أبقى الله جلالتكم وأيدكم بروح منه وجعلكم مفخرة العرش الحسيني الرفيع العماد.
لم تحد وزارة محمد شفيق عن الطريق التي سطرتها لنفسها، وتابعت الجهود لتحقيق مهمتها الرئيسية في قيادة البلاد التونسية نحو استقلال داخلي يتسع نطاقه شيئا فشيئا أي السعي إلى استقلال تونس بطريق التفاوض مع الحكومة الفرنسية، مظهرة إرادة فعالة في إخراج الوعود الفرنسية الرسمية من حيز الكلام والخطب إلى حيز الواقع والوجود.
واهتز الشعب اهتزازا؛ شعورا منه بأن التجربة الجديدة ستكون حاسمة، وأملا في أن فرنسا ربما تكون قد فهمت أن إرضاء رغائبه بطريق التفاهم أسلم لها ولتونس، وظهرت علامات الارتياح والفرح في جميع مدن المملكة وقراها؛ لأن شعب تونس كان عازما العزم كله على نيل استقلاله، مهما تكن الصعوبات ومهما تبلغ التضحيات، وكان السبب الأساسي لذلك الفرح الكبير ما شاهده من وحدة قوية بين تونس الشرعية الممثلة في جلالة الملك ووزارته وتونس الشعبية الممثلة في الحزب القومي، الحزب الحر الدستوري التونسي والمنظمات القومية كلها: (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد العام للفلاحة التونسية. والاتحاد العام للصناعة والتجارة، وجامعة المحاربين القدماء التونسيين وغيرها).
وهكذا تحقق الشعب من أن طريق المستقبل قد تفتح أمامه بفضل تلك الوحدة الحقيقية المتينة، وأن تونس ستتقدم نحو استقلالها إما بالتفاهم مع الدولة الحامية - إن حققت وعودها - وإما بالدفاع عن كيانها والذود عن حقوقها وخوض معركة التحرير. (2) نوايا المتفاوضين
لم يندفع التونسيون إلى المفاوضة إلا بعد أن استوثقوا من التعهدات الفرنسية المرة تلو الأخرى، وبعد أن تيقنوا أن التجربة التي رضوا أن يقوموا بها ضرورية لرفع الستار عن نوايا فرنسا الحقيقية نحو تونس، ومن الملاحظ أن أعضاء الحكومة الفرنسية وممثلي فرنسا بتونس لم يعطوا كعربون على حسن نواياهم غير الوعود والكلام والألفاظ، وأن فرنسا ليست وليدة أمس، بل لها تقاليد قديمة ومبادئ سياسية أصولية توارثتها الأجيال في وزارة الخارجية قليلا ما تحيد عنها ولا تخالفها إلا مضطرة، وقد كان أكبر سياسي أخرجته فرنسا «الكردينال ريشيليو» قد طبق تلك المبادئ وسن بعضها سنا، وكان يقول:
1
من كانت له القوة كان في غالب الأحيان محقا في الشئون الدولية، ويصعب على من كان ضعيفا ألا يظهر في مظهر المخطئ في نظر أغلبية العالم، واشتهر بأنه واقعي لا تقوده عاطفة ولا تلين قلبه رحمة ولا يردعه رادع ولا يوقظه ضمير، إنما تملي عليه أعماله كلها مصلحة الدولة؛ ومصلحة الدولة لا غير، فهو لا يكون قاسيا لأجل القسوة ولا يكون رحيما ميلا للرحمة، ولا يكون كريما حبا في الكرم، بل أعماله كلها رامية إلى غرض واحد هو تقوية الدولة وتغلبها على أعدائها بجميع الطرق والأساليب، فيرى ضرورة إخضاع القوانين لا للعدل والإنسانية، بل لحاجيات السياسة، فلم يسع في إكساب العدل قوة ونفوذا بل سعى في تبرير القوة واستخدامها وإعطائها قوالب العدل، وكان ريشيليو يقول أيضا: «من يفاوض يجد دائما الساعة المناسبة للوصول إلى غايته.»
إن كل من يطالع كتاب «الأمير» للمؤلف الإيطالي الشهير «مكيافيللي» يرى أن ريشيليو اتخذه قدوة يقتدي بها ويستنير بضوئها.
وقد كانت التجربة التونسية دليلا قاطعا على أن تعاليم ريشيليو وأستاذه مكيافيللي متحكمة في السياسة الفرنسية إلى يوم الناس هذا، وإن لم تجد في تنفيذها عباقرة يماثلون ريشيليو.
إن الساسة الفرنسيين الذين تصدوا لمفاوضة التونسيين لم يتنازلوا عن حق من حقوق تونس المغصوبة أصلا، واكتفوا بالمناقشات في الجزئيات ربحا للوقت وتعجيزا لمفاوضيهم، وكأن الكاتب الفرنسي «لابرويار» عناهم في وصفه للسياسي إذ قال: «جميع نظريات السياسي وجميع مبادئه وجميع دقائق سياسته ترمي إلى غاية واحدة، وهي ألا يقع وأن يوقع غيره.» والغير هنا هي الحكمة الوطنية التونسية، وقد ظن المستعمرون أن أنجع طريقة للقضاء عليها هي الزج بها في وزارة تفاوضية لإظهارها في مظهر المستكين الراضي والمشارك المستسلم، وهي طريقة طريفة في السياسة الفرنسية الاستعمارية؛ إذ رأى الاستعمار أن أساليب القمع والشدة وسياسة الحديد والنار لم تفلح في تونس، بل زادت الحركة الوطنية التي أقيمت على دماء الشهداء انتشارا وعمقا حتى استعصى استئصالها وصعب مراسها.
অজানা পৃষ্ঠা