «أتيت منزل صديق لي، فطرقت الباب، فخرجت إلي جارية سندية. فقلت لها: «قولي لسيدك: الجاحظ بالباب.» فقالت: «الجاحد بالباب؟» على لغتها، فقلت: «لا، قولي: الحدقي بالباب .» فقالت: «أقول الحلقي؟»
9
فقلت: «لا تقولي شيئا.» ورجعت.» وقال: «أتاني بعض الثقلاء فقال: «سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها.» فقلت: «نعم.» فقال: «إذا قال لي شخص: «يا ... يا ثقيل الروح» أي شيء أقول له؟» قلت: «قل له صدقت.»
وكان شديد الذكاء حسن الفراسة، محبا للتكسب، ولا يعتد بما يأخذ به الناس أنفسهم وينتحلونه من الرسوم والعادات، وأنواع العصبية المذهبية، فقد دافع عن العرب، ورد على الشعوبية في كتابه البيان والتبيين. ولكنه لم يبخس الأعاجم حقهم في كثير من كتبه، وقد يتخذ من ذلك سبيلا للتكسب، فإنه قدم البيان والتبيين إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد وهو عربي صريح، فتقرب إليه وتكسب منه بدفاعه عن العرب. وقدم كتابه في مناقب الأتراك إلى الفتح بن خاقان وهو تركي الأصل فحظي به عنده.
وكان يحب اللهو والمجانة وسماع القيان والمغنين، وتطيب له معاشرة الإماء والجواري؛ فتسرى بهن واستمتع، ولم يتزوج، ولم يرزق ولدا.
وإذا علمت أن الجاحظ من علماء الكلام ومن شيوخ الاعتزال، وصاحب الفرقة الجاحظية، وأمير من أمراء البيان، لم تعجب أن ترى له حسادا يبالغون في انتقاده، ويتهمونه بالزندقة.
زندقته
كان الجاحظ حر التفكير كغيره من أصحاب الاعتزال، يعتمد على العقل، ويتخذه إماما في تفسير الشرع وتأويله. ولا يطمئن إلى الحديث لكثرة ما فيه من المصنوع، فرد كثيرا من الأحاديث واتهمها. وحمل على علماء التفسير، من سنيين، وصوفيين، وغالية، فأنكر عليهم أقوالهم وجهلهم، وسخر منهم وأسرف في السخرية. وفي كتاب الحيوان مقالات كثيرة يناظرهم بها في غير رفق ولا هوادة، فمن ذلك قوله: «وقال الله عز وجل:
والتين والزيتون
فزعم زيد بن أسلم أن التين دمشق والزيتون فلسطين ... والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلف من الحروف، وإنما يريد النعم والأعاجيب والصلاة وما أشبه ذلك.» وقال أيضا: «وفي القرآن قول الله عز وجل:
وأوحى ربك إلى النحل ...
فقد زعم ابن حائك وناس من جهال الصوفية أن في النحل أنبياء لقوله عز وجل:
وإذ أوحيت إلى الحواريين
وما خالف أن يكون في النحل أنبياء، بل يجب أن تكون النحل كلها أنبياء، لقوله على المخرج العام:
وأوحى ربك إلى النحل
ولم يخص الأمهات والملوك واليعاسيب
10
بل أطلق القول إطلاقا.» وقال أيضا: «وزعم بعض المفسرين وأصحاب الأخبار أن أهل سفينة نوح كانوا تأذوا بالفأر، فعطس الأسد عطسة، فرمى من منخريه بزوج سنانير، فلذلك السنور أشبه شيء بالأسد. وسلح الفيل زوج خنازير، فلذلك الخنزير أشبه شيء بالفيل. قال كيسان: فينبغي أن يكون ذلك السنور آدم السنانير وتلك السنورة حواءها. وضحك القوم.»
وهذه الشواهد كافية للدلالة على تهكم الجاحظ برجال الدين من غير المعتزلة، وتسفيهه أقوالهم، فلا بدع أن ينقموا عليه، ويتتبعوا هفواته، ويرموه بكل نقيصة ومعرة؛ فقد اتهموه بدينه، وقالوا إنه زنديق، واتهموه بصنع الحديث، والتهاون بالصلاة، ووضعوا عليه روايات لا محل لذكرها، على أننا وإن كنا نعتقد أن الجاحظ ليس من أولئك المتشددين في أمر الدين، ولا من الذين يؤمنون بأحكامه دون أن يحتكموا إلى عقولهم، لنأبى أن نجاري من يرمونه بالزندقة والإلحاد، فليس في كتبه ما يدلنا على كفره، وإنما هي مشبعة بالعاطفة الدينية، لا يفتأ يتحدث فيها بقدرة الله وحكمته في خلقه. وقلما روى خبرا إلا ذكر الله وأثنى عليه. وإذا تكلم على منافع الكتب فضل كتب الله على غيرها. وإذا ذكر الفصاحة لا يجد أفصح من النبي محمد، فمن كان هذا شأنه فما هو بزنديق وإنما هو مفكر حر التفكير يشك في موضع الشك، ويؤمن في موضع الإيمان. وكان له من روح عصره وأحوال بيئته ما يفسح له في مجال الشك والسخر؛ فشك وسخر، ولكنه لم يسقط في الكفر والجحود. وليس التهاون بالصلاة ضربا من الكفر إذا صح أن الجاحظ كان لا يقيمها في أوقاتها. ولم يقم دليل قاطع على وضعه للأحاديث، وهبه وضع - تماجنا أو مداعبة أو نكاية - شيئا منها فما يؤثم به لأنه كان يتهم الأحاديث، ولا يثق بها، وقبله أبو حنيفة لم يعتد بالحديث، فالجاحظ مستهزئ ساخر، معتزلي يعتمد على العقل، ولكنه ليس بزنديق.
أستاذوه وعلومه
رغب الجاحظ في العلم وهو حدث، فكان يذهب إلى الكتاب في البصرة مع ما هو فيه من خصاصة، ثم عمد إلى دكاكين الوراقين يكتريها ويبيت فيها للنظر، ولم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته، ثم اتصل بشيوخ العلم وأئمة الأدب فأخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي الحسن الأخفش. وتخرج في الكلام والاعتزال على أبي إسحاق النظام. وكان يشهد المربد، ويسمع اللغة من الأعراب شفاها.
وحدث عن جماعة من الفقهاء كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ويزيد بن هارون، والسري بن عبدويه. وروى عنه المبرد، ويموت بن المزرع،
11
وأبو بكر السجستاني وسواهم.
ويرى بعضهم أنه تعلم الفارسية وأتقنها، ويستدلون على ذلك بكثرة ما ورد من ألفاظها في كتبه. ولكن لا يصح الاطمئنان إلى هذا الرأي؛ لأن لغة الفرس كانت شائعة في عصر الجاحظ لانتشار أهلها في العراق؛ فقد يكون التقط ألفاظا منها واستعملها في كتبه تملحا وتظرفا، دون أن يعنى بدراستها وإتقانها.
ولم يدع الجاحظ علما معروفا في أيامه إلا نظر فيه، واطلع عليه؛ فقد درس الفلسفة والمنطق والطبيعيات والرياضيات والتاريخ والسياسة والأخلاق والفراسة، فاكتملت آلته؛ فإذا هو فقيه متكلم يتفلسف ويتمنطق، محدث وإن لم يؤمن بالحديث، بارع في الأدب واللغة، راوية للأخبار والأشعار، بحاثة عن الحيوان والنبات، نقاد للأخلاق والعادات، عالم بالفلك والموسيقى والغناء.
الجاحظية
أثر إبراهيم النظام في أفكار تلميذه أكثر من أستاذيه الباقين، فقد لقنه علم الكلام، وصار به إلى الاعتزال، وعوده حرية التفكير، ولكن الجاحظ لم يلبث أن انفرد عنه بمقالة قامت عليها فرقته الجاحظية. ولم يبلغ إلينا من آرائه في مذهبه هذا إلا ما أورده الشهرستاني في الملل والنحل، والبغدادي في الفرق بين الفرق. ومنه نعلم أن أبا عثمان جارى المعتزلة في أشياء فقال مثلهم بنفي الصفات عن الله، وإثبات مذهب القدرية. وقال بخلق القرآن كما خلق الرجل والمرأة والحيوان،
12
وانفرد عنهم بمسائل منها قوله بأن المعارف ضرورية مركبة في طباع العباد وليست من أفعالهم وليس للعباد كسب سوى الإرادة ؛ لأنها جنس من الأعراض. وأما الأفعال فجبرية تحصل من العباد طباعا. ومنها أن أهل النار لا يخلدون فيها عذابا بل يصيرون إلى طبيعة النار، وأن الله لا يدخل أحدا في النار، بل إن النار تجذب أهلها إليها.
ورويت له أقوال غير هذه لا نرى فائدة من ذكرها. ومذهب الجاحظ كما يقول الشهرستاني هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أنه يميل إلى الطبيعيين أكثر منه إلى الأهليين.
آثاره
خلف الجاحظ مؤلفات كثيرة جعلها بعضهم ثلاثمائة وستين كتابا، وهي دون ذلك فيما نعلم؛ لأنه أضيف إلى الجاحظ كتب ليست له. وذكرت كتب تكرارا بأسماء مختلفة. على أنه مهما يكن من شيء فإن آثار الجاحظ في غاية الخصب، ونظرة إلى ما أثبت منها في مقدمة الحيوان، ومعجم الأدباء، تطلعنا على طائفة جليلة، تربو على المائة بين مؤلف كبير ورسالة صغيرة. وفيها عالج مختلف الأغراض والموضوعات فكتب في الأدب والشعر والديانات والعقائد والإمامة والنبوة والمذاهب الفلسفية. وبحث السياسة والاقتصاد وتحصين الأموال، وغش الصناعات، والأخلاق وطبائع الأشياء، وحيل اللصوص وحيل المكدين وذوي العاهات كالحول والعور والعرجان والبرصان. وتكلم على العصبية وتأثير البيئة فكتب في القحطانية والعدنانية والصرحاء والهجناء، والسودان والحمران، والرجال والنساء وفي أي موضع يغلبن ويفضلن، وفي أي موضع يكن المغلوبات والمفضولات. ونظر في العلوم التاريخية والجغرافية والطبيعية والرياضية فكتب في المدن والأمصار والمعادن وجواهر الأرض، والكيمياء والنبات والحيوان والطب والفلك والموسيقى والغناء، والقيان والمغنين. وكتب في الجواري والغلمان والعشق والنساء، والنرد والشطرنج، وغير ذلك مما يتناول الحياة الاجتماعية والأدبية والعلمية في عصره وقبل عصره.
وكان في أول أمره ينحل كتبه البلغاء المشهورين كعبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، فيقبل عليها الناس، ويتسارعون إلى نسخها لا لشيء إلا لأنها منسوبة إلى كتاب معروفين. وربما كتب أفضل منها ونسبه إلى نفسه فلم يجد عليه إقبالا. وما زال هذا دأبه حتى بعد صيته فأصبح لا يضع رسالة إلا تلقفتها الأيدي وتناسختها، وطارت في الأمصار فحفظوها واستظهروها. وربما أرسلوا المنادين إلى مكة في مواسم الحج، يسألون الحجيج عن كتاب له طلبوه ولم يجدوه.
وأفاد الجاحظ بكتبه ثروة حسنة طاب بها عيشه، فقد قدم الحيوان إلى ابن الزيات فأعطاه خمسة آلاف دينار، وقدم البيان والتبيين إلى ابن أبي دؤاد فأعطاه خمسة آلاف دينار، وقدم كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاه خمسة آلاف دينار. وكانت له وظائف يتقاضاها مشاهرة في وزارة الفتح بن خاقان، عدا ما نال من الجوائز والصلات في مختلف الأحوال.
ولما مات راح بعض الكتاب المغمورين يضيفون إليه كتبهم لتشتهر، كما فعل هو في أول عهده بالكتابة، فنحلوه كتبا كثيرة ليس له يد فيها، ولا هي من نفسه وأسلوبه.
وروي للجاحظ شعر في المدح والهجاء وغير ذلك، ولكن شعره لا يعتد به؛ لأن أبا عثمان خلق كاتبا لا شاعرا. ومنزلته قائمة على طرائف مصنفاته، وبلاغة إنشائه. (2-2) ميزته
تتجلى ميزة الجاحظ في كل كتاب أو رسالة صنفه، وهو كثير كما رأيت، فهيهات أن يتاح لنا دراسة آثاره كلها في هذا البحث. وإنما نجتزئ بكتابين من أشهرها وهما الحيوان والبخلاء. وربما رجعنا في بعض الأحوال إلى البيان والتبيين وسواه استتماما لميزة الكاتب العبقري في مختلف شئونه وأغراضه.
كتاب الحيوان: أغراضه
جعل الجاحظ هذا الكتاب في سبعة أجزاء؛ فالجزء الأول صدره بمقدمة ممتعة يرد فيها على شخص انتقد كتبه، وعاب عليه مباحثه. ويذكر في هذه المقدمة طائفة جليلة من مصنفاته التي تصدى لها المنتقد. ثم ينتقل إلى مدح الكتب، وذكر فوائدها والترغيب في اصطناعها. ثم يتكلم على الخصاء وأحواله ومنافعه ومساوئه، ثم على الكلب والديك وما قيل فيهما من ذم ومدح.
والجزء الثاني يتضمن تتمة الكلام على الكلب واحتجاج صاحبه له.
والجزء الثالث يذكر فيه الحمام وما وصف به من كرم الطبائع ثم من لؤمها، ويتخلل ذلك استطرادات إلى صدق الظن والفراسة والجنون، ثم ينتقل إلى الكلام على الذبان والغربان والجعلان
13
والخنافس، والهدهد
14
والرخم
15
والخفاش.
16
والجزء الرابع يتكلم فيه على الذرة والنمل والقرد والخنزير والحيات والظليم،
17
ثم على النيران وأجناسها ومواضعها، وما يضاف منها إلى العجم ، وما يضاف منها إلى العرب. ونيران الديانات وغير الديانات ومن عظمها، ومن استهان بها، ومن أفرط في تعظيمها حتى عبدها.
والجزء الخامس يستتم فيه الكلام على النار، ثم يشرع في تفسير بعض الآيات، ثم يرجع إلى ذكر النار فيتكلم على جمرات العرب، ثم يفرد بابا يذكر فيه ما قيل من مديح في النصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار الناس. وهو في جميع ذلك لا يبحث الحيوان حتى ينتقل إلى القول في أجناس الطير التي تألف دور الناس، والقول في الفأر والجرذان والسنانير، والعقرب والصؤاب والبق وما أشبه ، ثم في العنكبوت والنحل والقراد
18
والحبارى
19
والضأن والماعز والضفدع، ثم في الفرق بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسبع، ثم في القطا. ويختم الكتاب بنوادر وأشعار وأحاديث.
والجزء السادس يبدأ فيه بذكر الأبواب التي تكلم عليها، ثم يوطئ للأبواب التي يريد الكلام فيها. ويستهل القول في الضب، ثم يفسر قصيدة البهراني في الحيوان، ثم يبحث في الغيلان والجان، ثم يورد قصيدتين في الحيوان لبشر بن المعتمر ويفسر الأولى منهما، وينتقل إلى الهدهد والظبي والتمساح والأرنب والظربان.
20
ثم يورد أشعارا في أخلاط من السباع والوحش والحشرات. ثم يفسر قصيدة بشر بن المعتمر الثانية. وينتقل إلى ذكر الثأر عند العرب، وذكر الجبان ووهله. ثم يتكلم على الورل
21
وتسلطه على الحية، ثم على القنافذ والفهد،
22
ويختم بنوادر وأشعار وأحاديث.
والجزء السابع، أصغر الأجزاء، يبحث فيه عما عرفت به الحيوانات من الحكمة العجيبة، والأحاسيس الدقيقة، والصفة اللطيفة، وما ألهمها الله من المعرفة، وكساها من الجبن والجرأة، وأشعرها من الفطنة بما تحاذر به عدوها. ويستدل بذلك كله على حسن صنع الله، وجلال أحكامه وتدابيره. ثم ينتقل إلى القول في الفيل، ثم في ذوات الأظلاف
23
فيتكلم على الزرافة وغيرها من الحيوانات. وعند ذلك ينتهي الكتاب.
وهذا الكتاب مستمد من عدة مراجع: منها أشعار العرب وأخبارهم وأمثالهم، ومنها القرآن والحديث، وما بلغ إليه علم الجاحظ بالتوراة والإنجيل، ومنها كتب العلوم المنقولة، ولا سيما كتب أرسطو وأقواله في الحيوان وما أضيف إليه فيه من أقوال، ومنها ما أخذه الجاحظ شفاها من أفواه من كان يحدثهم من أصحاب المهن والحرف وغيرهم، ومنها ما كان نتيجة رحلاته واختباراته.
وقد رأيت أن الجاحظ لم يقصر مباحثه على الحيوان، بل أحاط بالنواحي الأدبية والدينية والاجتماعية والخلقية؛ ففي هذا الكتاب شعر كثير، وأخبار ونوادر، وفحش ومجون. وفيه آيات وأحاديث، وحكم وأمثال. وفيه أقوال في الديانات والعبادات. وفيه أساطير وخرافات، وتقاليد وعادات.
والجاحظ كما علمت يعتمد على العقل في مباحثه شأن أصحابه المعتزلة. وقد اتخذ عقله دليلا في كتاب الحيوان، فإذا هو يدقق ويمحص، ويختبر الأشياء بنفسه، أو يسأل عنها أهل المعرفة وأصحاب الاختصاص.
وإذا اعتمد صاحب التفكير على العقل فلا يخلص في الغالب من الشك. وهكذا شك الجاحظ في ما رأى وسمع وقرأ؛ فكان يشك في أقوال أرسطو إذا لم يقبلها عقله، كما كان يشك في أقوال الرواة والمحدثين. وتراه يزين الشك ويوصي به فيقول: «وبعد، فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له.»
وجنوحه إلى الشك جعله يقف عند كل رواية ليحكم فيها عقله، فمرة يرفضها، ومرة يقبلها، ومرة يبهت دونها بين الرفض والقبول. وبهته عائد على عجزه عن أدراك الحقيقة.
وإذا اتهم أرسطو ورفض قوله شد عليه وضعف امتحاناته، ورماه بقوارص الكلام. ويسميه تارة باسمه وتارة صاحب المنطق، فمن ذلك قوله: «وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء.»
ويشدد النكير على الخرافات الشائعة، والأساطير المتداولة، ويسخر منها وينفيها. وإذا اطمأن إلى الرواية علل سبب ارتياحه إليها فيقول مثلا: «وقد زعم صاحب المنطق أن ولد الفيل يخرج من بطن أمه نابت الأسنان، لطول مكثه في بطنها. وهذا جائز في ولد الفيل غير منكر؛ لأن جماعة نساء معروفات الآباء والأبناء قد ولدن أولادهن ولهم أسنان نابتة.»
وربما اطمأن إلى رواية غريبة فقبلها على علاتها مكتفيا بإبداء تعجبه كما في كلامه على الأفعى التي عضت الناقة ، وفصيلها يرتضع منها، فمات الفصيل قبل أمه.
وكثيرا ما يلجأ إلى الاختبار في بحثه، فيتتبع الأشياء بنفسه، ويدقق في السؤال عنها. وقد يعمد إلى الحيوانات فيقتلها أو يرضخ بيضها ليفحص باطنها، أو يدفنها حية ليراقب حركاتها، أو يجمع بعضها إلى بعض في إناء واحد ليشاهد تآلفها وتخاصمها.
وربما جرت له مناظرات مع نبلاء الأطباء في عصره كسلمويه، وابن ماسويه، وبختيشوع بن جبريل، كمناظرته لهم في عمل سم الأفعى.
وقد تجد له أقوالا لا يقرها العلم الحديث ولا تقوم على الاختبارات الفنية كقوله إن الذبان يتولد مرة من تعفن الأجسام والفساد الحادث في الأجرام
24
والباقلاء
25
إذا عتق، فلا حرج عليه في ذلك فإنما هو يعرض علينا علوم عصره لا علوم العصر الذي نحن فيه.
ويعجبك كلامه على البلدان وتأثير الهواء في أهلها، وما اشتهر من أمراضها وحشراتها، كقوله في حمى الأهواز وضعف نسلها، وشحوب لونهم.
ويقوده الكلام على الحيوان وأضراره ومنافعه إلى بحث فلسفة الخلق وضرورة وجود الخير والشر واللذة والألم في الحياة.
والجاحظ في هذا البحث يريد أن يظهر قدرة الله وحكمته في خلقه، وأنه خلق كل شيء نافعا وإن يكن فيه الأذاة والضرر. وإظهار قدرة الله وحكمته هو الغاية التي يتطلبها الكاتب في جميع مباحث هذا الكتاب، فإنه لا يورد مثلا، ولا يقص خبرا، ولا يبدي درسا إلا استخلص منه عبرة يردها على قدرة الله وحسن صنعه في خلقه.
فكتاب الحيوان كما رأيت، فيه أدب كثير، وفيه علم غير يسير، وإذا غلبت عليه الصبغة الأدبية فمن الغبن أن نبخسه حقه من العلم، فإن فيه من الاستقراءات والاختبارات ما لا تجده إلا في مصنفات العلماء والمفكرين.
البخلاء: أغراضه
هذا كتاب جعله الجاحظ في جزء واحد، صور فيه أخلاق البخلاء وطرقهم في الحرص والاقتصاد، وصدره بمقدمة خاطب فيها شخصا طلب إليه أن يذكر له البخل ونوادر أصحابه، فأجاب طلبه، ووضع له هذا الكتاب. وأوله رسالة من سهل بن هارون إلى بني عمه، وقد ذموا مذهبه في البخل، فدافع عنه واحتج له ، وذكر منافعه، وما قيل في تحسين الحرص وذم السرف. حتى إذا انتهت الرسالة أخذ الجاحظ في سرد قصص البخلاء، وأكثرهم من أهل البصرة وخصوصا أهل مسجدها وفيهم من أهل خراسان، ويتخلل هذه الأقاصيص حيل البخلاء في الحرص والاقتصاد وجمع المال، ودفع الضيوف، ومناظرات كثيرة بين السخي والشحيح. ولا يتحرج الكاتب من فضح أصدقائه المبخلين وذكر نوادرهم، وفيهم طبقة من الأدباء والعلماء. ويختم هذه الأقاصيص بإيراد رسالة من أبي العاص بن عبد الوهاب إلى الثقفي يذم فيها البخل ويمدح الجود. ويتعرض لرجل يعرف بابن التوأم، فيعده في البخلاء. فلما بلغت الرسالة ابن التوأم كره أن يجيب أبا العاص لما في ذلك من المنافسة، وخاف أن يترقى الأمر أكثر من ذلك، وكأنه خشي أن يؤثر كلام أبي العاص في نفس الثقفي فيصرفه عن البخل، فبادر إليه برسالة فند فيها أقوال أبي العاص، ومدح البخل، وزين جمع المال.
ثم يعود الجاحظ إلى أخبار البخلاء فيروي نوادر عن بخل الأصمعي، ثم ينتقل إلى أسماء المآدب عند العرب، فيبين اختصاص كل اسم بمعناه كالخرس يتخذ للطعام صبيحة الولادة، والإعذار طعام الختان.
ويقوده الكلام على المآدب إلى التحدث بجوع العرب وعطشهم، وشظفهم وفقرهم، ثم يستطرد إلى شبعهم وخصبهم وضيافاتهم، وقدرهم وصفاتها عند الشعراء من مدح وذم، ويعدد طعام الأعراب من طيب ورديء. ويروي أشعارا هجيت بها أقوام لاشتهارهم ببعض الأكلات، ثم يذكر الكلاب ونبحها في الليل لاستجلاب الضيوف، ونبحها في وجه الضيف لدفعه، ويروي ما قيل من الشعر في هذا وذاك. ويختم الكتاب بالكلام على النيران التي كان يوقدها العرب في الأماكن المرتفعة ليهتدي بها الضيفان، ويروي ما قيل في ذلك من الشعر.
فالكتاب كما يتبين لا يقتصر على أخبار البخلاء، وإنما هو كسائر كتب الجاحظ حافل بمختلف الأغراض مصطبغ بالأدب من جميع جهاته. ولكن فوائده جمة في تدبير المنزل وعلم الاقتصاد، وإن تكن أقاصيصه مصروفة إلى ناحية الشح والجشع.
وفي الكتاب من الفوائد التاريخية ما لا يقل شأنا عن الفوائد الاقتصادية، فإنه يطلعنا على أنواع الملابس والأطعمة عند الأعراب، وأحوالهم في الشدة والرخاء، فبينما كان بعضهم يأكل نحاتة القرون والأظلاف، والدقيق المختلط بالشعر، والقردان المعجونة بالدم وغير ذلك من خبيث الطعام، كان البعض الآخر، وهم المترفون، يأكلون الطيب من اللحوم، والتمر، واللبن، والفاكهة، والفالوذق.
26
ويطلعنا على كثير من عاداتهم في الضيافة وإيقاد النار لها. وعلى خرافاتهم واعتقاداتهم الباطلة، ومنها ما كان في عصره كاعتقادهم العين المالحة، وهي التي تعرف بالعين الشريرة.
ويطلعنا أيضا على منزلة الأعاجم في عصره، ولا سيما الأطباء، فإن الناس كانوا لا يرون خيرا في الطب إلا في ما جاءهم عن نصراني عجمي. ومن ذلك خبره عن أسد بن جاني الطبيب العربي المسلم.
فالجاحظ كما ترى يصور أحوال عصره في كل كتاب يصنفه، ويطالعك بكل حديث طريف، ونادرة ظريفة، فيفيدك ويلهيك في وقت واحد. ويمتاز البخلاء في أن أشخاصه على شحهم وخساستهم لا يطبعون في النفس صورا كدرة تنفر منها؛ لأن الجاحظ ألقى عليهم من خفة روحه ظلا لطيفا فحسنهم في العين، وحببهم إلى القلب، فهم من طياب البخلاء كما ينعتهم أو ينعت بعضهم. والكتاب كله يجري على هذا النمط من تصوير للأخلاق والعادات، وأخبار في الحرص والاقتصاد، وأدب كثير ونوادر وأشعار.
أسلوبه الإنشائي
للجاحظ أسلوب لا تخطئه، سواء وقعت عليه في كتاب صنفه، أو في رسالة دبجها. ولهذا الأسلوب ميزات متعددة، منها أن الكاتب يستهله بالبسملة، ويردفها على الغالب بالحمدلة والتعوذ كما فعل في البيان والتبيين، أو بمقدمة دعائية يخاطب بها شخصا لا يسميه، كقوله في الحيوان: «جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة ...» وقوله في البخلاء: «تولاك الله بحفظه، وأعانك على شكره ...» والدعاء من لزوميات الجاحظ يكثر منه في جمل اعتراضية إما تملحا وتظرفا، وإما تلطفا وتحببا، وإما سخرا وتهكما، وهذا أظرف الأدعية عنده وألذها وقعا؛ كقوله على لسان صاحب له: «فكيف عقل العجوز حفظها الله!»
والسخر عند الجاحظ طبيعي لا يتكلفه تكلفا، فالنكتة أبدا على أسلة لسانه، والتهكم حشو ألفاظه؛ فلذلك كثر هزله في مواضع الجد، فبينا يكون في بحث علمي رصين لا يلبث أن يفاجئك بالنادرة الظريفة فيضحكك ويزيل سأمك. وقلما خلا كتاب له من المضاحك والمهازل، فهو من أولئك الناس الذين يرون الدنيا ضاحكة إذا ضحكوا لها. وكان يعتذر من خروجه إلى المزح بعد الجد بقوله: «وإن كنا قد أمللناك بالجد، وبالاحتجاجات الصحيحة الممزوجة لتكثر الخواطر وتشحذ العقول، فأستنشطك ببعض البطالات وبذكر العلل الظريفة، والاحتجاجات الغريبة.»
وتهكم الجاحظ لطيف ناعم، وربما جاء به ذما في قالب المدح دون أن يتبغض فيه. وهو كثير السخر بالخرافات والحماقات والأحاديث الكاذبة. وكتابا الحيوان والبخلاء حافلان بسخره وتندره .
ويمتاز أسلوبه في الاستطرادات الكثيرة فما يمسك غرضا إلا تجاوزه إلى آخر بدافع من شعر أو حديث أو آية، أو غير ذلك يستشهد به ويقف عنده فيخرجه عن موضوعه إلى أغراض مختلفة حتى يتيه بقارئه. ثم يرجع به إلى الحديث الذي خرج عنه بعد أن ينسيه إياه. وقد يطول استطراده فيستغرق عدة صفحات، وقد يقصر فما يجاوز بضعة أسطر، ويرى الجاحظ لنفسه في ذلك عذرا فيقول: «وعلى أني قد عزمت - والله الموفق - أن أوشح هذا الكتاب، وأفصل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث؛ ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها.»
ومن ميزاته التكرير والمرادفة والإسهاب، ويعود ذلك على قصده إلى تبليغ المعنى وإيضاحه، وإبراز الموصوف وتصويره، ثم على تطرابه لموسيقى ألفاظه، ووقعها في مسامعه.
وتصوير الموصوف من أبرز خصائص الجاحظ، فإنه كثير العناية بمراقبة الأشياء التي يصفها فما يهمل موضعا يتعلق به غرضه إلا جعل له صورة حتى يبرز موصوفه على الشكل الذي يراه، ومن الناحية التي يريد أن يظهره فيها. ويستعين على ذلك بتعابيره الخاصة فيكرر ويرادف، ويبدئ ويعيد، إلى أن تتم له الصورة التي يريد.
وهو كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث والأشعار والأمثال؛ مما يدل على سعة اطلاعه وفرة روايته، ولكنه كغيره من المتقدمين لا يتحرج من إيراد الأشعار الفاحشة، والنوادر المتعهرة. وكان يرى أن الشيء إذا وقع في محله فلا سبيل إلى استنكاره، ويسخر من الذين يتأبون ذلك ويستكرهونه، ويقول فيهم: «وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم، والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع.» والجاحظ في رأيه هذا ينطق بلسان السواد الأعظم من أهل عصره، فإن أدبهم كان في كثرته ماجنا متهتكا خليعا.
وشيء آخر يميز أسلوب الجاحظ، وهو الجمع بين الأضداد، ولا يقتصر ذلك على كتبه المتناقضة في أغراضها، وإنما يكون في كتاب واحد ككتاب البخلاء مثلا، فإنه يحتج مرة للسخي، ويحتج مرة للبخيل. وليست رسالة أبي العاص إلى الثقفي في ذم البخل، ورد ابن التوأم واحتجاجه للبخلاء إلا خاصة يمتاز بها الجاحظ في أسلوبه الجدلي، فهو عالم بالكلام تلذ له المناظرات، وأغلب ظننا أن الرسالتين من وضعه؛ لأن فيهما روحه ونفسه وطرقه في التأليف والتعبير.
وإنشاء الجاحظ يسيل طبعا ورقة، بعيد من التكلف لا يلتزم له سجعا، ولا يتعمد استعارة أو تشبيها، وقلما نمق إلا في بعض رسائله ومقدمات كتبه، فهو أبعد الكتاب من المجاز والتزيين، لا يعنى إلا بإيضاح المعنى في اللفظ السهل الفصيح.
وقد يصطنع التشبيه والاستعارة إذا اقتضتهما البلاغة، وتشابيهه مادية محسوسة، قريبة المتناول، بارعة التصوير، لا إغراب فيها ولا تركيب، كقوله: «ولربما رأيت الحائط وكأن عليه مسحا
27
شديد السواد من كثرة الذبان.» أو قوله يصف قاضي البصرة: «كأنه بناء بني أو صخرة منصوبة.»
وكان على استبحاره في اللغة، وحرصه على البيان الصحيح، يحمد خطة ربما لا يوافقه عليها جمهور النحاة؛ وهي أنه إذا روى نادرة من نوادر عامة المولدين لا يتكلف لها الإعراب، بل يثبتها بكلام ملحون كما وردت على لسان صاحبها. قال في الحيوان: «إن الإعراب يفسد نوادر المولدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب.» وقال في البخلاء: «وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا، أو كلاما غير معرب، ولفظا معدولا عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الباب، ويخرجه من حده، إلا أن أحكي كلاما من كلام متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه.» وله كلام من هذا الضرب في البيان والتبيين.
وجملة الجاحظ قصيرة على الغالب، رشيقة واضحة المعنى، مفصلة تفصيلا، يقطعها مرة ويرسلها أخرى، وقد تطول إذا تخللها جمل يتطلبها سياق الكلام، فتمتد وتتسع دون أن يعتورها غموض ولا انقطاع لائتلافها مع الجمل المتداخلة فيها، ثم لمشاركتها إياها في التنازع على الغرض الواحد. وهو كغيره من الكتاب المتقدمين يفرط في استعمال فعل القول إذا حدث عن غيره حتى لا تكاد تذهب صفحة إلا وفيها طائفة من قال وما يشتق منه، وربما وردت هذه الأفعال متتابعة متجاورة فيثقل وقعها في السمع، كقوله في البخلاء: قال: «فما قال أبو الفاتك؟» قال: «قال أبو الفاتك.»
وكغيره من المتقدمين لا يسلم إنشاؤه من التباس الضمائر حتى لتضطر أن تستوضح المعنى في شيء من الجهد، ولا تستخلصه إلا إذا نظرت إلى ما قبله، وإلى ما بعده من كلام يدل عليه. ومع ذلك فأسلوبه أوضح الأساليب القديمة، وأكثرها طلاوة، وأحسنها رواء. (2-3) منزلته
قال ابن العميد: «كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا.» وهذا قول حق لا جمجمة فيه؛ لأن الجاحظ في مباحثه العلمية، واعتماده على العقل في تعليلاته واختباراته، كان من قادة التفكير الحر في الإسلام. وما آراؤه في الاعتزال، وأقواله في الحيوان والنبات والأمصار والبلدان وغير ذلك إلا نتاج عقل صحيح، فلا بدع أن تكون غذاء لسواه من العقول.
والجاحظ أكبر أديب عرفته لغة العرب، وتقدم عصره فكانت كتبه هداية للأدباء، وقدوة للمنشئين، يرتضعون لبانها، ويضربون على غرارها. وقد شاقهم فيها ذلك الأدب الخليط وما فيه من جد وعبث، ففتنوا به واتبعوه، فكثر طلابه ومقلدوه، فجاءت كتبهم حافلة بمختلف الموضوعات فيها اختلاط واستطراد وسوء ترتيب. ومنهم من كان يكره الجاحظ كابن قتيبة فإنه - مع تشنيعه عليه لما بينهما من اختلاف في المذهب
28 - لم يسعه إلا السير على خطته في تأليفه، فارتسم مجونه ومضاحيكه في كتابه عيون الأخبار مع أنه كان ينكر عليه ذلك، وقلده في تناول الأغراض المختلفة، وبحث مثله عن الطبائع والأخلاق والحيوان والبخلاء والطعام. ومن تلاميذ الجاحظ أبو العباس المبرد، وابن عبد ربه، وأبو القاسم الآمدي، وكان ابن العميد يسمى الجاحظ الثاني؛ لأنه سلك طريقته في تقصير الجملة وتقطيعها، والإكثار من الشواهد. وتلمذ له القاضي الفاضل وكان يقول: «وأما الجاحظ فما منا معشر الكتاب إلا من دخل داره، أو شن على كلامه الغارة.»
وكان من تأثير كتبه أن خلقت له الأعداء والخصوم، كما خلقت له الأصدقاء والأنصار، فتضاربت فيه الأقوال، فمن مادح يغالي في مدحه، ومن ذام يسرف في ذمه ، ولم يختلف الناس يوما إلا على رجل عظيم.
على أن خصومه لم يتمكنوا من إسقاطه في تحاملهم عليه، فلم تكن مطاعن البغدادي وابن قتيبة والراوندي وسواهم، إلا لترفع قدره. وما منهم واحد استطاع أن ينكر علمه وفضله، ولكنهم هاجموه من ناحية مذهبه، فاتهموه في دينه.
ولا غرو أن يؤثر الجاحظ هذا التأثير فيكثر خصومه، ويكثر مريدوه، فإنه أوتي من الذكاء والعلم قسطا حسنا، ورأى أن الكتب في عصره، منها ما يعتمد على النقل، ومنها ما يعتمد على الرواية حتى كاد لا يكون فيها استنباط، فاختاره واضطلع بعبئه فكان راوية ومخترعا في وقت واحد، ثم رأى أن الكتاب لا يعنون إلا بعلم دخيل، أو بأدب قديم. وقل من نظر منهم إلى عصره، فروى عنه شيئا، فقام يسد هذه الثلمة، وخص عصره بجانب من كتبه، فصور أخلاق أهله وحياتهم، فشغف الناس بكتبه وأقبلوا عليها يطالعونها بلذة. والإنسان يروقه أن يرى ما يصور له البيئة التي يعيش فيها، ويحس إحساسها، ويشعر بشعورها، فكتب الجاحظ لم تكن كلها غريبة عن معاصريه كما كانت كتب ابن المقفع؛ فابن المقفع نقل آداب الفرس والهند واليونان، فأعجب الناس بها؛ لأنهم رأوا فيها شيئا جديدا لا عهد لهم به، ثم لأنها كتبت بلغة بليغة سمحة ملأت صدورهم جلالا، ولكنهم لم يجدوا صلة روحية بينهم وبين هذه الآداب؛ لأنها وضعت لزمان غير زمانهم، ولشعب غير شعبهم، فآثروا عليها كتب الجاحظ، فغلب أسلوبه على أسلوب ابن المقفع. وساعده على ذلك ما فيه من سلاسة وفكاهة وسهولة مساغ؛ فأسلوب ابن المقفع منطقي رصين، متعفف، تؤثره الطبقة الأرستقراطية لتأديب أنجالها، وتحتفل به دور التعليم، وتفضله على غيره. وأما أسلوب الجاحظ، فأسلوب ضاحك هازئ ماجن، ديموقراطي يدخل بين الطبقات كلها. وكما غلبت على ابن المقفع الثقافات العجمية غلبت على الجاحظ الثقافة العربية، فحفلت كتبه بالأشعار والنوادر والآيات والأحاديث والأمثال، غير أنه لم يهمل الثقافات الدخيلة، بل كان لليونانية والفارسية عنده حظ غير قليل.
وملك الجاحظ ناصية البيان فانقادت أوضاع اللغة ذللا بين يديه تؤاتيه في مختلف مباحثه وأغراضه، وأعطي من براعة الكلام، وقوة الاختراع، وحسن التعليل ما جعله يعرض للأشياء الحقيرة فيبني عليها موضوعات جليلة. ولو اعتمد القارئ عناوين كتبه لصدفته عن النظر فيها.
وحسب الجاحظ منزلة أنه أول من جمع علوم عصره، وصور حياة أهله وانتقد أخلاقهم وعاداتهم، وأول من وضع الكتب الطويلة الجامعة، وخلط فيها الهزل بالجد، والمجون بالرصانة، والفحش بالتعفف، والكفر بالإيمان، وكل شيء بضده؛ فهو أبرع كاتب جمع النقيضين، واحتج للنقيضين وذم ومدح النقيضين. وامتاز بالفضول العلمي وحب الاستقراء. وهو إلى ذلك شيخ من شيوخ المعتزلة، وإمام من أيمة المتكلمين، وصاحب الفرقة الجاحظية، وزعيم الأدباء غير مدافع. (3) علوم اللغة (3-1) الصرف والنحو
ظل الخلاف على أشده بين الكوفيين والبصريين، وطمت الشروح والتعليلات فتعقدت المسائل النحوية، وتشعبت طرقها، فلما توالت الفتن على المصرين وامتدت إليهما أيدي الخراب، ولا سيما البصرة بعد أن عاث فيها صاحب الزنج فسادا، أخذ العلماء يهاجرون إلى بغداد، وفيهم أصحاب النحو، فاختلط المذهبان، ونشأ منهما مذهب بغدادي جديد، أشهر أصحابه ابن قتيبة ومن كتبه «أدب الكاتب» وفيه شيء غير قليل من العلل النحوية والصرفية، وابن كيسان، وله كتاب المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون، وكذلك نفطويه والأخفش الأصغر. ومن أفاضل النحاة في هذا العصر: المبرد وثعلب وأبو إسحاق الزجاج وأبو بكر السراج، وأبو سعيد السيرافي وسواهم. (3-2) اللغة
كان كل نحوي من المتقدمين عالما باللغة وكل لغوي عالما بالنحو ، ولكن تغلب على الواحد منهم صفة أكثر من أخرى فيعرف بها. وفي هذا العصر بدأ يتسع نطاق اللغة، وتصنف فيها الكتب المطولة، وكان من علمائها المشهورين أبو العباس المبرد، وله كتاب الكامل في اللغة والنحو والأدب، وأبو حاتم السجستاني وله كتاب «الأضداد»، وأبو الفضل الرياشي، وابن السكيت، وابن دريد وله جمهرة لسان العرب وكتاب الاشتقاق. (4) العلوم الدخيلة (4-1) العلوم الطبيعية
ظل أصحاب الكيمياء يبحثون عن الحجر الفلسفي حتى ظهر لهم بطلانه، والفضل في ذلك لأبي يوسف الفيلسوف الكندي؛ فإنه أول من نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وذم ذلك وبين أنه عبث وتضييع للعمر والمال. وقد أشار ابن الرومي إلى بطلان هذه الكيمياء بقوله: «كالكيمياء التي قالوا ولم تصب.»
وتقدم الطب العربي على أثر انتشار الكتب المنقولة، وإقبال المسلمين على دراستها، واشتهر جلة من الأطباء في مقدمتهم أبو بكر الرازي جالينوس العرب، وله كتاب الحاوي في صناعة الطب. وينسب إليه ابتكارات كيماوية منها زيت الزاج، وهو الحامض الكبريتي، ومنها الكحول.
واشتغل العلماء بالتاريخ الطبيعي، فصنف ابن وحشية الكلداني كتاب الفلاحة النبطية، وقسطا بن لوقا الطبيب النصراني كتاب الفلاحة اليونانية. (4-2) العلوم الرياضية
كان من اشتغال العرب بهذه العلوم أن نهضوا بعلم مساحة المثلثات، وعرفوا طريقته السهلة التي تحول الأعمال الحسابية إلى مثلثات تحل زواياها بواسطة الخيوط والجيوب، والفضل في ذلك لأبي عبد الله البتاني فإنه أول من استبدل الجيوب من أوتار الدائرة في قياس المثلثات. (4-3) العلوم الفلسفية
اقتصرت الفلسفة في العصر السابق على الترجمة، حتى إذا انتشرت الكتب المنقولة وطالعها المفكرون واختمرت بها آراؤهم، شرعوا في التصنيف فظهرت الفلسفة الإسلامية اليونانية وغايتها التوفيق بين الشرع والعقل. ونبغ من المسلمين أبو يوسف يعقوب الكندي، وله فضل في ترجمة كتب أرسطو وتفسيرها، وبسط عويصها، وأبو نصر الفارابي وله كتب كثيرة منها آراء مبادئ المدينة الفاضلة، حذا فيه حذو أفلاطون في جمهوريته، ورسالة السياسة في ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع رؤسائه، ومع أكفائه، ومع من دونه، ومع نفسه. (4-4) التاريخ
كان المؤرخون قبل هذا العصر لا يعنون إلا بالطبقات والفتوح والقبائل والأنساب، فلما تمت السيادة للعجم واسترخت العصبية العربية أمام عصبية البلد كما رأيت في تنافس البصرة والكوفة، اقتصد المؤرخون في تدوين الأنساب واكتفوا من الفتوح بتلخيص حوادثها وضبطها، وعنوا بجمع أخبار الأمم وأحوال البلدان، نبههم على ذلك اطلاعهم على التواريخ المنقولة، وضربهم في الأمصار البعيدة واختلاطهم بشعوبها. واشتهر من المؤرخين البلاذري وله كتاب فتوح البلدان، واليعقوبي وله كتاب البلدان، وكتاب في التاريخ العام يعرف باسمه، ومحمد بن جرير الطبري وله كتاب أخبار الرسل والملوك ويعرف بتاريخ الطبري.
ومما يعاب على هؤلاء المؤرخين أنهم دونوا جميع ما عرفوه من الحوادث والأخبار دون تمحيص أو تعليل، ودونما نظر في الأسباب والمسببات، فشوهوا التاريخ بخرافات وأساطير لا يقبلها العقل فحفلت كتبهم بالمضحكات. واقتصروا على الأحداث المادية كالولادة والوفاة والحرب والفتح والولاية والعزل. ولم يبحثوا عن أحوال الأمم الاقتصادية والاجتماعية، وعن تطور الحضارة وتبدل الأخلاق والأهواء، وغير ذلك مما لا غنية للتاريخ عنه؛ فجاءت كتبهم مجموعات أخبار منسقة إما باعتبار الطبقات، وإما باعتبار السنين، وإما باعتبار الدول، وكلها ضعيفة الفن في تأليفها، خالية من الفلسفة التاريخية، ولكنها المرجع الوحيد للناظر في تاريخ العرب والإسلام. (4-5) الجغرافيا
اشتغل العرب بالجغرافيا قبل أن يطلعوا عليها في الكتب المنقولة، فقد دعتهم الحاجة إلى هذا العلم بعد أن اتسعت الممالك الإسلامية، وتوالت الفتوح، وسيرت البرد بين الخليفة وعماله، فكان حجاج البيت الحرام يدونون أسماء المواضع التي يجوزونها إلى مكة، ورواة الأخبار يهتدون بأشعار العرب إلى الأماكن والدارات في البادية، وأمراء الجيوش، وولاة الأمر يتقصون أحوال البلدان المخضوعة، ويضبطون مواقعها وأقاليمها وسكانها وأديانها وغلاتها لأخذ الجزية والخراج منها. وكان على أصحاب البريد أن يحافظوا على رسائل الخليفة وعماله، ويسلكوا بها الطرق المأمونة، فضبطوا المسالك والمواقف التي كانوا يمرون بها، ودققوا في وصفها وتعريفها، فاجتمع لدى العرب من كل ذلك فوائد جغرافية جمة، ولكن ينقصها حسن التأليف والتبويب، فلما نقلت جغرافية بطليموس ترسمها المصنفون واعتمدوا عليها في وضع كتبهم وتنسيقها، إلا أنهم لم يقتنعوا بما جاء فيها، بل تجشموا الرحلات البعيدة في البر والبحر، وخبروا الأماكن بأنفسهم، فصححوا بعض أوهام بطليموس، واستدركوا ما غاب عنه من العلم مما تمكنوا من الحصول عليه. وأشهر الجغرافيين ابن خرداذبه، وله كتاب المسالك والممالك، وكان يتولى البريد في العراق العجمي، فذكر فيه مسافات الطرق، وأحصى جباية الخراج. واليعقوبي وله كتاب البلدان الذي مر ذكره، فإنه لم يقصره على التاريخ بل تعدى به إلى الجغرافيا فذكر أحوال البلدان وأجناس أهلها، وما بينها من الأبعاد، ومقادير الخراج فيها. وابن رسته وله كتاب الأعلاق النفيسة في تقويم البلدان، وصف فيه البحار والأنهار والأقاليم السبعة. (5) الأدب والأدباء
ما إن تولى صدر الدولة العباسية إلا وقد فرغ الرواة من تلقف الأخبار والأشعار، واعتساف البوادي والقفار، وانصرفوا إلى تدوين ما اجتمع لديهم من أدب يتناقلونه بالرواية والإسناد، فشغف الناس به، وحسن تذوقهم له، فأقبلوا على كتبه يتناسخونها ويقتنونها، فازداد المشتغلون به نشاطا، فأكبوا على التصنيف والتمحيص والنقد. حتى إذا اكتهل العصر الثاني كان الأدباء المصنفون قد كثر عددهم فمهروا اللغة مؤلفات نفيسة، لولاها لضاع من آدابنا شيء جليل.
وخطا النقد الأدبي خطوة إلا تكن واسعة فإن فيها تطورا محسوسا اقتضته نهضة العلوم والفنون، فقد كان لنقل الفلسفة والمنطق أثر بليغ في ترقية الأفكار وتثقيفها، فصار الأدباء يمحصون الشعر والنثر، ويضعون لهما الشروط والقوانين، وإذا وقعوا على قول فلسفي أو منطقي، ردوه على مذهبه، وقدروه على قياسه، فإن استقام لهم المعنى قبلوه وإلا رفضوه. وأصبحوا يحكمون آراءهم في القديم والحديث، فإذا تعصبوا للأول لا يبخسون الثاني حقه. فابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء يختط خطة جديدة في القديم والحديث إذ يقول: «ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا لمتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه.» والمنطق هو الذي هدى ابن قتيبة إلى هذه الخطة، فأراه أن القديم والحديث إضافيان لا حقيقيان، وأن كل حديث سيصبح قديما، وفي ذلك يقول: «ولم يقصر الله الشعر والعلوم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده، وجعل كل قديم منهم حديثا في عصره.»
وفي كتاب أدب الكاتب ينتقد ابن قتيبة صناعة الإنشاء ويبحث ما يحتاج إليه الكاتب من الآداب والعلوم، ويبين أوهام الكتاب ومغالطهم في معاني الألفاظ والاشتقاقات والتراكيب.
وللجاحظ في البيان والتبيين نقد على فن الخطابة يظهر فيه ما يستحسن من الخطيب وما يعاب عليه، ويبحث عن اختلاف لغات العرب، وأوضاعها وفصاحة مفرداتها.
وكان لكتاب البديع الذي وضعه ابن المعتز تأثير في فن الانتقاد، فإن الأدباء بعده أخذوا يتحرون في نقدهم الصور البيانية، ويتفحصون وجوه الاستعارة والتشبيه والطباق وما إلى ذلك. ثم جاء قدامة بن جعفر فصنف كتابه في نقد الشعر، فبين فيه حدود النظم وشروط ائتلاف اللفظ مع المعنى، وتكلم في المجاز والتشبيه، وعرض لعشرين نوعا من البديع توارد مع ابن المعتز في سبعة منها.
فمن ذلك يتضح أن لتقدم العلوم والفنون يدا محمودة في تطور النقد، ولكن الأدباء في وضعهم النظم والقواعد لصناعتي الشعر والنثر أبعدوا الشعراء والكتاب عن طبعهم فأصبح هؤلاء، وخصوصا في أواخر العصر، لا ينظمون ولا ينثرون إلا وهم يتلفتون إلى تلك الشروط والقوانين محاذرة الانتقاد.
هوامش
العصر العباسي الثالث
946-1055م/335-447ه
يبتدئ بقيام الدولة البويهية واستقلالها بالسلطان وينتهي بسقوط بغداد في أيدي السلاجقة.
الفصل السابع
لمحة تاريخية
استقلال الولايات العباسية
تكلمنا في العصر الماضي على أسباب ضعف الخلافة العباسية، وما كان من تجزؤ هيكلها واستقلال ولايتها، ونجتزئ هنا بالكلام على أشهر الدول التي استقلت وكان لها يد بيضاء على العلوم والآداب. (1) الدولة الحمدانية 904-1003م/292-394ه
هي دولة عربية شيعية ينتهي نسبها إلى تغلب بنت وائل. وكان بدء أمرها في خلافة المكتفي عندما ولي الموصل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان. وتداول الحمدانيون إمارة الموصل واحدا بعد واحد، لا يشقون الطاعة على العباسيين إلا عادوا إليهم مستأمنين، حتى أزال ملكهم عضد الدولة بن بويه فتفرقوا في الولايات، فمنهم من دخل في خدمة البويهيين، ومنهم من رحل إلى مصر، وقصد سيف الدولة حلب واستولى عليها، ثم امتلك حمص، ثم سار إلى دمشق فدخلها وأقام فيها، ولكن كافورا الإخشيدي عاد إليها فارتجعها منه.
ونشبت بين سيف الدولة والروم عدة مواقع أبلى فيها بلاء حسنا وردهم مرارا عن حلب فلم يستقروا فيها مدة حياته. ومات سنة 356ه/966م قرير العين بعد جهاد طويل وسلطان امتد نحو ثلاث وعشرين سنة. وملك بعده عقبه حتى انقرضت دولتهم، واستولى الفاطميون على حلب.
واشتهر قصر الحمدانيين بمناصرة العلم والأدب، ولا سيما قصر سيف الدولة، فإن الشعراء الذين كانوا يجتمعون ببابه ، لم يجتمع مثلهم إلا في قصور الخلفاء المتقدمين، وحفلت داره بطائفة من الأطباء والفلاسفة والعلماء؛ فمن شعرائه المتنبي، ومن خطبائه ابن نباتة، ومن فلاسفته الفارابي، ومن علمائه ابن خالويه.
وكان سيف الدولة أديبا نقادا يناظر الشعراء، ويدلهم على سقطاتهم. ونبغ من الحمدانيين شعراء محسنون، أشعرهم أبو فراس. (2) الدولة الفاطمية 909-1171م/297-567ه
اختلف المؤرخون في نسب الفاطميين، فمنهم من نكر واشجتهم بفاطمة بنت النبي، وجعل عروقهم في اليهودية أو النصرانية، ومنهم من أثبتها ولم يلتفت لفت مجرحيها وفي جملتهم ابن خلدون.
ويرجع الفاطميون بأصلهم إلى جعفر الصادق،
1
وهم من الشيعة الباطنية، ينقلون الخلافة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، ثم يسوقونها في عقبه حتى ينتهوا بها إلى أول خليفة فاطمي وهو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب. ويدين الفاطميون بالحلولية، فيقولون بأن الله حل بالمهدي وغيره من الأئمة الاثني عشر. وانتشرت شيعتهم في اليمن والمشرق
2
وأفريقية. ومؤسسها أبو عبيد الله محمد الحبيب، فإنه ابتدأ يبث دعوته سرا. وعادة الشيعة أن تدعو للرضا من آل محمد دون أن تسميه تقية وخوفا عليه. فقصد محمد إلى اليمن ودعا أهلها وبشرهم بقرب ظهور المهدي المنتظر. واتصلت أخباره بالشيعة الذين في العراق فصاروا إليه فكثر جمعهم، ثم أنفذوا دعوتهم إلى المغرب فأذاعها وثبتها أبو عبد الله الشيعي المشهور.
ولما مات محمد الحبيب أوصى لابنه عبيد الله وقال له: «أنت المهدي.» فقام عبيد الله بالأمر، وكان ذلك في خلافة المكتفي، فطلبه الخليفة فهرب إلى مصر ومنها إلى طرابلس الغرب، وجاء سجلماسة فاعتقله عاملها أليسع بن مدرار ملبيا أمر زيادة الله الأغلبي
3
ولكن أبا عبد الله الشيعي ما انفك يجاهد في سبيله بقبائل كتامة حتى فتح له البلاد عنوة، وانتصر على الأغالبة، وامتلك إفريقية؛ ودخل سجلماسة فأنقذ عبيد الله من محبسه. ثم نزلوا برقادة، فبويع عبيد الله البيعة العامة، وقامت به الدولة العبيدية في إفريقية منتسبة إليه.
ولما صارت الخلافة إلى المعز لدين الله الخليفة الرابع سير قائده جوهرا الرومي إلى مصر سنة 358ه/968م فافتتحها. وكان العبيديون قد هاجموها غير مرة وأرجعوا عنها، وقد وفقوا في هذه الكرة لضعف الدولة الإخشيدية.
وأقام جوهر الدعوة للمعز في مصر، وأزال الشعار الأسود العباسي، وألبس الخطباء الثياب البيض، ثم فتح دمشق، وخطب للمعز على منابرها، وبنى مدينة القاهرة شمالي الفسطاط، وتم بناؤها سنة 361ه/971م؛ فجاءها المعز في السنة التالية، وجعلها مقر الخلافة الفاطمية، وأتم بناء الجامع الأزهر، وكان جوهر قد بدأ به. وتعاقب بعد المعز على مصر عشرة خلفاء ثم زال ملكهم بقيام الدولة الأيوبية.
وكان لهم حضارة راقية، فقد أنشئت في عهدهم المدارس والمكاتب، واقتنيت الكتب النفيسة، وبني مرصد جبل المقطم. وقرب الخلفاء الشعراء والعلماء وأحسنوا صلاتهم، فأقبل هؤلاء على مصر، وطابت لهم موردا.
وعني الفاطميون باللغة الفصحى في دواوينهم، فأقاموا عالما بالنحو يراقبها ويصلح ما يقع فيها من اللحن. وتركوا من الآثار العادية ما يشهد بتقدم العمارة في أيامهم.
وعرف بعضهم بالتساهل، وكره التعصب، فإن المعز كان يأذن لأسقف النصارى بأن يناظر القضاة والعلماء في مسائل الدين، وأمر بتجديد بناء الكنيسة القبطية، وشهد بنفسه وضع الحجر الأول فيها. وكان المعز من محسني الشعراء، واشتهر أيضا بالشعر ابنه الأمير تميم. (3) الدولة البويهية 933-1055م/321-447ه
هذه دولة فارسية من أبناء الديلم قام بها إخوة ثلاثة؛ وهم علي والحسن وأحمد ولد أبي شجاع بويه. قيل إن نسبهم يتصل بملوك الفرس. وكان بعض زعماء الديلم خرجوا لامتلاك البلاد بعد أن رأوا ضعف العباسيين، وفيهم: ماكان بن كالي ومرداويج بن زيار، وخرج أبناء بويه في جملة القواد مع ماكان، فلما دب الخلاف بين ماكان ومرداويج، وغلب مرداويج صاحبه على طبرستان وجرجان انضم أبناء بويه إليه فرحب بهم، واستعمل عليا كبيرهم على الكرج، فلم يلبث علي أن استقل بأمره وفتح أصفهان ثم استولى على بلاد فارس كلها. وكانت الخلافة أفضت إلى الراضي فكتب علي إليه وإلى وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة، وأن يقطع ما بيده من أعمال فارس؛ فأجيب إلى طلبه، وبعث إليه باللواء والخلع، فأقطع أخاه الحسن أصفهان، وأخاه أحمد كرمان، واستقر هو بفارس. ثم ولى أحمد العراق ، فأقام هذا بالأهواز.
وحدثت فتن في بغداد سنة 334ه/945م؛ فانتهز أحمد بن بويه الفرصة فاحتلها وأزال سلطة الأتراك عنها.
وكانت الخلافة بيد المستكفي، فعنا لسلطان ابن بويه وضرب السكة باسمه، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه الحسن بركن الدولة، وأخاه عليا بعماد الدولة. ثم استراب معز الدولة بالمستكفي فوثب عليه وسمله، وبايع الفضل بن المقتدر ولقبه المطيع لله. ولما بلغ الحمدانيين ما فعل المعز جاءوا من الموصل لقتاله، فخرج للقائهم، فدخلوا بغداد، فلم يطمئن للمعز بها مضجع إلا سنة 335ه/946م بعد أن استنقذها منهم.
ولم يكن لعماد الدولة أمير فارس ولد ذكر، فتبنى عضد الدولة ابن أخيه ركن الدولة، فاستولى بعده على فارس وأقام بشيراز. ثم مات أبوه ركن الدولة أمير أصفهان فضم مملكته إليه. ثم مات معز الدولة في بغداد وانتقل ملكه إلى ولده بختيار. وكان ضعيفا، سيئ السيرة، قليل الحيلة؛ فسار عضد الدولة إلى بغداد ودخلها سنة 367ه/977م ووحد دولة البويهيين، وخطب له على منابرها، ولم يخطب لأحد قبله غير الخليفة. ثم ملك الموصل من بني حمدان، وعاش مرهوب الجانب، منبسط السلطان، حتى أتاه اليقين، فتوفي ببغداد سنة 372ه/982م.
ولدولة بني بويه فضل كبير على العلم وذويه؛ فإنهم أباحوا حرية التفكير، وشدوا أزر العلماء، فظهرت على عهدهم فلسفة إخوان الصفاء في البصرة وبغداد، ونبغ الشيخ الرئيس ابن سينا. وأفاضوا من سيبهم على الشعراء والكتاب، فضربوا إليهم آباط الإبل من الأمصار البعيدة، وقصدهم أمثال المتنبي وأبي إسحاق الصابئ. وعرف بالشعر جماعة منهم كعضد الدولة وتاج الدولة.
وبلغ بهم حبهم للعلم أنهم لم يستوزروا غير الكتاب والشعراء؛ فركن الدولة استوزر ابن العميد، وابنه مؤيد الدولة استوزر الصاحب بن عباد.
وكان مؤيد الدولة عاملا لأخيه عضد الدولة على الري وهمذان، فلما مات تولى بعده أخوه فخر الدولة فأقر الصاحب في وزارته. وكان وزير معز الدولة الحسن المهلبي الشاعر.
ولم يشأ البويهيون أن يقروا بخلافة الفاطميين في مصر مع أنهم شيعيون مثلهم، وآثروا عليها خلافة العباسيين وهي سنية؛ ذلك بأن الفاطميين كانوا دولة قوية تقبض على السلطة الروحية والسلطة الزمنية معا، والبويهيون - وهم من الفرس - يعنيهم أن يستعيدوا سابق عزهم وسلطانهم، وما يتأتى لهم أن ينفردوا بالأحكام إلا في خلافة مهيضة الجناح كخلافة بني العباس. (4) ميزة العصر
لا يصح لنا أن نسمي هذا العصر عباسيا من الوجهة السياسية، إنما يصح ذلك من الوجهة الفكرية؛ لأن السلطان فيه كان للملوك المستقلين، ولم يبق منه إلا الشيء اليسير لخلافة بني العباس. ولكن العلوم والآداب عباسية خالصة، ترتبط بما تقدمها بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. وهي وإن يكن لها ميزات جديدة تصطبغ بها وتتلون، فما ذلك إلا رقي بعد نشوء، وتتمة بعد بدء، ونضج بعد إثمار، فليس من فن أو علم في العصر الثالث إلا وقد نشأ ونما وترعرع في حمى العباسيين، فمن العدل أن نسمي العصر عباسيا وإن ولى ملك بني العباس أو كاد.
وهذا العصر يمتاز في شيئين مختلفين؛ أولهما: سوء الحالة السياسية في ممالك الإسلام، واضطراب الأمن في جميع الأمصار، وانتشار الدعوات والفتن والحروب. والثاني: حسن الحالة الفكرية وقيام المدارس والمكاتب، وازدهار العلوم والآداب؛ فإن الأمراء المستقلين لم يقتصر تنابذهم وتحاسدهم على أن يتقاتلوا ويكايد بعضهم بعضا، بل تعدى ذلك إلى التنافس والتباهي بتقريب الشعراء والعلماء، والتزيد في الكتب ودور التدريس، فبذلوا المال، وأجزلوا العطاء. ومالوا إلى التساهل فلم يتحرجوا من حرية القول والتفكير، فاتسع مجال الارتزاق على أهل العلم، فتفرقوا في الممالك المستقلة، وأصبح لهم جملة حواضر ترفه لهم العيش، وتضمن لهم الشهرة، بعد أن كان الرزق والشهرة مقصورين على بغداد، فانبسطت أحوالهم، وفرغوا إلى النظم والتأليف، فنهضوا بالفكر الإسلامي نهضة عظيمة، ونما على أيديهم نضج العلوم والآداب.
ومع أن بعض الدول التي استقلت كانت عجمية الأصل فارسية أو تركية كالبويهية، والسامانية
4
والغزنوية
5
فقد ظلت السيادة فيها للغة العربية؛ لأن ملوك العجم - وهم مسلمون - أبوا إلا أن يحافظوا على لغة القرآن، فتركوا لها السيادة الدينية. ثم إن العربية كانت لغة الآداب والعلوم، فلم يستغنوا عنها في إنشاء حضاراتهم، فاعتمدوا عليها وجعلوها لغتهم الرسمية في مدارسهم ومساجدهم ودواوينهم. على أن الفرس جهدوا في إحياء لغتهم القومية فتأتى لهم أن ينظموا الشعر فيها، وينقلوا إليها بعض الآداب، ولكن تعسر عليهم نقل العلوم - ولا سيما الشرع - لافتقار الفارسية الحديثة إلى الأوضاع العلمية. وظلت الأولية للغة العرب طوال هذا العصر ومعظم العصر الذي يليه حتى تمت السيادة للشعوب الغربية، واجتاحت البلاد العربية بلغاتها ولهجاتها، فتضاءل سواد لغة الضاد وباد حماتها، وأهل العلم بها، وغلبت عليها طمطمانية الأعاجم.
هوامش
الفصل الثامن
الشعراء المولدون
العصر الثالث (1) ميزة الشعر
اصطبغ الشعر بألوان جديدة مازته بخصائصها، وانبعثت فيه فنون كادت تضمحل وتنسى، واستقلت أبواب كانت تابعة لغيرها؛ فأما ما استجد به فالشعر الفلسفي والصوفي. وأما ما انبعث حيا فالفخر والحماسة. وأما ما استقل فالدهريات والزهريات والإخوانيات والهزليات. (1-1) الشعر الفلسفي
لا نعني بالشعر الفلسفي تلك الحكم والأمثال المبثوثة في القصائد، فهذه قديمة غير محدثة وإن يكن المتنبي رقاها وأظهر حلاها. وإنما نعني الشعر الذي تنظم فيه المذاهب الفلسفية بحثا عن الحقيقة بالنظر إلى الطبيعة وما وراء الطبيعة. ومن حق الشعر الفلسفي أن يظهر في هذا العصر، وقد اختمرت العقول بالعلوم الدخيلة، وشرع المفكرون في التصنيف بدلا من النقل، فنشأت الفلسفة الإسلامية متحدة بالفلسفة اليونانية، ونبغ الفارابي وابن سينا وإخوان الصفاء، ونبغ شاعر فيلسوف نظم الفلسفة للفلسفة في كتاب سماه اللزوميات؛ ألا وهو أبو العلاء المعري. ولابن سينا قصيدة فلسفية شرح فيها رأي أفلاطون في هبوط النفس من السماء، وحبسها في الجسد إلى أن تطهر فترجع من حيث أتت، فهذا النوع من الشعر جديد لم يعرفه العرب من قبل. (1-2) الشعر الصوفي
وهذا أيضا فن جديد ظهر بعد أن ترقت الطريقة الصوفية، وصارت علما يعتمد على الفلسفة. وكانت قبلا أشبه بالزهد مقتصرة على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا. ويعنى الصوفيون على الأخص بثلاثة أشياء؛ أولها: الاتصال بالله في هذه الحياة الدنيا. والثاني: انبثاق العالم من الله. والثالث: رجوعه إليه تعالى ويسمونه الوصال. ويزعمون أنهم في اتصالهم بالذات تتكشف لهم الحقائق المخبوءة فيرون الجنة وما فيها من أشجار وأنهار، وحور وولدان، ويرون الجحيم وما فيه من أبواب وعذاب. ولا يتم عندهم هذا الفتح الإلهي إلا بعد مجاهدة وذكر وخلوة، يعكف عليها الصوفي، فتأخذه غيبوبة يعبرون عنها بالانجذاب والسكر، فيتوصل إلى الكشف والمشاهدة. ولهذا كثر تغزلهم بالخمرة الإلهية ونشوتها، وتغزلوا بالذات والصفات، ووصفوا الجنة ونعيمها. ولهم في ذلك اصطلاحات مخصوصة بهم يستعملونها في شعرهم ونثرهم. والمنظومات الصوفية من الشعر الرمزي ظاهرها غزل متهالك، وباطنها توجد بالعزة الإلهية. وكان ظهور هذا الفن في أرض الفرس والعراق لأن ثمة مولد الصوفية، ثم امتد بامتدادها إلى الشام فمصر.
ومن الشعر الصوفي قول عبد الكريم القشيري المتوفي سنة 465ه/1072م:
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم
وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا، والعيون قريرة
وأصبحت يوما والجفون سوافك (1-3) الفخر والحماسة
كان هذا الفن قد ضعف في صدر الدولة العباسية؛ لضعف العصبية والنخوة، وانصراف الشاعر إلى القصف والمجون، فلما توالت الحروب والفتن، هب الأمراء للدفاع عن ممالكهم، فآنسوا في شعوبهم فتورا واستكانة، ونفورا من الحرب والنجدة، فأخذوا يبثون فيهم روح الشجاعة والحمية، وحثوا الشعراء على الفروسية والإقدام. وكان ملوك العرب أشد عناية من غيرهم باستخدام الشعر الحماسي، فسيف الدولة حمل المتنبي إلى حلب، ودفعه إلى الرواض فعلموه الفروسية والطراد، فكان يصحبه في غزواته إلى بلاد الروم، ويصف معاركه، ويبعث بشعره الحمية في صدور الرجال. وقيل إن الخليفة الفاطمي أوعز إلى القصاصين بنشر سيرة عنترة لتثقيف المصريين على الفضائل الجاهلية من فروسية وشجاعة ونجدة. ونظمت لهذه القصة أشعار حماسية أضيفت إلى عنترة وأقرانه، ورصع بها صدر كل معركة أو مبارزة، فاستعاد هذا الفن سابق عزه، وكان الفضل في إحيائه لشعراء العرب الخلص كالمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وأمثالهم، فجددوا به عهد الشعراء الفرسان، وأبدعوا في وصف التحام الجيوش، ووقع الأسنة والسيوف، وشيخ وصافيهم أبو الطيب المتنبي. (1-4) الدهريات
وكان من تتابع الحروب والمحن، واستفحال الفقر والعوز، أن تفاقم تذمر الناس على زمانهم، فباتوا لا تحدث لهم حادثة إلا أضافوها إلى الدهر، وأحالوا عليه باللوم والعتب كأنما هو شخص مسئول عن أعماله. واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم، وتلون به شعرهم، فأصبح فنا ولكنه ممتزج بغيره. ثم أنشأ الشعراء ينظمونه منفردا فعل ابن الرومي وأضرابه، وتم له الاستقلال في هذا العصر، وسموه شكوى الدهر أو الدهريات. (1-5) الزهريات
وهي وصف الطبيعة وجمالها، وهذا الفن قديم في الشعر العربي، فلما كثر النظم فيه أفردوا له بابا قائما بذاته دعوه الزهريات. وخصوه بنعت الرياض والبساتين، والأشجار والأزهار والأطيار، وغيوم الربيع ووسميه وما شاكل. (1-6) الإخوانيات
هذا باب انفرد به النثر قبل الشعر، ثم لما كثر النظامون، وتعاطى القريض الوزراء وكتاب الدواوين وأهل الفقه والقضاء، أصبحوا يتراسلون بالشعر كما يتراسلون بالنثر، فاستعملوه في التهنئة والتعزية والشكر والعتاب والاستعطاف، وغير ذلك مما يدور بين الأصحاب من مراسلات. (1-7) الهزليات
ويشمل هذا الباب الدعابة والعبث والتهكم، ويغلب عليه الهزل والمجون، وهو غير جديد في نوعه، فقد ظهر منه شيء في ملاحيات بشار وحماد عجرد، ثم في مداعبات أبي نواس وأصحابه المجان، ولكن لم يختص به شاعر يتخذه فنا، يميزه من غيره، قبل أن يظهر في بغداد أشباه ابن سكرة وابن حجاج من شعراء هذا العصر؛ فإنهم جعلوا منه عرضا مقصودا، وغاية يرمى إليها، فاصطبغ به شعرهم دون غيره من الفنون والأغراض . ودونك مثالا عليه هذه الأبيات من مقصورة صريع الدلاء التي عارض بها مقصورة ابن دريد، وأخرجها متهكما مخرج الحكم والأمثال:
من لم يرد أن تنتقب نعاله
يحملها في كفه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجله
فلبسه خير له من الحفا
من صفع الناس ولم يدعهم
أن يصفعوه فعليهم اعتدى
من طبخ الديك ولا يذبحه
طار من القدر إلى حيث يشا
وكان للاصطلاحات الفلسفية، والمزاعم الصوفية حظ من هذا الشعر، فإن أصحابه اصطنعوها وسيلة للضحك والسخرية، فمن ذلك أن المتفلسفين كانوا يشبهون الإنسان بعالم صغير، فيقول إخوان الصفاء في رسائلهم: «إن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها، فرجلاه وقيام الجسد عليهما كأساس الدار، ورأسه في أعلى بدنه كالغرفة في أعلى الدار.» إلى أن يقولوا: «ورقبته وطولها كرواق الدار، وفتح حلقومه وجريان الصوت فيه كدهليز الدار.» فانتحل ابن سكرة آراءهم في نزلة نزلت به فقال:
قلت للنزلة حلي
وانزلي غير لهاتي
1
واتركي حلقي بحقي
فهو دهليز حياتي
على أن هذا الشعر يشوبه كثير من فحش القول وهجره؛ مما يجعله غير صالح للحفظ والرواية. (1-8) سائر أغراض الشعر وفنونه
كان من جراء تنافس الدول في تقريب الشعراء، وإقبال العلماء والكتاب على نظم الشعر، أن تضاعف عدد الشعراء والمتشاعرين، فتكاثروا حتى امتلأت بهم الدواوين والمجالس، وكثر القول حتى اكتظت به الصحاف والقماطر. قيل إن الصاحب بن عباد بنى دارا فهنأه بها خمسون شاعرا، وإن صديقا له مات حماره، فرثي الحمار بأكثر من خمسين قصيدة. وكان من انقياد الشعر إلى غير أهله أن اختلفت فيه ألوانه وأغراضه وفنونه، فحفل شعر الكتاب والوزراء بالتشابيه والاستعارات وأنواع البديع؛ لأنهم تعودوا التنميق في ترسلهم، فغلب عليهم في نظمهم، واحتذى مثالهم جماعة من الشعراء لمكانتهم في دولتهم، فأصبح الشعر عندهم صنعة ووشيا.
وطغت الاصطلاحات العلمية والفلسفية على شعر أهل العلم والفلسفة، وتردد فيه أسماء فلاسفة اليونان وعلمائهم. ويختص هذا الشعر بضعف العاطفة، وقلة الماء، وقوة التفكير، ووفور المعاني على الألفاظ بحيث لا تسلم أحيانا من الإبهام، فمن ذلك قول البديع الأسطرلابي:
وذي هيئة يزهو بخال مهندس
أموت به في كل وقت وأبعث
فعارضه خط استواء وخاله
به نقطة والخد شكل مثلث
وقول أبي الفتح البستي:
وقد يلبس المرء خز الثياب
ومن دونها حالة مضنيه
2
كمن يكتسي خده حمرة
وعلته ورم بالريه
وأفرط الشعراء في ذكر الألفاظ القبيحة، ووصف معارض الفحش؛ فشأوا من تقدمهم، وأربوا عليهم في الإقبال على اللذات، والاستغراق في الشهوات. وقادهم ذلك إلى الإزراء بالدين، فخفت أسماء الأنبياء وكتبهم على ألسنتهم. وكان لانتشار الدعوات الباطنية، والطرق الصوفية، والآراء الفلسفية يد في دفع الشعراء إلى الاجتراء على الدين والأنبياء المرسلين. وغلب الغلو المسترذل على مدائحهم؛ لأن تنافس الدول المستقلة جعل أمراءها يستعذبون كل إطراء كاذب؛ لكى يمدح كل واحد منهم بأحسن مما مدح به غيره؛ فأسرف الشعراء في أقوالهم، وأغرقوا في طلب المحال، فوضعوا ممدوحيهم في مقام الرسل حينا، وفي مقام الإله آخر، وأضافوا إليهم غرائب المعجزات، وأسطع الآيات، فجاء شعرهم من هذا القبيل كثير الغثاء بغيضا ممقوتا. (1-9) لغة الشعر
كان من تعدد حواضر الشعر أن ظهر شعراء في الأمصار العجمية حيث الرطانة غالبة، والبلاغة مهزومة؛ فجاء شعرهم ضعيف البيان منحدرا إلى الركاكة، وسرى هذا الداء إلى العراق لغلبة العناصر الفارسية والتركية على أهله إلا بغداد قرارة العلم، وكعبة رجاله، ومحط رحال الأعراب، فإن شعراءها احتفظوا ببلاغتهم، وحسن بيانهم، فنبغ فيهم أمثال الشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وابن نباتة السعدي، والسلامي وغيرهم.
وأما الشام فإن شعراءها بقيت لهم ملكة البلاغة، فضربوا بسهم وافر منها. ويرجع ذلك إلى إعراقهم في العروبة، وقربهم من البادية، وقلة اختلاطهم بالأعجام، فامتاز شعرهم في الجزالة والرصانة، ولم يخلص من الغريب، كما في شعر المتنبي والنامي وأبي فراس وأبي العلاء.
وأما مصر فلم تكن قدما موطنا للشعر، ولا مزارا لأهل البادية، فما نبغ فيها شاعر يذكر،
3
ولا رنت في أرجائها قافية شرود إلا لشاعر غريب يقصدها كما قصد إليها أبو نواس والمتنبي. فلما قامت الدولة الفاطمية، وتعهدت الشعر برعايتها، أقبل الشعراء على مصر ، وتكاثر عددهم، فنمت بذور الأدب في الكنانة، وتعاطى الشعر جماعة من أهلها إلا أنهم لم ينبغوا فيه نبوغ أهل الشام والعراق لقلة بضاعتهم في هذه الصناعة وقرب عهدهم بها، ثم لضعف ثقافتهم الأدبية والعلمية، فإن العلوم والآداب انتشرت في العراق والشام قبل أن تدخل مصر وتمد فيها عروقها. هذا والشعر المصري يميل إلى الصنعة اللفظية، لين التركيب لم يدعم بلغة متينة خالصة العروبة كلغة أهل الشام، فانحدر أحيانا بأصحابه إلى الضعف. وإذا تمادى اللين لا يسلم من الإسفاف. ونحن نقتصر هنا على درس اثنين من شعراء الشام، وهما المتنبي وأبو فراس. (2) المتنبي 915-965م/303-354ه (2-1) حياته
هو أحمد بن الحسين الجعفي، عربي صليبة. وبنو جعفي بطن من سعد العشيرة بن مذحج، وهي قبيلة يمانية فيها فصاحة ولسن، ينتهي نسبها إلى بني كهلان، وكنيته أبو الطيب، ولقبه المتنبي. قيل لقب به لادعائه النبوة. وكان أبو الحسين بن لنكك يحسد أبا الطيب، ويطعن عليه، ويزعم أن أباه كان سقاء بالكوفة. ورواية رجل مثله لا يصح التعويل عليها.
وكان بالكوفة محلات نزلتها أفناء اليمن، وأطلقت عليها أسماء قبائلها المشهورة، منها محلة كندة، وفيها ولد المتنبي، وإليها انتسب. وظهرت عليه النجابة وهو صغير، فحمله والده في نعومة أظفاره إلى الشام فنشأ فيها وبها تخرج، ونظم الشعر وهو في المكتب، وما إن ترعرع حتى مات أبوه وتركه يتيما.
دعوته
لبث المتنبي بعد موت أبيه يطوف بين الشام والعراق، ويتنقل في البادية مصاحبا الأعراب. وكانت الديار الإسلامية يومئذ دريئة للفتن والدعوات، فالفرق الباطنية من قرامطة وإسماعيلية وسواهم، يدعون للرضا من أبناء علي، أو يبشرون الناس بظهور المهدي ليطهر الأرض من الجور والفساد. والخوارج على السلطان يؤرثون نار الفتن في الأمصار ويستولون عليها عنوة حتى باتت الخواطر على تنظر دائم لرسول تبعثه السماء والخارجي مغامر يملك الأرض ويحتل مكان مالك آخر.
وكان أبو الطيب ينظر إلى هذه الأحوال القلقة، ويقلبها على وجوهها، ويستكشف عن الأفكار المضطربة، ويروز حصياتها، فحدثته نفسه الطموح بأن يلقي دلوه في الدلاء، ولم لا يفعل وفي قلبه جراءة واعتداد، وفي لسانه فصاحة وبيان. وكان له في الأعراب أصحاب وخلان لكثرة اختلاطه بهم، ومرافقته لهم في حل وترحال، فاعتمد عليهم في بث دعوته، فاجتمع إليه بعض القبائل الضاربة في بادية السماوة بحيال الكوفة وما يليها من مشارف الشام كبني كلب وكلاب وغيرهم. وأهل البادية؛ لجهالتهم وفقرهم، أسرع الناس لتصديق الدعوات وإثارة الفتن والخروج على السلطان. ويدلنا شعر المتنبي على أن هذه القبائل كانت قوية الشوكة، كثيرة العصيان، فمرة تشق عصا الطاعة على سيف الدولة فيوقع بها ويسبي نساءها، فيستعطفه المتنبي عليها. ومرة تخرج بالكوفة وتعيث فسادا فيأتي دلير بن لشكروز لقتالها فتنصرف إلى باديتها قبل وصوله. فأبو الطيب في اعتماده عليها قد استنصر أقواما لا يأتلون في مواقعة الكروب ومقارعة الخطوب. فلما كبر أمره، تأدى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الدولة الإخشيدية، فخرج إليه وأسره وشرد أصحابه، وحبسه طويلا حتى كاد يتلف.
أما دعوته التي دعا إليها ففيها خلاف، فمنهم من يزعم أنه ادعى النبوة. ومنهم من يقول إنه تنحل العلوية ودعا الناس إلى بيعته. ومنهم من يضيف إليه الدعوتين معا فيزعم أنه حبس في الكوفة لادعائه العلوية، ثم حبس في حمص لادعائه النبوة. غير أن أبا العلاء المعري يشك في خبر حبسه بالكوفة إذ يقول في رسالة الغفران: «وما وضح أن ذلك الرجل حبس بالعراق، فأما بالشام فحبسه مشهور.» ولكنه لا يصرح بحقيقة دعوته فيقول: «وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب (أي المتنبي) قال: «هو من النبوة.»
4
أي المرتفع من الأرض. وكان قد طمع في شيء كان قد طمع فيه من هو دونه. وإنما هي مقادير يظفر بها من وفق، ولا يراع بالمجتهد أن يخفق. وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كان متألها، فمن ذلك قوله: «ولا قابلا إلا لخالقه حكما.» ا.ه. على أن تألهه في شعره لا يعطينا دليلا قاطعا على تنبئه وإن يكن شبه نفسه مرة بالمسيح وأخرى بصالح في قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
5
أنا في أمة تداركها الله!
غريب كصالح في ثمود
6
حتى إن قصيدته التي استعطف بها الوالي وهو معتقل عنده ليس فيها ذكر لنبوته، وإنما يشير إلى أمر كان يفكر فيه ولم يفعله:
وكن فارقا بين دعوى أردت
ودعوى فعلت بشأو بعيد
7
ومن تتبع ديوانه منذ حداثته إلى اكتهاله يرى حب الولاية والرئاسة يدور في رأسه، ويدفعه إلى إظهار ما في ضميره من الرغبة في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف. وغير مستبعد أن يلتمس الملك بالوسائل الدينية، فيدعي العلوية أسوة بغيره من الأدعياء.
ويستدل من قصيدته التي بعث بها إلى الوالي وهو مسجون، أنه أظهر دعوته قبل أن يتم الخامسة عشرة، وهذا من غرائب النبوغ المبكر إن صح الخبر، وفي ذلك يقول:
تعجل في وجوب الحدود
وحدي قبيل وجوب السجود
8
أما الثعالبي فلم يطمئن إلى هذا البيت، بل ارتاب في صدق صاحبه وقال: «ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي؛ لأن من كان صبيا لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف.» وإذا تقصينا أخبار دعوته تبين لنا من حديث لأبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي أن المتنبي قدم اللاذقية في سنة عشرين ونيف وثلاثمائة للهجرة، وزعم أنه نبي مرسل، فيكون يومئذ في حدود العشرين، وهي السنة التي اعتقله فيها لؤلؤ فطال حبسه حتى انتقلت إمارة حمص إلى إسحاق بن كيغلغ التركي، فلبث يعاني مضض الاعتقال حتى مرض واشتد عليه المرض فنظم قصيدته التي يستعطفه بها ويصغر فيها سنه. ووافق وصول هذه القصيدة الرقيقة شفاعات للفتى المريض، فرضي ابن كيغلغ أن يعفو عنه إذا تاب وأنكر دعواه، فأظهر المتنبي توبته، وأطلق سراحه في أواخر سنة 324ه/936م بعدما قضى في السجن زهاء سنتين.
وفاداته على الأمراء
لم يرث المتنبي من أبيه مالا يسد به خلته، ويغنيه عن التكسب بشعره. وكثيرا ما كان يشكو الفقر وشظف العيش، وقلة الأعوان. وابتدأ يمدح الناس وهو في الكتاب، وكان من جوائزه في صباه هدية فيها سمك من سكر ولوز في بركة من العسل. وعضت به الحاجة بعد موت أبيه فراح يتردد في حواضر الشام، يمدح الأمراء والسادات؛ فعرفته دمشق، وبعلبك، وحمص، وطرابلس، ومنبج، وأنطاكية، واللاذقية، وطرسوس، وصور، وطبرية، والرملة. وله مدائح قالها في أثناء دعوته يوم كان يتوغل في البادية، ويستنصر الأعراب، كمدحته في الحسين بن إسحاق التنوخي، أنشده إياها في اللاذقية وهو ابن عشرين؛ لقوله فيها:
وما أربت على العشرين سني
فكيف مللت من طول البقاء!
ومرت به أوقات أول أمره، كان يجاز فيها بدينار واحد، ويلبس خشن القطن ولا يملك ناقة يستعين بها على أسفاره، فيركب نعليه ويضرب بهما في الحواضر والبوادي، فاشتهر بجلده على المشي المتواصل، وفي ذلك يقول:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا
بالسوط يوم الرهان أجهدها
9
شراكها كورها، ومشفرها
زمامها، والشسوع مقودها
10
ويقول في كلمة أخرى.
أبدا أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمتي في سعود
ويقول أيضا:
لسري لباسه خشن القطن
ومروي مرو لبس القرود
11
ثم حظي عند بعض الأمراء أمثال آل تنوخ في اللاذقية، وبدر بن عمار في طبرية، والحسن بن طغج في الرملة. وأتيح له شيء من الشهرة حتى أصبح ذوو الوجاهة يتعرضون له ليمدحهم فعل ابن كيغلغ وكان يومئذ على طرابلس، بعدما كان في حمص فمر به أبو الطيب ووجهته أنطاكية، فسأله أن يمدحه، فماطله أبو الطيب وكان يرجو الاتصال بسيف الدولة، فكيف يمدح عاملا لعدوه الإخشيد، وهو إلى ذلك لم ينس أن الرجل لم يطلقه من السجن إلا بعدما أدنفه المرض. وما زال يماطله حتى تسنى له الهرب بعد أربعين يوما، فهجاه بقصيدته الشهيرة التي أولها: «لهوى النفوس سريرة لا تعلم.» ومثله طاهر بن الحسين العلوي في الرملة، فإنه كان يشتهي أن يمدح بشعر أبي الطيب، وشاعرنا يأبى أن يمدحه حتى ألح عليه الأمير أبو محمد الحسن بن طغج، وضمن له عند العلوي مئات من الدنانير، ففعل أبو الطيب، ولما دخل على طاهر لينشده شعره فيه نزل طاهر عن سريره، والتقاه مسلما عليه، ثم أخذه بيده، فأجلسه في المرتبة التي كان فيها، وجلس هو بين يديه.
على أن حظوته عند هؤلاء الأمراء لم تغنه من فقر، ولم تحل دون تذمره على الدهر، وشكواه كساد الشعر. وقد أورثته مع ضآلتها أعداء وحسادا فكانوا يكايدونه شأن ابن كروس الأعور نديم بدر بن عمار، وكان هو يهجوهم ويذود عن نفسه. وما زال كذلك دأبه بين خمول وشهرة، وهبوط وارتفاع، وفقر وغنى، حتى ورد أنطاكية وعليها أبو العشائر الحمداني من قبل نسيبه سيف الدولة، فاتصل به ومدحه بعدة قصائد، فأكرمه أبو العشائر وأحسن مثواه.
اتصاله بسيف الدولة
وكان سبب اتصاله بسيف الدولة أن ملك حلب قدم أنطاكية سنة 337ه/948م، فاستقبله أبو العشائر، وقدم إليه المتنبي وعرفه منزلته في الشعر والأدب وأثنى عليه، فحمله معه إلى حلب، واشترط عليه أبو الطيب ألا ينشده واقفا وألا يكلف تقبيل الأرض بين يديه، فدخل سيف الدولة تحت شرطه، ومالت نفسه إليه وأحبه، فسلمه إلى الرواض، فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة، فكان يصحبه في غزواته، ويشهد معه المعارك، ويصفها بشعره.
وأفاض عليه سيف الدولة وافر النعم، فكان يعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ما عدا غيرها من نوافل الأعطيات والخيل والجواري والضيع، حتى بلغ ما ناله في مدة أربع سنوات خمسة وثلاثين ألف دينار. وهي ثروة لا تقل عما كان يربحه فحول الشعراء في الأعصر المتقدمة؛ لأن الذهب في عصر المتنبي كان غاليا لتوزعه في الممالك المستقلة بعدما كان محصورا في مملكة واحدة، ثم لتتابع الحروب والثورات والفتن، فلا غرو أن يشعر أبو الطيب بلذة الغنى، وينزع عن شكوى الفقر، والتطواف للتكسب، ويخاطب سيف الدولة بقوله:
تركت السرى خلفي لمن قل ماله
وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
12
ولكن نفسه الجبارة ظلت تطمع في شيء أعظم، فكان يشير إليه ولا يصرح به:
أهم بشيء والليالي كأنها
تطاردني عن كونه، وأطارد
13
وكان به غلظة واستكبار، فرفع رأسه تغطرسا، وصعر خده للناس، فمقته الشعراء والأدباء لكبريائه، وحسدوه على نعمته ورقة حواشي عيشه؛ فراحوا يكيدونه ويرمونه بكل نقيصة، ويعيرونه أصله، ويعيبون شعره، ويغلظون قلب الأمير عليه. ولم تخف على المتنبي قوة خصومه، فلم يخم عنهم بل قاومهم بعنف واحتقار. وإذا رأى من سيف الدولة ميلا إليهم عاتبه واستنجده عليهم:
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
14
وكان أشد خصومه لددا أبو فراس الحمداني، وابن خالويه مؤدب سيف الدولة؛ فإن أبا فراس - وهو شاعر وأمير - كان يتأذى من شهرة أبي الطيب المتنبي، وتقديم سيف الدولة له، ويغيظه أن يعرض أبو الطيب عنه فما يخصه بمديح. ولا يعتد بقول الثعالبي إنه لم يمدحه تهيبا له وإجلالا، لا إغفالا وإخلالا؛ فإن شاعر سيف الدولة لو شاء لاستطاع أن يمدح أبا فراس وهو دون الملك مقاما، وهيبة وجلالا، لكنه ترفع عنه كما ترفع عن غيره، واكتفى بسيف الدولة لا يمدح سواه. فكرهه أبو فراس، وتمنى إسقاطه، وخضد كبرياءه، فطفق يضافر الشعراء على ثلبه، ويلوم ابن عمه على تقديمه فيقول: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره.» وما زال به يعضده سائر خصوم المتنبي من شعراء وعلماء حتى تغير قلب الأمير عليه، فجعل يجفوه مرة، ويرضى عنه أخرى، وربما دخل عليه فتنكر له، ورد السلام مختصرا. وجفاه مرة، فعاتبه الشاعر، فلم ينظر إليه سيف الدولة كعادته، فخرج متغيرا وانقطع عن نظم الشعر. وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فلا يجيب أبو الطيب، فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة ويتمادى أبو الطيب في ترك قول الشعر، ويلج سيف الدولة فيما كان يفعله، إلى أن كبر الأمر على الشاعر فنظم ميميته الخالدة التي أولها:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم!
15
وكان أبو فراس حاضرا ساعة إنشادها، فانبرى ينتقدها، ويبين سرقات أبي الطيب فيها، وأبو الطيب يتابع القول ولا يرد عليه ويبالغ في الكبر والصلف حتى إنه لم يبال أن يتناوله بشعره، ويعرض به، وأن يفتخر على جميع من حضر مجلس الأمير، فضجر سيف الدولة منه، واستاء من دعاويه وعجرفته، فضربه بدواة بين يديه، فلم يهلع الشاعر، بل ظل رابط الجأش، حاضر الذهن، فارتجل هذا البيت الشرود:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وتابع أبو فراس نقده، فلم يلتفت سيف الدولة إلى قوله، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي عنه، وأدناه إليه، وقبله، وأجازه بألف دينار، ثم أردفها بألف أخرى.
على أن هذه القصيدة وإن تكن أرضت سيف الدولة مع ما فيها من غطرسة وغلظة في العتاب، لقد أحنقت أنسباءه وحاشيته ورجال مجلسه. وكان أبو العشائر حاضرا فساءه أن يعرض الشاعر ببعض بني عمه، فلما خرج المتنبي ألحق به بعض غلمانه ليوقعوا به، فوقفوا له في الطريق، فرماه أحدهم بسهم وقال: «خذه، وأنا غلام أبي العشائر!» فوقع السهم في نحر فرسه، فانتزعه ورمى به؛ ثم كر عليهم بالسيف فجرح أحدهم، فتركوه واشتغلوا بالمضروب. واستخفى أبو الطيب عند صديق له، وسيف الدولة يسأل عنه، وينكر أن يكون قد أمر بقتله، أو علم بما دبر لاغتياله. ثم عاد إليه الشاعر يمدحه، ولكن اجتماع الحساد عليه كان ينغص عيشه، فسئم الإقامة بينهم وآلمه أن يعيرهم الأمير سمعه، فأزمع الرحيل، وحذر سيف الدولة بقوله:
أذا الجود أعط الناس ما أنت مالك
ولا تعطين الناس ما أنا قائل
فلم يحفل سيف الدولة بتحذيره، ولا منع الخصوم عن الوقيعة به، حتى كانت حادثة ابن خالويه، فجاءت ثالثة الأثافي.
وابن خالويه له دالة على الأمير؛ لأنه مؤدبه، وهو يكره المتنبي لشاعريته وحظوته، ويكرهه لأن أبا الطيب كان يحتقره ويزدري آراءه في النحو، ولطالما حاول النحوي مناظرته، فخذله الشاعر، وجهله وسفه آراءه. فاتفق أن اجتمعا مرة في مجلس سيف الدولة بعد أن عاثت مكايد الحساد في صدر الأمير فأفسدت في ما بينه وبين شاعره من مودة. وكان أبو الطيب اللغوي حاضرا، فجرت بينه وبين ابن خالويه مناظرة في اللغة، والمتنبي ساكت. فقال له سيف الدولة: «ألا تتكلم يا أبا الطيب؟» فتكلم بما قوى حجة أبي الطيب اللغوي وضعف قول ابن خالويه، فأخرج هذا من كمه مفتاحا ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: «اسكت ويحك! فإنك أعجمي، وأصلك خوزي فما لك والعربية!» فضرب وجهه بذلك المفتاح، فأسال دمه، فغضب المتنبي من ذلك. وزاده غيظا أن سيف الدولة لم ينتصر له لا قولا ولا فعلا، فاعتصم بالصمت عالما أن التعرض لابن خالويه وخيم المغبة ما دام الأمير راضيا عن عمله، وخرج من الحضرة، وقد عول على الرحيل.
اتصاله بكافور
ترك المتنبي حلب سنة 346ه/957م، وأم دمشق وهي يومئذ من أعمال الإخشيد وعليها وال يهودي من قبل كافور
16
يعرف بابن مالك، فالتمس من المتنبي أن يمدحه، فتأبى؛ فغضب ابن مالك وحمل كافورا على أن يطلب أبا الطيب إلى مصر. ثم كتب إليه أن الشاعر قال: «لا أقصد العبد، وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده.» ونبت دمشق بالمتنبي فصار إلى الرملة بفلسطين، وافدا على أميرها الحسن بن طغج، وكان أبو الطيب يمدحه قبل اتصاله بسيف الدولة، فحمل إليه الحسن هدايا نفيسة، وخلع عليه، وحمله على فرس، وقلده سيفا محلى. وعرف كافور بمقدمه فكان يقول: «أتراه يبلغ الرملة ولا يأتينا؟» وكانت الرملة من أعمال الإخشيد، فكتب إلى أميرها يطلبه، فسار إليه أبو الطيب، فأمر له بمنزل، ووكل به جماعة من الغلمان يخدمونه، وخلع عليه.
وكان المتنبي لا ينفك يحلم بالملك منذ حداثته، فلما صار إلى كافور بعد خيبته عند سيف الدولة، ولقي من الأسود حفاوة وإكراما، طمع فيه وشاقه أن يقطع ولاية في مملكته يدبر أمورها، ويعتاض بها من خيبته، ويكبت بها حساده، فوعده كافور، فشرع المتنبي يمدحه في كل سانحة، ويعرض لذكر الولاية، وكافور يماطله.
ولم يسلم في مصر من أعداء يكيدونه، فإن ابن حنزابة - وزير كافور - كان يبغضه؛ لأنه أبى أن يمدحه، فأخذ يشنع عليه، ويشير على كافور بأن لا يجيب طلبه، وإذا سمع مدحه في سيده قال: «هذا هزء بكافور.»
فلما طال الأمر بأبي الطيب، وبان له أن وعود كافور عرقوبية، تولاه اليأس، ومل الإقامة في مصر. ثم أصابته الحمى، فساءت صحته، فعزم على الرحيل.
وكان كافور يعلم أن أبا الطيب واجد عليه لتخييبه رجاءه، فخشي أن يهجوه إذا خرج من مصر وابتعد عن حكمه، فمنعه من الرحيل، وألزمه أن يبقى في بطانته، فعلم أبو الطيب أنه سجين لا يستطيع البراح إلا خفية، فأعد كل ما يحتاج إليه، وأعانه بعض أصحابه، فدفن الرماح في الرمال، وحمل الماء على الإبل لعشر ليال، وتزود لعشرين. وكان يفعل ذلك سرا وهو يظهر الرغبة في المقام، ويركب في خدمة العبد خوفا منه. فلما كانت ليلة الأضحى في أواخر سنة 350ه/961م خرج من مصر مستخفيا، ونظم في هجو كافور داليته الشهيرة: «عيد بأية حال عدت يا عيد!» فأرسل كافور بعض رجاله بطلبه فلم يدركوه.
في العراق وفارس
برح المتنبي مصر ساخطا على كافور يهجوه ويوجع عرضه، فقدم الكوفة سنة 351ه/962م وأقام بها. وبلغ سيف الدولة قدومه، فأنفذ إليه ابنه من حلب سنة 352ه/963م ومعه هدية سنية، فمدحه أبو الطيب بقصيدة، وأرسلها إليه. ثم ماتت أخت سيف الدولة، فعمل المتنبي قصيدة يعزيه فيها، وبعث بها إلى حلب. ثم أنفذ إليه سيف الدولة كتابا بخط يده يسأله المسير إليه، فأجابه أبو الطيب بقصيدة أولها:
فهمت الكتاب أبر الكتب
فسمعا لأمر أمير العرب
ولكنه لم يصر إليه، بل لبث بالكوفة نحو ثلاث سنوات، قصد في خلالها إلى بغداد والخليفة فيها المطيع لله، والسلطان بيد معز الدولة بن بويه، ووزيره المهلبي، فرغب المهلبي إلى أبي الطيب في أن يمدحه، فالتحف برداء الكبر، على لغة الحاتمي، وأعرض عن مدحه؛ فحنق الوزير وأغرى به الشعراء فانبروا يشتمونه ويتنقصون قدره. وكان أشدهم تطاولا عليه ابن سكرة وابن حجاج. وكان المعز قد ساءه أن يصدر شاعر عن حضرة عدوه سيف الدولة ويرد حضرته في دار الخلافة، فلا يلقى أحدا يساويه في صناعته. فما كان من الحاتمي إلا أن تعرض لمناظرة أبي الطيب فجاءه في داره، فازدراه المتنبي ولم يوقره، فحنق واندفع ينتقده ويظهر عيوبه. ويحدثنا الحاتمي في رسالته الموضحة أن أبا الطيب اعتذر له مستخذيا، وعجز عن مناظرته. ولكن لا نستطيع أن نثبت حقيقة هذه المناظرة؛ لأن القصة يرويها أحد الخصمين. ومن الصعب أن يقنعنا الحاتمي بأن المتنبي لانت قناته في مناظرته له، وقد عرف باستبحاره في اللغة، واعتداده بنفسه، وصلابته في الدفاع عن شعره.
ولم تطب الإقامة للمتنبي في دار السلام، فلم يطل بها مكوثه، بل رجع إلى الكوفة وأقام بها زمنا ثم رحل إلى أرجان وفيها ابن العميد وزير ركن الدولة بن بويه صاحب أصفهان. وكان قد راسل المتنبي إلى العراق فصار إليه في شهر صفر سنة 354ه/شباط 965م، ومدحه وأقام عنده برهة. ثم جاءه كتاب من عضد الدولة بن بويه صاحب فارس يستزيره، فودع ابن العميد، وشخص إلى شيراز، فاحتفى به عضد الدولة، وأحسن وفادته، وأجزل له العطاء حتى بلغ ما وصل إليه منه أكثر من مائتي ألف درهم ما عدا الخلع والهدايا والتحف.
وعرضت لأبي الطيب حاجة في الكوفة، ويظن أنه كان يريد الرجوع إلى حلب، فاستأذن عضد الدولة بالسفر على أن يعود إليه، فأذن له وخلع عليه الخلع الخاصة، ووصله بالمال الكثير، فودعه بقصيدة كافية أنشده إياها في أول شعبان سنة 354ه/2 آب 965م، وكانت آخر شعر قاله، وقد أودعها من التشاؤم على نفسه، بما لم يقع له في غيرها مع كثرة أسفاره. وكثيرا ما تنتاب الهواجس قلب المرء، قبل نكبة مقدورة له، ولا يعلم لها سببا:
وأنى شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا!
مقتله
اختلف الرواة في مقتل المتنبي، فمن قائل إن قاتله فاتك بن جهل الأسدي، ومن زاعم أن عضد الدولة لما وفد عليه أبو الطيب وصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاثة أفراس مسرجة محلاة، وثياب مفتخرة، ثم دس عليه من سأله: «أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟» فقال: «هذا أجزل إلا أن عطاءه متكلف، وسيف الدولة كان يعطي طبعا.» فغضب عضد الدولة، فلما انصرف أبو الطيب من شيراز، جهز عليه قوما من بني ضبة فقتلوه. وقيل إن الخفراء جاءوه، وطلبوا منه خمسين درهما ليسيروا معه، فمنعه الشح والكبر، فوقع له في الطريق ما وقع. على أن الرواية الأولى أشهر، وتحرير الخبر أن رجلا يقال له ضبة بن يزيد العتبي كان قد خرج في الكوفة مع خوارج الأعراب من كلاب، فقتل والده في تلك الفتنة، قتله قوم من الكوفة، وسبيت أمه.
وكان ضبة غدارا بكل من نزل به، فاجتاز به أبو الطيب في جماعة من أشراف الكوفة، فامتنع منهم، وأقبل يجاهر بشتمهم، فأرادوا أن يجيبوه بمثل ألفاظه القبيحة، وسألوا ذلك أبا الطيب، فتكلفه لهم على كراهة وقال يهجو ضبة وهو على ظهر جواده: «ما أنصف القوم ضبة.» وهي قصيدة فاحشة الألفاظ، كثيرة الغثاء حتى إن أبا الطيب كان يكره سماعها إذا رويت له. وقد سببت قتله مع ما فيها من سخف وسفسفة؛ ذلك أنه كان لضبة خال يقال له فاتك بن جهل الأسدي، فداخلته الحمية لما سمع ذكر أخته بالقبيح، فأضمر الشر لأبي الطيب، ولبث يتربص به في جماعة من قومه، قيل إنهم عشرون، وجعلهم عبد الله الكاتب النصيبي في قصيدة رثى بها المتنبي سبعين رجلا، وجعل رفاق أبي الطيب ستة.
وعاد المتنبي من شيراز ومعه بغال موقرة بالذهب والطيب، والكتب الثمينة، والخلع النفيسة، فلما بلغ النعمانية في جبال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد، على مقربة من دير العاقول، خرج عليه فاتك في أصحابه، فقاتل المتنبي حتى قتل هو وابنه محسد، وغلامه مفلح. وروى صاحب العمدة أن أبا الطيب فر لما رأى الغلبة، فقال له غلامه: لا يتحدث عنك الناس بالفرار أبدا وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فكر راجعا فقتل، وكان ذلك في 28 رمضان سنة 354ه/27 أيلول 965م.
ورثى أبا الطيب عدة شعراء منهم صديقه أبو الفتح عثمان بن جني النحوي، ومظفر بن علي الطبسي، وعبد الله الكاتب النصيبي، وثابت بن هارون الرقي النصراني. وهذان استجاشا عضد الدولة على بني أسد؛ لأنهم قتلوا ضيفه، وحووا عطاءه، ولكن عضد الدولة لم يصنع شيئا، وذهب دم الشاعر وأصحابه هدرا.
أخلاقه وصفاته
يصور لنا شعر المتنبي أخص ما يمتاز به صاحبه من الصفات، ففيه الكبرياء والأنفة، والشجاعة، والطموح، وحب المغامرات. وفيه التعفف والترصن، ومجانبة اللهو والهزل، حتى إن شاعرنا كان يكره الخمر لأنها تضيع العقل:
وأنفس ما للفتى لبه
وذو اللب يكره إنفاقه
ولا يكرهها لأن الكتاب حرمها، فتحريم الكتاب عنده دون تحريم ممدوحه إذا أراده على شربها:
وإذا طلبت رضى الأمير بشربها
وأخذتها فلقد تركت الأحرما
ومن يعلو بنفسه إلى منازل الأنبياء والرسل لا يرجى منه تحرج في الدين، فقد روي أن أبا الطيب لم يكن يصوم، ولا يصلي، ولا يقرأ القرآن. ولكنه كان وفيا لأصحابه، فقد ترك حلب غاضبا مقهورا، وقلبه لم يزل يحن إلى سيف الدولة. وبعث أبو العشائر غلمانه ليغتالوه، فلم يقل فيه كلمة سوء، وإنما قال أبياتا تشعر بحبه الأكيد له:
ومنتسب عندي إلى من أحبه
وللنبل حولي من يديه حفيف
وكان يكره التمويه والخداع، فقد شاب وهو غلام فلم يختضب؛ لأن الاختضاب تمويه:
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
وكره كافورا لأنه خدعه وأخلفه الوعد. ولكن عصره كان عصر رياء ومخادعة فاضطره أحيانا إلى محاربة الناس بسلاحهم:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
17
إلا أنه كان يتألم من ذلك:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وساء ظنه بعصره فتشاءم به، واحتقر أهليه، وزاده تشاؤما مغامراته الكثيرة، وإخفاقه المتتابع.
وعيب أبو الطيب بالبخل، فرووا عنه قصصا غريبة لا نطمئن إلى صحتها؛ لأنها تنافي كبره وإباءه، ولأن الشاعر كان كثير الحساد، فوضعوا عليه هذه النوادر ليتنقصوه ويسقطوه. ونحن لا نزعم أن أبا الطيب سخي متلاف؛ فذلك ليس من طباعه، ولكننا لا نراه لحزا شحيحا، فقد طالما ذم الحرص وافتخر بكرمه. ولو كان ممن يحرصون على جمع المال لما استنكف أن يمدح كل أمير يسأله مديحا. وأغلب ظننا أن المتنبي كان مقتصدا؛ لأنه ذاق طعم الفقر في صباه، ورأى فيه ضيما، ونفسه تأبى الضيم، فكره التبذير خوفا من ذل الفاقة، وهو يطلب المجد، وعنده أن المجد لا يدرك بغير المال: «فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله.» فحرص أبي الطيب على طلب المجد جعله يؤثر الاقتصاد، ولا يسرف في الإنفاق.
أستاذوه وعلومه
طلب المتنبي العلم في صباه، ورغب في تحصيله، فحمله والده إلى الشام، فأدخله المكاتب، وطوف به في الحواضر والبوادي، وردده في القبائل، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع. وكان يلزم حوانيت الوراقين، ويقصد أشهر أصحاب اللغة والأدب في الشام والعراق ويأخذ عنهم. فقد جالس ابن السراج، والأخفش الأصغر، وابن دريد، وأبا علي الفارسي، وأخذ عنهم. ولم ينفك يتوغل في البادية، ويصاحب الأعراب، حتى صار بدويا قحا فصيح اللسان، عالما بمذاهب الكلام، مطلعا على غريب اللغة وحوشيها، واسع الرواية لا يسأل عن شيء إلا استشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل إن الشيخ أبا علي الفارسي سأله: «كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟» فقال في الحال: «حجلى، وظربى.»
18
قال الشيخ أبو علي: «فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا، فلم أجده.» وكان كثير الدرس يطوي معظم ليله والكتاب بيده، ولا يرحل إلا ودفاتره معه لا يستطيع عنها صبرا، وهو القائل: «وخير جليس في الزمان كتاب.»
وكان له إلمام بالعلوم الدخيلة، وفي شعره آراء كثيرة اقتبسها من فلاسفة اليونان، ولا سيما أرسطو.
آثاره
لم يخدم الحظ شاعرا بعد موته، كما خدم أبا الطيب المتنبي، فإن الحرب التي أثارها عليه أعداؤه وحساده أقامت في وجوههم أنصارا له ومريدين، فسارت أشعاره على الأفواه، وتناقلها جمهور الأدباء، وعنوا بجمعها وشرحها؛ حتى ذكروا أن شراح ديوانه يزيدون على الأربعين؛ فمنهم في المتقدمين ابن جني، وأبو العلاء المعري، والواحدي ، والعكبري. ومنهم في المحدثين اليازجيان، والبرقوقي.
واهتموا بنقد شعره اهتمامهم بجمعه وشرحه، فمنهم من جار وأسرف كالصاحب بن عباد في كتابه الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، فإنه تتبع سقطاته دون حسناته وشنع عليه؛ لأن المتنبي أبى أن يزوره ويمدحه. وفعل مثله العبيدي
19
في كتاب «الإبانة» ولم يقصر الحاتمي في رسالته الموضحة.
ومنهم من عدل وأنصف كالقاضي الجرجاني؛ فقد ألف كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، ذكر فيه ما للشاعر وما عليه. وكذلك صنع الثعالبي في يتيمة الدهر، والبديعي في الصبح المنبي. وأشهر من نقد شعره في المتأخرين الشيخ إبراهيم اليازجي، فإنه ذيل ديوانه بنقد بليغ بذ به المتقدمين. ثم قام بعده جماعة من الأدباء في الشام ومصر، فدرسوا شعر أبي الطيب درسا تحليليا حديثا. وللمستشرقين - متقدميهم ومحدثيهم - عناية كبيرة بهذا الشاعر، ونقل أشعاره إلى لغاتهم.
ولا ريب أن اهتمام الأدباء بأبي الطيب من نحو ألف سنة إلى اليوم هو لا بد سر من أسرار عبقريته وخلوده. (2-2) ميزته
لا أشبه المتنبي إلا بنسر عتيق أشرف على القمم العالية، باسطا جناحيه زهوا وكبرا، فلاحت له طيور مدومة تريد مجاراته، فانقض عليها كاسرا يصيح بها، فأوسعها رعبا وذعرا، فأسفت جوانح للكلاكل، وراح النسر يخفق بقوادمه وخوافيه، وقد منع حجاب الشمس عن سائر الأطيار.
وأبى أن يقتنع بما أتيح له من عز وسلطان، وهيهات ذلك، وله همة تصك بمنكبها منكب السحاب، ونفس طماعة لا ترضى بما دون نجوم السماء، فحدثته أن يخرج من سمائه، ويحتل سماوات غيره، ففعل؛ فتضافرت عليه نسور غريبة، فردته، فأبي أن ينكص خائبا، فعاود الكرة، فعاوده الإخفاق. وما انفك يغامر ويخاطر حتى تخطفته هوج الرياح، فحطمت جناحيه، فهوى على الصم الخوالد، فتمزق صدره وعيناه ناظرتان إلى عل.
هذا هو المتنبي في شاعريته ونبوغه، في كبريائه وطموحه، في عزائمه ومغامراته، وفي إخفاقه ومماته. فماذا ترك ذلك من أثر في شعره؟ إنه لا بد شيء عظيم، سنتبينه في دراسة أغراضه وفنونه.
مدحه
يشتمل المدح على القسم الأعظم من ديوان أبي الطيب، وفيه تنطوي أكثر فنونه وأغراضه. والمتنبي في مدائحه يسير على طرق مشتبهة المسالك، متواطئة الأفكار، ويعود ذلك على أن الشاعر كان يصور في مدائحه ذاتيته، ومطامع نفسه ورغائبها، ونظره إلى الأشياء المحمودة بعين مكبرة، أكثر مما يصور حقيقة ممدوحه وصفاته التي يمتاز بها. فقد كان أبو الطيب لا يرى خيرا إلا بالرجل الذي يملأ الدنيا، ويترك فيها دويا، الرجل السامي الذي تتمثله مخيلته، وتتوق نفسه إلى بلوغ مرتبته؛ فجعل ممدوحيه صورا لهذا الرجل الخيالي، متشابهة الألوان والأوصاف والأشكال. وكان يرى الرسل والأنبياء رجالا غير عاديين، فطمعت نفسه في منافستهم، والتفوق عليهم، فجعل ممدوحيه في منازلهم، أو أعلى من منازلهم. وكان شاعرنا شجاعا، بعيد الهم، شديد العزائم، فأحب الشجاعة في ممدوحيه، وبالغ في تعظيمها، وأبدع في نعت الأبطال، وذكر حروبهم، ووصف انتصاراتهم، فجاءت مدائحه في سيف الدولة، وفاتك،
20
وبدر بن عمار وأمثالهم، أروع منها في غيرهم. وكان يعنيه أن يرى ممدوحه سخيا معطاء، فافتن في وصف جوده، وغالى في طرق إنفاقه، فجعل كل ما في الدنيا صغيرا في عينه محتقرا، يبذله ولا يسأل عنه. ودونك أمثلة من أقواله في المدح:
أو كان صادف رأس عازر سيفه
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى •••
أو كان لفظك فيهم ما أنزل
الفرقان والتوراة والإنجيلا
21 •••
بمن تقشعر الأرض خوفا إذا مشى
عليها وترتج الجبال الشواهق •••
فما ترزق الأقدار من أنت حارم
ولا تحرم الأقدار من أنت رازق •••
وأرهب حتى لو تأمل درعه
جرت جزعا من غير نار ولا فحم
22
وأضراب هذه المغاليات كثيرة في شعر أبي الطيب لا نرى حاجة إلى الاستزادة منها، ففي القدر الذي أوردناه كفاية للدلالة على نظر الشاعر إلى ممدوحه، وشغفه بكل خارق عجيب. ومثل هذه المعاني وغيرها معادة مكرورة في ديوان المتنبي فلا تكاد تقرأ قصيدة إلا وقعت على شيء منها وجدته في قصيدة سواها. وترداد هذه الأفكار في شعره دليل على ما كان لها من بليغ التأثير في نفسه. وهي إلى ذلك يشوبها الغلو المستكره حتى لينحدر بصاحبه إلى السخف، وربما لا يخلو من المضحكات فيخيل إليك أن الشاعر يهزأ بممدوحه، كقوله:
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
23
ومثل هذه الحماقات يحفل بها شعر صباه أكثر من شعر كهولته.
وأروع مدائح المتنبي ما قاله في سيف الدولة، ويكاد يبلغ ثلث شعره. ويمتاز في وصف الجيوش والمعارك، وصدق العاطفة وإخلاص الولاء، والإدلال على الممدوح، ومخاطبته بلغة العشاق والمحبين. وهذه الخاصة تكاد تشمل جميع مدائح المتنبي، إلا أنها في مدح سيف الدولة أظهر وأدل؛ لأن أبا الطيب لم يحب ممدوحا كما أحب صاحب حلب، ولم يخلص الود لأمير كما أخلص له، فهو شاعر سيف الدولة وإن تعدد ممدوحوه.
وليست مدائحه في كافور كذلك، فإنها كذب محض، وتجارة محض. ولكنها رائعة الفن، بديعة الأسلوب؛ لأن الشاعر استطاع أن يلبسها ثوبا ذا لونين اتحد ظاهرهما واختلفت حقيقتهما، فمزج المدح بالسخر والجد بالعبث، ولا يلام أبو الطيب في مدحه الكاذب لكافور؛ لأنه لم يقصده إلا بعد أن دعاه إليه، ولم يمدحه شغفا بمناقبه، ولكن رجاء أن ينال منه ولاية يمحو بها خيبته، ويفقأ عيون خصومه، ويحقق أحلام صباه؛ فقد كان شاعرنا متهالكا في طلبها، وبه مثل الجنون للحصول عليها، حتى إنه اصطنع التزلف على غير عادته، فكان ينشد العبد واقفا بين يديه، ولم ينشد الحر إلا قاعدا.
ووعده كافور بالولاية فاستنجزه الوعد، فأرهقه مطلا وتسويفا، فكانت نفسه الكبيرة تتألم لعبث الأسود بها، واضطرارها إلى مصانعته. وبوسعنا أن نتبين سوء حالها من تململ الشاعر في كل قصيدة مدح بها كافورا، وإلحافه في طلب الولاية، وتذمره على التسويف:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
24
ولئن كان أبو الطيب بارع الفن في مدح كافور، لقد كان سيئ السياسة في مصاحبته، قصير الحيلة في استمالته، ضعيف النظر في استبصار فطنته، فإنه ما كاد يدخل عليه لينشده أول قصيدة صنعها فيه حتى فاجأه بطلب الولاية، وأظهر له غرضه من مجيئه إليه، فقال في يائيته:
وغير كثير أن يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
فعلم العبد أن أبا الطيب طامع فيه، فساء به ظنه، ومناه الوعود الكاذبة. وأبت نفس المتنبي في جبروتها أن تستتر مع رغبتها في اصطناع التزلف، فطفق الشاعر يتغنى بفضله ويتسامى إلى مقام الملوك فيقول:
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ولعل كافورا خاف من طمعه وطموحه فعالجه بالمطل، أو لعله شك في صلاحه للسياسة والتدبير لما رأى من تهوره وقلة مبالاته. وأحس أبو الطيب ضعف ثقته به فخاطبه بقوله:
إذا كنت في شك من السيف فابله
فإما تنفيه وإما تعده
25
ولكن الأسود لم يشأ أن يبلو هذا السيف، بل تركه متقلقلا في قرابه. ولو اقتصر الشاعر على طلب الولاية، والاعتداد بنفسه لهان بعض الشيء على كافور، ولكن أبا الطيب حسب العبد مغفلا لا يفطن لما يقوله له، فجعل يتنادر عليه في مدحه، ويسخر به في أسلوب موجه
26
لو خفي على كافور لما كتمه إياه ابن حنزابة، وهو يكره الشاعر ويتمنى إسقاطه. وما نرى أنه يخفى على كافور تعابث المتنبي في قوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
27
قال الواحدي: «هذا البيت يشبه الاستهزاء لأنه يقول: طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية المضحكات.» وقال ابن جني: «لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: «ما زدت على أن جعلت الرجل أبا زنة، وهي كنية القرد، فضحك».» ولا نرى أنه يفوت العبد الذكي، أن يكتنه الذم بمعرض المدح في قوله:
فما لك تختار القسي وإنما
عن السعد يرمى دونك الثقلان
28
وما لك تعنى بالأسنة والقنا
وجدك طعان بغير سنان
29
ولم تحمل السيف الطويل نجاده
وأنت غني عنه بالحدثان؟
30
فأن تقول لإنسان: «نم واطمئن فالحظ يخدمك.» لأقرب إلى التهكم منه إلى المدح.
ومهما يكن عليه كافور من الغرور بالنفس، لا نحسبه يخدع بشاعر يفضله على الشمس بشمس سواده، وإن جعل وجه الشبه ضياء مجده:
تفضح الشمس كلما ذرت الشمس
بشمس منيرة سوداء
31
إن في ثوبك الذي المجد فيه
لضياء يزري بكل ضياء
فذكر الشمس السوداء كاف لأن يبعث السامع على الضحك والاستغراب. وقد علمت أن كافورا فطن ذكي، فهيهات أن تذهب عنه مرامي الشاعر، وإن تغافل عنها، وصرفها إلى وجهها الصالح صونا لكرامته وأجاز عليها أبا الطيب وقربه، ولكنه عرف من أين يأتيه، فينتقم منه، فإنه ما زال يعده بالولاية ويماطله حتى أتلف نفسه انتظارا، وأشعل في قلبه حرقا.
وجملة القول أن مدح المتنبي جيد بارع لولا غلوه الممقوت، وأفخمه ما جاء في سيف الدولة، وأبرعه ما جاء في كافور.
رثاؤه
يختلف رثاء المتنبي باختلاف صلته بالمفقود، وشعوره بوقع المصاب، فقد اضطر إلى رثاء أشخاص لم يحزنه الرزء بهم، فجاء شعره متصلب العاطفة، فاقد الشعور، كرثائه لأم سيف الدولة وابنه وأخته الصغرى، ولمحمد بن إسحاق التنوخي، ولعمة عضد الدولة. ولكنه ستر عجزه بإرسال الحكم البليغة ووصف المأتم والجنازة ومدح الميت أو مدح آله. وإن نفسا كبيرة كنفس أبي الطيب تهزأ بالدهر ومصائبه، ويغلب عليها العقل أكثر من العاطفة، لا يهون على الدهر أن يذلها ويلينها، مهما جر عليها من حوادثه وخطوبه. ولكن قد تمر بها أحوال قاهرة تخضعها للعاطفة ولو زمنا يسيرا، فتتصاعد منها زفرات، وتنحدر دموع، كما جرى للشاعر في رثائه جدته لأمه، وأبا شجاع فاتك، وأخت سيف الدولة الكبرى، فإنه ذرف على هؤلاء الثلاثة ثلاث دمعات صادقات. فقد ماتت جدته بالكوفة وهو بعيد عنها، وكان قد طال غيابه بعد أن أخفق في دعوته، فبرح بها الشوق، فأرسلت إليه كتابا تطلب منه أن يحضر، فشخص إلى العراق، ولكنه تعذر عليه دخول الكوفة، لأسباب غير واضحة، فجاء بغداد، وكتب إليها يسألها المسير إليه، وكانت قد يئست فقبلت كتابه شوقا، وغلب عليها السرور فحمت وماتت، فكان لموتها على هذه الحال أثر عميق في نفسه، فجزع عليها وبكاها، وأرسل الدمعة الأولى أحر دمعة روى بها تراب ميت:
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غير ملحقها وصما
أحن إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضما
ومات أبو شجاع فاتك، بعد خروج المتنبي من مصر، وكان أبو الطيب يحبه لشجاعته وكرمه، فرثاه متوجعا، ذارفا دمعته الثانية على ضريح ميت:
برد حشاي إن استطعت بلفظة
فلقد تضر إذا تشاء وتنفع
ما كان منك إلى خليل قبلها
ما يستراب به ولا ما يوجع
وماتت أخت سيف الدولة الكبرى وهو في الكوفة، بعد رجوعه من مصر، فكان في رثائه إياها صادق العاطفة، بين اللوعة؛ مما يدل على إخلاص المودة لها، فجاءت دمعته على قبرها خاتمة دمعاته الثلاث:
ولا ذكرت جميلا من صنائعها
إلا بكيت ولا ود بلا سبب
قد كان كل حجاب دون رؤيتها
فما قنعت لها يا أرض بالحجب
والمتنبي في رثائه مثله في مدحه، يخاطب المرثي مخاطبة المحب لحبيبه، ويؤخذ عليه أنه لم يجتنب هذه الخطة في رثاء الأميرات، فقد خاطب أم سيف الدولة بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي
وإن جانبت أرضك غير سال؟
وقال في أخته الكبرى:
يعلمن حين تحيا حسن مبسمها
وليس يعلم إلا الله بالشنب
32
وما رثى امرأة إلا رفعها من الأنوثة إلى الذكورة، متأثرا بعقلية عصره، فإنهم كانوا يحتقرون المرأة، ويعدونها ضعيفة، مهيضة الجناح. وكان أبو الطيب يحب القوة، ويأنف أن يرثي ضعيفا، فجعل مرثياته ذكورا وربما فضلهن على الذكور. قال في أم سيف الدولة:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
وقال في أخته الكبرى:
وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقت
كريمة غير أنثى العقل والحسب
وقال في عمة عضد الدولة:
ويظهر التذكير في ذكره
ويستر التأنيث في حجبه
33
هذا؛ وإن أحسن حلية تتحلى بها مراثي أبي الطيب هي الحكم والأمثال.
هجاؤه
لم يصطنع أبو الطيب الهجاء آلة للتكسب كما اصطنعه بشار ودعبل وابن الرومي، فالمتنبي أعز نفسا من أن يهبط بها إلى هذا الدرك. وإنما اصطنعه عدة للكفاح يؤذي بها من آذاه، ويدرأ بها عن نفسه. ولا نعد هجاءه في كافور من قبيل التكسب؛ لأنه لم يهجه مهددا ليعطيه ، أو مستقلا عطاءه. وإنما هجاه لأن كافورا آلمه في صميم فؤاده؛ إذ عبث به عبث الوليد بلعبته، حتى إذا ملها اطرحها وحطمها، فقد استقدم كافور أبا الطيب، وكان هذا يأنف أن يتصل به، ووعده بأن يقطعه ولاية يدبر أعمالها، ثم ماطله وكذب عليه، واستأثر به، ومنعه براح مصر، فهذه الأمور أحفظت الشاعر وزادته كرها للعبد فهجاه. وكذلك هجوه لابن كيغلغ فلو لم يؤخره عن السفر لما هجاه. وهكذا هجاؤه لضبة، فإن رفاقه الكوفيين هم الذين حملوه على هجوه، ولم يكن يريده. وليس له في غير هؤلاء الثلاثة هجاء يستحق الذكر إلا أبياتا مبثوتة في عدة قصائده ذم بها الزمان وأهيله، والملوك والحساد والشعراء، فجاءت وليدة الألم والتنافس، والدفاع عن النفس، وحب الذات، والاستئثار بالنفوذ وجوائز الأمراء. وحب الاستئثار بالجوائز يرجع عند المتنبي إلى التنافس والاعتداد بالنفس أكثر مما يرجع إلى الرغبة في التكسب كما يدل على ذلك شعره.
وهجاء أبي الطيب مقذع يؤلم الأعراض، فاحش الألفاظ والمعاني، يمتاز في تلك القوة التي تتغلغل في أجزائه، هي قوة نفس الشاعر العاتية، وفي تلك الأمثال الحكمية التي يتحلى بها جميع شعره. ثم في ذلك التشاؤم الذي تضاعف في صدره بعد الإخفاق المتواصل، فجعله ناقما على الدهر وبنيه. ثم في اشمئزازه من المهجو واحتقاره له، حتى لا يكاد يخاطبه إلا بصيغة التصغير. ثم في تصويره السخري له حتى يجعل منه أضحوكة شوهاء فيصيبه بخلقه وخلقه ومنزلته الاجتماعية.
وسخر أبي الطيب بعيد من أن يكون فيه نكتة لطيفة، أو شيء من الظرف، وإنما هو تهكم حاد جارح يعجب أكثر مما يضحك. وأبرع هجاء قال كان في كافور؛ فإنه افتن فيه ما شاء له الفن، فأرضى به نفسه المتألمة، الثائرة على العبد المتملك. وكافور عند أبي الطيب كويفير بصيغة التصغير، وكناه أبو النتن، وأبو البيضاء. وألقابه الخنثى، والأسيود، والخنزير، والخصي، والنويبي وما شاكل.
غزله
ليس في أخبار أبي الطيب ما ينبئنا أنه أحب يوما، ولا في شعره ذكر لمحبوب يردد اسمه، ويشبب به، ويتشوق إليه . وقد تزوج المتنبي، ورزق ولدا، ولكنه لم يحدثنا بشعره شيئا عن امرأته وحبه لها. ولو لم نعلم أن له ولدا لجهلنا أمر زواجه؛ لأن مؤرخي الآداب سكتوا عنه.
وكان أبو الطيب متعففا يرغب عن الملاهي ومكانس الريب، والقيان والحب الفاجر، فخلا غزله من التعهر والمجون. غير أنه تسرى بالجواري التي أهديت إليه، والتسري عندهم غير ممنوع.
وهو في غزله يؤثر البدويات على الحضريات، وقديما كان الغزل المتعفف في خيام الأعراب. وليس له غزل متحضر إلا في شعره الذي قاله وهو في بلاد فارس، فإن ديار العجم ذكرته بوطنه الذي نشأ به، فحن إلى ديار الشام، وذكر نساءها، وتغزل بهن. ولكن إن هي إلا خطرة عرضت حتى عاد إلى البدويات كأنه لا يجد ارتياحا في ذكر نساء الحضر.
وغير عجيب أن يأنس المتنبي بالأعرابيات وقد تمضى شطر عمره الذي تشتعل فيه نار الحب، وهو يتردد في قبائل البادية، فتفتقت أكمام عاطفته على بسمات البدويات، فشغف بهن، ولم يرقه إلا حسنهن؛ لأنه جمال مطبوع لا مصنوع، وهو يكره التمويه والطلاء:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
34
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
35
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وكان يكثر النزول في بني عدي، وهي قبيلة ضاربة بأرض سلمية من عمل حمص، فشبب بالعدويات وجعلهن عرائس شعره دون أن يسمي واحدة منهن:
لولا ظباء عدي ما شغفت بهم
ولا بربربهم لولا جآذره
36
على أن غزل المتنبي لم يكن قوي العاطفة؛ لأن اشتغال الشاعر بطلب المعالي لم يترك له متسعا من الوقت فيفرغ للحب والنساء. وكان له من نفسه المتصلبة وازع عن الاستسلام لعوامل الهوى، فإذا نسب فاتباعا للأسلوب القديم، وإرضاء للفن، لا تلبية لجرس فؤاده الخافق، أو تحفيفا للواعج أشواقه. ولطالما أراد التغزل فاخشوشن فأسمعك في صباه:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقد قدود الحسان القدود
37
وأسمعك في شبابه:
ركائب الأحباب إن الأدمعا
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
38
وأسمعك وهو على قمة كهولته:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدى كل ماشية الهيذبى
39
وقد تجد له غزلا يروقك، فإذا تدبرته رأيت أن إعجابك به ناجم إما عن صنعة تستحسنها وإما عن معنى جميل تستلطفه، لا لأنه حرك فيك عاطفة كامنة، كقوله:
ولما التقينا، والنوى ورقيبنا
غفولان عنا، ظلت أبكي وتبسم
40
فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها
ولم تر قبلي ميتا يتكلم
وأكثر عنايته بأن يغوص على المعاني الدقيقة ويستخرجها من مكامنها. وأن يدخل الفلسفة على الحب، فإذا صح أن تسميه غزلا في مثل هذه الحال، فهو فيلسوف الغزليين وغزل الفلاسفة. وقد يجيء بالأشياء الحسنة لما فيها من قوة التفكير، ودقة المعنى، وقد يعتاص عليه اللفظ، فما ينجلي له الكلام، وربما تبغض فيه وتبرد. ومهما دار الأمر فإن أرضت الفلسفة في الغزل الأدباء أو المفكرين، لا نراها ترضي حبيبا مرحا لعوبا، تعود أن يفهم لغة العاطفة، لا لغة العقل. وهيهات أن يكون له صبر على إجهاد فكره ليتفهم غزلا خفي المعنى، أو معقد اللفظ قيل فيه. وماذا يهمه من تفلسف أبي الطيب في وضع قانون الصبابة للمحبين ليصح أن يسموا عشاقا:
جهد الصبابة أن تكون كما أرى
عين مسهدة وقلب يخفق
أوليس من التبرد أن يوغل شاعرنا في التفلسف، فيختلق الأعذار للنوى، ويجعل منها شخصا عاشقا حبيبه:
ملامي النوى في ظلمها غاية الظلم
لعل بها مثل الذي بي من السقم
وذهب بعض غزل أبي الطيب مذهب الأمثال؛ لما فيه من فلسفة الحياة في الحب كقوله:
زودينا من حسن وجهك ما دا
م فحسن الوجوه حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدنيا
فإن المقام فيها قليل
فهذا أولى بأن يبعث الزهد والنسك في النفوس، من أن يضرم نار الحب والصبابة. ومن ذلك قوله:
وما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
والهجر أقتل لي مما أراقبه
أنا الغريق فما خوفي من البلل
41
وقوله:
إن القتيل مضرجا بدموعه
مثل القتيل مضرجا بدمائه
وما هكذا لغة المحبين، وبعيد أن يستميل صب حبيبه بالاعتماد على المنطق والأدلة العقلية.
وشيء آخر يميز غزل المتنبي وهو مزج الحب بالحماسة، وخلط ألفاظ الحرب بألفاظ النسيب. وأبو الطيب شاعر فارس، ومن عادة الشعراء الفرسان أن يصطبغ حبهم بدماء الحروب:
وما كل من يهوى يعف إذا خلا
عفافي ويرضى الحب والخيل تلتقي
42
وقد يكون المتنبي أحب كما يزعم، غير أن الحب لم يشغل فؤاده، فيتيمه ويذله، وأراد أن يتغزل أسوة بغيره، فجاء غزله فلسفة وصنعة.
وأنى لنفسه الجبارة أن تخضع للحب وتلين؟ وهي لا تصبو إلى غير ركوب الأهوال، وبلوغ المراتب العليا، فما حبها إلا القوة تحيط بها السيوف والرماح. ولقد أحسن أبو الطيب في تعريف حبه حين قال:
تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
43
محب كنى بالبيض عن مرهفاته
وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
44
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي وأطرافها رسلي
45
فخره
لا يستغرب الفخر في شاعر شجاع باسل متكبر كالمتنبي، فعنصر الفخر مركب في طباعه، رافقه منذ صباه حتى وافته منيته، فقد كان صبيا يوم سمت به همته إلى أن يقول:
أي محل أرتقي
أي عظيم أتقي؟
وكل ما قد خلق الله
وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
وفي هذه الأبيات الثلاثة وضع خطة الفخر التي سار عليها طوال حياته، وهي الارتفاع بنفسه إلى أعلى الدرجات، وتحقير غيره والإزراء به. فأبو الطيب في فخره كثير الاعتداد بنفسه، لا يجد لها صنوا، والناس كبارهم وصغارهم، ملوكهم وسوقتهم، محتقرون عنده.
وليس للشاعر قصائد مستقلة في الفخر، وإنما هي أبيات يوردها في أثناء شكاويه ومدائحه وأهاجيه ومراثيه، وأعجبها ما جاء في قصائد المدح وهي كثيرة، فإنه يجعل نفسه في الثريا شرفا وخيرا، بحيث يصبح كل ما يقوله في ممدوحه لا يعادل ذرة مما قاله في نفسه، فكأن نفسه الكبيرة تأبي عليه أن يطري أحدا قبل أن يؤدي لها حقها من التعظيم والإكرام. وأعجب من هذا أن ممدوحيه كانوا يسمعون تبجحاته وتمدحاته، ويرضون عنه، ويقبلون مديحه، ويجيزونه عليه؛ فكان كمن يستبيهم بقوة شعره، وسحر بيانه، فيستخذون له ولا يستنكفون. فما قولك بشاعر يمدح أميرا ويصدر مدحته بأبيات يقول فيها مفتخرا:
وكيف لا يحسد امرؤ علم
له على كل هامة قدم؟
46
فمهما يقل من مديح في الأمير لا يبلغ به مبلغ هذا البيت الذي وضع فيه قدمه على الرءوس غير مستثن رأس ممدوحه. أوليس عجيبا أن يدخل الشاعر على سيف الدولة معاتبا مسترضيا فيخاطبه بقوله:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
وغير ذلك من أبيات كلها صلف وتعريض. ثم يرضى عنه سيف الدولة ويدنيه ويجيزه، مع أن أبا الطيب لم يقل له كلمة لينة إلا أردف معها كلمات عنيفة، فقد جاءه من عل وملأ مسامعه وناظريه كبرا وتعجرفا، وفتن الأمير بقوة شعره، فاغتفر له سيئاته، وتغافل عما نعت به نفسه من أوصاف لم تنعت بمثلها الملوك.
ومفاخر المتنبي تتناول حينا آباءه، وأحيانا نفسه. وهو إذا افتخر بآبائه يجمل القول فما يعدد لهم مآثر، ولا يذكر لهم أياما، ولا يتباهى بأسمائهم، وإنما يقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وأما إذا افتخر بنفسه فإنه يتسع له مجال القول فيباهي بشجاعته وصبره وعفته وإبائه، وشعره وفصاحته، فتراه يتحدى الزمان ليبارزه:
ولو برز الزمان إلي شخصا
لخضب شعر مفرقه حسامي
ولا يقبل حكما إلا لله:
تغرب لا مستعظما غير نفسه
ولا قابلا إلا لخالقه حكما
وإذا سأل متكسبا كان الفخر حشو سؤاله، فإنه يظهر للممدوح قيمة شعره، فهو كالدر لا يغبن من يعطي عليه درا:
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه
فإنك معطيه وإني ناظم
ويعرض للشعراء فيرمي بهم إلى أسفل، ويحلق فوقهم مغردا، ومدلا بشاعريته على ممدوحه فيقول:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
47
وقلما خلت قصيدة لأبي الطيب من أبيات في الفخر، ولا سيما مدائحه.
وصفه
لم يعن المتنبي بوصف الطبيعة، والتغزل بجمالها، والإفضاء بما توحي إليه أسرارها، ولم يلتفت إلى قصور الملوك وحدائقهم، ولا إلى حلقات اللهو وأدواته؛ لأن نفسه كانت أبعد هما من أن تفرغ لهذه الأشياء، فقد شغلها حب المغامرات، وطلب السيادة والتملك، فلم تجد قبلها غير القوة تصفها على اختلاف صورها وهياكلها. فاتبعها يتقراها في مواطنها، فنظر إلى الطبيعة على قلة احتفاله بها، فلم يبد له منها غير القوة فوصفها في بحيرة طبرية، فإذا أمواجها فحول مزبدة، وطيورها فرسان على خيول بلق، ورياحها جيشا وغى، هازم ومنهزم.
48
وأصابته الحمى وهو في مصر، فما كاد يصفها ببضعة أبيات لطيفة حتى أخذ يتشوق إلى يوم تعود به إليه صحته، فيتمكن من أن يصرف عنانا أو زماما، ويحمل قناة أو حساما. ووصف إنشاء ابن العميد في كتاب ورد منه عليه، فلم يجد فيه غير أسود مفترسة. فالقوة ماثلة في جميع أوصاف المتنبي، تتبينها في تشابيهه واستعاراته، في ألفاظه وعباراته، وفي غلوه وتخيلاته، وأحسن الوصف عنده ما صح أن تتمثل القوة فيه، كوصف أسد ضار يطلب فريسة، ووصف خيول مغيرة تثير غبارا، وجيش زاحف غارق في الزرد، وسيوف مسلولة، ورماح مشرعة، ومعارك حامية الوطيس تضارب فيها الأبطال وتطاعن.
وأبدع في وصف الأخلاق وتصوير الحياة والأشخاص، وصوره مادية واقعية، قلما بث فيها روحا أرفع من روحها، ولكنه يرفعها بالإغراق والتكبير وجمال الفن؛ فما أسده أسدا عاديا ولا شخصه إنسانا بشريا ولا جيشه جيشا مألوفا، وإنما هي أشياء متطرفة عن حدودها تطرف نفسه الجبارة وخياله العنيف الجامح.
وقد وصف الأسد في قصيدة مدح بها بدر بن عمار لما عفر الليث بسوطه ودار به الجيش. ومثل هذه المشاهد الراعبة تثير إعجاب أبي الطيب، فبالغ في وصف الأسد ما شاءت له شاعريته وشاء خياله المبدع. وهذه المبالغة كلها مدح لبدر لأنه أذل بسوطه ليثا هصورا نضد هام الرفاق تلولا. ووصف المعارك فكان كما قال فيه ابن الأثير: «إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا.»
وهذه المعارك هي التي شهدها مع سيف الدولة، فأجاد وصفها، ولم يبرع في وصف الحروب إلا عند صاحب حلب.
ووصف الجيوش والمعامع أروع شعر المتنبي وأفخمه، ولولاه لما جاءت مدائحه في سيف الدولة أجل من مدائحه في غيره، فقد كان مصورا بها لحروبه، ومؤرخا ومخلدا. ومن العدل أن نقول إنه لو لم تجتمع عبقرية المتنبي، وهمة سيف الدولة في الحروب، لما خرج هذا الشعر الرائع.
فلسفته وآراؤه في الحياة
للشعر أغراض متفاوتة يمتاز بعضها من بعض، ويعلو بعضها على بعض، ونرى أن أعلاها ثلاثة؛ فالأول: الغزل وما يتبعه من تشبيب بمحاسن المحبوب وتصوير لأخلاقه، ووصف لمشاعر النفس في حالتي اللذة والألم، والثاني: وصف الطبيعة، واستجلاء أسرارها، والاتصال بمحاسنها وألوانها، الثالث: النظر في الحياة، وما يتعلق بها من عادات الناس وأخلاقهم، وطبائعهم وأذواقهم، ولذاتهم وآلامهم، وتآلفهم وتخالفهم ، وسياساتهم واجتماعاتهم. فإذا قسنا العبقرية في الشاعر على هذه الأغراض الثلاثة، فالمتنبي خاسر في الغرضين الأولين، رابح في الثالث، بل معتصب بأمجد أكاليل العبقرية، متبوئ أعلى مراتبها. فهو لا جرم فيلسوف الحياة؛ لأن فلسفته مأخوذة من صورها وأسفارها.
49
فقد كان لأبي الطيب من حياته وحياة عصره عبر ومواعظ أعمل فيها فكره، وبنى عليها آراءه. وكان له من اطلاعه على الفلسفة العربية اليونانية عون على إبراز فكره ناضجا، مشبعا بالأحكام السديدة، فكتبت له فلسفته صك الخلود، وسارت أمثاله على أفواه الأجيال تطوي وراءها العصور والقرون.
والمتنبي - كما علمت - يحب القوة فغير عجيب أن تقوم آراؤه في الحياة على تعظيمها. وتعظيم القوة يكاد يكون من خصائص الفلسفة العربية منذ طورها الجاهلي إلى عصر أبي الطيب. فقد كان العرب في بداوتهم يعيشون بالغزوات والغارات، فجاءت حكمة شاعرهم ممزوجة بالقوة كما قال زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ثم جاء الإسلام قائما على الجهاد، فلم يجد الشاعر المسلم غير القوة عتادا، فبشر بها وأشاد بذكرها. والمتنبي أحد أولئك المبشرين الذين رفعوا للقوة هيكلا عالي الدعائم. ويختلف عن غيره في أنه كان يبني فلسفته على مشاعر نفسه ورغباتها، فهو لم يعظم القوة إلا لأنه أحبها، وجاهد في سبيلها، ولم ير للحياة معنى إلا بها.
وقد يحب الإنسان القوة ويعظمها، ولكنه يرحم الضعف ويعطف عليه. وأما المتنبي فقد ازدرى الضعيف، وسخر منه، وتنادر عليه:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
ونحن نشرع الآن في تحليل فلسفته، وعرضها على حياته وحالة عصره، لنستخرج منها هذين العنصرين المتضادين ألا وهما: تعظيم القوة، وتحقير الضعف، ونصل إلى الغاية التي يرمي إليها شاعرنا؛ وهي المجد.
ذم الزمان وأهيله
أوتي أبو الطيب نفسا جبارة تسامت به إلى أرفع الدرجات، فخالفتها الأقدار، فأخفقت مرارا، فأفضى بها الإخفاق المتتابع إلى التشاؤم بالزمان وأهله. وقد تشاءم بأهل زمانه لأنه رأى فيهم أعداء وحسادا يكايدونه، ويعكسون آماله، ويخضدون شوكته. ورأى فيهم أيضا من ساعده الحظ ، فبلغ أعلى الرتب، وهو عنده لا يستحق هذا المقام، فكره زمانه، وأشار إليه بذا تحقيرا:
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
50
وكره أهل زمانه، وصغرهم فجعلهم أهيلا، ورماهم بأقبح الأوصاف، فهم قوم ليس الإحسان عندهم في صنع الجميل، وإنما في ترك القبيح:
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس، إحسان وإجمال
وفي هذا البيت حكمة خالدة مع العصور.
كره النسل
وقاده تشاؤمه بالزمان وأهله إلى القول بكره النسل:
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده
حياة، وأن يشتاق فيه إلى النسل
مصاحبة الناس
فأما وقد قضى على أهل زمانه باللؤم والقبح والظلم والجهل، فأصبح من حقه أن يتهم مودتهم ودينهم:
فلم أر ودهم إلا خداعا
ولم أر دينهم إلا نفاقا
ويربأ بنفسه أن ينتسب إليهم:
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
51
سخطه على الملوك
وأبو الطيب ساخط على الملوك، يريد الشر لهم لأمرين؛ أولهما: أنه يرى من حقه أن يرتفع إلى منازلهم؛ لأن فؤاده منهم:
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
والثاني: تألمه من رؤية من تجري معهم التقادير، وهم جهال، فتعلي لهم العروش بعد خمول ذكر. وقد حاول أن يوطئ له عرشا، فلم يفلح، فنقم منهم، وراح يشتمهم، ويتمنى هلاكهم:
ولا أعاشر من أملاكهم ملكا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
اعتقاده بالحظ
ونشأ من هنا اعتقاده بالحظ، فقضى أن العاقل غير مجدود:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
وكان كافور مجدودا لأنه مغفل في نظره: «وجدك طعان بكل سنان.»
الحياة والموت
ولو كان غير المتنبي أصيب بالإخفاق المتواصل في حياته، لأفضى به ذلك إلى الإذعان والخنوع، ولكن أبا الطيب لم يزده الإخفاق إلا عزما وإقداما، وأبى أن يقر بخيبته وعجزه؛ فلم يفتأ يجاهد الأيام ويعارك الليالي فما يسقط في المضمار إلا نهض قائما وهو يقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
أو يقول:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وكان يرى أن «لكل امرئ من دهره ما تعودا»؛ فمن عود نفسه الذل هان عليه احتماله:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
ومن حمل نفسه على ركوب الأخطار هانت عليه مكارهها:
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم
ونظر إلى الموت فرآه ضروريا لحياة الإنسان فقال:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوب
وقضي بأن طعم الموت واحد، سواء مات الإنسان حتف أنفه أو مات في الحروب:
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
ورأى أن لا مهرب من الموت، فاستعجز من يحذره ويخافه، على حين لا يرده حذر ولا خوف، فتولد فيه تحقير الضعف وإيثار القوة:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
وأنكر أن يكون العجز من العقل:
يرى الجبناء أن العجز عقل
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وعلى هذه الآراء بنى صرح الحياة التي يريد أن يحياها، فإذا هي حياة القوة البالغة بصاحبها إلى أعلى قمم المجد.
طلبه المجد
وغير جدير بأبي الطيب أن يطلب من المجد أدناه، وهو يرى أن طعم الموت في الأمر الحقير مثله في الأمر العظيم، فمد نظره إلى أسمى الدرجات وقال:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
ووطن نفسه على الجهاد في سبيل المجد، فعانى الأسفار، وركب الأخطار، فما الدنيا عنده إلا غنيمة الجسور: «والبر أوسع والدنيا لمن غلبا.» فأضعف ذلك فيه حب الوطن، فكان يقول: «وكل مكان ينبت العز طيب.» أو يقول: «إن الدليل غريب حيثما كانا.» ووضع خطته التي يسير عليها لبلوغ المجد فإذا هي:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
52
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
53
فالقوه تحوط هذا المجد من جميع أطرافه، فقبابه الصوارم، وموطنه المعارك، وهدفه تضريب أعناق الملوك ، ولا سلامة له إلا إذا سبح بالدماء:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وهذه القوة التي يتعشقها شاعرنا يدعمها بأشياء ثلاثة لا غنية عنها، وهي الشجاعة والعقل والمال.
الشجاعة والعقل
يقدس المتنبي العقل كما يقدس الشجاعة؛ لأن هذه لا تبلغ بصاحبها المراتب العليا ما لم يصحبها العقل:
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
بلغت من العلياء كل مكان
وهو وإن فضل السيف على القلم مرة في قوله:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: «المجد للسيف ليس المجد للقلم»
فقد فضله بين قوم لا يعظمون العلم، وإنما يعظمون البطش، ولكنه قضى للعقل على الشجاعة بقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
والعقل عنده لا يعادله في التعظيم إلا الشرف:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
المال
وكان يرى أن المال عصب المجد، وأن لا قوة إلا به، فعظم جانبه، ولم يسرف في إنفاقه حفاظا على المجد أن ينهار بشلل أعصابه:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فحبه المال من أجل المجد وحده، فإذا ذهب المجد أصبح المال لا قيمة له ولا نفع: «ولا مال في الدنيا لمن قل مجده.» فالمجد إذن هو المحور الذي تدور عليه فلسفة المتنبي في الحياة.
فلسفته الإلهية
لم يعن أبو الطيب بالفلسفة الإلهية عنايته بفلسفة الحياة؛ لأنه رآها لا تؤدي إلى نتيجة واضحة، فزهد فيها ولم يتعمق في بحثها، غير أنه ترك بعض أقوال لا نرى بأسا في أن نعرض لها موجزين، فنقول: إن الشاعر لم يشك في وجود الله تعالى، ولكنه استخف بالدين والأنبياء والكتب المقدسة، غير حافل. ويظهر أنه تأثر بالحلولية منذ صباه، فقد ذكر هذا المذهب وهو صبي:
نور تظاهر فيك لاهوتيه
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
والحلولية انتحلها جماعة من العلويين، فقالوا بأن روح الله تحل في أئمتهم حتى تبلغ المهدي المنتظر. ونرى أن أبا الطيب قد تلقن هذا المذهب من باطنية الكوفة، ورافقه التفكير فيه إلى أواخر حياته فإذا هو يقول في ابن العميد:
فإن يكن المهدي من بان هديه
فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
ولعل تأثره بهذا المذهب يؤيد الرواية التي تذهب إلى أنه ادعى العلوية في أول أمره، وما العلوية إلا الإمام الباطن، والمهدي المنتظر.
النفس
تكلم أبو الطيب غير مرة على النفس فقال:
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
وهذا مذهب الماديين الذين يقولون بأن النفس من الهواء. وقال أيضا:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول من يرى أن الشر كامن في النفس، وهو مذهب مادي أيضا؛ لأن أصحابه يزعمون أن الخير في الجسم، ويخالفون في ذلك مذهب أفلاطون الذي يقول بأن الخير في النفس، والشر في الجسم. وتكلم أبو الطيب على خلود النفس قال:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
إلا على شجب، والخلف في الشجب
54
فقيل تخلص نفس المرء سالمة
وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين العجز والتعب
55
فقد أقر بعجزه عن إدراك الحقيقة، ووقف حائرا بين القولين لا يبت أمرا. وحاول مرة أن يفسر الحالة التي تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد فقال:
تمتع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
56
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
ولكنه لم يخرج بهذا التفسير من حيرته وعجزه.
المحسوسات
لم يشك المتنبي في المحسوسات، كما أنه لم يشك في المعقولات:
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
الكواكب
وكان الفلاسفة في عصره، والفارابي في مقدمتهم، يقولون بعقول الكواكب، يريدون به تأييد المذهب الانبثاقي الذي اعتمدوا عليه في تعليل خلق العالم، فلم يطمئن المتنبي إلى هذا القول، فسخر به، وأنكره:
فتبا لدين عبيد النجوم
ومن يدعي أنها تعقل
ولكنه اعتقد تأثيرها الطبيعي في حظوظ الناس أسوة بأهل زمانه:
نفى وقع أطراف الرماح برمحه
ولم يخش وقع النجم والدبران
57
على أن فلسفته الإلهية ليست مما ينظر إليه في معيار شاعريته وتفكيره، وإنما تقوم منزلته على آرائه في الحياة.
ما أدرك عليه
كان انحدار المتنبي في مقابحه بقدر ارتفاعه في محاسنه، فجعل منها سلاحا ماضيا بأيدي خصومه يحاربونه به. ولا نريد أن نتقصى جميع ما أدرك عليه، فهذا بحث يطول أمره، وليس محله هنا. وقد عالجه قبلنا جماعة من الأدباء المتقدمين كالصاحب بن عباد، والقاضي الجرجاني، والحاتمي، والثعالبي، والواحدي وسواهم. فبحسبك أن ترجع إلى الوساطة، أو يتيمة الدهر، أو الصبح المنبي لتقع على ضالتك. بل حسبك أن تطالع البحث البليغ الذي ذيل به الشيخ إبراهيم اليازجي ديوان أبي الطيب؛ فإن فيه نهاية الأرب. وإنما نحن نجتزئ بالدلالة على أنواع معايبه، وبيان أسبابها، فنقول: إن المتنبي كان يعنى بتصيد المعاني ويغوص عليها في أبعد قراراتها، حتى إذا أمكنته أبرزها بالثوب الذي يتفق له، فسواء عليه كان كرابيس أو خزا وديباجا. وربما ازدحمت عليه المعاني في البيت الواحد، فيلجأ في إظهارها إلى التقديم والتأخير، والحذف وتقصير الألفاظ، فيكثر تداخله وتعقده ويطبق عليه الغموض، فلا يحصل معناه إلا بعد كد الخاطر وإرهاق الذهن. واستبان للشيخ إبراهيم أن طائفة من غوامض المتنبي ليس فيها كبير معنى بحيث لو حللتها لما رأيت للشاعر عذرا في إلباسها هذا الثوب البالي. وعزا ذلك إلى التعمية في صور التراكيب، وإلباس المعنى غير ثوبه، فقد كان المتنبي يقع على المعنى الساقط فيحاول الخروج به إلى الإغراب، وعلى المعنى المسبوق فيحاول البعد به عن أصله، فيغير ديباجته ويتحذلق فيه حتى يفسده. وأكثر معمياته واردة في أوائل شعره قبل أن تستحكم ملكته، وكان يومئذ يحتذي خطة أبي تمام فيغرب ويتكلف، وينقب عن الوحشي من اللفظ، ويعتمد الصيغ الشاذة، والتراكيب الجافية، ويسرف في طلب المجاز والبديع، فمن ذلك قوله:
أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي؟
58
قال الصاحب بن عباد: «وهذا من عنوان قصائده التي تحير الأفهام، وتفوت الأوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي، والأعداد الموضوعة للموسيقى.» ويؤخذ عليه فساد ذوقه في مطالع المدح:
أوه بديل من قولتي واها!
لمن نأت والبديل ذكراها
59
قال الثعالبي: «وهو برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك.» وعيب عليه الاستكثار من استعمال ذا، وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، ويزيدها قبحا وغلاظة أن تأتي ثقيلة على السمع، متقلقلة في موضعها، ظاهرة التكلف كقوله: «يضاحك في ذا اليوم كل حبيبه.»
وعيب عليه تكرار اللفظ حتى يثقل وقعه، ولا يحسن فيه المعنى:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
60
فقد أراد المغالاة في ممدوحه فحشر نفسه في هذا المأزق المستوحل حتى غرق. وكأن ممدوحه أحب أن ينتقم للشعر فلم يجزه بسوى دينار واحد.
ومن مقابحه خشونته في مخاطبة الملوك:
عيب عليك ترى بسيف في الوغى
ما يصنع الصمصام بالصمصام؟
61
وسوء تخلصه من الغزل إلى المدح:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
إلى التي تركتني في الهوى مثلا
ولم يقنع بتكليفه هذه المهمة الشنعاء حتى جعله يعتقل رمحه ليحارب امرأة، ويأخذ له بثأره منها:
أيقنت أن سعيدا آخذ بدمي
لما بصرت به بالرمح معتقلا
62
ويعاب عليه غلوه المستنكر حتى يخرج به إلى الإحالة، وسرقاته عمن تقدمه كأبي تمام والبحتري وابن الرومي وسواهم، وتكراره للمعاني، وهذا عندي ليس بعيب؛ فللشاعر أن يستعين بمعانيه متى شاء، على أن لا يفرط في تردادها، والمتنبي لم يفرط في التكرار.
وهو أقل الشعراء إخلالا بالأوزان، فليس في ديوانه إلا بيت أو بيتان خرج بهما عن الوزن كقوله:
تعثرت به في الأفواه ألسنها
والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
63
فقد اختلس حركة الهاء من به. ويدرك عليه بعض سقطات في اللغة كقوله:
من لبيض الملوك أن تبدل اللو
ن بلون الأستاذ والسحناء
64
ووجه الكلام أن يقول: «أن تبدل بلونها لون الأستاذ.» لأن ما دخل عليه حرف الجر في هذا الفعل كان هو المتروك. (2-3) منزلته
أوتي المتنبي شهرة لم يؤتها شاعر قبله، فسار شعره على غوارب السنين والأحقاب، تردده الحواضر والبوادي، وتختصم فيه مجالس الأدب، وتعقد عليه حلقات الطلب. وحجب شعراء زمانه فلم يذكر معه إلا أبو فراس، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه. وكان من عداوة الأدباء له أن ضاعفت سيرورة شعره؛ لأن اهتمامهم بنقد أقواله، وإظهار معايبه، جعل الناس يلتفتون لفته من كل صوب، وقام له أنصار ينافحون عنه، ويردون حجج خصومه، فصنفت الكتب في ما له وما عليه، وعني الشراح بتفسير ديوانه لكثرة الراغبين فيه، فكتب له الخلود في أرفع ألواحه، وتبوأ أعلى درجاته. هذا ولسنا نزعم أن خلوده مدين لعداوة الأدباء دون غيرها، فلو لم يكن في شعره ما يستحق هذا الاهتمام لما شغل به الناس، وملأ الدنيا على حد قول ابن رشيق؛ فإن في شعره من قوة البلاغ، وطيب المساغ، ما يستبي الأسماع، ويلج القلوب بغير استئذان. ولربما قرأت له قصيدة دون أن تبغي حفظ شيء منها فما تتركها إلا وأنت راوية له على الرغم منك. ولا ريب في أن ذلك عائد على فرة مقلداته التي استقاها من فلسفة الحياة، فلا تقع حادثة في نظام الاجتماع إلا كان لها في شعره ما يتمثل به، فكأنه كما يقول الشيخ إبراهيم اليازجي: «ينطق بألسنة الحدثان، ويتكلم بخاطر كل إنسان .» وقد وفق لإفراغ هذه المقلدات في قالب سهل واضح، فساغتها النفوس، وعلقت بالحوافظ، وقلما وجدت له بيتا عائرا إلا وقد جمع حلاوة اللفظ وشرف المعنى.
وشيء آخر عمل لتوطيد شهرة المتنبي وخلوده، وهو ما تجد في شعره من تصوير المعامع، وإطراء الشجاعة والحمية والشرف؛ فإن الإنسان مطبوع على حب القوة، يلذ له أن يتغنى بها، ويتمنى أن ينسب إليها ولو كان ضعيفا. وكذلك الإنسان يكبر الشرف والحمية، وإن كان دنيئا ساقط المروءة، فاشتمال شعر أبي الطيب على هذه الميزات العالية ملكه قلوب الناس وخواطرهم، فحفظوه واستشهدوا به، حتى إن الصاحب بن عباد وهو أشد خصومه لددا كان أحفظهم لشعره، وأكثرهم تمثلا به في محاضراته ومكاتباته. ولا يزال شعر المتنبي في زماننا معينا نميرا يترشف منه الشعراء والكتاب.
وامتازت لغة المتنبي في قوتها فلاءمت بها قوة نفسه ومعانيه وأغراضه، وتبدو هذه القوة في ألفاظه الصلبة، وتراكيبه المتينة، وتشابيهه واستعاراته؛ يمدها خيال بدوي عنيف، يسبح في سماء محجبة بالغيوم، تنقض منها الصواعق، وتثور فيها الزوابع، وتنقذف عنها الرجوم، فما يعود إلا مضرجا بالدماء.
وكان لحياته المضطربة تأثير في توجيه عاطفته، فإن تردده في البادية، ومغامراته الكثيرة، وإخفاقه المتتابع، وتشاؤمه بالزمان وأهله، جعل عاطفته تنمو مخشوشنة متصلبة، لا ترتاح إلى سوى العنف والشدة. وكذلك أثرت فيها ثقافته الفلسفية وتطلبه للمعاني؛ فضعف عملها في كثير من المواطن بقدر ما قوي عمل التفكير.
وتتفاوت ديباجته، فأحيانا تنجلي صافية لها رونق ورواء، فتطرب وتبهج وتحمس، وأحيانا تتجهم كدرة معقدة نافرة، فتضيق بها النفس وتتأذى منها الآذان.
وأبو الطيب يمثل شطرا كبيرا من عصره، ففيه تتجلى تلك النهضة الفكرية التي سمت بها العلوم والفلسفة والمنطق. وفيه يتمثل اتساع الرزق على الشعراء لتعدد حواضر العلم والأدب، وتنافس الأمراء في استقدام الشعراء ليمتدحوهم، ويغالوا في نعوتهم حتى أصبح الشعر تكسبا كله. وفيه يتمثل اضطراب الحالة السياسية، وتحفز كل ذي طموح إلى التملك، وكثرة الحروب والخروج والفتن.
وعلى الجملة فشعر المتنبي مستند تاريخي لزمانه. وهو أبرع من وصف جيشا، وصور ملحمة، ولو طالت ملاحمه لسد ثلمة في الشعر العربي. وهو أكثر الشعراء المتقدمين بيتا مقلدا، وأنضجهم تفكيرا وحكمة، وأبصرهم بفلسفة الحياة، وأخلدهم على كرور الأجيال. (3) أبو فراس 932-967م/320-357ه (3-1) حياته
هو الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني، عربي النجار ينتمي بعمومته إلى تغلب فربيعة الفرس، وبخئولته إلى تميم فمضر الحمراء لقوله:
لم تتفرق بنا خئول
في العرب أخوالنا تميم
وكنيته أبو فراس، ولد على الأرجح في الموصل حيث كان أبوه وأسرته وقتل أبوه وعمره ثلاث سنوات، قتله ابن أخيه ناصر الدولة؛ لأنه سعى سرا في ضمان الموصل وديار ربيعة من جهة الراضي بالله الخليفة العباسي. فنشأ أبو فراس يتيما تحتضنه أمه، ويعطف عليه ابن عمه سيف الدولة أخو ناصر الدولة.
فلما قام عرش الحمدانيين في حلب سنة 333ه/944م كان شاعرنا في جملة من ضمهم بلاط سيف الدولة من آل حمدان، فشب في كنف ابن عمه يشمله حنانه ورعايته، فرسخت محبته في قلبه صبيا، وميزه سيف الدولة بالإكرام عن سائر قومه؛ لما رأى من نجابته ومحاسن أخلاقه.
ولقي أبو فراس في الحضرة جمهرة من كبار العلماء والأدباء، فتخرج عليهم في اللغة والشعر والرواية حتى برع. ولما بلغ أشده أخذ سيف الدولة يستصحبه في غزواته، ويمرسه بمواقف الأهوال، فخرج فارسا مغوارا، بصيرا بمواقع الطعن والضرب، فحارب الروم، ونازل الدماسق،
65
وسطا على القبائل الثائرة بابن عمه؛ فأذل كعبا وكلابا، ونميرا وقشيرا. وأصبح لا يطيب له غير مقارعة الكتائب، وملاقاة الأبطال، والذود عن حياض الملك، حتى إذا استخلفه الأمير على أعماله، ولم يستصحبه في غزوة غزاها، تكدر وتوسل إليه أن لا يحرمه صحبته:
لا تشغلن فأرض الشام تحرسه
إن الشآم على من حله حرم
66
لا تحرمني سيف الدين صحبته
فهي الحياة التي تحيا بها الأمم
67
وأقامه سيف الدولة على منبج، فتولى أعمالها، وحارب الروم دونها.
أسره
تضاربت الروايات في أسر أبي فراس، فمن قائل إنه أسر مرة واحدة، ومن زاعم أنه أسر مرتين، فقد حدثنا صاحب يتيمة الدهر بأن الروم أسرته في بعض مواقعها بعد أن جرح بسهم أصابه في فخذه، وبقي نصله فيها، فحمل إلى خرشنة
68
ثم إلى قسطنطينية. وذكر ابن خلكان هذه الرواية، وأسندها إلى أبي الحسن علي بن الزراد الديلمي، وجعل تاريخ أسره سنة 348ه/959م وتاريخ فدائه سنة 355ه/965م، ثم استدرك فزعم أن المؤرخين نسبوا ابن الزراد إلى الغلط، وقالوا: أسر أبو فراس مرتين، فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة 348ه وما تعدوا به خرشنة. وبني على نجاته أسطورة، فقيل إنه ركب فرسه وركضه برجله، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات. والمرة الثانية أسره الروم وهو على منبج في سنة 351ه/962م وحملوه إلى قسطنطينية، فأقام فيها أربع سنوات حتى افتداه سيف الدولة سنة 355ه.
أما نحن فنميل إلى ترجيح الرواية التي تقول إنه أسر مرة واحدة لأسباب منها: أن الثعالبي - وهو أقرب الرواة عصرا إلى أبي فراس - لم يذكر له سوى أسرة واحدة، ولم يرو أسطورة نجاته كما رواها ابن خلكان، مع أنه شديد الإعجاب به لا يذكر اسمه إلا بالإعظام، فلو صحت الأسطورة والأسرة الثانية، لما غفل عنهما صاحب يتيمة الدهر. ومنها: أن الرواة لم يختلفوا في شأن الفداء، فقد اتفقوا على أن سيف الدولة افتداه مرة واحدة وهو أسير في قسطنطينية. ومنها: أن أبا فراس لم يقل رومياته إلا بعد أن طال أسره، وأبطأ سيف الدولة في بذل فدائه، وله رومية شهيرة نظمها في خرشنة، وبعث بها إلى سيف الدولة لما علم أن والدته قصدت إليه من منبج تكلمه في المفاداة فلم يجب طلبها، وفيها يقول بلسان أمه:
يا من رأى لي بحصن خرشنة
أسد شرى في القيود أرجلها
69
فهذا يدل على أنه أخذ يعاتب ابن عمه وهو في خرشنة، فالراجح أنه لم يؤسر غير مرة واحدة سنة 351ه فامتد أسره إلى سنة 355، فتكون مدة أسره أربع سنوات، سلخ بعضها بخرشنة، وبعضها الآخر بقسطنطينية، ونظم رومياته في كلا المحبسين.
ذكر ابن خالويه أن ابن أخت ملك الروم كان أسيرا عند سيف الدولة ، فلما وقع أبو فراس أسيرا في يدي أخته، سامه إخراج أخيه المأسور أو دفع فدائه، فكتب أبو فراس إلى سيف الدولة يسأله المفاداة، فامتنع سيف الدولة من إخراج ابن أخت الملك إلا بفداء عام، فحمل أبو فراس إلى القسطنطينية، وسيف الدولة يأبى أن يفتديه فداء خاصا، فبقي أسيرا أربع سنوات حتى تيسر الفداء العام. ونحن نرى أن صاحب حلب لو أراد تعجيل الفداء لما عز عليه أن يطلق ابن أخت الملك ليطلق أبو فراس، ولكنه آثر التسويف لغرض في نفسه، ولعله أحس من الشاعر الفارس طمعا في الملك، وتريب من دلاله وزهوه بشجاعته، فرأى أن يصرفه عن وجهه زمنا، ويمد في أسره، ليضعف عزائمه، ويريه أن الدولة غنية عنه، وأن النصر يتم بدونه، ففعل ما فعل حتى حان وقت الفداء فافتداه.
موته
توفي سيف الدولة سنة 356ه/966م بعد خلاص أبي فراس بعام واحد، وخلفه ولده أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت شاعرنا، يعاونه على الأمر قرغويه مولى أبيه. فخطر لأبي فراس أن يتغلب على حمص ويقطعها، وهذا يؤيد ما زعمناه من مطامعه في الملك، فقصده قرغويه بجيش إلى حمص، فاستظهر عليه وقتله. وروى ابن خلكان عن ثابت بن سنان الصابي أن جثته بقيت مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الأعراب فكفنه ودفنه، وقد رثاه أبو إسحاق الصابي بقصيدة أشار إليها الثعالبي، ولم يذكر منها شيئا.
صفاته وأخلاقه
كان أبو فراس طويلا بدينا، تبدو عليه دلائل القوة والبطش، وقد وصف نفسه فقال:
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى
طويل نجاد السيف رحب المقلد
70
وشاب وهو في العشرين:
وما زادت على العشرين سني
فما عذر المشيب إلى عذاري؟
71
وأصابته طعنة في خده فبقي أثرها:
ما أنس قولتهن يوم لقينني:
أزرى السنان بوجه هذا البائس
72
ووصفه الثعالبي فقال: «كان فرد دهره، وشمس عصره، أدبا وفضلا، وكرما ونبلا، ومجدا وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة.» ا.ه.
وكان كغيره من أبناء الملوك يميل إلى اللهو والعبث والسماع، ولكن حياته كانت سلسلة حروب وغزوات ، وأسر واعتقال، فلم يتح له أن يتنعم بمخضر العيش، ويرتوي بماء الشباب، فكان يفترض اللذات افتراضا، فإذا سنحت له شرب وطرب، ولها وعبث، ودلف إلى بيوت الخمارين:
وقمنا نسحب الريط
إلى حانة خمار
73
وما في طلب اللهو
على الفتيان من عار
وكان صبورا لا يستخفه الجزع، ولا يوهى له جلد، ولطالما أوصى بالصبر وافتخر به. وهو إلى ذلك حسن التدين، عظيم الثقة بعناية الله. وكان يتشيع للعلويين.
آثاره
لأبي فراس ديوان جمعه ابن خالويه بعد موته، وأورد له الثعالبي في يتيمة الدهر طائفة حسنة من مختاراته، ولا سيما الروميات. وأفضل طبعات هذا الديوان ما أخرجته المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1945 بعناية سامي الدهان الذي تولى جمعه ونشره وتعليق حواشيه ووضع فهارسه. (3-2) ميزته
الشعر عند أبي فراس ألهوة يتلهى بها، وبلسم يداوي به كلومه، وقمطر يجمع فيه مفاخره. وقد أغناه الله عن السؤال بعزة الملك، ونعيم الدولة، فلم يصطنع المدح ولا الهجاء، وإنما مدح قومه وعشيرته ، وهذا فخر لا مديح:
نطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي
فما أنا مداح ولا أنا شاعر
74
ومدح بعض أصدقائه من آل ورقاء وسواهم، وهذا من نوع الإخوانيات.
فالمدح والهجاء لا حظ لهما في شعر أبي فراس، وما القصيدة التي هجا بها العباسيين، ومدح العلويين، إلا من النوع السياسي، اندفع إليه شاعرنا بعاطفة التشيع لعلي وأبنائه.
ولم تكن حياته المضطربة لتسمح له بأن يفتن في وصف مشاهد الطبيعة، وأسباب اللهو، فلم يترك فيه شيئا يستحق الذكر.
وكذلك الرثاء لم يكن له يد فيه، فقد ماتت أخته فرثاها، فلم يحسن رثاءها. وماتت أخت سيف الدولة، فأراد أن يرثيها فكان رثاؤه مواساة لأخيها. ورثى ابن سيف الدولة فما تم له الإحسان. ومات سيف الدولة فلم يقل فيه شيئا على ما بينهما من مودة وقربى. وما كان لأبي فراس أن يقصر في الرثاء، وهو شاعر عاطفي، والرثاء قوامه العاطفة، ولعل تعوده ركوب الأهوال والمخاطر جعله يستهين الموت فما يرتاع له، ولا يرى فيه ما يبعث على الجزع؛ فكان يستقبل مصائب الدهر في شيء من الأنفة والاستكبار، وحبس عاطفته فلم يطلق لها العنان في التفجع والإرنان. وربما كان سكوته عن رثاء سيف الدولة مسببا عما وقع بينهما من جفاء من أجل الفداء.
ونظم في الحكم فما تأتت له البراعة؛ لأن العاطفة إذا غلبت أضعفت قوة التفكير، وإنما ترك بعض أبيات جرت مجرى الأمثال كقوله: «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.» وقوله: «ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر.»
وله في الإخوانيات شعر حسن، وخصوصا ما كان منه في تسلية صديق نابته نائبة كالقصائد التي بعث بها إلى أبي العشائر، وكان هذا أسيرا عند الروم.
وأجمل شعره ما جاء في مفاخره ورومياته، ونحن نعتمد عليها في دراسته ونلم إلماما بغزله.
غزله
لأبي فراس غزل يأتي به مرة في صدور مفاخره وإخوانياته، وأخرى مستقلا في مقطعات صغيرة. ويختلف عن غيره من متغزلي المولدين بأنه لم يتعهر فيه، وإن استخف في بعضه حيث يذكر مجالس لهوه. ولم يتذلل لمن يحبه، فيدعوه بسيده ، ومالك رقه، أو يفرش خديه تحت أقدامه، بل يغلب عليه الكبر والأنفة. وإذا برح به الوجد حبس دمعه على عيون الناس لئلا يتبينوا فيه ضعفا، وأبى أن يبكي إلا محتجبا بقميص الليل. ثم لا يغفل عن نعت دمعه بصفات ترفعه من وهدة الذل، فهو العصي، ومن خلائقه الكبر.
وإذا رأى من حبيبه صدودا استرضاه على شيء من الاعتداد بالنفس:
أجملي يا أم عمرو
زادك الله جمالا
لا تبيعيني برخص
إن في مثلي يغالى
وليس لشعره عروس اشتهر بها، وقصر نسيبه عليها، فحينا يذكر أم عمرو، وآخر عمرة، وكثيرا ما يشبب بشخص لا يسميه. وألطف غزلياته، وأشملها لميزته في هذا الفن، قوله في صدر إحدى رومياته:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟
وقد تغلب الصنعة على غزله، ولا سيما مقطعاته؛ فإنه كان يزينها بألطف التشابيه والاستعارات، ويوشيها بأنواع البديع حتى يكاد يبعد بها عن الطبع.
مفاخره
لا يستغرب الفخر من شاعر كأبي فراس، تحلى بأشرف صفاته ومعانيه: فمن فروسية وشجاعة، وإباء وعفة، إلى نسب رفيع وحسب كريم، إلى شاعرية جوادة، وبيان ساحر. فإذا افتخر أمعن في وصف شجاعته وإقدامه، وبلائه في الحروب، وباهى الناس بآبائه وأعمامه وجدوده، وعدد أيامهم وحروبهم، ومدح سيف الدولة، وذكر مناقبه، وفاخر به لأنه ابن عمه ومربيه. وله رائية طويلة تبلغ مائتي بيت وخمسة عشر بيتا، تكاد تشتمل على جميع خصائصه في الفخر، أكثر فيها من ذكر الغزوات والوقائع. ولو عني بالوصف والتصوير، كما عني بسرد الأخبار، لترك ملحمة من فرائد الشعر القصصي. ووصف المعارك والجيوش والعدد ضعيف في شعر أبي فراس على الإجمال، فقد كان همه في تعداد انتصاراته، والإدلال بشجاعته وكرمه، وعفته وحلمه.
وقلما ترى في مفاخره اعتدادا مستكرها كاعتداد أبي الطيب، وخروجا إلى الإحالة كخروجه، وإن وقعت على شيء من ذلك ساغته نفسك، ولم تنفر منه، لقربه من الطبع وبعده من التكلف، فتتمثل فيه أميرا معجبا بنفسه، مزهوا بمناقب قومه، يتكلم بعاطفته لا بعقله، والشعر العاطفي محبب إلى القلوب كيفما جاء.
ويمتاز فخره في نفحته الملوكية، وفخامة لفظه وشدة أسره، ولكنه لا يخرج إلى الوحشي من الكلام.
رومياته
ويراد بالروميات القصائد التي قالها الشاعر وهو أسير في بلاد الروم، فقد آلمه أن يتناساه ابن عمه، ويهمل أمره، ولا يذكر ما له من بيض الأيادي في دولته. وكان يزيده ألما ما يبلغه من الأخبار عن والدته الحزينة، فإنها لم ترفأ لها دمعة طوال أسره. وقصدت من منبج إلى حلب تلتمس الفداء من سيف الدولة، ثم عادت خائبة، مكلومة الفؤاد، مكسورة الخاطر، وما إن علم الأسير بخبرها، حتى قبضت على صدره غصة القهر، فثار ثائره، وفاضت مشاعره، وبث أشجانه في مسامع بنات عاطفته.
والروميات تشتمل على أجمل المزايا التي تحلى بها أبو فراس، ففيها عزة نفسه وإباؤه، وجرأته وشجاعته. وفيها حبه لوالدته، وحنينه إلى صبيته ووطنه. وفيها صبره وجلده وثقته المكينة بعناية الله. وفيها شكايته لسيف الدولة وعتبه عليه. فكأنها مذكرات ضمنها ما كان يمر به وهو مأسور.
وكان يتوقع من سيف الدولة أن يعجل افتداءه ، فلما استبطأه أرسل إليه يحثه على بذل الفداء:
دعوتك للجفن القريح المسهد
لدي وللنوم القليل المشرد
وتأبى على أبي فراس نفسه الكبيرة أن يتذلل في طلب الفداء، لما به من أنفة وعزة، فإما أن يطلبه لأنه يريد أن يموت قتيلا لا موسدا، أو لأن ملك بني حمدان ليس به غنى عنه. وإما أن يطلبه من أجل أمه العجوز:
لولا العجوز بمنبج
ما خفت أسباب المنيه!
ولكان لي عما سأل
ت من الفدا نفس أبيه
وخطر له أن يلتجئ إلى خراسان بعد أن أوجعه تباطؤ سيف الدولة عنه، فكتب إليه يقول: «مفاداتي إن تعذرت عليك، فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني، وينوبوا عنك في أمري.» فأثر ذلك في سيف الدولة، وساءه أن يفزع ابن عمه إلى قوم أعجام غرباء، فأرسل إليه يقول: «ومن يعرفك بخراسان؟» فآلم أبا فراس أن ينسب إلى الخمول، فقال من قصيدة يعاتب بها سيف الدولة:
فلا تنسبن إلي الخمول
عليك أقمت فلم أغترب
وأصبحت منك فإن كان فضل
وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن أنكرت
علاي فقد عرفتها حلب
75
وهذا قول لا يصدر إلا عن نفس عزيزة، لا تلين لها خنزوانة مهما تراخى بها الأمر، وتألبت عليها المصائب. وربما ناظر شاعرنا الدمستق، وفخر عليه، ورماه بقوارص الكلام، غير خاش مغبة جراءته، ولا مبال على أي جنبيه وقع الأمر، فمن قوله فيه وقد تناظرا في أمر الدين:
أما من أعجب الأشياء علج
يعرفني الحلال من الحرام
وقال له الدمستق يوما: «إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب.» فأحفظه ذلك من عدوه فرد عليه: «نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة، بالسيوف أم بالأقلام؟» وله شعر في ذلك.
ولشد ما كان حنينه إلى وطنه وأهله، فقد جمعت في صدره الشجاعة والصبر، والرقة والحنو، ولكل من هذه الصفات أثر بليغ في حياته، ولا سيما حياة أسره، فبينا تراه يعاتب ويهدد ويعظ ويؤنب، إذا هو يلين ويلطف فيبث صبابته، ويشرح هواه، ويناجي والدته وصبيته وخلانه، وقد تهيج به الذكرى ريح تهب شآمية، أو عيد يمر به، أو حمامة تنوح على شجرة، فتفيض شجونه، ويتسلى بالأشعار:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة:
أيا جارتا! هل تشعرين بحالي؟
وجملة القول إن أبا فراس تعذب في الأسر كثيرا، ولقي أشد العنف والإرهاق، ولكنه لم يخفض رأسه، ولا أذل نفسه، بل ظل شديد العزيمة، صليب العود، بادي الشمم، جريء القلب، يجابه العدو في عقر داره، متدرعا بالصبر، متوكلا على رحمة الله.
ولا بد من القول إن لأسره يدا على خلوده، وعلى الأدب معا، فلولا رومياته لما كان له في سائر شعره ما يتميز فيه من الشعراء العاديين. ولولا أسره وشقاؤه لما جرى طبعه بهذه القصائد الرائعة، فجاء بها ذوب العاطفة المتألمة، وعصارة النفس الكليم، فكتبت اسمه في سفر الخلود، ومهرت الأدب نوعا طريفا من الشعر الوجداني.
ما أدرك عليه
أدرك على أبي فراس من السرقات كما أدرك على غيره، ولكنه يعاب في ما سرقه عن أبي الطيب المتنبي، مع كرهه له، وتسريقه إياه، كقوله:
راميات بأسهم ريشها الهد
ب تشق الجلود بعد القلوب
وقد قال أبو الطيب:
راميات بأسهم ريشها الهد
ب تشق القلوب قبل الجلود
ومما يدرك عليه أخذه باللغات الضعيفة كقوله:
وما أسفرت عن ريق الحسن إنما
نممن على ما تحتهن المعاجر
76
فهذه لغة أكلوني البراغيث. وربما رفع خبر كان وأخواتها، وسكن الفعل المضارع حيث لا مسوغ للتسكين، كقوله:
قد منحت الرقاد عين خلي
بات خال مما يجن ضميري
77
وقوله:
لست أعتبك، والعتاب لروحي
قاتل، والعذاب غير وجيب
78 (3-3) منزلته
قال الصاحب بن عباد: «بدئ الشعر بملك، وختم بملك.» يعني امرأ القيس وأبا فراس. وقال الثعالبي: «وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام.» ا.ه.
وقد حق لأبي فراس أن يستوي على الدرجة الرفيعة مع الشعراء، ولكن الأدباء المتقدمين لم يلتفتوا إليه كل الالتفات لأسباب منها أن معاصرته لأبي الطيب أخفتت صوته، كما أخفتت أصوات غيره من أصحاب الشعر، إلا أن أبا فراس كان أظهر منهم لمكانته في دولته. ومنها أن المتقدمين كانوا يبنون مقاييس الفحولة على المدح والهجو؛ فمن لم يشهر بهما لا يعد في الفحول. ولم يكن بأبي فراس حاجة إلى هذين الفنين فلم يصطنعهما، فانحدرت منزلته بعض الشيء ولم يعدوه في الطبقة الأولى، ولكنهم ختموا به الشعر، وفضلوه على ابن المعتز. وبين هذين الشاعرين شبه، فكلاهما ملك قال الشعر متلهيا لا متكسبا، ونظمه في الفخر والغزل والإخوانيات، إلا أن حياة ابن المعتز كانت راحة ورخاء، فأكثر من وصف الرياض والحدائق، ومجالس اللهو، وغدوات الصيد، فغلبت الصنعة على شعره. وكانت حياة أبي فراس حربا وأسرا، فأجاد الفخر والحماسة وأبدع في رومياته، وغلبت على شعره العاطفة؛ لأنه لم يتكلفه تكلفا، وإنما جرى به طبعه الصحيح، وهو في أشد حالات التأثر محاربا كان أو أسيرا.
واستسلامه إلى العاطفة المطلقة جعل في خياله ضيقا، فلم ينفسح له مجال التصوير والتزيين؛ فقد كان يصف حالته في الأسر كما يحسها ويشعر بها، لا كما تجسمها المخيلة وتوسعها. وكان يصف الحروب، ويذكر الوقائع دون أن يلجأ إلى الخيال لتلوينها وتعظيمها فعل المتنبي، فصوره الخيالية قصيرة الخطى، قريبة المدى، ولكنها لطيفة محببة.
وتمتاز لغته في حسن اختيار الألفاظ وجمال التعبير، ففيها الجزالة وشدة الأسر في موضع الشدة، وفيها الرقة والسهولة في موضع الحنو. وجدير بنا أن ننصف أبا فراس فنقول: إنه جيد الشعر في حماسياته، مبدع في رومياته، شاعر العاطفة في كلتيهما. وهو الشاعر الملك، والملك الفارس، والفارس الأسير.
هوامش
الفصل التاسع
الكتاب المولدون
العصر الثالث (1) ميزة النثر
تبدل النثر ميزة جديدة ظهرت في إنشاء المترسلين، ووضعت لها القواعد والأصول، وأقيمت الأهداف والحدود، فكان منها أسلوب واضح المعالم، يعتمد على الصناعة والتنميق. والترسل منذ نشوئه قائم على الصنعة والتزيين؛ لأنه وليد المواطن الأرستوقراطية المترفة، فقد كان أصحابه الأوائل، إما وزراء وأمراء، وإما متقربين إلى الوزراء والأمراء، ومعظمهم من الموالي المستبحرين في الحضارة، فكان الزخرف والتنوق في العبارة من أخص غاياتهم. ولا بدع فترف الألفاظ من اتباع ترف الحياة ولا سيما الترسل فإن أغراضه قليلة، فإذا لم يحسن فيه تصريف الكلام، ضعف شأنه وانحطت منزلته. ولكنه كان في الأعصر الأولى غير بين التكلف لصحة طباع أهله، ثم تداولته الأجيال، فسارت به الصنعة في طريق الكمال بعامل النشوء والارتقاء. فما إن اكتهل العصر الثاني حتى بات المترسلون يلتزمون المحسنات اللفظية والمعنوية التزاما، ويتكلفونها تكلفا.
وكأن الأقدار أبت إلا أن يظل الترسل في أيدي الأعجام يتعهدونه بأذواقهم حتى يبلغوا به أقصى حدود الفن والصناعة. وأتاحت له كاتبين بليغين عبدا طريقه بما لهما من واسع السلطان، وبراعة الإنشاء، ألا وهما ابن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة ففخر الدولة، فارتفع شأن الترسل بهما، وتعشقه الكتاب، وجلهم عجم متقربون إلى الحضارة، فاحتذوا مثالهما، وساروا بالأسلوب الجديد إلى أعلى درجاته، ونبغ فيهم أمثال أبي بكر الخوارزمي، وأبي إسحاق الصابي، وبديع الزمان الهمذاني، وأبي منصور الثعالبي وسواهم. (2) إنشاء المترسلين
يتناول الترسل عدة أغراض متلونة، فمنها الإخوانيات على اختلاف أبوابها، ومنها مقدمات الكتب، ومنها مناظرات الأدباء كمناظرة أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، أو مناظرة المتنبي والحاتمي، ومنها المناظرات السياسية كمناظرات الشيعة والعباسيين، والشعوبية والعرب، ومنها المقامات وسنفرد لها بحثا خاصا بها. وأمعن المترسلون في الوصف حتى جاروا الشعراء في خيالهم؛ فوصفوا القصور والحدائق والرياض، والأزهار والبرك والجداول والأنهار والبحار، والسفن والزوارق، والزينة والرياش، والحلي، وآلات الطرب، والأطعمات والأشربات، والأواني، والفصول، والليل والنهار، والغيوم والمطر، والرعود والبروق، والصيد والوحوش والطيور، والعواطف والشهوات. وتماجنوا في وصف الإماء والغلمان، ومجالس اللذة والطرب.
وحلوا إنشاءهم بأنواع المجاز والبديع، فالتزموا التشابيه والاستعارات والكنايات فما كادوا يعبرون عن معنى بحقيقة لفظه. والتزموا التزيين فجاءوا بالمسجوع قصير العبارات على الغالب، مزدوجا وغير مزدوج. وجاءوا بالطباق والجناس وسواهما من المحسنات، فغلبت ميزة الشعر المصنوع على نثرهم، لا ينقصه غير البحور والأوزان.
وشغفوا بالاقتباس من القرآن والحديث والأمثال لفظا ومعنى، وتضمين الملح والنوادر من التاريخ والعلوم، والإشارة إلى الحوادث المشهورة، والاستشهاد بالشعر، فقد يحلونه نثرا، أو يوردون البيت أو نصف البيت، أو لفظة شاردة من بيت. وقد تمر بك فقر لا تقرأ منها جملة إلا رأيت بعدها بيتا من الشعر، كقول بديع الزمان الهمذاني في رسالته إلى أبي بكر الخوارزمي:
أنا لقرب الأستاذ - أطال الله بقاءه - «كما طرب النشوان مالت به الخمر»، ومن الارتياح للقائه «كما انتفض العصفور بلله القطر»، ومن الامتزاج بولائه: «كما التقت الصهباء والبارد العذب»، ومن الابتهاج بمرآه: «كما اهتز تحت البارح
1
الغصن الرطب».
وقول ابن العميد يصف شهر رمضان في رسالة إلى أبي العلاء السروري:
كتابي، جعلني الله تعالى فداك، وأنا في كد وتعب، منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب، من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر، من وقع الصوم، ومرتهن بتضاعف:
حرور لو ان اللحم يصلى ببعضها
غريضا، أتى أصحابه وهو منضج
2
وممتحن بهواجر يكاد أوارها
3
يذيب دماغ الضب،
4
و: «يغادر الوحش قد مالت هواديها».
5
وآثروا الإطناب، وكرهوا الإيجاز وعابوه، فأفضى بهم ذلك إلى الإكثار من المترادفات، وإلى معاقبة الجمل على المعنى الواحد، كما رأيت في المثالين المتقدمين، فأصبح اللفظ غاية لهذا الأسلوب.
وكان من تأثير المواطن الأرستوقراطية التي نشأ فيها الأسلوب الجديد أن أصحابه أسرفوا في منح الألقاب، كسيدي الأستاذ، وسيدي الشيخ، وما شاكل. وأكثروا من الأدعية، فتركوا لمن جاء بعدهم رواسم لفظية تداولتها الأجيال حتى ابتذلت وصارت من سقط المتاع.
وتسرب هذا الأسلوب في لغة المصنفين، فاستعملوه في كتبهم فعل الثعالبي في يتيمة الدهر. ولكنه لم يشع عندهم، فقد تحاماه سوادهم أمثال أبي الفرج في أغانيه، والقاضي الجرجاني في وساطته، والآمدي في موازنته، وابن رشيق في عمدته، وانتحلوا مذهب الجاحظ وسواه من الكتاب المطبوعين.
ونحن نجتزئ هنا بدرس آثار بديع الزمان؛ ففيها غنى لمن يريد الاطلاع على أسلوب المترسلين. (3) بديع الزمان 967(؟)-1007م/357(؟)-398ه (3-1) حياته
هو أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان، وكنيته أبو الفضل، ولد بهمذان
6
وبها نشأ، وإليها انتسب. ثم فارقها سنة 380ه/990م وهو في ميعة الصبى وربيع الشباب. ووفد على الصاحب بن عباد في الري فحظي عنده. ثم قدم جرجان، فداخل فيها الإسماعيلية، وتعيش في أكنافهم. ثم قصد إلى نيسابور فوافاها سنة 382ه/992م فأملى فيها مقاماته، وناظر أبا بكر الخوارزمي.
مناظرته مع أبي بكر
لا نعلم من أمر هذه المناظرة إلا ما أملاه بديع الزمان عنها، فإن مؤرخي الآداب لم يذكروا من أخبارها غير ما أورده الثعالبي في يتيمة الدهر. وهو لا يكاد يتعدى الإشارة بأوجز عبارة، ولا يزيد على الإخبار بوقوعها، وانقسام الناس بين المتساجلين، وهبوب ريح الهمذاني لتصديه لشيخ راسخ القدم صليب العود كالخوارزمي، وهو لم يزل غض الحداثة، مقتبل الشباب. ولكن البديع فصلها في إحدى رسائله تفصيلا وافيا، وذكر جميع ما جرى فيها من منافسات، ومباهيات، ومشاتمات. وخلاصتها: أن أبا الفضل دخل نيسابور صفر الكف، رث الهيئة؛ لأن اللصوص دهموه ورفاقه. وهم في بعض الطريق، فابتزوا ما معهم من دراهم وثياب . وكان أبو بكر في نيسابور. فزاره البديع فلم يلق لديه وفادة حسنة. وإنما لقي صلفا وتكلفا لرد السلام، فعاد من عنده، وكتب إليه يعاتبه. فرد عليه يستنكر عتابه، وينكر ألا يكون وفاه حقه، ونسبه إلى العربدة فسكت البديع. وانقطع عن ذكر أبي بكر. ومضى على ذلك شهر فجعل الخوارزمي يعرض ببديع الزمان، ثم لا يكتفي بالتعريض حتى يعلن: «وجعلت عواصفه تهب. وعقاربه تدب.» وطلب أن يجمع بينه وبين الهمذاني. وعرف البديع فكتب إليه يعرض عليه المناظرة، فاجتمعا مرتين بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف وغيرهم من سائر الناس. وتقارعا، فقرعه البديع بالمهاترة والتحقير والمشاتمة، ونفسه بالمبادهة والحفظ، والشعر، والترسل، واللغة والعروض، والسجع. وخرج البديع رافع الرأس. وأبو بكر منكسا: «ولما خرجت لم يلقوني إلا بالشفاه تقبيلا، وبالأفواه تبجيلا. وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس، ولم يظهر أبو بكر حتى حضر الليل بجنوده، وخلع الظلام عليه فروته.»
فنتيجة المناظرة على رواية الهمذاني نصر مبين له، وخذلان مهين للخوارزمي، غير أننا لا يسعنا أن نطمئن كل الاطمئنان إلى روايته وهو أحد الخصمين. وليس لنا مستند سواها يشفع لها ويزكيها، فهي أشبه برواية الحاتمي لمناظرته مع المتنبي. ومن تدبرها بروية وأناة رأى فيها من صلف البديع واعتداده بنفسه، وتحامله على أبي بكر ما يجرح حقيقتها، ويلقي الشبهات عليها، فإنه جعله ينخذل في جميع العلوم التي ناظره فيها، ولم يتركه مرة يبلغ شأوه في باب من الأبواب، حتى في الترسل واللغة والسجع، مع أن أبا بكر طويل الباع في هذه الفنون. ولم يرو له من الشعر إلا كل غث ساقط. وبلغ من تجهيله إياه أن جعله لا يعرف أن للشاعر أن يصرف ما لا ينصرف، وهذا لا يكاد يجهله صبيان الكتاتيب.
ولم يقتصر على تحقيره وإخزائه، بل حقر شهوده وأخزاهم، ورماهم بأقبح الأوصاف: «رجال يلعن بعضهم بعضا، فصاروا إلى قلب المجلس وصدره، حتى رد كيدهم في نحرهم، وأقيموا بالنعال إلى صف النعال.» مع أنه أفاض النعوت الحسنة على من كانوا له شهودا وأنصارا.
وإنا - وإن كنا نكبر عبقرية أبي الفضل ونؤثره على أبي بكر - لا نرى بدا من الشك في روايته. فغير معقول أن ينهزم خصمه على هذه الصورة الفاضحة ويصلد زنده في جميع الفنون، لا تقتدح ناره، ولا يهب شراره، وهو أحد شيوخ العلم، وأيمة الأدب، ومناظره فتى في أول عمره.
وقد رأينا أن الثعالبي لم يذكر في يتيمته أن البديع قهر أبا بكر، وإنما ذكر انقسام الناس بينهما، وأن هذه المناظرة كانت سببا لنباهة الهمذاني. ولا غرو في ذلك، فإن تصدي فتى رطب لشيخ يابس العود، ومقارعته له بمشهد من العلماء، لا بد له أن يطير بشهرته، ويجعل اسمه على الأفواه. وغير عجيب أن ينقسم الناس بينه وبين خصمه، فهذا دأبهم في كل مناظرة. وأن يكثر أنصاره، وله من ظرف الصبا وجماله خير شفيع.
ولبث الخصام ناشبا بينهما بعد المناظرة، فكان أبو بكر يتتبع مقامات البديع ويطعن عليها، والبديع يتتبع شعر الخوارزمي ويعيبه، حتى قبض أبو بكر، فخلا الجو للهمذاني لا ينافسه فيه منافس، ودرت عليه أخلاف الرزق، فحسنت أحواله، وخفض عيشه.
زواجه وموته
وعلقت نفسه بالأسفار فجاب خراسان، وسجستان، وغزنة، فحظي فيها جميعا، ولم يبق ملك أو أمير أو وزير أو رئيس إلا خصه برغائب النعم. ثم ألقى عصاه بهراة
7
وأصهر فيها إلى أحد أشرافها أبي علي الحسين بن محمد الخشنامي، فانتظمت أحواله بصهره،
8
وقرت به عينه، واشتد ظهره، واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية حتى تصرفت فيه أيدي المنون. قيل مات مسموما، وقيل بل عرض له داء السكتة فعجل دفنه وهو حي، فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، فنبش عنه فوجد قابضا على لحيته من هول القبر، وشدة الذعر، وقد مات. وكانت سنه أربت على الأربعين.
صفاته وأخلاقه
وصفه صاحب اليتيمة قال: «كان مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص المودة، حلو الصداقة، مر العداوة.» ا.ه. وكان على نشأته الفارسية يؤثر الانتماء إلى العرب، فيقول في إحدى رسائله: «إني عبد الشيخ، واسمى أحمد، وهمذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد.» ويطعن على الشعوبية، ويفضل العرب على العجم، ولا يبالي، فمن ذلك قوله يرد على شاعر شعوبي هجا العرب وافتخر عليهم:
تريد على مكارمنا دليلا
متى احتاج النهار إلى دليل؟
ألسنا الضاربين جزى عليكم
وإن الجزي أولى بالذليل
9
متى قرع المنابر فارسي
متى عرف الأغر من الحجول؟
10
متى علقت، وأنت بها زعيم
أكف الفرس أعراف الخيول؟
11
فأمجد من أبيك، إذا انتسبنا
عراة كالليوث، وكالنصول
12
وكان إلى ذلك حسن العقيدة الدينية، يتشيع للعلويين ويمدحهم. ولعله اتخذ مذهب الإسماعيلية الباطنية لكثرة مداخلته لهم.
ذكاؤه
اشتهر البديع في ذكائه، وقوة حافظته، وسرعة خاطره. قال الثعالبي: «كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلها، ويؤديها من أولها إلى آخرها، ولا يخرم منها حرفا، ولا يخل معنى. وينظر في الأربع والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه، ولم يره، نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها
13
عن ظهر قلبه، ويسردها سردا، وهذه حاله في الكتب الواردة وغيرها. وكان يقترح عليه عمل قصيدة، أو إنشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها، وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الأول، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه. ويوشح القصيدة الفريدة من قوله، بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ويروي من النثر النظم. ويعطي القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر، فيرتجله في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة، وفيض اليد. وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية، المشتملة على المعاني الغريبة، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف تطول أن تستقصى.» ا.ه.
أستاذوه وعلومه
لم نعرف من أستاذي بديع الزمان غير اثنين أولهما ابن فارس صاحب المجمل، فقد درس عليه وهو في همذان، فأخذ عنه اللغة وآدابها. والآخر الصاحب بن عباد فإنه اتصل به بعد أن ترك همذان، وتلمذ له في صناعة الترسل، وأفاد منه أدبا جما. وكان لمداخلته الإسماعيلية أثر بليغ في تثقيفه، فاقتبس شيئا كثيرا من آرائهم ومعارفهم.
وكان يعرف لغة الفرس وآدابهم. ونستدل من رسائله ومقاماته على براعته في علم الكلام، واطلاعه على مذاهب أصحاب البدع وآرائهم الفلسفية، ومعرفته علم المنطق، وأحوال البلدان، وطبائع أهلها؛ مما يجعل منه أديبا عالي الثقافة، مكتمل الآلة في زمانه.
آثاره
لبديع الزمان ديوان طبع في مصر، وشعره مختلف المذهب، فآنا يجري مع الطبع ويخلو من التكلف، كقصيدته التي رد بها على الشاعر الشعوبي، وآنا تظهر عليه الصنعة وتكثر فيه المحسنات اللفظية والمعنوية كسائر شعر عصره.
وله في النثر مجموعة رسائل نشرتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت، وشرح غريبها الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي. ومجموعة مقامات فيها اثنتان وخمسون مقامة، تولى شرحها الشيخ محمد عبده المصري، ونشرتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت، إلا المقامة الشامية فقد تركت لما فيها مما ينافي الأدب، وكذلك أغفلت بعض جمل وألفاظ من مقامات أخرى. ويستفاد من رسائل البديع وأقوال المؤرخين أن أصل المقامات أربعمائة، فعبثت بها أيدي الدهر، فما أبقت إلا على أقلها. (3-2) ميزته
لا تقوم ميزة البديع على شعره، فإنه وإن يكن له فيه أشياء حسنة، فآثاره في النثر أبلغ وأسمى، وبها طار ذكره، وخلد على كرور الليالي، فعلى هذه الآثار من رسائل ومقامات نعتمد في كلامنا عليه لنجلو تلك الميزة التي بوأته أعلى درجات الأدب.
رسائله
تتوزع رسائل البديع على أغراض مختلفة كالسؤال والشكوى والعتاب، والاعتذار، والاسترضاء، والمدح والتهنئة. ويعرض في أكثرها لشئونه الخاصة، فمن ظلامة يبسطها، وشكاية يرفعها، وحاجة يشرحها. وله على خصومه حملات منكرات، فيصورهم تصويرا دقيقا ملؤه السخر والنكاية، ويطعن عليهم في غير رفق ولا هوادة، فما يذكر لهم صفة إلا قبحها وشيمة إلا رذلها. وتحفل رسائله بالآيات والأمثال، والإشارات التاريخية، والاستشهادات الشعرية. ويستهلها على الغالب بالبسملة فالحمدلة، ويدخل عليها الدعاء. وهي في أكثرها قصيرة بليغة الأداء، وإذا طالت في أحوال مخصوصة، لا تفرط في الطول.
وكان يكاتب الأمراء والوزراء والقضاة والشيوخ وغيرهم، ومن أبلغ رسائله ما كتبه إلى أبي العباس الإسفرائيني وزير الأمير محمود بن سبكتكين
14
بعد فتح بهاضية من بلاد الهند؛ فقد استهل رسالته بذكر ما للأمير من الفتوح العظيمة في مختلف الأمصار، وما له من جهاد في سبيل الله والإسلام. ثم فرغ إلى التنويه بفتح الهند، فدخل إليه مدخلا حسنا بقوله: «وسنذكر من حديث الهند وبلادها.» وراح يصف طبيعة البلاد، حرها وقرها، وعقباتها وأنهارها، حتى إذا بالغ في التصوير والتهويل انتقل انتقالا حسن الاتساق، فقال: «حتى إذا خرقت هذه الحجب خلص إلى عدد ...» وطفق يطنب في ذكر عدد سكانها، ويصف شدة بأسهم، وغلاظة أكبادهم، وتأبد أخلاقهم وعاداتهم، فما إن انتهى من أوصافه حتى ظهرت الهند في مناعة الشمس، وإذا به يوجز فيقول: «زحم الأمير السيد، أدام الله ظله، هذه الأهوال بمنكبه.» وكأنه اطمأن إلى نجاحه في تعظيم الفتح، فلم يذكر شيئا عن الحرب، ولا عن جيوش الأمير الغازي، بل اقتصر على أن جعل الفضل للأمير بعون الله، وذكر الغنائم التي غنمها في عودته.
مقاماته: التعريف بالمقامات
المقامات
15
أقاصيص خيالية مختلفة الأغراض والموضوعات، فمنها الأدبية، ومنها العلمية. ومنها الدينية، ومنها الاجتماعية أو الخلقية، ومنها المجونية. وفيها سخر شديد، ونقد لاذع. وفيها ضروب من التخابث والاحتيال، للتكسب والتعيش. وفيها صور متلونة لطبائع المجتمع وعاداته.
ومدار المقامات على بطل متبدل الألوان، كثير الاحتيال، فيه شر كبير، وفيه خير كبير؛ فهو دين منافق، صادق كاذب، متزهد ماجن، واعظ مخادع، كل شيء وضده. وهو إلى ذلك واسع العلم والأدب، شاعر خطيب، متكلم راوية، تجده في كل مقامة، وقلما خلت مقامة منه، ويتولى الحديث عنه راوية خيالي مثله، يفاجئه في كل مقامة، ويفضح أسراره، وينقل أخباره.
والفن القصصي ضعيف في المقامات لقصرها؛ ثم لأن القصة ليست غاية فيها بل واسطة لإظهار شخصية بطلها في مختلف أحواله. ولقد تمر مقامات غثة باردة لا قيمة فيها للقصة البتة.
وتمتاز المقامات في جمال لغتها، وكثرة غريبها، واعتمادها على المجاز أكثر من الحقيقة، واصطباغها بالصنعة أكثر من الطبع، فهي ملتزمة السجعات، أنيقة العبارات، حافلة بالمحسنات المعنوية واللفظية. فيها الأمثال والأشعار، والآيات والأحاديث، فكل مقامة قطعة أدبية، لغتها لغة الشعر على الأكثر لا لغة النثر.
مخترع المقامات
وبديع الزمان أول من جاءنا عنه فن المقامات، فله فضل المتقدم، وإن زعم بعضهم أنه أخذه عن أستاذه ابن فارس، فليس في آثار أستاذه ما يرجح هذا الزعم فضلا عن تأكيده. ولا يحط من قدر البديع قول الحصري في زهر الآداب إنه ترسم ابن دريد في أحاديثه الأربعين؛ لأن أحاديث ابن دريد نوادر ولطائف لم يستقل بها دون غيره، فللجاحظ مثلها في البخلاء والحيوان، وكذلك لابن قتيبة في عيون الأخبار، ولابن عبد ربه في العقد الفريد. وهو في هذه الأحاديث يتوخى إظهار فصاحة الأعراب، والإشادة بفضائلهم، وليست المقامات كذلك. ويروي أحاديثه عن عدة رواة معروفين، وللمقامات راوية خيالي واحد. وفي الأحاديث أبطال مختلفة، وللمقامات بطل واحد.
وإذا جاز أن يجعل الحديث نواة للمقامة فمن باب التشابه القصصي، فالمقامة حكاية فنية راقية وضعت للخاصة، وأما الحديث فنادرة يتلهى بها العامة والخاصة معا. وكيف دار الأمر فالمقامات غير الأحاديث الدريدية، ولا فضل في اختراعها إلا لبديع الزمان.
تحليل مقامات البديع
لهذه المقامات راوية خيالي يعرف بعيسى بن هشام، رجل أخو سفر، لا يستقر به مكان، وربما اتخذ صفة التجار، أو صفة المكدين. ولها بطل يعرف بأبي الفتح الإسكندري، يظهر في أكثرها، وينقل أخباره عيسى بن هشام. وأبو الفتح هذا رجل خيالي أيضا: «من الثغور الأموية، والبلاد الإسكندرية.»
16
صاحب خبث وحيل، يصطنع جميع المهن التي يحترفها الناس، من أجل الكدية وابتزاز المال. وقلما خلت مقامة من الكدية والاحتيال. وتراه مرة شيخا جليلا وقف في الناس واعظا ينصح ويحذر، ومرة قرادا يسلي الناس ويضحكهم، وأخرى مشعوذا يدعي صنع المعجزات خديعة للقوم الساذجين، فيدر عليه الرزق، وينتفع بشعوذته وخداعه، فهو أشحذ الناس، وأبرعهم تسآلا. وهو إلى ذلك أخطبهم وأشعرهم، وأعرفهم بعلوم عصره. وقد اختلفت أغراض مقاماته وتنوعت أبوابها، فمنها الأدبية كالمقامة الجاحظية، والمقامة القريضية، وفيها رواية وشعر ونقد. ومنها الدينية والخلقية والاجتماعية، فمن شيخ يتظاهر بالتقوى والتنسك ليعطف عليه الناس، ويعطوه. ومتسول يطوف ومعه طفل فصيح يسترق القلوب. وتاجر حديث النعمة، معجب بنفسه، كثير الكلام، يضجر مستمعيه، ومجنون عاقل متبحر في علم الكلام، يرد على أحد شيوخ الاعتزال، وغير ذلك مما يقع بين الناس في مصاحباتهم ومخالفاتهم.
وحوادث هذه المقامات تقع على الغالب في الأمصار المتحضرة، وقلما عني البديع بالكلام على أهل البادية، كما في مقاماته الغيلانية، والأسدية، والبشرية، والفزارية، والأسودية. وهي - في أكثرها - قصيرة ضعيفة الفن القصصي، تكاد تكون غثة باردة، لولا حسن الصياغة، وبراعة التصرف في ضروب الكلام. وأما ما طال منها فإنه جميل موفق كالمقامة المضيرية والبشرية والأسدية وسواها.
وراوية بديع الزمان وبطله لا ينحصران في زمان محدود، فإن عيسى بن هشام يحدثك في المقامة الغيلانية عن الفرزدق وذي الرمة كأنه معاصر لهما. ثم يحدثك في المقامة الحمدانية عن سيف الدولة بن حمدان. ويحدثك عن خلف بن أحمد، وكان واليا على سجستان معاصرا للهمذاني، وقد خصه البديع ببعض مقاماته، وأشاد فيها بذكره وأطراه.
ونحن نجتزئ بتحليل مقامتين من مقاماته، إحداهما المضيرية، وفيها تظهر براعة البديع في الوصف ودقة التصوير، على شيء كثير من السخر وخفة الروح. والأخرى البشرية، وهي التي وفق بها صاحبنا لاختراع شاعر جاهلي تبناه التاريخ من بعده، ألا وهو بشر بن عوانة العبدي.
المقامة المضيرية
17
يستهل البديع هذه المقامة كما يستهل غيرها بإسناد الحديث إلى راويته: «حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار فقدمت إلينا مضيرة.» وبعد أن وصف المضيرة، وقصعتها، وشغف المدعوين بها، قال: «قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها، وصاحبها، ويمقتها، وآكلها ... ورفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت
18
لها الشفاه.» وسئل أبو الفتح عن أمرها، فأخبر أنه دعاه بعض التجار في بغداد إلى المضيرة، فصار معه إلى بيته، وطفق التاجر وهو في الطريق، يصف زوجته، حتى ينتهي هذا المشهد بقول أبي الفتح: «وصدعني بصفات زوجته، حتى انتهينا إلى محلته ...» فشرع التاجر يصف المحلة، وعظمة دورها، وجعل داره منها كالجوهرة الوسطى من العقد. وانتهيا إلى باب الدار، فوقف يصف طافتها، فبابها، فحلقة الباب. ودخلا الدهليز، فجأر التاجر بالدعاء: عمرك الله يا دار. ولا خربك يا جدار.» وشرع يقص على أبي الفتح، كيف امتلك الدار. وممن اشتراها. ثم استطرد إلى ذكر حظه الحسن، فذكر خبر عقد من اللؤلؤ اشتراه بثمن بخس، حتى إذا انتهى عاد إلى داره، فروى حادثة حصير اشتراه بالمناداة، ونعت صانعه، ونصح لأبي الفتح أن يشتري الحصر من عنده. ثم عاد إلى حديث المضيرة، فطلب من الغلام الطست والماء. فقال أبو الفتح: «الله أكبر، ربما قرب الفرج، وسهل المخرج!» وما إن أقبل الغلام حتى شرع التاجر يعرض أوصافه، ويقص كيف اشتراه. وتناول الطست، فأمعن في وصفه. ثم وصف الإبريق، فالماء، فالمنديل، ودعا بالخوان فجاء به الغلام، فراح يقلبه، وينقره بالبنان. ويعجمه بالأسنان، ويقص قصته، وينعته أحسن النعوت، فجاشت نفس أبي الفتح، وقد تحقق له أن التاجر سيصف كل شيء يعرض على الخوان، ويذكر كيف اشتراه، ومن أين اشتراه، ومن صنعه، فحاول الانصراف تخلصا، فظنه التاجر يريد الخروج في حاجة نفسه، فانبرى يصف له الكنيف وحسنه، إلى أن قال: «يتمنى الضيف أن يأكل فيه.» قال أبو الفتح: «فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب. وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب. وجعلت أعدو، وهو يتبعني، ويصيح: يا أبا الفتح! المضيرة. وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي، فصاحوا صياحه، فرميت أحدهم بحجر، من فرط الضجر. فلقي رجل الحجر بعمامته، فغاص في هامته. فأخذت من النعال بم قدم وحدث، ومن الصفع بما طاب وخبث. وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس. فنذرت أن لا آكل مضيرة ما عشت.»
فهذه المقامة من أبدع ما صنع الهمذاني، ففيها جمال القصص، وروعة الفن، ودقة الوصف، وحسن الانتقال، واتساق الأفكار. وفيها السخر والفكاهة والنكتة. ولو وفق البديع في جميع مقاماته توفيقه فيها، لبلغ في هذه الصنعة غاية الغايات.
المقامة البشرية
تمتاز هذه المقامة عن سائر أخواتها من مقامات بديع الزمان في أنها اصطنعت شاعرا لم تعرفه القرون الخالية، وزفته إلى تاريخ الآداب، فاحتفل به المؤرخون، وأعظموا شأنه، ولم يجدوا مشقة في تحديد عصره، فجعلوا وفاته في أواخر القرن السادس للمسيح. وهذا الشاعر هو بشر بن عوانة العبدي صاحب القصيدة الشهيرة التي أولها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
19
والقصيدة وصاحبها من صنع الهمذاني، ولا غرابة في ذلك، فإن البديع لم يكن في مقاماته مؤرخا ولا راوية. وإنما هو كاتب متفنن، وقاص خيالي. ولم يدع يوما صحة مقاماته، بل كان بالضد يفاخر في اختراعه لها، كما في رسالته إلى أبي بكر الخوارزمي حيث يقول: «فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر، حقيق بكشف عيوبه.» ا.ه. على أن الغريب أن ينخدع بها جماعة من جلة الأدباء والمؤرخين، فيجعلوا المقامة البشرية قصة حقيقية، وقصيدة الأسد شعرا جاهليا، وبشر بن عوانة بشرا سويا. مع أنهم لو راجعوا المظان الأدبية والتاريخية التي صنفت قبل المقامات لما وجدوا كتابا واحدا يذكر بشرا، أو يشير إلى قصياته في الأسد، فقد رجعنا إلى أمهات الكتب القديمة، فلم نسمع لبشر خبرا؛ فلا الضبي ذكره في مفضلياته. ولا ابن سلام في طبقاته، ولا ابن قتيبة في الشعر والشعراء وعيون الأخبار، ولا أبو تمام والبحتري في حماستيهما، ولا الجاحظ في البيان والتبيين والحيوان، ولا ابن عبد ربه في العقد الفريد، ولا المبرد في كامله، ولا الطبري في تاريخه، ولا الأصفهاني في أغانيه، ولا المرزباني في الموشح، ولا ابن النديم في الفهرست، ولا المسعودي في مروجه، ولا القالي في أماليه. ونظرنا في بعض الكتب الركينة التي تأخر زمن أصحابها عن زمن صاحب المقامات، فلم نرها تذكر بشرا في جملة الشعراء، أو تضيف إليه قصيدة الأسد. ومن هذه الكتب العمدة لابن رشيق، وزهر الآداب للحصري، ومعجم الأدباء لياقوت، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبي.
ولعل ضياء الدين بن الأثير، صاحب المثل السائر، أول من ضل فأثبت بشرا، وأضل غيره من الأدباء والمؤرخين، فإنه لما عمد إلى الموازنة بين المتنبي والبحتري في قصيدتيهما اللتين وصفا بهما الأسد قال: «أما البحتري فإنه ألم بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثله. وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها.» ا.ه. وقال في مكان آخر: «ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر لأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا.» ا.ه.
فابن الأثير يزعم أن البحتري قد تعلق في بائيته التي وصف بها الأسد بمعاني بشر بن عوانة، توهما منه أن بشرا شاعر جاهلي قديم. ولعله استكثر قصيدة الأسد على بديع الزمان، وهو من طبيعته لا ينظر إلى حسنات غيره إلا في شيء من الصلف والتعنت، وخصوصا إذا كانوا من أهل زمانه، فضن بها أن لا تكون لشاعر في الجاهلية، فأثبت بشرا غير متحرج، وتعامى عن حقيقة فن المقامات، فجاء بعده من تعلق بأذياله، وأدخل بشرا في صلب التاريخ.
ولم يقل أحد قبل صاحب المثل السائر أن البحتري سرق عن غيره في قصيدته التي ذكر بها الأسد، مع أن الآمدي في موازنته بين الطائيين أورد كل ما أدرك من السرقات على البحتري، وما كان له أن يغفل عن قصيدة بشر لو كان بشر معروفا عنده؛ لأن فيها أبياتا لها أشباه في قصيدة البحتري، مثال ذلك قول بشر:
إذن لرأيت ليثا رام ليثا
هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
وقد قال البحتري:
هزبرا مشى يبغي هزبرا، وأغلبا
من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا
20
وكذلك القاضي الجرجاني وهو كالآمدي ممن تقدم زمانهم زمن البديع، فإنه ذكر في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، قصيدة أبي الطيب في وصف الأسد، وقال: «ولولا أبيات البحتري في هذا المعنى، لعددت هذه من أفراد أبي الطيب، لكن البحتري قال يصف قتل الفتح بن خاقان أسدا عرض له، فاستوفى المعنى، وأجاد في الصفة، ووصل إلى المراد. وأما أبو زبيد فإنما وصف خلق الأسد وزئيره، وجرأته وإقدامه. وكأنما هو مرعوب أو محذر، والفضل له على كل حال. لكن هذا غرض لم يرمه ومذهب لم يسلكه.» ا.ه.
فالجرجاني لم يجعل المتنبي منفردا في وصف الأسد؛ لأن البحتري سبقه إلى ذلك وأجاد، ولكنه جعل الفضل لأبي زبيد الطائي
21
لأنه سابق إلى هذا الغرض، وإن يكن سلك إليه مذهبا يختلف عن مذهب أبي عبادة وأبي الطيب. ولو عرف القاضي بشر بن عوانة لذكره مع أبي زبيد، والفرصة أسنح ما يكون لذكره، ولا سيما أن مذهب بشر في وصف الأسد أشبه شيء بمذهب البحتري والمتنبي.
وفي رسائل بديع الزمان أبيات من وصف الأسد استشهد بها صاحبها من غير أن يعزوها إلى بشر؛ مما يدل على أن البديع لم يخطر في باله يوما أن يجعل من مقاماته قصصا تاريخية، ولا من بشر بن عوانة شاعرا حقيقيا.
تحليل المقامة البشرية
لم يتعمد البديع الصنعة في هذه المقامة، ولا التزم السجع والتزيين، بل تركها تجري مع الطبع، فبعد بها شيئا عن إنشاء المقامات. فكأنه - وهو يتحدث عن شاعر في الجاهلية - أبي إلا أن يجعل كلامه ملائما لعصر شاعره. وهذا من بعض حسناته، إلا أنه لم يتأت له أن يبعد بقصته عن الإغراب، فهي على لطفها، وفكاهتها، وحسن سياقها، فيها أشياء كثيرة لا يطمئن إليها العقل، ولا يسلم بها المنطق. ولو لم تتخذ هذه المقامة تاريخا لحياة شاعر حقيقي لما عنينا بنقد ما فيها من الإغراب؛ لأنه مستملح في قصص خيالية كالمقامات.
لا يظهر في هذه المقامة أبو الفتح الإسكندري، إلا أن عيسى بن هشام يرويها وهو من عرفت. وأولها: «حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا ، فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة، فتزوج بها، وقال: «ما رأيت كاليوم!» فأنشدته السبية أبياتا وصفت بها جارية حسناء. قال بشر: «ويحك من عنيت؟» فقالت: «بنت عمك فاطمة.» فقال: «أهي من الحسن بحيث وصفت؟» قالت: «وأزيد وأكثر!» فترى أن بشرا لم يعرف أن له بنت عم حسناء إلا من امرأة غريبة سباها في إحدى غاراته، فلما عرف ذلك مل جانبها وطلقها: «ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته، فآلى ألا يرعي على أحد
22
منهم إن لم يزوجه ابنته. ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته
23
إليهم، فاجتمع رجال الحي إلى عمه، وقالوا: «كف عنا مجنونك.» فقال: «لا تلبسوني عارا، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل.» فقالوا له: «أنت وذاك.» ثم قال له عمه: «إني آليت أن لا أزوج ابنتي هذه إلا ممن يسوق إليها ألف ناقة مهرا، ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة.» وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريق بينه وبين خزاعة، فيفترسه الأسد؛ لأن العرب كانت قد تحامت عن ذلك الطريق، وكان فيه أسد يسمى داذا، وحية تدعى شجاعا.
ثم إن بشرا سلك ذلك الطريق، فما نصفه حتى لقي الأسد وقمص مهره،
24
فنزل وعقره.
25
ثم اخترط سيفه إلى الأسد، واعترضه، وقطه.
26
ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه: «أفاطم لو شهدت ...» ا.ه.
وهذه القصيدة شهيرة متداولة وفق فيها بديع الزمان كل التوفيق، فقد ضمنها دقة الوصف، وجمال التصوير، وأفرغها في قالب شائق، متخير الألفاظ، منسجم التعابير، ولكنها على طبعيتها، وجزالتها، تتناهى سلاسة ورقة ووضوحا، فتجعلك تشك في جاهليتها؛ لأن الشعر الجاهلي مهما سهل ولان، لا يخلو من خشونة البداوة وغموض بعض التراكيب، ولا سيما شعر قيل في وصف الوحوش والإبل والقفار، فإن عاطفة الجاهلي تتصلب في مثل هذه الحالات، فتصلب معها ألفاظه. وبوسعك أن تلتمس أية قصيدة جاهلية شئت، فترى اختلافا بينا في لغتها، إذا اجتمع من أغراضها الغزل، والاستعطاف، أو الرثاء إلى وصف الوحوش والإبل والقفار. ومعلوم أن بشرا من صعاليك العرب، وهؤلاء يعيشون في البراري المقفرة، ولا يخالطون غير الوحوش، فيصبحون من الخشونة على جانب عظيم، وتخشوشن معهم لغتهم. ولنا في شعر الشنفرى وتأبط شرا أمثلة صادقة للغة أولئك الصعاليك. أما قصيدة بشر فحضرية أكثر منها بدوية، وليس ورود بعض الغريب فيها بدليل على جاهليتها، وهو قليل تافه لا تأثير له، لتشتته في أثناء اللفظ المأنوس.
وغير عزيز على بديع الزمان أن يأتي بمثل هذه القصيدة على جلالتها، فإن له في شعره الذي يجري به طبعه ما يشبهها، كقصيدته التي رد بها على الشاعر الشعوبي، ودافع عن العرب. وليس لنا اعتراض على ما فيها من وصف وتصوير؛ لأنهما ميزة الهمذاني في رسائله ومقاماته. على أننا نعجب لبشر وهو الصعلوك الجاهلي، كيف عرف الكتابة، فكتب قصيدته بدم الأسد على قميصه، في حين أن وجوه قبائل البدو كانوا أميين يومئذ، وندر وجود الكتاب فيهم. أفما كان ينبغي للمدرسة التي خرجت بشر بن عوانة أن لا تضن بعلومها على زملائه السليك، والشنفرى، وتأبط شرا؟
وأرسل بشر القميص إلى ابنة عمه لتقرأ القصيدة، ولا نعلم من كان رسوله إليها؛ لأن صاحب المقامات لم يذكره ولا ذكره من أرخ بشرا بعده. غير أننا نعلم أن بشرا ذهب يطلب النوق منفردا، وسلك طريقا تحامت عنه العرب.
ولكن وصلت القصيدة إلى ابنة عمه، وقرأها عمه، ففاضت عاطفته فجأة، واحتل حب بشر قلبه على حين غرة، وندم على ما فعل، وخشي أن تغتاله الحية، فجد في أثره، مخاطرا بنفسه. وبلغه وقد ملكته سورة الحية.
27
وإدراكه إياه على هذه الصورة يجعل القصة أشد تأثيرا في النفس. «فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية، فجعل يده في فم الحية، وحكم سيفه فيها.»
وكان ختام هذه القصة أطروفة في غاية اللطف والفكاهة، بينة الإغراب والاصطناع: «فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخرا حتى طلع أمرد كشق القمر على فرسه؛ مدججا في سلاحه، فقال بشر: «يا عم إني أسمع حس صيد.» وخرج فإذا بغلام على قيد،
28
فقال: «ثكلتك أمك يا بشر! أن قتلت دودة وبهيمة تملأ ماضغيك
29
فخرا. أنت في أمان إن سلمت عمك.» فبارزه بشر، فقهره الغلام ولو شاء لقتله. ثم قال: «يا بشر سلم عمك واذهب في أمان.» قال: «نعم، ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت؟» فقال: «أنا ابنك!» فقال: «يا سبحان الله! ما قارنت عقيلة قط، فأنى هذه المنحة؟» فقال: «أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك.» فقال بشر: «تلك العصا من هذه العصية
هل تلد الحية إلا الحيه؟
30
وحلف لا ركب حصانا ولا تزوج حصانا، ثم زوج ابنة عمه لابنه.»
أفليس عجيبا أن يكبر ولده من المرأة التي سباها، وهو لم يزل يسعى في صداق ابنة عمه، ثم يكون لهذا الولد الأمرد من البأس ما يمكنه من قهر أبيه، حتى إذا عرفه بشر تخلى له عن فاطمة ابنة عمه، وأزوجه إياها، فكانت من نصيب ابنه لا من نصيبه.
فهذه هي المقامة البشرية التي خدع بها جماعة من الأدباء والمؤرخين، وكان ابن الأثير أول المخدوعين على تنطسه وكثرة دعاويه.
إنشاؤه
يمتاز إنشاء البديع في لغة أنيقة التعبير، فيها رصانة البدو، ورقة الحضر، تلازمها الصنعة، دون أن تفسد طبع صاحبها، فالهمذاني له باع طويل في تخير ألفاظه وتحسينها، يتعمد السجع فيردده في جمل قصيرة الفواصل، أو طويلتها. وربما تعددت فواصله متواطئة على حرف واحد، فيؤثر عندئذ تقصير الجمل ويقطعها تقطيعا.
وإذا تخلى عن السجع لا يتخلى عن المجاز والتزيين، فإن رسائله ومقاماته حافلة بالتشابيه والاستعارات والكنايات وأنواع البديع المعنوي واللفظي، ولا سيما الطباق والتشكك والجناس. وقلما تقع على لفظ يعبر عن حقيقة معناه. وقد تمر بك استعارات وكنايات تدل على معنى واحد. وتقليب الجمل على المعنى كثير في إنشاء البديع، وهو من لزوميات الصنعة لما فيه من افتنان في التعبير وتنوق في إبلاغ المعنى. ومن ذلك قوله في مقامة: «ورفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد.»
ويكثر من الاستشهاد بالأشعار، سواء كان من مقوله أو منقوله. ويستشهد بجملة أبيات أو بيت، وربما أدمج نصف بيت في أثناء كلامه. ويعنى بحل المنظوم فيجعله نثرا، ويورد الأمثال، والتلميحات، ولا سيما التاريخية، كقوله من مقامة: «وتشهد لمعاوية، رحمه الله، بالإمامة.»
31
وإنشاؤه على الجملة مجموعة صور مختلفة التلاوين، وهو للشعر أقرب منه للنثر. وكأنه في وشيه وترف ألفاظه خلق ليربى ويترعرع في قصور الطبقة الأرستقراطية من أهل البيان. وليس في هذا الوشي على صنعته الظاهرة، ما يقرع الأسماع وتجفو عنه الطباع، فإن ما ينضاف إليه من روعة الإنشاء، وصحة الطبع، يجعله سهل البلاغ، طيب المساغ. (3-3) منزلته
قال الثعالبي: «هو بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر.» ا.ه.
وفي هذه النعوت ما يدل على شدة إعجاب صاحب اليتيمة به. ولم ينفرد بهذا الإعجاب أبو منصور وحده، بل شاركه فيه جمهرة المتأدبين في عصره، وبعد عصره. وحسب البديع منزلة أن ينتظم له حزب يلف لفه وهو ما برح فتى غض الشباب؛ فقد علمت كيف انشق الناس شطرين بعد مناظرته لأبي بكر، وكان الشطر الأعظم بجانبه، يشد أزره، ويفضله على خصمه. وقد استحق صاحبنا هذه المنزلة، بذكائه النادر، وسرعة خاطره، واستبحاره في اللغة وآدابها، وبلاغة إنشائه وحسن مائه وروائه، وطول باعه في الوصف والتصوير، ودقة نظره في مراقبة الأشياء، وبراعته في التوليد والابتكار. وهو خير مصور للحياة في لذتها وألمها، ولأخلاق الناس، ولا سيما المحتالون الذين يتوسلون بمختلف الحيل لابتزاز الأموال، وأول من ابتكر فن المقامات، فترسمه فيه أخلافه، فنحتوا من صخره، واغترفوا من بحره. وكفاه فخرا أنه خلق لتاريخ الآداب شاعرا خدع به صيابة الأدباء، فرووا شعره، وأثبتوا خبره، وظل حديث المجالس، وحلقات الطلب زهاء عشرة قرون. وبديع الزمان أحد زعماء الأسلوب المنمق، وأبعدهم صيتا، وأوسعهم شهرة، وأنبههم ذكرا. (4) القصص
بدأ القصص عند العرب بدءه عند سائر الشعوب، أسمارا ونوادر وأحاديث، يقطعون بها ليالي الشتاء، وأيام الفراغ. والعرب كغيرهم من الأمم يروقهم التحدث بأخبار أسلافهم، والإشادة بمناقبهم، فقادهم ذلك إلى المبالغة في رواياتهم حتى بلغوا بها حد الإغراب والتخريف ، فأصبحت أسمارهم ونوادرهم أقاصيص تلتبس فيها الحقيقة بالخيال.
وتضاعفت عناية الناس بالقصص في صدر الإسلام بعد أن صار العرب دينا جامعا، ودولة منظمة، وشعبا مجموعا. واشتمل ذاك العصر على حياة لهو ومجون، وحياة حرب وجهاد، فكان القاصون يعمرون مجالس اللهو، ويسمرون بنوادر العشاق والمتيمين. ويقصدون أماكن الفتن ومزاحف البعوث، ويضرمون الحماسة في صدور الرجال بأخبار فرسان العرب وأيامهم المشهورة.
وطفقت هذه الأقاصيص تزداد إغرابا وبهرجة بكرور الأيام والسنين، وتتابع القاصين عليها، وتفاوتهم بخصب الخيال وحب التزيين، ورغبتهم في استهواء السامعين وإثارة عواطفهم حتى أصبحت خرافات في أكثرها ليس لها من الحقيقة إلا أثر بعد عين.
ولم يشرع في تدوين القصص إلا في صدر الدولة العباسية، وأول من أخذ بأهداب هذا الفن عبد الله بن المقفع في كتابه كليلة ودمنة. وفعل فعله سهل بن هارون في كتابه ثعلة وعفرة، وعلي بن داود كاتب زبيدة.
ولما ضعف سلطان العباسيين، وتولى الأتراك عنهم شئون الدولة، انصرف أولئك إلى اللهو والسمر، فكان القاصون يخرفونهم بالحكايات والنوادر، فشاع تصنيف القصص ونقلها، ولا سيما أيام المقتدر. وما جاء العصر الثالث حتى كان منها طائفة حسنة ذكرها ابن النديم في الفهرست، وفيها قصص عربية الأصل كأخبار العشاق في الجاهلية والإسلام، أمثال عروة وعفراء، ومجنون ليلى، وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وأخبار الحبائب المتظرفات كقصة هند ابنة النعمان، وأخبار عشاق الإنس للجن، وعشاق الجن للإنس، وأخبار البطالين كقصة أبي عمر الأعرج، وأخبار المغفلين كنوادر جحا. وفيها قصص عجمية الأصل نقلت عن الفارسية ككتاب هزار افسان، ومعناه ألف خرافة، وكتاب دارا والصنم الذهب. وأشهر هذه القصص وأكبرها اثنتان؛ إحداهما عربية النجار؛ وهي سيرة عنترة العبسي، والأخرى فارسية وهي حكايات ألف ليلة وليلة. (4-1) سيرة عنترة
سيرة عنترة كغيرها من القصص، تداولتها ألسنة القاصين زمنا قبل تدوينها، وتصرفوا فيها كما شاءوا وشاء لهم خيالهم من زيادة أو نقصان. ونرى أنها لم تدون دفعة واحدة على ما هي عليه اليوم بل مرت بها أزمنة طويلة، والكتاب يتواطئون على تصنيفها، فيغيرون فيها ، ويضيفون إليها. حتى وصلت إلينا ضعيفة التأليف، مختلفة اللغة والشعر، فيها الحسن الجيد، وفيها القبيح الرديء.
وأما الذين تولوا تصنيفها فأشخاص مجهولون إلا اثنين أحدهما يوسف بن إسماعيل قيل إنه جمعها للعزيز بالله
32
الخليفة الفاطمي ليشغل بها الناس عن ريبة وقعت في قصر الخلافة، فجعلوا يلهجون بها. وقيل بل جمعت لتستثير الحماسة في صدر الشعب المترف المتخاذل. والآخر ابن الصائغ الجزري من رجال القرن السادس للهجرة (القرن الثاني عشر للمسيح). وأما نسبتها إلى الأصمعي فلا يبعد أن يكون لها بعض الصحة من قبل رواية حوادثها التاريخية، وشعرها الثابت، لا من قبل جمعها وتصنيفها. وهذه القصة أبدع القصص الحماسية، وأجمع ما يكون لمكارم الأخلاق. وفيها تصوير لا بأس به للأشخاص. (4-2) ألف ليلة وليلة
هي حكايات متتابعة، مأخوذة من أصل فارسي في كتاب اسمه هزار افسان، ومعناه ألف خرافة، ولا يعرف مصنف هذا الكتاب، ولا ناقله إلى العربية. قال فيه صاحب الفهرست: «ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات. وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث.» فمن هذا القول نعلم أن أصل ألف ليلة لم يكن بذي خطر، ولكن أدباء العرب رفعوا قدره بما أدخلوا عليه من التحسين، وعفوا على أصله الفارسي بما بدلوا فيه، وزادوا عليه.
وليس هذا الكتاب عمل رجل واحد أو عصر واحد، وإنما شأنه شأن سيرة عنترة، فقد ظل العرب يشتغلون بتصنيفه حتى أواسط عصر الانحطاط، فلذلك تجد فيه أخبارا عن المماليك، وشعرا لشعراء متأخرين.
وتمتاز ألف ليلة وليلة في غرائب حوادثها، وخيالها العجيب، وفيها أدب كثير ومجون كثير، وفيها سخط على الظلم والارهاق، وتمثيل لحياة المسلمين وحكامهم في العصور الخالية. (4-3) منزلة القصص
ومما يجدر ذكره أن أكثر القصص التي ألفها العرب قصيرة. وأما ما طال منها فينقصه التحام الأفكار ووحدة الموضوع، فسيرة عنترة مثلا وهي أكبر القصص العربية، لا تجد في أجزائها ارتباطا محكما؛ إذ بوسعك أن تسقط من أخبارها جانبا عظيما دون أن تحدث خللا فيها. ويرجع ذلك على أن حوادثها غير متينة الالتحام في ائتلافها وتسلسلها، واتجاهها إلى الفكرة العامة، وأن نتائجها لا تتعلق بمقدماتها تعلقا كليا كما هي الحال في القصص الغربية الراقية، فيتعذر الاستغناء عن شيء منها. ولا نتهم مخيلة العربي من أجل هذا النقص، فإن من يقرأ عنترة وألف ليلة وليلة يقع على خيال قوي في انطلاقه، مدهش في صوره وألوانه، غير أن صاحبه مترجرج السير، قصير النفس، كثير الانتقال، مختلط التفكير، فارغ الصبر، لا يترسم خطة إلا ضاق بها ذرعا، ونكص عنها قبل أن يستتمها، ومضى يتفرج منها بسواها؛ لذلك آثر القصة القصيرة على الطويلة، وإذا أطالها سرد الحوادث المختلفة دون أن يعنى بوحدتها وربط أجزائها، فجاءت قصته ضعيفة الفن، غثة الأسلوب، باردة التأليف. ولا ريب أن تواطؤ الكتاب على القصة الواحدة في أعصر متفاوتة اللغة والخيال والتفكير، كان له أثر سيئ فيها؛ إذ إنه زادها اضطرابا، وأوسعها فسادا، فلهذه الأسباب لم تأتنا قصة راقية الفن عن العرب ، وإنما جاءنا حكايات ومقامات ونوادر وأحاديث. (5) العلوم
بلغ التفكير الإسلامي حده الأقصى، ونضجت العلوم، وصنفت الكتب في مختلف الفنون والأغراض، فكتب ابن جني أبحاثا فلسفية في أصول النحو، واشتقاقات اللغة، وأحكام حروف الهجاء وما يصيبها من إعلال وقلب وإبدال. ووضعت المعاجم اللغوية الكبيرة كتهذيب اللغة للأزهري، والمحيط للصاحب بن عباد، والمجمل لابن فارس، والصحاح للجوهري. وظهر علم الفهرست في كتاب ابن النديم.
ونهضت العلوم الطبيعية والرياضية، فقد أدخل ابن الهيثم البصري أساليب جديدة على الجبر والحساب، وطابق بين أحكام الهندسة والمنطق. وتقدم الطب وكثر أصحابه. وشاعت الصيدلة، واخترعت الأدوية، وأصبحت الكيمياء علما ثابتا. ودخلت عليها المركبات المستحدثة كماء الفضة، وروح النشادر، والسليماني، وملح البارود، والبوتاس، وغير ذلك. وألفت الكتب النفيسة في علم النجوم، وترقى الأسطرلاب، وشرع العلماء يرحلون لمراقبة الخسوف والكسوف.
وازدهرت الفلسفة الإسلامية، واستقلت عن الفلسفة اليونانية بميزة توفيقية خاصة، ونبغ الفلاسفة الكبار، كابن سينا وإخوان الصفاء.
وكثرت التواريخ الخصوصية بتكاثر الدولات، ولكن فن التاريخ لم يتقدم؛ لأن المؤرخين لبثوا يسردون الأخبار عارية من النقد والتمحيص. وأما الجغرافيا فكانت مختلطة بالتاريخ غير منفصلة عنه، وقد زادت مادتها بفضل الرحلات، فأضيف إليها جهات جديدة، منها في أواسط أفريقية، ومنها في داخل آسيا، ومنها جزر في المحيط الهندي، وشاع رسم الخرائط. وكان المسعودي أشهر من اشتغل بالتاريخ والجغرافيا، وعانى الأسفار الطوال بسببهما، ومن آثاره فيهما كتابه الموسوم بمروج الذهب. (6) الأدب والأدباء
اتسق فن الأدب، واستقل بذاته، ورغب الأدباء في نقد الشعر على طريقتهم، فصنفت الكتب في تعداد سقطات الشعراء، ومناظرتهم، كما فعل الصاحب بن عباد، والحاتمي مع أبي الطيب، وفي الموازنة بينهم، فعل الآمدي في موازنته بين الطائيين، وإظهاره حسنات كل منهما وسيئاته. وفي الوساطة بين شاعر ونقاده، كما فعل القاضي الجرجاني في وساطته بين المتنبي وخصومه، وأصبح للشعر نظم محدودة، وأبواب معروفة، ومناهج مقررة بعد أن صنف ابن رشيق القيرواني كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده، وأكمل ما بدأ به ابن المعتز وقدامة بن جعفر.
وشاع تمحيص الروايات والأخبار، في المجاميع الأدبية، وأشهرها الأغاني لأبي الفرج، ويتيمة الدهر للثعالبي، وزهر الآداب للحصري. ونجترئ هنا بالكلام على أبي الفرج؛ لأن كتابه أشهر المجاميع، وأكبرها، وأجزلها نفعا. (7) أبو الفرج الأصبهاني 897-966م/284-356ه (7-1) حياته
هو علي بن الحسين الأموي القرشي، تتصل عصبيته بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وكنيته أبو الفرج. ولد بأصبهان، وإليها انتسب، ونشأ ببغداد، وبها تخرج على طبقة رفيعة من العلماء والرواة كابن دريد، والأخفش الأصغر، والأنباري، والطبري، وابن المرزبان وسواهم، فحفظ عنهم شيئا كثيرا من اللغة والنحو والشعر والأغاني والأخبار والآثار، والأحاديث المسندة، والأيام والأنساب، والخرافات، والسير، والمغازي. وحذق شيئا غير يسير من آلة المنادمة، مثل علم الجوارح والبيطرة، ونتفا من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك.
وكان متصلا بالحسن المهلبي - وزير معز الدولة بن بويه - منقطعا إليه يمدحه ويأخذ جوائزه. وأفاد من كتبه ثروة حسنة، فقد أهدى كتاب الأغاني إلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار، واعتذر إليه من تقصيره في المكافأة، كما يقتضيه حق الكتاب. وكان أنسباؤه بنو مروان ملوك الأندلس يتقدمون إليه بتصنيف الكتب لهم، فيفعل، ويسيرها إليهم، ويأتيه إنعامهم سرا. وفلج وخولط في أواخر أيامه، ومات في بغداد.
صفاته وأخلاقه
كان لطيف المنادمة، وحسن المعاشرة، حلو الحديث، يحب اللذة ومجالس اللهو ويشرب الخمر ويصحب القيان والمغنين. وكان مع ذلك رث الهيئة لا يعنى بتحسين شارته، كثير الهجاء، في لسانه سلاطة وهجر، تخشى معرته، ويحذر جانبه لعلمه بالأنساب والمثالب. وكان أكولا نهما، إذا ثقل الطعام في معدته تناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا، ولا يؤذيه ولا تدمع منه عيناه. وهو مع ذلك لا يستطيع أن يأكل حمصة، أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمص، وإذا أكل شيئا يسيرا من ذلك شري بدنه كله، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين. فلما كان قبل فالجه بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص، فصار يأكله ولا يضره، وبقيت عليه عادة الفلفل. وكان على أمويته يتشيع للعلويين لتربيه بينهم، ومخالطته لهم، واشتماله بإنعامهم.
آثاره
لأبي الفرج شعر أكثره في مدح المهلبي ، روى منه الثعالبي طائفة حسنة في يتيمته. ولكن منزلة الأصبهاني لا تقوم على أشعاره وإنما تقوم على مصنفاته الأدبية والتاريخية وهي كثيرة، منها في الأيام والأنساب والمثالب، ومنها في الشعر والشعراء والشواعر، ومنها في القيان والمغنين والحانات وأصحابها. وأشهر هذه الكتب وأبقاها الأغاني، اشتغل به صاحبه خمسين سنة، ووصل إلينا منه واحد وعشرون جزءا، والجزء الأخير نشره المستشرق الأميركي رودلف برونو. ولعل الكتاب كان أكبر حجما، وضاع منه بكرور الأزمان. قال ياقوت: «وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء، ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: «وقد طالت أخباره ها هنا، وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر.» ولم يفعل. وقال في موضع آخر: «أخبار أبي نواس مع جنان؛ إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت.» ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك. والأصوات المائة هي تسعة وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء، أو يكون النسيان غلب عليه، والله أعلم.» ا.ه. وللأغاني اختصارات كثيرة لا نرى فائدة من ذكرها. (7-2) ميزته
لم يخلص إلينا من آثار أبي الفرج شيء يعتد به إلا أغانيه، فعليه قامت ميزته، وبه كان خلوده، فإليه نستند في الكلام على أدب الأصبهاني، ومنزلته، ومبلغ تأثيره.
الأغاني: جمعه وتأليفه
يحدثنا صاحب الأغاني
33
أن الذي بعثه على تأليف هذا الكتاب أن رئيسا من رؤسائهم كلفه جمعه، فتكلفه على ما فيه من مشقة، وبناه على الأصوات المائة المختارة.
وحكاية هذه الأصوات أن هارون الرشيد أمر إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح بن العوراء باختيارها له من الغناء كله، ففعلوا، ثم أمرهم أن يختاروا له ثلاثة منها ففعلوا، ثم رفعت إلى الواثق بالله وهو خليفة، فأمر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يختار له منها ما رأى أنه أفضل من غيره، ويبدل ما لم يكن على هذه الصفة بما هو أولى منه، ففعل ذلك، فعلى هذه الأصوات المختارة اعتمد أبو الفرج في تأليف كتابه، ولكنه لم يقتصر عليها، بل أضاف إليها طائفة كبيرة من الأصوات التي غني بها، وليست منها.
وكان إذا ذكر الصوت عرف قائله ومن غنى به، وبين لحنه وطريقته وجنسه. ومذهبه في ذلك مذهب إسحاق الموصلي؛ إذ كان هو المأخوذ به يومئذ دون مذهب من خالفوه في أسماء الألحان، وبيان أجناسها، ثم ينتقل إلى الشاعر الذي قاله، فيذكر نسبه وأخباره، وتاريخ مولده ووفاته، وطائفة من أشعاره، وما غني له فيه، معتمدا بذلك على الإسناد المتسلسل. ثم يفرغ إلى من غنى بهذا الصوت، فينسبه ويروي أخباره ويبين صنعته، ومنزلته، وما له من الأصوات المعدودة. وإذا لم يستتم الكلام على الشخص الذي يتحدث عنه؛ لأن له أخبارا مع شخص آخر جعلت على حدة، أشار إلى ذلك بقوله: «وسنذكر خبره مع فلان في موضع آخر.» ويقول في ذاك الموضع: «أخبار فلان مع فلان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت.»
وابتداؤه بالأصوات الثلاثة المختارة فما يليها جعله لا يراعي في كتابه طبقات الشعراء، وأزمنتهم، ولا طرائق الغناء، وطبقات المغنين، فإنه استهل الكتاب بأخبار أبي قطيفة، وهو شاعر مخضرم ليس في المعدودين، ولا الفحول، وإنما غنى له معبد في شعر له:
القصر، فالنخل، فالجماء بينهما
أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
34
فعد من الثلاثة الأصوات المختارة، فبدأ به أبو الفرج، ثم بمعبد، وثنى بعمر بن أبي ربيعة، ثم بابن سريج؛ لأن ابن سريج غنى في شعر عمر:
تشكى الكميت الجري لما جهدته
وبين لو يسطيع أن يتكلما
35
فعد من الثلاثة الأصوات المختارة، وثلث بنصيب بن رباح، ثم بابن محرز؛ لأن هذا غنى له في شعره:
أهاج هواك المنزل المتقادم؟
نعم، وبه ممن شجاك معالم
36
فعد من الثلاثة الأصوات المختارة. وهكذا مشى إلى سائر الأصوات على غير ترتيب في الشعراء والمغنين.
أغراضه
رأيت أن الأغاني لم يقتصر على الغناء والمغنين، وإنما هو تاريخ جزيل الفائدة، ففيه أخبار بضع مائة من الشعراء، والمغنين، والقيان، والإماء، والغلمان، والعشاق والمعشوقات، والمخنثين، والمتظرفين والمتظرفات. وفيه أخبار الخلفاء والأمراء والقواد، ومن نبغ من أبنائهم وبناتهم في الشعر والغناء. وفيه أخبار قبائل العرب وأنسابهم، وغزواتهم ، وأيامهم، ومياههم. وفيه محاسن ما قيل من الشعر في الجاهلية والإسلام والمائة الأولى والثانية لبني العباس. وفيه وصف مآكل العرب ومشاربهم في بداوتهم وحضارتهم، وذكر عشقهم وأنواعه، وتسريهم، وزواجهم وطلاقهم، وسائر أحوالهم. وفيه تصوير بديع للمجالس والملاهي، والرياض والحدائق.
وقد علمت أن أبا الفرج يحب اللذة ويتطلبها، وبنى كتابه على الغناء، والغناء يقصد به إلى اللذة والترفيه عن النفس، فغلبت ناحية العبث والمجون على كتابه، وحفل بالنوادر المسلية والمتعهرة. فتراه يعنى بفضح الشعراء، وذكر أخبارهم وأشعارهم الفاحشة، وتصوير فساد أخلاقهم. ولم يتحرج من تشهير الخلفاء وأبنائهم، ونسائهم، وذكر عشقهم واستهتارهم، وعكوفهم على اللهو والشراب والسماع.
فلهذا لا يسعنا اعتماد الأغاني من النواحي التاريخية الشاملة، ولا سيما كلامه على الإسلاميين والمولدين، فإنه قلما تناولهم إلا من ناحية العبث واللهو. ولا ينبغي الاستسلام إلى رواياته كلها دون التوقف عند بعضها في شيء من الشك والاحتياط.
إنشاؤه
لصاحب الأغاني لغة جزلة سمحة، لم يؤثر فيها أسلوب الرسائل، فهي تفيض طبعا وسلاسة، وتبرأ من كل تكلف وصنعة وتعمد للمجاز. وجملته رشيقة حلوة المساغ. فخمة طلية، بارعة التصوير، ملؤها ماء وحياة، لا ليان فيها ولا جفاف، تميل إلى القصر لبلاغتها وإيجازها وحسن اختيار ألفاظها التي تؤدي حقيقة المعنى، من غير تأبد وخشونة. ولا عيب فيها غير الإكثار من فعل القول.
وليس الأغاني كله من إنشاء صاحبه، ففيه من أقوال الرواة الذين أخذ عنهم، وفيه نقل عن كتب يذكر أسماءها، وفيه تلفيق لأقوال جمع بعضها إلى بعض؛ فلذلك اختلفت لغة إنشائه. ولو اختصر الأصبهاني في الإسناد لدفع عن قرائه كل ضجر، ولكنه أحب أن يزيد روايته ثقة فأساء إلى قرائه بالحديث المعنعن المتسرد. (7-3) منزلته
لم يحدث كتاب عند ظهوره من التأثير ما أحدثه الأغاني في حلقات الأدب؛ فقد بادر الملوك والناس إلى شرائه، وتنافسوا في اقتنائه. وكان سيف الدولة أول من اقتناه من ملوك الشرق. وذكر صاحب نفح الطيب أن الحاكم المستنصر، أحد خلفاء بني أمية بالأندلس، بعث إلى أبي الفرج بألف دينار من الذهب العين ، فبعث إليه بنسخة من الأغاني قبل أن يخرجه بالعراق. وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة بن بويه: «لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره.» وذكر ابن خلكان: «أن الصاحب بن عباد كان يستصحب في أسفاره حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب، فلما وصل إليه هذا الكتاب لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره؛ لاستغنائه به عنها.»
وبلغ الصاحب أن سيف الدولة أعطى أبا الفرج ألف دينار لما أهدى إليه نسخة من كتابه، فقال: «لقد قصر سيف الدولة، وإنه يستحق أضعافها؛ إذ كان مشحونا بالمحاسن المنتخبة، والفقر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة، وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة، وللبطل رجلة وشجاعة، وللمتظرف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة. ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف، وسبعة عشر ألف مجلد، ما فيها سميري غيره.»
وأقوال المتقدمين في الأغاني كثيرة، ويطول الكلام عليها، وكلها تدل على إعجاب منهم وإكبار.
ومما يزيد منزلة هذا الكتاب أن صاحبه لم يقتصر فيه على الرواية والإسناد، بل كان كثيرا ما يمحص الأقوال، وينتقدها، ويظهر صحيحها من مكذوبها، ويحمل على الرواة الذين يصطنعونها. وربما أورد الخبر على روايات مختلفة، ثم عاد إلى رأيه فرجح إحداها، أو أبدى شكه فيها، وجعلها على عهدة أصحابها.
وكتابه كان - ولا يزال - المورد العذب الذي ينهل منه كل باحث في الآداب، ولولاه لضاع أدب كثير للجاهلية وصدر الإسلام.
هوامش
العصر العباسي الرابع
1055-1258م/447-656ه
يبتدئ بدخول السلاجقة بغداد، وينتهي باستيلاء هولاكو عليها، وانتقال الخلافة العباسية إلى مصر.
الفصل العاشر
لمحة تاريخية
(1) الدولة السلجوقية 1036-1318م/428-718ه
كل أمة انقسمت على نفسها بادت، وانقسام المملكة العباسية دولا أزال سلطانها الممنع، وقوض عرشها الرفيع، وجعلها عبرة في الغابرين. ولم يكن نشاط هذه الدول في بدء أمرها ليبشر بحميد العقبى، فإن تنابذ ملوكها وتنافسهم، وتكالبهم بالعدوان، وحرصهم على الامتلاك والتوسع، جعل ضعيفهم لقمة سائغة للقوي، وبلادهم دريئة للحروب والفتن والخروج والعصيان؛ فبت لا ترى إلا دولا تقوم وأخرى تضمحل، وملوكا تخلع وملوكا تستقل. وهذه الأحوال المضطربة لا يستقيم معها نظام، ولا يستتب سلطان، ولا تأمن فيها البلاد سطوات الأجانب. والدولة العباسية كانت في اتساع ولاياتها، مطمح أنظار سائر الشعوب، فما إن تجزأت وحدتها، وتقطعت أوصالها، ونشبت فيها الثورات والفتن حتى مدت الأمم الأعجمية أنظارها، فرأت الفرصة سانحة، والشاة ممكنة للرامي، فتوغل السلاجقة الأتراك في بلاد الفرس، وزحفوا إلى العراق، وبنو بويه قد صار أمرهم إلى الضعف، فدخلوا بغداد، واستولوا عليها، ودانت لهم البلاد من حدود الصين إلى آخر حدود الشام، ولكنهم لم يحفظوا وحدتهم، بل تقسموا ممالك، فكان منهم في الفرس والعراق وكردستان والشام وآسيا الصغرى. وفي أيامهم حدثت الحروب الصليبية، فإن أوروبا كانت كغيرها من الأمم، تلاحظ المملكة الإسلامية، وتتحفز للوثوب عليها.
وفي أوائل القرن السابع للهجرة ظهر جنكيز خان المغولي، فغزا البلاد الإسلامية حتى خراسان، فخرب مدنها، وحرق مكاتبها، ومثل بأهلها. وجاء بعده حفيده هولاكو، فأناخ على العراق ودخل بغداد سنة 656ه. وبطش بأهلها، وانتهبها، وألقى كتبها في دجلة، وقتل المستعصم الخليفة العباسي، وفتك بأولاده وأهله، واستولى على ما في قصره من الجواهر واللآلئ. وهرب من نجا من بني العباس إلى مصر، وجعلوا الخلافة فيها، وكانت يومئذ في حكم الأيوبيين.
وما زال المغول يتوغلون في بلاد المسلمين حتى افتتحوا الشام وآسيا الصغرى، وأزالوا ملك السلجوقيين.
وامتاز عهد السلجوقيين في إنشاء المدارس، وأشهرها المدرسة النظامية في بغداد، أنشأها نظام الملك الفارسي - وزير ملكشاه السلجوقي - وكان من أستاذيها الغزالي. (2) الدولة الأيوبية 1171-1260م/567-659ه
هذه الدولة كردية الأصل، وزعيمها يوسف بن أيوب المعروف بصلاح الدين، وكان أبوه أيوب وعمه شيركوه من قواد السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام من قبل الفاطميين. وكانت الدولة الفاطمية قد ضعف أمرها. واستبد عليها عمالها ووزراؤها. وحدث أن الصليبيين زحفوا إلى مصر يريدون الاستيلاء عليها، فاستنجد العاضد الخليفة الفاطمي بعامله السلطان نور الدين بن زنكي، فأرسل إليه قائده شيركوه، ومعه صلاح الدين ابن أخيه. ثم ارتد الفرنجة عن مصر صلحا، واستوزر العاضد شيركوه. ومات شيركوه فاستوزر صلاح الدين، ولقبه الملك الصالح، فاستولى على الأحكام، ولم يدع للخليفة إلا السلطة الدينية. وكان السلطان نور الدين زنكي يراقب حالة مصر عن كثب، فكتب إلى صلاح الدين يخبره بأنه سيقطع الخطبة عن الفاطميين، ويقيمها لبني العباس، ويطلب منه أن يفعل فعله؛ فوافقه صلاح الدين، وكلاهما سني. ومات العاضد على أثر ذلك، وكان مريضا، فانقرضت به دولة الفاطميين، وصار الملك إلى صلاح الدين، فاستقل بالأمر، وفتح دمشق واستولى على ملك آل زنكي، وحدثت بينه وبين الصليبيين حروب كثيرة، فاسترد منهم بيت المقدس، وغيره من البلاد التي افتتحوها في سورية. وكان قد تولاهم الضعف بعد أن دب فيهم الخلاف. وملك صلاح الدين من سنة 567-589ه/1171-1193م.
وأصاب الدولة الأيوبية ما أصاب السلاجقة من التجزؤ، فصار منهم ملوك في مصر ودمشق وبعلبك وحلب وحماة وحمص وما بين النهرين واليمن، وناوأ بعضهم بعضا، فوهن سلطانهم، ثم زال سنة 659ه، بغارات هولاكو، واستئثار مماليكهم التركمان بالسلطان.
وللأيوبيين يد بيضاء على اللغة؛ فإن بلادهم أصبحت قرارة العلماء والأدباء؛ لشغفهم بالعربية وعنايتهم بتعزيز العلم والأدب. ونبغ منهم شعراء كبهرام شاه صاحب بعلبك، ومؤرخون كالسلطان الملك المؤيد صاحب حماة، والمعروف بأبي الفداء، وعلماء كالملك المؤيد صاحب اليمن. وعنوا بلغة الدواوين كالفاطميين، فأقاموا عالما بالنحو يراقب الإنشاء، ويصلح الخطأ. (3) ميزة العصر
فيتضح مما تقدم أن الحالة السياسية كانت على أسوأ ما يكون، فمن حروب متواصلة، ودولة متداولة، وفتن مشتعلة، إلى تشقق مطرد، حتى أصبح على كل بلد ملك ذو عرش وصولجان. وهذه الحالة القلقة كانت لا جرم نذيرا بمصير البلاد إلى الانحطاط، وبئس المصير.
الفصل الحادي عشر
الشعراء المولدون
العصر الرابع (1) ميزة الشعر
لم تتبدل أغراض الشعر وفنونه، فتجعل له ميزة جديدة، وإنما حدث شيء من التطور في بعضها فنما وقوي، كالشعر الصوفي؛ فإن أصحابه تكاثر عددهم بكثرة الفرق الصوفية، ونظموا فيه القصائد الطويلة، حاوية اصطلاحات المتصوفين وعلومهم، كما في شعر عمر بن الفارض. وكذلك باب الشكوى؛ فإنه اتسع لما نزل بالبلاد العربية من المصائب والأهوال، ولما لقي الشعراء من كساد سوق الشعر، وفتور أكثر الأمراء عن الأخذ بناصرهم، وعلى الأخص في أواخر العصر. وأكثروا من ذكر الحروب والفتن. وكان للحروب الصليبية أثر بليغ في أشعارهم.
وأما لغة الشعر فقد مالت إلى اللين لأسباب: منها أن امتداد سلطان الفاطميين إلى سورية جعل شعراء الشام يتأثرون بلغة المصريين، ويحتذون أسلوب شعرائهم. ومنها أن تسلط الأمم الأعجمية على الأمة العربية، وذوبانها فيهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم، أثر في اللغة الفصحى أسوأ الأثر، فغلبت اللهجات العامية، والألفاظ الدخيلة المسترذلة، وفشا الفساد في لغة البادية، وعم اللحن، ومضى عهد التبدي. فصار الشاعر الحضري لا يرى في سكنى البادية، والاختلاط بالأعراب مقوما للسانه كما كان يراه أسلافه المتقدمون، فاكتفى بلغته على فسادها، وبما يحصله بالدرس والمطالعة.
وأمعن الشعراء في الصناعة كل إمعان، وقيدوا قرائحهم بقواعد النظم وشروطه وأبوابه، كما حددها لهم ابن رشيق وأمثال ابن رشيق، فقل الطبع وكثر التكلف وضعف الاستنباط، وابتذلت المعاني والتعابير لتواطئهم عليها، وترسمهم لما جاء به الأقدمون. وظهر الابتذال والإسفاف خصوصا عند الشعراء الذين جاءوا في آخر هذا الزمان كابن مطروح والبهاء زهير. ولا غرابة في ذلك، فإنه عصر انتقال من القوة إلى الضعف، ومن الارتفاع إلى الهبوط، فلا بد للشعر أن ينحدر شيئا فشيئا حتى تلتقي أواخر عصره بأوائل عصر الانحطاط.
وفي هذا العصر دخلت الموشحات الأندلسية إلى الشرق، واحتذاها شعراؤه، ولا سيما ابن سناء الملك. ونرجئ الكلام على هذا الفن إلى بحثنا عن الأدب الأندلسي.
واشتهر من الشعراء عدد قليل، فمنهم في مصر ابن سناء الملك، وابن النبيه، وعمر بن الفارض، وابن مطروح، وبهاء الدين زهير. ومنهم في الشام ابن الخياط الدمشقي، وابن منير الطرابلسي، وابن حيوس. ومنهم في العراق الطغرائي والحاجري. ومنم في فارس صردر، والأرجاني، وابن الهبارية، والأبيوردي. ولكن ليس بين هؤلاء كلهم واحد يعد من الفحول.
الفصل الثاني عشر
الكتاب المولدون
العصر الرابع (1) ميزة النثر
بقيت ميزة النثر على حالها، لم يتغير فيها شيء فيجعل لها صبغة خاصة تنفرد فيها، غير أن الكتاب أسرفوا في تنميق العبارة، وطلب المحسنات البديعية، والتزام السجع، وعلى الأخص بعد ظهور الطريقة الفاضلية في مصر، فإن صاحبها القاضي الفاضل عني بأنواع البديع عناية عظيمة، وألح على التورية والجناس، فأطال جمله وباعد بين فواصلها المسجعة، حتى تتم له القرائن والمرشحات لبيان التورية والجناس، فوقع في الغموض، وتعقد إنشاؤه، وقل ماؤه، وكثر غثاؤه. ووافق ظهور طريقته جمودا في الأفكار، وعجزا عن الاستنباط لتوالي الحروب والمصائب، فأقبل الكتاب يضربون على غرارها يلوك بعضهم أقوال بعض، فأصبح الإنشاء - ولا سيما آخر العصر - عبارات مرصوفة، ومرادفات مصفوفة، وضعفت لغته، وانبثت فيه الكلمات العامية، فتلقفه زمن الانحطاط بهشاشة وارتياح.
وظهر الحريري في أوائل العصر، فتحدى بديع الزمان في مقاماته، فوسع نطاق هذا الفن، وأتم صناعته اللفظية. (2) الحريري 1054-1122م/446-516ه (؟) (2-1) حياته
هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، عربي صريح ينتمي إلى ربيعة بن نزار، وكنتيه أبو محمد، ولقبه الحريري نسبة إلى الحرير وعمله، أو بيعه. ولد في المشان
1
وكان من ذوي اليسار، قيل كان له فيها ثمانية عشر ألف نخلة. ورغب في العلم مع وافر ثروته، فجاء البصرة ، وطلبه على علمائها، وسكن فيها بمحلة بني حرام، وهي قبيلة قحطانية، فقيل له الحرامي. وما زال يجالس العلماء، ويشهد حلقات الأدب، حتى برع في الشعر والترسل، واستبحر في اللغة وآدابها، وحذق الفقه، وتضلع من الفرائض، فأكب على التصنيف حتى وافاه أجله، وقد وطئ السبعين. وكانت وفاته بالبصرة، وخلف ولدين هما نجم الدين عبد الله، وضياء الإسلام عبيد الله قاضي قضاة البصرة.
صفاته وأخلاقه
ذكر صاحب معاهد التنصيص أن الحريري كان قذرا في نفسه، وشكله ولبسه، قصيرا، دميما، بخيلا، مولعا بنتف لحيته؛ فنهاه أمير البصرة، وتوعده على ذلك، وكان كثير المجالسة له، فبقي كالمقيد لا يتجاسر أن يعبث بلحيته. فتكلم في بعض الأيام بكلام أعجب الأمير، فقال له: «سلني شيئا حتى أعطيك.» فقال: «تقطعني لحيتي.» قال: «قد فعلت.» وقال ابن خلكان: «إنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه، قال له اكتب:
ما أنت أول سار غره قمر
ورائد أعجبته خضرة الدمن
2
فاختر لنفسك غيري إنني رجل
مثل المعيدي، فاسمع بي ولا ترني
3
فخجل الرجل منه، وانصرف.
آثاره
للحريري تآليف حسان منها درة الغواص في أوهام الخواص، بين فيه مغالط الكتاب في ما يستعملون من اللفظ بغير معناه. ومنها ملحة الإعراب، وهي أرجوزة في النحو. ومنها ديوان شعر ورسائل. ومنها المقامات، وهي أشهر آثاره، فإنها ترجمت إلى عدة لغات أجنبية، وشرحها غير واحد من العلماء أمثال الشريشي، والعكبري، والزبيدي وغيرهم، وطبعت مرات في بيروت ومصر وأوروبا.
سبب وضعه المقامات
ذكر عبد الله بن الحريري السبب الذي من أجله وضع والده المقامات قال: «كان أبي جالسا بمسجد بني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رث الحال، فصيح اللسان، حسن العبارة. فسأله الحاضرون: «من أين الشيخ؟» فقال: «من سروج.»
4
فاستخبروه عن كنيته، فقال: «أبو زيد.» فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد السروجي المذكور. واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شروان بن خالد بن محمد القاشاني، وزير الإمام المسترشد بالله،
5
فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة.» ا.ه.
وذكر ابن خلكان أنه وجد نسخة مقامات بخط مصنفها، وقد كتب بخطه على ظهرها أنه صنفها للوزير جمال الدين عميد الدولة الحسن بن صدقة وزير المسترشد أيضا، فعلى هذه الرواية يكون عبد الله بن الحريري قد غلط في اسم الوزير. ويشير الحريري إلى الوزير في خطبة مقاماته بقوله: «فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع.»
6
وجعل راوية مقاماته الحارث بن همام، وهو رجل خيالي أخذه من حديث: «كلكم حارث وكلكم همام.»
7
ولم يسلم من اتهام الناس له، وإنكارهم عليه مقاماته، فقد ذكر ابن خلكان أنه رأى في بعض المجاميع أن الحريري عمل أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، وادعاها فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد. وقالوا إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة. مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه، فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: «أنا رجل منشئ.» فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زمانا كثيرا، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام خجلان، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة. وكان في جملة من أنكر دعواه علي بن أفلح الشاعر، وقد قال فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس
ينتف عثنونه من الهوس
8
أنطقه الله بالمشان كما
بلاه وسط الديوان بالخرس
على أن المقامات الخمسين ثابتة للحريري، ولا وجه للشك في نسبها إليه. (2-2) ميزته
لا يذكر الحريري إلا كانت مقاماته أسبق آثاره إلى الأذهان؛ لأن بها قامت ميزته ومنزلته، فإليها نستند في كلامنا عليه، وإظهار خصائصه في هذا الفن من الإنشاء.
تحليل مقاماته
يبدأ الحريري مقاماته بإسناد الكلام إلى راويتها الحارث بن همام، ولكنه لا يقتصر كالبديع على قوله: «حدثنا.» بل يميل إلى التغيير في بدء كل مقامة فينتقل بين حدث وروى وحكى وأخبر وقال.
والحارث بن همام رجل كثير الأسفار، فإما يطلب السفر من أجل دين يبغي قضاءها، أو سعيا لرزق يكتسبه. وربما بدا موسرا يتلهى بالترحال والأسمار والأخبار. وقد يجتمع الحارث وأبو زيد منذ أول المقامة، فيتعاونان على إنشائها كما في المقامة الواسطية
9
إذ سعى أبو زيد في تزويج الحارث. حتى إذا كان العرس، دس للناس بنجا في الطعام، فتخدروا، فسلب ما في البيوت من الأكياس والتخوت، ونجا لا يلوي على العرس وأهله.
والحارث أكرم أخلاقا، وأشرف نفسا من أبي زيد، فإنه لم يشركه في لصوصيته، ولطالما أنبه على دناءته، وصارمه من أجلها، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى مصاحبته لشغفه بأدبه. وهو على اجتماعه به في كل مقامة لا يعرفه إلا إذا اتبعه وسأله عن حاله، أو إذا تبين الاحتيال في أقواله وأعماله، فيضطر إلى كتم أمره، فما يخبر خبره إلا بعد أن ينأى عن البلد، ويأمن اللحاق.
وأما أبو زيد فشاعر خطيب مترسل، عالم باللغة والنحو، والفقه والفرائض، متصرف في ضروب الكلام ونوادر البيان، يحترف الكدية بالاحتيال، ويسلك إليها مختلف الطرق، لا عدة له غير لسان فصيح، وجنان قوي، فهو لص خبيث، سكير خمير، مخادع منافق، مستهتر فاسق. يظهر في كل المقامات، وغالبا يعاونه على احتياله ولده أو زوجه، وهما لا يقلان عنه خداعا وخبثا، وفصاحة وعلما، ولهما من جمالهما شافع يستعينان به على الاقتناص، ولكنهما يصونانه عن التبذل.
ومقاماته فيها أدب كثير، وفيها احتيال كثير، وفيها دناءة وخساسة، وفيها حكم ومواعظ. وتنقسم من حيث الأغراض إلى مقامات أدبية، تظهر براعة أبي زيد في تصريف الكلام، وتقليب نوادر البيان، كالمقامة القطيعية،
10
وفيها أحاج نحوية ألقاها أبو زيد على جماعة، فعجزوا عن حلها، فأبى أن يفسرها لهم إلا بعد أن نال منهم الحباء. وإلى فكاهية كالمقامة الواسطية، وقد مر ذكرها. وإلى مجونية كالمقامة الرحبية،
11
وفيها يسوق أبو زيد ولده إلى الوالي متهما إياه بأنه فتك بابنه، فينتصر الوالي للغلام، ويدفع لأبي زيد بعض دية المقتول، على أن يجمع له الباقي في الغد، فما دجا الليل إلا شمر أبو زيد وفرخه للهرب، تاركين الوالي على أحر من ذات اللهب. وإلى دينية يقف فيها أبو زيد واعظا مزهدا في الدنيا كالمقامة الصنعانية.
12
وإلى خلقية اجتماعية كالمقامة الرازية،
13
وفيها يعط أبو زيد الوالي الذي يغتر بمنصبه، ولا يعتد بحقوق الناس.
وهذه الأغراض على اختلافها يقصد بها إلى الكدية، ووسائلها عند أبي زيد كثيرة، فمرة يطلبها بالتقوى والتنسك، فيخدع الناس، وينال سبيهم، حتى إذا خلا في مثواه عكف على الخمر والمجون. فكأن الحريري يمثل به جماعة من شيوخ الدين، يتخذون النفاق لهم شعارا، وينصحون الناس، ولا ينتصحون. ومرة يتلاحى وزوجته عند القاضي أو الوالي ويتجادلان، وكلاهما فصيح لسن، فيعجب بهما الحكم ويصلح بينهما ويدفع لهما شيئا من المال. وحينا يكون الخصام بينه وبين ولده. وأكثر ما يمثل الولاة والقضاة أغبياء تجوز عليهم الحيل، أو فساقا يجورون عن الحق خضوعا للجمال. وأخباره مع القضاة والولاة كثيرة متشابهة يكاد لا يختلف بعضها عن بعض.
وأعظم وسيلة عنده للتكدي فصاحة لسانه، وسعة علمه، وربما عمد إلى طرق في غاية الدناءة والخسة، كأن يشحذ ثمن كفن لميت يدعيه، أو يقطع الطرق ويسل الخيل. أو يتعامى فتقوده امرأته إلى المسجد ليصطاد الناس بأحابيله، فالكدية عند أبي زيد ملازمة له في جميع مقاماته، لا تفارقه ولا يفارقها.
ولكن لأبي زيد نهاية حسنة ليس لأبي الفتح مثلها؛ فإنه تاب توبة نصوحا في المقامة الأخيرة، وأقلع عن الاحتيال والفسق، وتنسك وفارق راويته فراقا لا لقاء بعده.
والحريري في مقاماته أكثر تعلقا بالحواضر من بديع الزمان، فما يكاد يخرج إلى البادية إلا في واحدة منها أو اثنتين. ومقاماته في الغالب أطول من مقامات أستاذه بيد أن طولها لا يعود على اتساع الفن القصصي فيها، وإنما على اجتماع خبرين في مقامة واحدة، أو على فيض الألفاظ، وكثرة المترادفات، ومعاقبة الجمل على المعاني، أو على الإكثار من الشعر، وفيه القصائد التي يشرح بها أبو زيد أحواله، ويقص أخباره.
إنشاؤه
للحريري لغة متينة، قصيرة الجمل يقطعها تقطيعا موسيقيا، فما تتعدى جملته الكلمتين أو الثلاث. وقلما زادت فبلغت الخمس أو الست. وهو في إنشائه بادي الصنعة، طاهر التكلف، يتعمد الغريب، ويسرف في استعماله. ويفرط في اصطناع المجاز والتزيين، حتى تجفو عبارته ويقل ماؤها، ويعسر مساغها، فقد أولع بالسجع فلم يقتصر على التزامه فيه فواصل الجمل، وإنما تعمله في أجزائها، وجاء به متوازيا أو مرصعا كقوله: «وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.» وقد يعدد الأسجاع على قافية واحدة، ويتورط معها في تكلف الاستعارة. وتقليب الألفاظ على المعنى الواحد لتتم له القوافي.
ويفتن في الجناس على أنواعه من تام وناقص: «وترغب عن هاد تستهديه، إلى زاد تستهديه. وفي اللحد مقيلك، فما قيلك ؟ ... لما اقتعدت غارب الاغتراب، وأنأتني المتربة عن الأتراب.»
14
وكثيرا ما يأتي بالجناس المتكافئ: «أو يعطف عليك معشرك، يوم يضمك محشرك.» وربما حلى سجعاته بمثلثات متجانسة: «فلما استأذنته في المراح،
15
إلى المراح،
16
على كاهل المراح.»
17
ولطالما تزحلق في تحذلقه إذ يطلب السجع أو الجناس، فيزور عنه، وما يتأتى له إلا بشق النفس، وتظهر عليه البرودة والغثاثة كقوله: «واستعنت بقاطبة الكتاب، فكل منهم قطب وتاب.» فقد جر قاطبة من أجل الجناس والسجع، وهي لا تستعمل إلا منصوبة على الحال، ووضع فعل تاب في غير موضعه، فبدا نافرا متقلقلا.
ومن قبائحه في المسجوع أن يفصل بين العامل والمعمول كقوله: «أو لخالك دان، عبد المدان.»
18
وشغف الحريري بهذه المحسنات وغيرها من أنواع البديع اللفظي والمعنوي، حمله على أن يجعلها من أغراض مقاماته، فأنشأ مقامات لا غاية منها إلا إظهار براعته في هذه الأشياء، وحلاها بأشعار ورسائل فيها العواطل والحوالي، والرقط والأخياف، وفيها التوريات والأحاجي والألغاز، فتعقد بها إنشاؤه، وكثر غموضه، فعني بشرحها وتفسيرها، وتحليل معجماتها ومعمياتها، فمن العواطل قوله من قصيدة:
أعدد لحسادك حد السلاح
وأورد الآمل ورد السماح
ومن الحوالي:
فتننتي فجننتني تجني
بتجن يفتن غب تجن
19
ومن رقطه قوله من رسالة: «أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب،
20
وقربه تحف، ونأيه تلف.»
ومن أخيافه: «الكرم، ثبت الله جيش سعودك، يزين. واللؤم، غض الدهر جفن حسودك، يشين.»
ومن تورياته وألغازه قوله من قصيدة كلها على هذا النمط:
وكاتبين وما حطت أناملهم
حرفا، ولا قرءوا ما خط في الكتب
21
ومن أحاجيه ومعجماته:
يا من بدا بيانه
عن فضله مبينا
ماذا مثال قولهم:
حمار وحش زينا؟
22
وقوله يحاجي في مسائل فقهية: «أيستباح ماء الضرير؟ قال: نعم، ويجتنب ماء البصير.»
23
وله غير ذلك أعاجيب كثيرة، منها الألفاظ التي تكتب بالصاد والسين، كالصراط والصقر، ومنها الشعر الذي لا يستحيل بالانعكاس:
أس أرملا إذا عرا
وارع إذا المرء أسا
24
ومنها أشياء أخر يطول بنا الأمر لو عمدنا إلى ذكرها. وإن في ما أوردناه كافيا للدلالة على صنعة الحريري، وإمعانه في طلب المحسنات البديعية حتى جعل لها المقام الأعلى في إنشائه، فنبا به عن الطبع، ولم يسلم مطالعه من السأم والضجر.
ويكثر الحريري في مقاماته من الأمثال، فقد أورد منها طائفة جليلة، ومن الأشعار وكلها من نظمه إلا أربعة أبيات ذكرها على سبيل الاستشهاد.
وإنشاؤه على الإجمال لا تنحط بلاغته، إذا جردته من الرموز والأحاجي والألغاز. (2-3) منزلته
قال فيه ابن خلكان: «كان أحد أئمة عصره، رزق الحظوة التامة في عمل المقامات. واشتملت على شيء كثير من كلام العرب، في لغاتها وأمثالها. ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها، استدل بها على فضل هذا الرجل، وكثرة اطلاعه، وغزارة مادته.» ا.ه. وقال الزمخشري:
أقسم بالله وآياته
ومشعر الحج وميقاته
25
إن الحريري حري بأن
تكتب بالتبر مقاماته
26
معجزة تعجز كل الورى
ولو سروا في ضوء مشكاته
27
ومنزلة الحريري لم تقم على جمال القصص في مقاماته، والتفنن في أغراضها، وإنما قامت على إنشائها المنمق، وما فيها من رموز لغوية، وأحاج بيانية، فالحريري لم يحفل بالفن القصصي فيعمد إلى ترقيته، بل قصر همته على التصرف في الألفاظ، وضروب المحسنات والألغاز . فجاءت أقاصيصه متشابهة المواضيع، محدودة الخيال، ولكنها حافلة بكل عجيب من أنواع البيان والبديع، وكل غريب من كلام العرب ومذاهبهم.
وكان التصنع في الإنشاء هو الطراز الأعلى يومذاك، ففتن بإنشائه أهل زمانه، ومن جاء بعدهم، فاتخذوا مقاماته عنوانا للكمال، لا يلتفتون إلى غير الصناعة اللغوية فيها. وإليها أشار ابن خلكان في كلامه، والزمخشري في شعره.
وكثر بعد الحريري وضاع المقامات، وأشهر من اصطنعها في المتقدمين الزمخشري والسيوطي، وفي المتأخرين الشيخ ناصيف اليازجي، وكلهم اتخذ الحريري أستاذا له يجري على مثاله. (3) العلوم
ظل الاشتغال باللغة على نمو وازدياد، وتكاثرت الكتب المصنفة، ولا سيما كتب النحو والبيان. واشتهر من أصحاب اللغة طائفة كبيرة، منهم أبو زكريا التبريزي، وله ملخص إعراب القرآن، وشرح المعلقات، والوافي في العروض. ومنهم الحريري وقد تقدم ذكر تآليفه. ومنهم الجرجاني، وله أسرار البلاغة في المعاني والبيان، ودلائل الأعجاز في علم المعاني، والعوامل المائة . ومنهم الزمخشري وله أساس البلاغة في اللغة والمفصل في النحو. ومنهم السكاكي وله مفتاح العلوم في الصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعروض. ومنهم الصغاني وله مجمع البحرين في اللغة. ومنهم ابن الحاجب وله الكافية والشافية في الصرف والنحو. ومنهم ضياء الدين ابن الأثير، وله المثل السائر في علم البيان والصناعة اللفظية والمعنوية، وسنعود إليه في كلامنا على الأدب والأدباء.
وكذلك التاريخ كان له حظ حسن، فقد وضعت فيه عدة كتب لتعدد الممالك. وأشهر المؤرخين عماد الدين الأصفهاني، وله كتب في فتوح صلاح الدين وأخبار السلاجقة. وشهاب الدين أبو شامة وله كتاب الروضتين في أخبار صلاح الدين ونور الدين وحروب الصليبيين. والسمعاني وله كتاب الأنساب. والقفطي وله معجم تاريخي للفلاسفة والأطباء والطبيعيين والرياضيين، وله أنباء النحاة، وأخبار مصر. وابن عساكر الدمشقي وله تاريخ دمشق. وعز الدين ابن الأثير وله كتاب الكامل في التاريخ العام، ويعرف بتاريخ ابن الأثير.
وأما الجغرافيا فقد كان تقدمها في الأندلس، ولم يخل الشرق من رجال اشتغلوا بها وبالتاريخ معا أمثال ياقوت الحموي وله معجم البلدان، وهو كتاب جغرافي كبير بأسماء البلاد . وأمثال أبي الفرج الجوزي وله كتب كثيرة في التاريخ والجغرافيا.
وأما الفلسفة فقد ذوت في الشرق بعد أن نبغ الغزالي وأصلاها وأصحابها حربا حامية في كتابه تهافت الفلاسفة. ولو لم تتداركها الأندلس لاندثرت معالمها عند العرب. (4) الأدب والأدباء
لم تتبدل طرق النقد وأساليبه، وإنما توسع الأدباء في علم البيان، وحددوا أصوله وفروعه، وعنوا بتحسين نظم الإنشاء وضبطها، كما فعلوا في الشعر من قبل. وكان الفضل في ذلك للجرجاني، فإن كتابه أسرار البلاغة حقيق بأن يدعى مفتاح علم البيان، وركن صناعة الإنشاء. ثم جاء بعده جماعة من الأدباء، فنهضوا بهذا الفن، ورفعوا مناره، فاتسع نطاق النقد، وشمل النثر والكتاب، فأصابهم منه قسط وافر بعد أن كاد يكون مقصورا على الشعر والشعراء. وضياء الدين ابن الأثير في مقدمة من لهم اليد البيضاء على صناعة النقد وعلم البيان. (5) ابن الأثير 1162-1239م/558-637ه (5-1) حياته
هو نصر الله بن محمد الشيباني، كنيته أبو الفتح، ولقبه ضياء الدين، ويعرف بابن الأثير الجزري منسوبا إلى جزيرة ابن عمر
28
وفيها ولد ونشأ. وانتقل به والده إلى الموصل، فحصل فيها العلوم، حتى إذا اكتملت آلته، قصد صلاح الدين الأيوبي في دمشق سنة 587ه/1191م، فجعله في خدمته، فلبث بضعة أشهر. ثم صار إلى خدمة ولده الملك الأفضل نور الدين، فاستوزره هذا. ولما توفي والده استقل بمملكة دمشق واستقل ضياء الدين بالوزارة، وردت إليه أمور الناس.
ثم إن الملك الأفضل جرت له وقائع مع أخيه العزيز صاحب مصر، فاتفق العزيز وعمه الملك العادل على غزو دمشق واستنقاذها من يد نور الدين. وتأتى لهما الأمر سنة 592ه/1195م فاستوليا عليها وأعطيا الملك الأفضل صرخد
29
بدلا منها، فصار إليها، وأقام بها. وكان ابن الأثير قد أساء السياسة في أهل دمشق، فسخطوا عليه، فلما زال ملكه هموا به، فوضعه الحاجب محاسن بن عجم في صندوق، وأخرجه من دمشق خفية، فمضى إلى سيده في صرخد.
ثم توفي العزيز صاحب مصر سنة 595ه/1198م، وخلفه ابنه الناصر محمد وهو في العاشرة، فاستدعى رجال الدولة عمه نور الدين من صرخد ليكون له وصيا، وعنه نائبا، فحضر وتبعه ابن الأثير. وفي المثل السائر أن ضياء الدين جاء مصر سنة 596ه/1199م.
ونشبت الحرب بين نور الدين وعمه الملك العادل صاحب دمشق، فقصد الملك العادل مصر سنة 596ه، وأخرج الملك الأفضل منها. ولم يجرؤ ابن الأثير أن يخرج من مصر إلا مستخفيا؛ لأن جماعة كانوا يقصدون قتله لما لقوا من عنته واستبداده.
وذهب الملك الأفضل إلى سميساط
30
ولم يسمح له عمه بغيرها، وعاد ضياء الدين إلى خدمته. ثم فارقه سنة 607ه/1210م، واتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب. فلم يطل مقامه عنده، ولا انتظم أمره، وخرج مغاضبا. وعاد إلى الموصل، فلم يستقم حاله، فورد إربل،
31
ثم تركها إلى سنجار،
32
ثم رجع إلى الموصل، واتخذها دار إقامة، وكتب فيها لصاحبها ناصر الدين محمود بن الملك القاهر، من ملوك الدولة الزنكية،
33
وبقي في خدمته حتى مات. وكانت وفاته في بغداد، وذلك أن ناصر الدين بعثه إليها في مهمة، فقضى بها نحبه، ودفن فيها بمقابر قريش. وخلف ولدا اسمه محمد، ذكره ابن خلكان، ونعته بالنباهة، وأثنى على أدبه في المنظوم والمنثور. وضياء الدين هو أحد الإخوة الثلاثة عز الدين المؤرخ المشهور صاحب الكامل، ومجد الدين صاحب النهاية في غريب الحديث والأثر.
صفاته وأخلاقه
عرف ابن الأثير بكبريائه واستبداده، فكرهه الناس، ونذروا دمه غير مرة. وكان كثير الإعجاب بنفسه حتى الغرور، لا يرى خيرا إلا فيما يقول ويفعل، وقلما يرى خيرا فيما يقول غيره ويفعل، فكثرت أذيته في العلماء والأدباء الذين تقدموه أو عاصروه، وأوقع بهم وازدراهم، وحقر آراءهم ورماهم بأقبح الأوصاف، فانقبض عنه رجال العلم، ومقتوه، وطعنوا عليه، وعنفوه.
أستاذوه وعلومه
درس ابن الأثير في الموصل، فحفظ القرآن، وكثيرا من الأحاديث النبوية، وطرفا صالحا من النحو واللغة والبيان، وشيئا غير يسير من الأشعار. ولم نعرف أحدا من أستاذيه، إلا أنه يخبرنا في المثل السائر أنه وقف من الشعر على كل ديوان مجموع، وأنفد شطرا من العمر في المحفوظ والمسموع، فألفاه بحرا لا يوقف على ساحله، فاقتصر منه على ما تكثر فوائده، واكتفى بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي، فهؤلاء الثلاثة هم عنده لات الشعر وعزاه ومناته، فروى لهم أكثر مما روى لغيرهم، واستفاد من فصاحة أقوالهم، وبلاغة معانيهم.
آثاره
لضياء الدين مصنفات حسنة أشهرها المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، وسنتولى تحليله ونقده. ثم كتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم، جعله في مقدمة وثلاثة فصول:
الأول:
في حل الشعر.
والثاني:
في حل آيات القرآن.
والثالث:
في حل الأحاديث النبوية.
وله كتاب المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء. ومجموعة رسائل أورد منها شيئا في المثل السائر. (5-2) ميزته
قامت شهرة ابن الأثير على كتاب المثل السائر، وهو خير مصنفاته، وأجمعها لميزاته، فتكتفي به لإظهار خصائصه الأدبية، وما له من طرق فيها وأساليب.
المثل السائر: أغراضه
هذا الكتاب يتضمن البحث عن علم البلاغة، والنقد لصناعة الكاتب والشاعر، وقد بناه صاحبه على مقدمة ومقالتين؛ فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان، والمقالتان تشتملان على فروعه. والمقدمة تتضمن عشرة فصول يتكلم فيها على موضوع علم البيان، وما ينبغي له من الأدوات. ثم بحث الحكم على المعاني ومعرفة أساليبها في التفسير والتأويل، والترجيح بينها. ثم جوامع الكلم، والحقيقة والمجاز والفصاحة والبلاغة، وأركان الكتابة، وطريق تعلمها.
والمقالة الأولى:
تبحث عن الصناعة اللفظية، وهي على قسمين: الأول في اللفظة المفردة. والثاني في الألفاظ المركبة، وجعل صناعة تأليفها على ثمانية أنواع كالسجع والتجنيس والترصيع والمعاظلة وسواها.
والمقالة الثانية:
تبحث عن الصناعة المعنوية، وهي أيضا على قسمين: الأول في الكلام على المعاني مجملا، والثاني في الكلام عليها مفصلا.
والقسم الأول على ضربين، أحدهما في ما يبتدعه المؤلف من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه. والثاني في ما يجري فيه على مثال سابق ومنهج مطروق. والقسم الثاني بناه على ثلاثين نوعا كالتشبيه والاستعارة والتجريد، والتقديم والتأخير، والإيجاز، والإطناب، والكناية، والسرقات الشعرية وغيرها.
ويتخلل هذه المباحث شعر ورسائل، وآيات وأحاديث، يبني عليها كلامه، أو يستشهد بها على صحة أقواله. وربما عمد إلى الموازنة بين شاعرين كما وازن بين البحتري والمتنبي في وصفهما الأسد. وكثيرا ما يورد من رسائله ، ويجعلها مثالا للبلاغة في النوع الذي يتكلم عليه، ويعنى بتحليل معانيها، وتنبيه القارئ على النظر إليها.
وكأين عرض لأقوال غيره من الكتاب فطعن عليها، وازدراها كما فعل بالحريري وابن نباتة الخطيب، فإنه عاب سجعهما من أجل تكرير المعنى بالفاصلتين المزدوجتين. وعاب مثل ذلك على أيمة المترسلين كابن العميد والصابي والصاحب بن عباد.
وعرض للشعراء، فأدرك عليهم ما عاب من أقوالهم، واستهزأ بمن يتعصب لبعضهم حتى لا يرى له عيبا، فعله بالمتنبي وأبي العلاء، فإنه أورد هذا البيت لأبي الطيب:
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل
ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
وقال: «فلفظة حالل نافرة عن موضعها، وكانت له مندوحة لو استعمل عوضا عنها كلمة ناقض. وجعل لا ينقض موضع لا يحلل.» ا.ه. ثم قال: «وبلغني عن أبي العلاء بن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب حتى إنه كان يسميه الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه. وكان يقول: «ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها، فيجيء حسنا مثلها.» فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت المشار إليه؟ لكن الهوى - كما يقال - أعمى، وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة، وأعماها عصبية، فاجتمع له العمى من جهتين.» ا.ه.
وفي كلامه على علم البلاغة لا ينفك يذكر أقوال من تقدمه من علماء البيان، ويظهر خطأها، وضعف مدلولها، وقصر نظرهم فيها. ثم يذكر أقواله، ويدل بها، ويباهي أنه استنبطها، وفتحت له كنوزها، ولم يسبق إليها. وإذا سبقه أحد إلى رأي يريد أن يتبناه، لا يكذب أن يجد فيه عوجا، ليكون له الفضل في تقويمه. ومثل هذه الأشياء كثيرة في المثل السائر، وهي تصور أدق تصوير عجرفة صاحبه، وشدة غروره.
على أنه لا بد لنا أن ننصف ابن الأثير فنقول: إن أقواله في البيان، واستنباطاته لأحكامه، تدل على علم صحيح، وذكاء عجيب، وقوة استنتاج. ولكن حب المعارضة كان يدفعه إلى الإفراط في المخالفة، فما يأمن الزلل بعض الأحيان، مثال ذلك: «فإن قيل: «إنك قلت إن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين؛ أي المفهوم. ونرى من آيات القرآن ما لا يفهم ما تضمنه من المعنى إلا باستنباط وتفسير. وتلك الآيات فصيحة لا محالة، وهذا بخلاف ما ذكرته.» قلت: لأن الآيات التي تستنبط وتحتاج إلى تفسير ليس شيء منها إلا ومفردات ألفاظه كلها ظاهرة واضحة، وإنما التفسير يقع في غموض المعنى من جهة التركيب لا من جهة ألفاظه المفردة؛ لأن معنى المفردة يتداخل في التركيب، ويصير له هيئة تخصه. وهذا ليس قدحا في فصاحة تلك الألفاظ؛ لأنها إذا اعتبرت لفظة لفظة، وجدت كلها فصيحة؛ أي واضحة ظاهرة.» ا.ه.
فهذا القول بين الضعف؛ لأن الغريب في القرآن موجود، وقد صنفت فيه الكتب منذ القرون الإسلامية الأولى، يوم كان الناس يتخاطبون باللغة الفصحى ولا يضيقون ذرعا بالألفاظ الغريبة. فأنى لابن الأثير أن ينكره، وهو في عصر ضعفت لغة أبنائه، وفشت بينهم اللهجات العامية. وهبه كان له من العلم بكلام العرب ما يجعل ألفاظ القرآن كلها بينة مفهومة عنده، أفينبغي له أن ينفي الفصاحة عن الغريب، وهو إضافي بين عصر وعصر، وشخص وآخر؟ وماذا يضير فصاحته إذا لطف لفظه، وحس وقعه، وسهل مساغه كغريب القرآن؟
إنشاؤه
يختلف إنشاء ضياء الدين في المثل السائر عنه في رسائله، فبينا هو في الرسائل يلتزم السجع والمحسنات البديعية، إذا به في المثل السائر يبتعد عنها كل البعد، فما تمر بسجع أو وشي إلا عرضا، فإنشاؤه فيه، ظاهر الطبعية، سهل العبارة، واضح الأسلوب، بريء من التعقيد والإغراب، غالب عليه الإسهاب، فكأن صاحبه أستاذ يعنى بشرح درسه، وإيضاحه، وتعليله، ليجعله مفهوما، قريبا من الأذهان.
ويمتاز إنشاؤه في صبغة رياضية بينة، يكثر فيها التقسيم الفيثاغوري المتشعب. وكثيرا ما يعمد إلى الأدلة المنطقية لتأييد آرائه، وغلب عليه الجدل، فإما يورد أقوال غيره ثم يقول: «فأقول في الجواب.» ويرد عليها. وإما يلقي السؤال على نفسه ويجيب عنه.
وشخصية ابن الأثير ظاهرة كل الظهور في إنشائه، تلتقيها كيف سرت، فتراه أبدا يحدثك عن نفسه، وينبه خاطرك إلى آرائه، ويدل عليك بصحة علمه وقوة استنباطه، ويملأ رأسك بكثرة دعاويه، وينفرك بلؤم طبعه وكبريائه، حتى لتحسبه وهو يتكلم على ابتداعاته، نبيا يوحى إليه: «وهداني الله لابتداع أشياء، لم تكن قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة، وإنما هي متبعة. ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيري بأحجارها.» ا.ه.
وإنشاؤه على سهولته ووضوحه وحسن انسجامه لا يعد في الطراز العالي، ولا يجري به مع كبار الكتاب المتقدمين، وربما وقعت له على أشياء لا تخلو من الضعف كقوله: «وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر.» ووجه الكلام أن يكون التوكيد بعد المؤكد. على أن هذه الهنات قليلة عنده لا تكاد تذكر. (5-3) منزلته
قال ابن خلكان: «ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله، وتحقيق نبله ، كتابه الذي سماه المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر، جمع فيه فأوعى، ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره.» ا.ه.
ولا جرم أن المثل السائر من عيون الكتب التي صنفت في علم البلاغة، وقد نبل فيه صاحبه باتساق أفكاره، وقوة استنباطه، وحسن منطقه وتعليله، على جراءة في النقد والجدل، ولو لم يشنها الصلف لكانت محببة. وقد يستحسن من العلماء الاعتداد بالنفس، ولكن أن يخرج بهم إلى الغرور والكبر، فغير محمود، بل هو ممقوت. وهذا ما أصاب ضياء الدين، فإن الناس كرهوه، والعلماء حملوا عليه، وانتقدوه. وكان في جملة ناقديه ومسفهي أقواله ابن أبي الحديد المدائني.
ولكن من العدل أن نعترف بفضل ابن الأثير، فإنه في مقدمة من أوضح معالم البلاغة وأحكم الكلام على فنون الإنشاء، ورتب فصوله وأنواعه، وبين أصوله وفروعه، ودقق في جمال اللفظ المفرد والمركب، وحلى النقد الأدبي بجراءة لا تعرف هوادة ولا مداراة، ورفع بنيانه على قوة المنطق وبراعة التعليل. •••
إلى هنا انتهت بنا الأعصر العباسية بما فيها من أدب زاخر، وعلوم زاهرة. وإن في مباحث هذا الكتاب على اجتزائه بأشخاص معدودين، لصورا جلية لأطوار الشعر والنثر وما بلغا إليه من نهضة وارتفاع ثم التواء. وقد حق للأعصر العباسية أن تحمل وحدها مشعل حضارة الإسلام.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা