مقدمة‏

تمهيد‏

المراجع‏

جغرافية تونس‏

تاريخها‏

السكان‏

الدين الإسلامي‏

اللغة‏

مدينة «تونس»‏

القيروان‏

المهدية‏

بنزرت‏

سفاقس‏

قابس‏

توزر‏

مقدمة‏

تمهيد‏

المراجع‏

جغرافية تونس‏

تاريخها‏

السكان‏

الدين الإسلامي‏

اللغة‏

مدينة «تونس»‏

القيروان‏

المهدية‏

بنزرت‏

سفاقس‏

قابس‏

توزر‏

تونس الخضراء

تونس الخضراء

مقدمة

شغلت تونس أذهان العالم من عهد قريب، وقد أحست اللجنة رغبة الناس في استطلاع أخبارها والإلمام بتاريخها، فرأت أن تنشر عنها هذا الكتاب المبسط، وهو مستقى من مواد من دائرة المعارف الإسلامية، كتبها طائفة من أعلام المستشرقين الفرنسيين، وقد حذفنا منها المصادر؛ ليكون الكتاب أقرب إلى التناول. وتفضل العالم الجليل أستاذنا شفيق بك غربال فتحدث عن طرف من تاريخها الحديث، ودرس بعض مشكلاتها السياسية.

وإنا لنرجو أن نوفق إلى نشر كتب أخرى عن سائر أقطار العالم الإسلامي.

لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية

القاهرة في 26 رمضان سنة 1362ه

تمهيد

تونس المعاصرة

لا يستطيع الباحث في تاريخ تونس المعاصرة الاستغناء عن النظر في أصول وعوامل قد تبدو بعيدة كل البعد عما يجري الآن في ذلك القطر الإسلامي الخاضع منذ سنة 1881م لحكم دولة أوروبية حديثة. فالواقع أن الإسلام الذي انتشر في تونس وفي غيرها من أقطار الشرق القديم حل في قطر قديم له وضع جغرافي قد شكله الفينيقيون ثم الرومان تشكيلا خاصا - أصبح القطر إسلاميا، ولكن القوى الكامنة أو الظاهرة، والاتجاهات المستترة أو البارزة، استمرت بعد الفتح الإسلامي فعالة قوية التأثير - ولا يسعنا في هذا التمهيد الموجز أن نتولى شرح شيء من ذلك، إنما يكفي أن نحيل القارئ على دراسات الأستاذ جوتييه

E. F. Gautier ، وبخاصة على كتابه القيم: “Les Siècles obscurs du Maghreb” Paris, 1927

في هذا الموضوع.

متى بدأت تونس تتخذ طريقها نحو وضعها المعاصر؟ أو بعبارة أخرى: متى بدأت العوامل الفعالة في تشكيلها بشكلها المألوف لنا؟ نرى أن ذلك كان في القرن العاشر الهجري، عندما امتد نفوذ الدولة العثمانية إلى ذلك القطر، وقد ترتب على ذلك من أول الأمر اتخاذ الأقطار المغربية قاصيها ودانيها التقسيم الجغرافي السياسي المعروف، كما ترتب عليه اندماج القطر التونسي في العالم العثماني بكل ما في هذا من نتائج خطيرة.

وقد تعرضت الأمم العربية والأوروبية التي دخلت في نطاق العالم العثماني لأحداث أكسبتها لونا من الوحدة التاريخية، كما أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال تلك الأمم بالحضارة الأوروبية الناهضة، وإن كان الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر، وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للمسلمين وللمسيحيين من رعايا السلطان العثماني ثمرات نهوضهم العلمي هدية خالصة، والمنصف لا يجهل أن تقدم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسما مرادفا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، يشد أزر الملوك - ولكن في سبيل المجد الأعلى - رجال الدين، وفي سبيل الاستغلال رجال المال. إلا أن ما يؤخذ على الملك العثماني بحق أنه لم يقم على فكرة سياسية أو اجتماعية جديدة، ولم يفتح لرعاياه العديدين المختلفين بابا لتنظيم علاقاتهم المختلفة على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان للعالم العثماني من موقع فريد في نوعه، ومن ميزة اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب كبير في تقدم الإنسانية.

وقد أكسب العهد العثماني تونس - كما أكسب مصر - عنصرا حاكما جديدا في بابه، لا يقوم على عصبية قبلية أو دينية، ولا يدعو لأية فكرة عامة من أي نوع كان، بل ليس له من هم إلا الاستيلاء على أزمة الحكم مستعينا بأعوان على شاكلته، والمتصفح لتاريخ الدايات والبايات والأغوات والأسطوات والرؤساء العثمانيين فيما بين القرنين العاشر والثالث عشر الهجريين لا يمكنه إلا إقرار ما ذهبنا إليه، حقيقة كان من هؤلاء الصالح والطالح، الخير والشرير، ولكنهم جميعا ينطوون على نوع واحد من أنواع السلطان.

وثم اختلاف بين هذين العهدين المضطربين من تاريخ تونس ومصر. ففي الأولى - في تونس - كان بين العنصر الحاكم فيها وأوروبا حرب مستمرة، أما في الثانية - في مصر - فلم يحدث إلا ما كان بين الحكام والتجار الأوروبيين من سوء العلاقة.

ومما ينبغي أن يعترف به لذلك العنصر العثماني الحاكم ما توافرت فيه من صفات قوة القلب والرياسة والاضطلاع بمهام الأمور، وهي صفات ملكته رقاب الرعية الكادحة، وجعلت منه الأداة الأولى لتطور تونسي جديد، وذلك أن الكتخدا حسين بن علي تقلد أمر تونس في سنة 1117ه، وتمكن من جعل البايوية وراثية في بيته - البيت الحسيني - واستمرت فيه إلى يومنا هذا، وقد تقدمت تونس، مصر - في هذا، فقد تولى محمد علي باشوية مصر في 1220ه وأسس بذلك البيت المحمدي العلوي.

وقد نجح البيتان الحسيني والعلوي نجاحا تاما في تقويض النظام الذي أنبتهما، وحطما العصبيات المسلحة وغير المسلحة التي ترعرعت في ظل السيادة العثمانية، وأقاما سلطانهما على شبه نظام قومي. فمهدا بذلك لنمو قومية تونسية وقومية مصرية بالمعنى الحديث للقومية.

والمتتبع لتاريخ تونس في ظل البيت الحسيني يلحظ مروره بالأدوار الآتية - وهي بصفة عمومية شبيهة بالأدوار التي مر فيها التاريخ المصري في القرن التاسع عشر.

أحس أمراء تونس إحساسا قويا بضرورة إنشاء قوة حربية مجهزة تجهيزا حديثا، تحل محل العصبيات المسلحة التي يخشونها، وتمكنهم من بسط حكمهم على سائر أجزاء المملكة، وتصون حدودهم. فبدءوا بهذا وفعلوا ما فعله سليم الثالث ومحمود في الدولة العثمانية، ومحمد علي في مصر.

ثم وجدوا أن هذا يستلزم تنظيما جديدا لشتى المرافق والإدارات، كما أنه يستلزم تنمية الموارد الاقتصادية لزيادة الجباية، ويقضي بإعداد جديد للناشئين.

وقد انبعث من هذه الحركة كل ما واجهته تونس وما تواجهه من مسائل ومشكلات.

من هذه المشكلات ما يرتبط بالعلاقات بين البيت الحاكم والمحكومين، فقد زاد شعور المحكومين بتضامنهم القومي، وبوجوب نيل ما يكفل منع سوء الحكم، ويقي كرامتهم القومية اعتداء الغير، ويضع بلادهم الموضع اللائق بها في مختلف الحركات التي هزت العالم الإسلامي هزات متواصلة، فأدى هذا إلى اكتساب الأمة حقوقا وضمانات مختلفة، أعمها وأهمها ما اشتمل عليه عهد الأمان الصادر في 1274ه/1857م. يذكرنا هذا بعهود محمد علي باشا، وسعيد باشا، والخديوي إسماعيل، المتضمنة حقوقا وضمانات مختلفة للرعية، والمنتهية بقيام المجالس النيابية في عهد إسماعيل، وأوائل عهد توفيق، وفي تونس - كما في مصر - لم تتح لأهل البلاد حكاما ومحكومين فرصة العمل على وضع العلاقة بين الأمة والحكومة على قواعد ثابتة يرتضيها الجميع، بل عقد الأمر في القطرين التدخل الأجنبي.

ومن هذه المشكلات ما يتعلق بعلاقة الأمراء بالدولة العثمانية، فقد أدرك الأمراء إدراكا تاما ما في بقاء ارتباطهم بالدولة العثمانية من منافع، ففي هذا الارتباط شيء من القوة والاطمئنان يقيان بلادهم اكتساح الدول الغربية استقلالهم، كما أنهم شعروا بما يكنه الشعب من تعلق ببيت الخلافة الإسلامية، واعتزاز ببقاء الدولة العثمانية دولة قوية مصونة الجانب، وبذلك نفهم لم وضع أمراء تونس مواردهم الحربية والمالية المتواضعة تحت تصرف السلطان في بعض حروبه، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يخشون ما تكنه الدولة العثمانية نحو تونس وغيرها من الأقطار المتمتعة بقدر من الاستقلال الداخلي من نيات، ويحذرون عواقب الغلو في تأكيد التبعية العثمانية، مما كان يحملهم من وقت لآخر على مجاراة بعض الدول الغربية، عندما كانت تشجعهم على الظهور بمظهر الملوك المستقلين، باستقبالهم في بلادها استقبالات ملوكية، والدخول معهم في مشارطات ومعاقدات تمس جوانب هامة من سلطانهم، ولا يمكن لوم الأمراء على قبول ذلك. فإن سياسة الدولة العثمانية جرت في القرن التاسع عشر على وتيرة حملت الأمراء التونسيين على قبول أي تعضيد أوروبي يحول دون تنفيذ الدولة ما تكنه من تقويض استقلال تونس، وما قامت به الدولة العثمانية من عزل الخديوي إسماعيل لما فقد التأييد الأوروبي، وما قامت به لإفساد الحركة العرابية - شاهدان على ما جرت عليه في تونس، وقد وقعت الخسارة على الجميع - ما عدا الدول الأوروبية.

ومن المشكلات أيضا ما يتصل بالعلاقات بالأجانب وبالدول الأوروبية؛ فقد فتح الأمراء الباب واسعا للأجانب، واستعجلوا النهوض واليسر، فاستقدموا الفنيين الأوروبيين يرسمون لهم الخطط، ويعاونونهم على تنفيذها، ومكنوا للعقول الأوروبية والأموال الأوروبية من استخراج خيرات البر والبحر، ويسروا لكل طالب رزق من جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله أن يتخذ من تونس وطنا ثانيا، يتوق لو أن ضمه لوطنه الأصلي ملحقا.

قويت الجاليات الأجنبية، وأصبح للامتيازات الأجنبية من المعاني غير ما كان لها ، ومن وراء الجاليات القناصل، ومن وراء القناصل الجيوش والأساطيل، وأضحت موارد الأهلين وموارد الحكومة نهبا مباحا لكل طامع.

أما الأموال الأوروبية فقد استخدمت فيما هو قائم على أسس اقتصادية سليمة، وفيما هو وهمي، وفيما هو غير ذاهب إلا لاستكمال أدوات الترف والتقليد الكاذب، والدول الأوروبية في مواقفها لحماية تلك الأموال وأصحابها، لم تميز بين الحلال فتؤيده والحرام فتستنكره، ولم تتحر عن وجه الحق ووجه الباطل، بل الكل لديها مصلحة قومية تؤيدها بكل ما تستطيع من قوة، وليت الأمر كان عند ذلك الحد، فإن التنافس بين الدول كان عاملا قويا في تورط الإمارة التونسية في الكثير من المشروعات الفاسدة، فمثلا إذا نال ماليون من أمة ما امتيازا بمد سكة حديدية، فلا بد أن ينال ماليو أمة أخرى امتيازا يماثله، وقد لا تكون له ضرورة، وهكذا، والمصري لا يسعه إلا أن يذكر في هذا ماليي مصر سعيد وإسماعيل.

والخلاصة أن الأمراء وضعوا أنفسهم وبلادهم في شراك لم يستطيعوا منها خلاصا، وكلما امتد بهم الزمن ضاقت العيون وازدادوا خبالا.

وقد وجد الأمراء في تنافس الدول الأوروبية الكبرى أملا في تجنب ضياع استقلال بلادهم، والواقع أنه كان شرا عليهم؛ إذ كان مدعاة لمحاولة إرضاء الكل - وفي هذا من تبديد الموارد والحقوق ما فيه، كما كان صارفا بكل جهود الحكومة التونسية نحو استقراء طوالع الجو السياسي الأوروبي، علها تهتدي لطريق يقيها الزلل، كما كان مفسدا لبطانة الأمير؛ يميل رجل منها لدولة أوروبية ما، فيصبح رجلها في تونس، وينحاز آخر لدولة أخرى، فيصبح عدوا لمواطنه، وهكذا، وقناصل الدول كل منهم يؤيد مشايعه التونسي، كما يحاول أن يجتذب إلى صفه رجال الحكم التونسيين، أو كل ذي حظوة لدى الأمير، وقد اتخذت هذه المحاولات ألوانا شتى من الترغيب والترهيب؛ مما أفسد الضمائر والذمم.

لهذه الأسباب كلها، لم تصب المحاولات الدولية لحل مسائل الدين ونظيراتها من المسائل نصيبا من النجاح، كما كان الحال في مصر، وكيف تنجح وقد تحولت اللجان الدولية لتسوية الديون ومراقبة المالية التونسية ميدانا جديدا، اشتد فيه النزاع بين ممثلي الدول، بل إن من ممثلي الدول من عمل على فشل الفكرة الدولية؛ ليثبت إثباتا لا يدع محلا لشك أن الإدارة الوطنية قد عجزت عجزا تاما عن إصلاح المختل من أحوالها، وأن علاج تلك الأحوال بخلق هيئات دولية قد أتى بعكس المقصود منه، فأدى إلى تفاقم العلة، والحل الوحيد المجدي إذن هو أن تتولى الأمر كله دولة أوروبية.

من تكون تلك الدولة؟ وكيف يمكن أن تتخلى لها الدول الأخرى؟ أذلك مستطاع دون عوض ما في مكان آخر غير تونس؟ وأين ذلك المكان أو تلك الأمكنة؟

معنى هذا أنه كان لا بد لتحول الرقابة الأوروبية في تونس إلى رقابة دولة واحدة من ظروف أوروبية أدت إلى مواجهة مشكلات مستقبل العالم العثماني كله، إلى وضع المسألة الشرقية - كما كانوا يقولون إذ ذاك - على بساط البحث عندئذ، وعندئذ فقط - تتحتم مواجهة الحقائق، وتبرز القوة أداة للتنفيذ، فيخضع لها من ليس مستعدا لمواجهتها بقوة تساويها.

وقد خلقت الثورات في البلقان ضد الحكم العثماني والحرب بين الروسيا والدولة العثمانية (1877-1878م) هذا الموقف الذي وصفنا، وفي هذا الموقف ولدت حماية فرنسا لتونس، كما ولد أيضا الاحتلال البريطاني لمصر، وقد بدأ بتلك الحماية الفرنسية فعل العامل الأخير في تشكيل تونس المعاصرة، ويجدر بنا وقد نشرت الحكومات الأوروبية بعد الحرب العالمية الماضية الكثير من وثائقها السرية السياسية، أن نعرض بشيء من التفصيل كيف نالت فرنسا ما كانت تصبو إليه من السيطرة على تونس، وما ترتب على ذلك من عواقب لتلك البلاد وأهلها. •••

كيف أدى التطور الذي شرحنا معالمه إلى وقوع تونس تحت السلطان الفرنسي وحده؟ لبيان هذه النهاية لا بد لنا من البحث عن أسبابها في العلاقات الأوروبية التالية لهزيمة فرنسا في سنة 1870م، وفي تأثر تلك العلاقات بالأزمة الشرقية المترتبة على هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع الروسيا 1877م.

لقد بدأت حوادث سنة 1870م عهدا جديدا في التاريخ الأوروبي الحديث، فقد أثرت هزيمة فرنسا الكاملة وإتمام خلق الإمبراطورية الألمانية واقتطاع إقليمي الألزاس واللورين من جسم فرنسا الحي في العلاقات الأوروبية حتى يومنا هذا، ويشاء موقف الدول الأوروبية في العالم أن كل ما يجري في أوروبا يتردد صداه في أراض وبين أقوام «لا ناقة لهم فيها ولا جمل».

كان هم ألمانيا الجديدة بعد 1871م وشغلها الشاغل أن تمنع فرنسا من نقض ما تم في تلك السنة، واتجهت خطط عاهلها العظيم - بسمارك - نحو عزل فرنسا عزلة سياسية، فلا تجد حليفا أوروبيا قويا يشد أزرها في حرب ضد ألمانيا، وقد فضل بسمارك أن تقع فرنسا تماما تحت سلطان أحزاب اليسار الجمهورية؛ اعتقادا منه بأن أمل تلك الأحزاب في نيل تأييد سياسي أوروبي أقل من أمل أحزاب اليمين، وأن انتصار الأحزاب الجمهورية الفرنسية يضعف من شأن الكاثوليكية في ألمانيا، وكانت إذ ذاك في حرب شعواء ضد بسمارك.

ولم يكن بسمارك بالسياسي الذي يكتفي بالإجراء السلبي، أو الذي يعتقد بإمكان قمع أمة كالأمة الفرنسية إلى الأبد، بل هناك ما يثبت أنه أدهشته سرعة نهوض فرنسا من كبوتها في السنوات التالية لسنة 1871م، وأنه اعتقد أنه ينبغي أن يضع نصب أعين زعمائها أهدافا يجدون في تحقيقها منصرفا للهمم القومية وغسلا لعار الهزيمة الكبرى، واستعادة لمركزهم القديم بين الأمم، وإبعادا لهم عن فكرة «الانتقام» المتملكة العقول - لذلك كله عرض بسمارك على فرنسا في أكثر من مرة بسط سلطانها على تونس، ولم يكتف بهذا بل أدرك أن إرضاء المطامع الأوروبية في أنحاء البلقان والشرقين الأدنى والأوسط، ما يكفل صيانة ما تم في أوروبا نفسها، ويحول دون قيام محالفات أوروبية لقلب الحالة القائمة، فلم يكره امتداد النفوذ الروسي في الدولة العثمانية على شرط أن تنال الإمبراطورية النمسوية المجرية ما يرضيها في البوسنة والهرسك، وعلى شرط قبول الحكومة الإنجليزية أن توطد أقدامها في مصر وغيرها من المناطق الشرقية التي تهمها بالذات.

ولم تصب السياسة البسماركية في السنوات الواقعة فيما بين 1870-1877م إلا قدرا محدودا من النجاح. فلم تبد بوادر تدل على أن تسوية 1871م قد أصبحت نهائية بالمعنى الصحيح. أو أن فرنسا أو إيطاليا أو الروسيا أو النمسا والمجر أو إنجلترا مستعدة للتسليم تسليما خالصا بالوضع البسماركي للأشياء.

ولكن عندما تشتغل الثورات في بعض ولايات الدولة العثمانية في البلقان، وتأخذ الدولة العثمانية الثائرين وغير الثائرين بما درجت عليه من ضروب الشدة الوحشية، وتغزو الدولة الروسية أراضي السلطان في أوروبا وآسيا، عند ذلك وجدت الدول الأوروبية أن لا بد من مواجهة حقائق الأشياء، وتلمست كل منها في الشهور السابقة لصلح سان استيفانو كما في الشهور التالية حلا يصون مصالحها الخاصة، ويكون في نفس الوقت أساسا لتسوية شرقية عامة - أما فرنسا فأمامها مشكلتها الكبرى، أمامها أن لا طمأنينة حقيقية إلا إذا وجدت لنفسها حليفا قويا، وما لم يتيسر لها ذلك، فلا بد من تجنب الأزمات والابتعاد عن مواطن الزلل، فابتعدت بقدر الاستطاعة عن الأحاديث والمفاوضات المتعلقة بالمسألة الشرقية، وترددت في قبول الدعوة لمؤتمر أوروبي يستعرض صلح سان استيفانو، ويحيل هذا الصلح من اتفاق روسي عثماني إلى تسوية ترضاها أوروبا. ثم اشترطت لقبولها ألا يبحث المؤتمر إلا ما اتصل مباشرة وطبيعيا بالحرب بين الروسيا والدولة العثمانية، وفسرت هذا بألا يعرض على المؤتمر أي شأن من شئون غربي أوروبا، أو من شئون مصر وسورية والبقاع المقدسة [رسالة من وزير خارجية فرنسا لسفرائها في برلين ولندن وروما ... إلخ بتاريخ 7 مارس 1878م - الوثيقة رقم 262 من المجلد الأول من الوثائق السياسية الفرنسية]، ولما ضمن لها هذا قبلت الدعوة لمؤتمر برلين.

وأما الحكومة البريطانية، فيمكن القول بأن حوادث السنوات 1876، و1877، و1878م قد هدمت فيها خطة المحافظة على الدولة العثمانية وأحلت محلها خططا أخرى متناقضة، إحداها خطة الأحرار «وهم في المعارضة» القاضية بأن يكون رائد الحكومة الرائد الإنساني المسيحي؛ أي تحرير الشعوب العثمانية المسيحية المغلوبة على أمرها، وخطة ثانية: هي خطة رئيس الوزارة «اللورد بيكونز فيلد»، وهي تتكون من عناصر شتى: من السياسة التقليدية البريطانية، ومن القيام بمغامرات حربية وسياسية من أشباه ما كان الشاب الطموح بنيامين دزرائيلي يتلهى به في قصصه، ولم يصل دزرائيلي للحكم إلا بعد أن أصبح شيخا حطمته السنون والأمراض، وفي الخطة البيكونز فيلدية ما اجتذب إليه بالذات الملكة والعامة ، وكل من شبوا على كره الروسيا من المحافظين، وخطة ثالثة، وهي خطة وسطى، خطة التسليم بالواقع، بأن إنقاذ الدولة العثمانية كما هي حلم قد زال، بأن تحرير الشعوب المسيحية هدف طيب حقيقة جدير بالاحترام، ولكن الأجدر منه بالاحترام ألا يكون التحرير سببا في إثارة حروب وإسالة دماء، وأن المغامرات الحربية والسياسية قد لا يحترمها السياسي الإنجليزي في قرارة نفسه، ولكنه لا يسعه إغفالها تماما. فالواجب يقضي إذن بخطة عملية تساير الظروف محاولة الوصول إلى حل سلمي يرضي الجميع، ويمكن القول بأن هذه هي خطة سالسبوري - وزير الهند أولا، ثم وزير الخارجية ثانيا في وزارة بيكونز فيلد.

وقد عملت الحكومة البريطانية ما تستطيع أثناء سير الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية؛ لإثبات وجهة نظرها ولتشجيع الدولة العثمانية على إطالة مدة المقاومة، مما حمل معارضي الحكومة على اتهامها بأنها ترمي لإعلان الحرب على الروسيا. كما حاولت تأليف ما سمته «حلف البحر الأبيض المتوسط» من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان والنمسا؛ لصيانة مصالح دول الحلف التجارية والسياسية في ذلك البحر، واتخاذ ما يلزم لمنع مسها بأذى، ولم يؤد هذا إلى نتيجة ما، فقد خشيت فرنسا وإيطاليا مغبة التورط في عمل إجماعي كهذا، أما النمسا فمجال سياستها أوسع من ذلك البحر، وتفاهمها مع الروسيا وألمانيا حقيقة واقعة، واليونان وحدهم لا يؤلف منهم أحلاف - والمفاوضات الخاصة بهذا الحلف جديرة بالعناية، فقد جعلت الحكومة البريطانية لا تؤمن بالسياسة الإيطالية بصفة خاصة، وسيكون لهذا أثره فيما بعد في استيلاء فرنسا على تونس.

بعد هذه المحاولة عادت الحكومة البريطانية إلى العمل الانفرادي، فعبر الأسطول البريطاني في 14 فبراير 1878م مضيق الدردنيل، على الرغم من احتجاج الحكومة العثمانية - واستقال وزير الخارجية اللورد دربي كارها ما يمكن أن يؤدي إلى حرب مع الروسيا، وتولى سالسبوري وظيفته، وفي 3 مارس 1878م وقعت الدولة العثمانية صلح سان استيفانو وكانت شروطه معروفة.

وقد أخذت الحكومة البريطانية تعمل من جانبها لصيانة مصالحها في الظروف الجديدة التي كشف عنها انهيار الدولة العثمانية.

لقد كشف ذلك الانهيار عن استحالة إقامة الحكومة العثمانية على ساقيها، فلا بد لها من أن تتكئ على سند [من خطاب من سالسبوري لبيكونز فيلد بتاريخ 21 مارس 1878م، الوثيقة رقم 142 من كتاب أسس السياسة البريطانية]. أما فيما يتعلق بممتلكاتها في أوروبا، فهذه - إن قريبا وإن بعيدا - مقدر عليها الزوال، والمسألة هي أنه ينبغي للسلطان لأجل الاحتفاظ بممتلكاته في آسيا من حليف. هذه الممتلكات شأنها غير شأن ممتلكاته في أوروبا، فليسوا أمما تسعى للاستقلال وما إليه، فمعظمهم مسلمون، والحكم العثماني أصلح ما يمكن لمسلمين الحصول عليه (إذا استثنينا الحكم البريطاني)، فينبغي إذن أن نعاون الدولة العثمانية على الدفاع عن تلك الأراضي في آسيا وحسن إدارة شئونها، ولا نستطيع أن نفعل ذلك إلا إذا استولينا على قواعد أقرب لتركية آسيا من مالطة [من كتاب من سالسبوري لسفير إنجلترا بالقسطنطينية بتاريخ 9 مايو 1878م - الوثيقة رقم 145 من كتاب أسس السياسة البريطانية].

تفسر هذه الآراء الاتفاق الذي عقد بتاريخ 4 يونيو 1878م، الذي تسلمت الحكومة البريطانية بموجبه جزيرة قبرص، كما تفسر أيضا اتفاق الحكومتين البريطانية والنمساوية بتاريخ 6 يونيو 1878م على توحيد غاياتهما في المؤتمر نظير السماح للحكومة النمساوية باحتلال إقليمي البوسنة والهرسك.

بعد هذه التمهيدات وغيرها اجتمع المؤتمر في برلين، وتولى رياسته بسمارك. أعلن في أثنائه الاتفاق الخاص بقبرص، وثارت ثائرة الوفد الفرنسي - وكان لا بد من إرضائه للوصول بسفينة المؤتمر لبر السلامة، وعمل بسمارك من جانبه على إصلاح ما بين الإنجليز والفرنسيين، فكان عرض تونس على فرنسا، وتم هذا العرض واضحا، قال سالسبوري لوادنجتون رئيس الوفد الفرنسي ببرلين ووزير الخارجية: «افعلوا بتونس ما تريدون. إنكم ستضطرون لامتلاكها، لا يمكنكم ترك قرطاجنة للبرابرة.» وكرر ذلك اللورد بيكونز فيلد، وأكده نفس ولي العهد البريطاني في باريس [راجع في ذلك - على سبيل المثال - الوثيقة رقم 330 من المجلد الأول في مجموعة الوثائق الفرنسية: رسالة من وادنجتون لداركور سفير فرنسا في لندن بتاريخ 21 يوليو سنة 1878م].

وقد شرعت وزارة ديفور (وهي الوزارة التي قبلت هذا العرض) تستعد فعلا لتنفيذه بالتمهيد له في تونس نفسها، ولكنها عدلت عنه، ولم يتم تحقيقه - كما نعرف - إلا في أثناء سنة 1881م، وعلى يد وزارة جول فري

Jules Ferry

بانية الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية الجديدة.

أكان ذلك لعدول الحكومة البريطانية عما وعدت به في 1878م؟ حقيقة أن موقف حكومة المحافظين، ثم حكومة الأحرار من وعود سنة 1878م كان له شيء من التأثير في تردد الحكومات الفرنسية المتعاقبة، إن ذلك الموقف لم يبلغ حد الإنكار أو النكوص، ولكنه اتخذ شيئا من تضييق التأويل، فقد قرر اللورد سالسبوري أنه حقيقة يذكر أنه قال الألفاظ التي أسندها له وادنجتون، ولكنه يذكر أنه لم يدر في خلده أنها تؤدي معنى عرض تونس على فرنسا؛ إذ كيف يستطيع منح ما ليس يملكه، وأضاف إلى ذلك أن الوعود الإنجليزية لا تفيد أكثر من إطلاق يد فرنسا في تونس بلا معارضة إنجليزية؛ أي أن إنجلترا نزلت عن كل ما تدعيه لنفسها في تونس، ولكنها لا تذهب إلى حد إرغام الغير (وتقصد بذلك إيطاليا) على النزول عن ادعاءاتها.

بعث ذلك الموقف إيطاليا على اتخاذ موقف عداء صريح من فرنسا في تونس، ووجدت فرنسا أن لا بد من القيام بعمل حاسم في تونس، قبل أن تسبقها إيطاليا إليه، وحمسها بسمارك على اتخاذ هذه الخطوة.

ولا يفيد ذلك أن الرأي العام في فرنسا ممثلا في البرلمان أو في الصحافة قد مال إذ ذاك إلى صف المشروعات الاستعمارية، الواقع أن لا. بل إن ذلك الرأي العام لم ير فيها إلا شبه خيانة للقضية القومية الكبرى، تشتيتا للجهود، إلا تسليما نهائيا بتسوية 1871م، وهل يطلب دليل على صحة هذا أقوى من كون التشجيع على الإقدام على تلك المشروعات يأتي من بسمارك نفسه؟

والواقع أنه لا الرأي العام ولا البرلمان قد عدلا عن خطتهما، والصحيح أن جانبا قويا من الزعامة الجمهورية قد انحازت إلى الرأي القائل بأنه ينبغي على الجمهورية ألا تبقى إلى الأبد متسربلة بثياب الحداد، بل عليها أن تنهض ، وأن ترعى مصالحها، وأن تتبوأ مكانها الجدير بها.

كان جول فري من أبناء اللورين، ولا بد أنه أحس بكارثة 1871م إحساسا قويا، ولكنه كان يرى أيضا أن ذلك الجيل من الفرنسيين كان عليه واجبات نحو فرنسا، وأن فرنسا ينبغي ألا تنزل عن مكانها الخليق بها وأن مصلحتها في بلاد الجزائر، وتأمين حدودها، ورعاية مصالحها في تونس تتطلب عملا حاسما في تونس، وإلا سبقتها إيطاليا إليه. أي أنه كان يرى أنه ينبغي أن يأخذ أكثر ما يستطيع دون نزول أو تخل عن حقوق فرنسا التاريخية، وقد تحمل في سبيل فكرته هذه عنتا شديدا من مواطنيه.

والظاهر أيضا أن فري لقي تأييدا في خطته من الزعيم الجمهوري الكبير جامبتا، الذي أخذ في آخر أيامه يبتعد شيئا ما من فكرة حرب انتقامية ضد ألمانيا.

وقد حملت هذه العوامل المختلفة «فري» على أن يخفي جهد الاستطاعة حدود عمله في تونس، وأن يضيق دائرة التزامات فرنسا في تونس.

دخلت الجنود الفرنسية تونس تحت ستار تأمين الحدود، وأرغمت الباي على توقيع معاهدة باردو (مايو 1881م). وتعطي هذه المعاهدة فرنسا حق احتلال الأرض التونسية وإدارة المسائل الحربية، ولكنها لا تشير إلى الحماية الفرنسية، وعلى أثر الاضطراب في سفاقس، وقع الباي اتفاقا ثانيا (يونيو 1883م) نالت به فرنسا حمايتها لتونس، والتدخل في مسائلها الداخلية. وقد تم سنة 1884م تكوين أدوات الإدارة اللازمة، وبدأت تونس عهدا جديدا.

سارت فرنسا في تونس على نهج يخالف منهجها في الجزائر، ولم ينل الحياة الإسلامية في تونس ما نالها في الجزائر من التحطيم المقصود وغير المقصود. فتونس في العهد الفرنسي قطر «محمي» له إطار إداري تونسي، على عكس الجزائر فهي «قطعة» من فرنسا، والجزائر أرض استعمار يستفلحها ألوف من الفلاحين الأوروبيين فرنسيين وغير فرنسيين. أما تونس فهي أرض «استغلال» تعمل فيها «رءوس الأموال» الكبيرة فرنسية وغير فرنسية، وفي تونس ما تثيره السلالة الإيطالية المستقرة بها من مشكلات تمس العلاقات بين إيطاليا وفرنسا، «ولا تعرف الجزائر» مشكلات من ذلك النوع.

إن الفضل في وضع قواعد الحكم الفرنسي في تونس يرجع بصفة خاصة لبول كامبون

، المقيم العام فيما بين 1882 و1886م، ويمكننا أن نحلل في الوضع التالي الثنائية الفرنسية التونسية إلى ما انتهت إليه:

يدل هذا على اتجاه الخطة الفرنسية نحو نجعل اشتراك الفرنسيين وأهل البلاد وسيلة لرعاية وتنمية المصالح المشتركة، وبخاصة في الدائرة الاقتصادية، وهو تنظيم يهمل جانب الاعتبارات القومية، كما أنه يعطل نمو الحياة السياسية، والظاهر أن أهل البلاد يحسون إحساسا شديدا بأن ذلك التنظيم لا يرضي أمانيهم، فنظموا حركات شبيهة بالحركات الحديثة في بعض الأقطار الإسلامية الأخرى؛ لتحقيق برامج سياسية قومية، تسودها المعاني والنظريات الغربية، ولا نزال بعد - في مصر كما في تونس وفي غيرهما - نرقب فجر حركات أعمق وأدوم. فجر ابتعاث «حياة إسلامية» تامة، وهذا الفجر لما تلح بعد تباشيره.

شفيق غربال

المراجع

(أ) مجموعات الوثائق (1)

Ministère des Affairs Etrangéres. Documents diplomatiques françaises. Première Serie. Tomes. Premier, second, trois.

وقد نشرت في سنتي 1930 و1931م، وتتعلق بالسنوات من 1871 إلى 1881م الترجمة الفرنسية لمجموعة الوثائق السياسية الألمانية تحت العنوان الآتي: (2) “La Politique exetérieure de l’Allemagne”, tomes 1, 2, 3.

وتتعلق بحوادث السنوات من 1870 إلى 1882م، وقد نشرت في سنتي 1927 و1928م. (1)

Temperley & Penson: Foundations of British foreign

وهي مختارات جيدة توضح قواعد السياسة الخارجية البريطانية. (ب) دراسات الدكتور محمد مصطفى صفوت (1)

Tunis and the Powers.

رسالة لم تنشر بعد، مستندة على المصادر الأصلية، في موضوع العلاقات بين تونس والدول العظمى. (2)

Stephen. H. Roberts: History of French Colonial Policy.

في مجلدين، 1929م بحث علمي نزيه في تاريخ الاستعمار الفرنسي من 1870 إلى 1925م، لا يستغني عنه المتتبع لتاريخ الأمم الإسلامية الواقعة تحت السلطان الفرنسي. (3)

James Headlam-Morley: Studies in diplomatic history.

وكان المؤلف في وقت ما مستشارا لوزارة الخارجية البريطانية في المسائل التاريخية.

نشر في سنة 1930م، وهذه مجموعة من تسع دراسات مهمة، واحدة منها تؤرخ العلاقات المصرية الإنجليزية، وأخرى تشرح وضع إنجلترا يدها على جزيرة قبرص في سنة 1878م. (4)

R. W. Seton-Watson: “Disraeli, Gladstone and the Eastern Question”. London 1935.

باريس 1917م. (5)

J. L. de Lanessan: La Tunisie.

جغرافية تونس

مساحة تونس بحدودها الحالية بين خطي طول 8 °

و11 °

شرقا وخطي عرض 32 ° ، 37 °

شمالا: 180 و125 كيلومترا مربعا، وتتاخمها من الغرب الجزائر، ومن الجنوب الصحراء، ومن أقصى الجنوب الشرقي ليبيا الإيطالية؛ أي طرابلس، وتضرب مياه البحر الأبيض المتوسط سواحلها في الشمال والشرق، وأغلب هذه الشواطئ، أراض منخفضة، ومناخها على الجملة دفيء معتدل، ولكن سقوط الأمطار يختلف كثرة وقلة من ناحية إلى أخرى، بل من سنة إلى سنة، وللقرب من البحر أو من الصحراء شأن فيه؛ ولذلك يختلف كثيرا باختلاف خطوط العرض واختلافا أكثر بارتفاع الأرض، وتضاريسها جد متباينة، ومتوسط ارتفاعها فوق سطح البحر ليس كبيرا، وتمتد جبالها من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، وهي بقية جبال الجزائر، وفي الشمال الغربي لتونس جبال من الطباشير والحجر الرملي، وقلما يزيد ارتفاعها تجاه الجزائر على ثلاثة آلاف قدم، ويهطل على هذه الجبال مطر غزير، ويغطيها البلوط والحسك، وفيها مناجم الزنك والحديد، وهي تساير الساحل؛ حيث نصادف ثغر طبرقة الصغير، ثم كثبان نفزة ورأس العبد، وشبه جزيرة رأس سرات الصغيرة، ويقل ارتفاع هذه الجبال في الشرق شيئا فشيئا إلى أن تبلغ التلال التي تكتنف سهل بنزرت وماطر، وكلاهما وافر الماء يثمر ثمرا طيبا من الحنطة، وبحيرة بنزرت ويصلها بالبحر مجاز ضيق، فرضة حسنة ماؤها بعيد الغور تجاه صقلية، وهي على مقربة منها. ويشرف على سهل ماطر جبل عجيب يعرف بجبل أشكل، وقد أوشك هذا السهل أن يغطى بالغرين، ولم يعد به من البطائح إلا القليل، وأبعد من هذا ناحية الشرق رأس سيدي علي المكي فوق غار الملح، وهو يتاخم خليج تونس من الشمال، ويملأ هذا الخليج الرسوب الذي يحطه نهرا مجردة ومليان. ذلك أن أوتيكا، وكانت من ثغور الرومان، تبعد الآن عن البحر ستة أميال. أما شبه جزيرة قرطاجنة، وكانت من قبل جزيرة، فيصلها بأرض تونس برزخ يفصل سبخة الرينة من بحيرة تونس، ويصل حلق الوادي البحر بهذه البحيرة - وفي طرفها مدينة تونس، ولا يغزر المطر في ناحية تونس؛ ولذلك تجود فيها الكروم والفواكه ولا تجود الحبوب.

ويخترق نهر مجردة شمالي تونس من الغرب إلى الشرق، وهو النهر الوحيد في تونس الحقيق بهذا الاسم، ويقل ماؤه كثيرا في الصيف، ويفيض ويكدر من نوفمبر إلى أبريل، وتفصل «حلوق تستور» مجراه الأسفل «مجاز الباب وطبربة» من مجراه الأوسط؛ حيث يروي غور دخلة (ناحيتي سوق الأربعاء وسوق الخميس) وهو غني بالحبوب والمراعي شأنه في ذلك شأن تلال بجاية الطباشيرية المجاورة له، وتكتنف وادي نهر مجردة من الشمال تلال تبرسق، وهي من الحجر الجيري، وإلى جنوب الوادي معارج تونس الوسطى، والغربية، وهي تلال مدورة من الحجر الجيري، ثم سهول عظيمة وهكذا، وهذه المعارج امتداد جبال الأطلس في الجزائر، ويغطي هذا التل المرتفع غابات من صنوبر حلب وشجيرات نامية ومراع عظيمة؛ ولذلك تطيب فيه الحنطة. أما ناحيته الجنوبية الغربية فأكثر جفافا من نواحيه الأخرى، ولا يطيب فيها إلا الشعير، وهذه الناحية بالذات وبخاصة تجاه حدود الجزائر أغنى نواحي تونس بالمناجم. وتصب أنهار تونس في خليج تونس، وهي فروع مجردة ونهر مليان.

وتقوم إلى الجنوب من التل المرتفع أبرز الحدود الجبلية، وتمتد هذه الجبال التي هي بمثابة العمود الفقري لتونس من جوار تبسة إلى جبل زغوان وجبل الرصاص وبوقرنين. على أن هذه الجبال لا تعوق الاتصال بالجنوب، فهو ميسر بفضل ممرات أو دروب أشهرها مجاز قصور سبيبة الكبيرة ومسايل المنحدرات الجنوبية، مثل وادي مرجولل وزرود والحطب تفيض في غير مواسم وبغير انتظام في الأخبات السبخة في إقليم الفيافي الكبير الذي يمتد من قفصة، ولا تقطعه إلا تلال قليلة جيرية متوسطة الارتفاع. ويغطي هذه الفيافي في الغرب الحلفاء أو الشيبة، وتغطيها من ناحية الشرق أشجار السلم، ثم تنحدر شيئا فشيئا حتى أحراج الزيتون على ساحل سفاقس، ومع ذلك ففي هذه الفيافي مزارع شاسعة وبقاع صالحة للرعي، وليس بها من البلاد، إذا استثنينا القيروان، إلا ما يقوم عند رءوس الممرات من جبال تونس. على أن هذه الفيافي تتغير طبيعتها صوب الجنوب، فتصبح كالصحراء لندرة المطر، وتنتهي وراء قفصة أرض غنية برواسب الفوسفات عند غور الشطوط وواحتي الجريد ونفزاوة، وهنا تبدأ الصحراء الكبرى.

وشبه جزيرة رأس أدار المشهورة على الساحل الشمالي الشرقي؛ حيث أفلحت مزارع مثمرة، وعلى امتداد جبال تونس، وهي بين خليجي تونس والحمامات، وتتصل سهولها التي على الساحل بممري زغوان وقرنبالية، وإلى الجنوب من أحراج البرتقال في نابل والحمامات وسهل سوسة، وفيه وديان ما زال ماؤها وافرا يكفي بزيتونه وغلاته الأخرى السكان الذين تكتظ بهم القرى الكبيرة الحصينة، والساحل مستقيم لا تبرز منه إلا شبه جزيرتين صغيرتين هما المنستير والمهدية.

ويبدأ الساحل عند رأس كبوديا في مستوى الجور تقريبا، ثم ينعطف إلى الداخل فيخلف في جون سفاقس جزر قرقنة ويفصلها عن الشاطئ بطائح، ثم يساير خليج قابس وفيه إسفنج كثير، وأحراج النخيل في قابس عند نهاية الخليج، وبين هذه الأحراج وبين واحة الحمة المتاخمة للشطوط ممر يصل سهول تونس الوسطى أو الشرقية بسهول الساحل الجنوبي الأقصى، وهذه السهول هي: سهول أرث، وبالقرب منها جزيرة جربة الكبيرة المستوية الخضراء، وسهول جفرة التي تتاخمها البحيرات، ومع ذلك فثم أحراج زيتون زاهرة حول جرجيس وبن جردان.

تاريخها

قدم غزاة العرب برا من الجنوب الغربي، ففتحوا ما يعرف الآن بالساحل التونسي، وقد اقتضاهم هذا الفتح قتالا شاقا مع سكانه من البربر وعمال الروم دام حوالي نصف قرن، وكتب على المسلمين في شمالي إفريقية أن يصطدموا بالروم كما اصطدموا بهم في المشرق، على أن الأحوال في ولاية إفريقية كانت في منتصف القرن السابع الميلادي جد مواتية للفاتحين الذين غلبوا عليهم، وقد مزق الخلاف الديني أوصال الجماعة المسيحية في قرطاجنة، وفصل عن بوزنطة المتمسكين بأهداب السنة المسيحية، وكان سلطان الإمبراطور يخف شيئا فشيئا على الولاة، فأخذوا ينزعون إلى الاستقلال، واضطرهم ذلك إلى طلب العون من شيوخ القبائل، فأفادت القبائل من هذا الموقف، وألقت عن كاهلها على الأيام كل أثر لسلطان الروم، حتى إذا جاء الفتح الإسلامي كان جنوب ولاية إفريقية مستقلا عن قرطاجنة أو يكاد، وغزا العرب هذه البلاد غزوتين بينهما ثمانية عشر عاما، على أنهما لم تكونا فتوحا بالمعنى المفهوم، وإنما كانتا غارات مهدت الطريق لحملات أخرى أحسن نظاما وأكمل عدة تم بها فتح البلاد، ومن المصادفات العجيبة أن المغيرين ألفوا إفريقية البوزنطية في الغزوتين على أبواب محنة سياسية، ففي عام 647م كان البطريق جريجوريوس قد انفصل وشيكا عن الإمبراطور، واستقر به المقام بين البربر، لما دهمه والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند سبيطلة وقضى عليه، ثم شرع في اكتساح بلاد الجريد، وفي عام 665م كان أهل قرطاجنة قد جاهروا الإمبراطورية بالعداء مخلفين في ذلك ظن الناس جميعا عندما ضرب معاوية بن حديج إفريقية وغزا جلولا.

وإنا لنتساءل: هل كان حكم المغرب منوطا بوالي مصر عندما حل عام 667م؟ الواقع أن الفتح الحقيقي لم يتم إلا بين عامي 669 و770م، وقد تميز بانتصار عقبة بن نافع وبناء مدينة القيروان، وكان هذا تاريخ استيلاء العرب على إفريقية والتمكين لهم فيها، وفاتحة دخول قبائل البربر في الإسلام. على أن أهم هذه الحوادث جميعا هو تشييد هذه المدينة الجديدة، وهي حاضرة من حواضر المسلمين ودار للصناعة ومحط للقوافل وسوق للتجارة، وقد رفع أهل هذه المدينة منذ ذلك الوقت قواعد مسجدها، ومدوا أرباضها في السهول المواجهة لنجاد تونس الوسطى التي ظل يحميها خط من حصون الروم.

وعاد عقبة عام 681م بعد أن انقضت ولاية أبي المهاجر، ولا نعرف من أخبار هذا الوالي إلا القليل، وحدث بعد عامين أن كان عقبة راجعا من غزوة له، فسقط في الزاب أمام تهودة صريع فتنة شديدة، قام بها الأهلون في وجهه، وقد ناصر الروم كسيلة رأس هذه الفتنة، وظل هذا الرجل أعواما طويلة أميرا على دولة بربرية مترامية الأطراف، ناهضت غارات العرب الجديدة وقاتلتهم أشد قتال، وسقط كسيلة نفسه في حومة الوغى بناحية سبيبة عام 678م، ويقال إن زهير بن قيس البلوي كان قد وفد عليها في ذلك الحين.

ولم تسمح الأحوال في داخل الدولة الأموية باستئناف الفتح إلا عام 693م، وفيه خرج حسان بن النعمان في جيش عدته أربعون ألف مقاتل لغزو إفريقية، ثم تقدم مسرعا صوب الشمال؛ للقضاء على الروم قبل أن يرجع لقتال بربر «أوراس» الأشداء، واستولى على قرطاجنة عام 695م، ولكنه فقدها وهزمه البطريق يوحنا، ثم هزمه البربر في سهول باغاية بقيادة الكاهنة، وهي شخصية أسطورية، فرجع إلى برقة، ثم هاجم قرطاجنة في العام التالي بحرا وبرا، فاستولى عليها وثبت أقدامه فيها، وفي عام 698م انتزع العرب من البربر والروم جميع ما يعرف الآن بتونس تقريبا، واستطاع حسان أن يشيد تونس، واستولى خلفه موسى بن نصير على زغوان، ثم قاد بربر إفريقية لغزو المغرب ...

وتمكن معظم الروم في إفريقية من الهرب بحرا إلى صقلية ومالطة خاصة، والظاهر أن غالب السكان الذين بقوا في البلاد بادروا إلى الدخول في الإسلام، اللهم إلا جماعات قليلة من النصارى «الأفاريق» أو اليهود. على أن بربر إفريقية قد نزعوا إلى الاستقلال حتى بعد إسلامهم، شأنهم في ذلك شأن بقية أقطار شمالي إفريقية، وحاولوا في عدة مناسبات أن يستعيدوه، وتذرعوا في ذلك بأيسر الأسباب وهو الزندقة، فكان القرن الثامن كله فتنا، وقد استعين بمذهب الخوارج الاشتراكي؛ لإثارة أهل البلاد على العرب الحاكمين، كما كان هذا القرن حافلا بفتن الجند العرب الذين كانوا يسارعون إلى الشغب والخروج على النظام.

وتمكن حنظلة بن صفوان من إخماد فتنة عكاشة الصفري، ولكنه أجبر على الفرار إلى الشرق عندما استولى الثائر عبد الرحمن بن حبيب الفهري على القيروان، وعجز آخر الأمويين عن استعادة هذه الولاية النائية التي كانت بسبيل الخروج من أيديهم. ورأى العباسيون أن الأندلس بمنجاة من سلطانهم، فقصروا همهم على استعادة إفريقية من أبي الخطاب الإباضي، واسترجع قائدهم محمد بن الأشعث القيروان وعمر أرباضها، وأقام فيها يلي أمورها، ولكن حكمه لم يدم طويلا، فقد نقم جند العرب عليه، وأجبروه على الرحيل، وعجز الأغلب بن سالم التميمي عن الثبات للمنتقضين من المضرية، وقتل في فتنة عام 767 فسادت الفوضى خمسة أعوام سويا.

وتوارث حكم إفريقية من عام 772 إلى عام 794م بنو المهلب، وهم دويلة من عمال الخلافة يمانية الأصل، نجحت بعض النجاح في إقامة النظام، ونشر الأمن في ربوع البلاد، وتخلص يزيد بن حاتم يعاونه أربعون ألف جندي من أبي حاتم الإباضي، وعمر مسجد القيروان الجامع عام 774م، ونظم أهم طوائف المدينة، وقضى ابنه داود على حلف وفرجومة البربري، وتمكن أخوه وخلفه روح من الاتفاق مع ابن رستم الإباضي صاحب تيهرت ، وقد قضى هذا الاتفاق على نزعة التمرد بين بربر إفريقية، ولم يعد يهدد أمن البلاد إلا جند العرب وحدهم، فقد حل بها، بعد وفاة الفضل آخر بني المهلب، عهد ساده الفتن وسفك الدماء، فأنفذ الخليفة العباسي إليها القائد هرثمة بن أعين، فردها إلى طاعته، وبنى رباط المنستير، وخلف هرثمة محمد بن مقاتل العكي، فأثار جند تونس التميمية بسوء تدبيره وضعف حيلته فعزلوه في أكتوبر عام 799م، وفي هذا الوقت ظهر إبراهيم بن الأغلب فجأة وناصر العباسيين في ولاية الزاب، وكان ابن عاملها، وقد قتل عام 867م، ورد ابن مقاتل إلى القيروان، واستمع هارون الرشيد لناصحيه فجعل إبراهيم «أمير» إفريقية مكافأة له وتوطيدا لأركان الحكم في البلاد، وظل السلطان في بيته أكثر من قرن بلا انقطاع.

وقد أحدثت دولة الأغالبة أثرا بالغا في تونس، وكان الأمراء يتبعون الخلافة في الظاهر، ولكنهم كانوا في الواقع مستقلين عنها يتوارثون الحكم فيما بينهم، فجنحوا إلى السلم والنظام والتوسع. بيد أن التميمية في تونس لم تهدأ ثائرتهم، وكان إبراهيم نفسه تميميا، ولكنه اختلف مع هؤلاء الجند من مضر، وقد برموا بأولي الأمر سواء أقربت ديارهم أم بعدت عن العباسيين، الذين قربوا اليمانية أعداءهم القدماء. فاضطر إبراهيم إلى الاعتماد على جند بينهم كثير من الأعاجم الوافدين من خراسان، وكان حرسه حديث النشأة من الزنج يعتصم بحصون القصر القديم أو العباسية التي أقامها على بعد فرسخ من القيروان، وفي عهده أخذت تنتشر الحصون المعروفة بالمحارس على حدود الساحل الشرقي، ولما توفي عام 812م، عادت الفتنة إلى طرابلس.

واشتهر ابنه زيادة الله بنشاطه وقسوة قلبه، وسرعة بادرته، فوجد له منافسا قويا هو منصور الطنبذي الذي أوشك أن يقضي عليه، وخرجت البلاد الشمالية كلها بما فيها تونس عن طاعته أعواما، بيد أن نفحة من نفحات عبقريته هدته إلى ما في الجند المشاغبين من طمع وحمية فاستنفرهم إلى جهاد صقلية فأقلعوا من سوسة يهزهم الحماس، تحت إمرة القاضي المشهور أسد بن الفرات، واستولوا على بلرم عام 831م، ثم على مسينا بعد اثنتي عشرة سنة، وقد شيد زيادة الله رباط سوسة عام 821م، واستطاع أن ينصرف إلى أعمال السلم، ومنها بناء المسجد الجامع في القيروان، وتأثره خلفه فتوسع في إقامة البنى، وشيد عام 850م مسجد سوسة الجامع ومسجد سفاقس، ونحن نخص بالذكر الأمير أحمد الذي أقام الأسوار حول هاتين المدينتين، وبنى «صهريج الأغالبة»، وهو الصهريج الكبير الذي يزود القيروان بالماء.

وفي عام 874م خلف إبراهيم الثاني، آخر الأمراء العظام في هذه الدولة، أخاه محمدا، وقد كني بأبي الغرانق؛ لكلفه باصطيادها، ثم هجر القصر القديم إلى قصبة جديدة جعلت فيها دواوين الحكومة، وهي رقادة التي لا يزال موضعها معروفا على مسيرة خمسة أميال جنوبي القيروان. فلما مات ثارت تونس، وفتحت عنوة وتردد الأمير عليها، ونقل عاصمته إليها لكي يرقب أحوالها بعين ساهرة، وتميزت سياسة الأمير في الخارج بحوادث جسام، فواجهت البلاد أول الأمر من ناحية الجنوب الشرقي غارات العباس بن أحمد، ابن أول أمراء البيت الطولوني؛ ذلك أنه لم يطع أباه وخرج على رأس حملة من مصر وسار إلى طرابلس عام 880م يريد فتح إفريقية، ولكن بربر نفوسة وقفوا بينه وبين طرابلس، وجاء إبراهيم في الوقت الملائم، واستولى على أموال الطولونيين فساعد ذلك على تحسين الحالة المالية للبلاد، بيد أن ذلك لم يدم طويلا؛ لأن الأموال لم تملأ الخزائن التي استنزفتها الفتن والثروات، ثم البذخ والإسراف، وألحت الحاجة على الحكام، فاشتطوا في طلب العبيد والخيول من سهل جمودة، فاندلعت فتنة جائحة! إلا أن فتح صقلية تم بالاستيلاء على سراقوسة عام 878م وتاور مينا عام 901م، وشكا أهل تونس من إبراهيم فصدع لأمر الخليفة، وتنازل لوالده عبد الله، ومات مجاهدا عند كوسنزة من أعمال كلابريا في أكتوبر من العام نفسه.

وكانت الفتنة الدينية التي اجتاحت إفريقية بعد ذلك في مهدها بالمغرب، وكان بربر الجنوب جميعا من الإباضية، وتمتد منازلهم من أوراس إلى جربة وطرابلس، أما بربر نفوسة فكانوا يقطعون الطريق الذاهب إلى الشرق جنوبي قابس، وذلك قبل أن يعمل إبراهيم الثاني السيف في رقابهم، بيد أن مذهب الخوارج لم يحل دون غلبة المذهب السني في الجزء الأكبر من البلاد، وظهور جماعة من مشاهير الرجال، وقد بلغت المناظرات في مسائل الفقه ذروتها أيام الأغالبة، وفي ذلك العهد قامت المذاهب المختلفة، وجمعت أمهات كتب السنة، وقد ظهر في هذه الأثناء اثنان من تلاميذ ابن القاسم فقيه المالكية المشهور في مصر، هما: أسد بن الفرات الذي ولد لأسرة خراسانية، وتوفي في صقلية 828م، وتلميذه سحنون الذي ولد في بلاد الشام لأب من مرتزقة الجند، وولي عام 850م قضاء القيروان، فنصر المذهب المالكي، ولا تزال مدونة ابن الفرات عمدة يرجع إليها، وظلت المالكية المذهب الغالب في تونس، وإن ظهر عليها أحيانا بعض المذاهب الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن أشهر العلماء والمذاهب كان شرقي المنبت، كما وفد الداعي أبو عبد الله عام 894م من المشرق على قبائل كتامة في إكجن؛ ليدخلهم في شيعة عبيد الله المهدي.

وأنفذ الأغالبة عام 902م حملة على كتامة، فبلغت غرضها بعد جهد، وازداد خطر الشيعة أيام زيادة الله الذي قتل أباه عبد الله المعتزلي، وفي عام 905 أسرع المهدي بالقدوم من الشام إلى شمالي إفريقية وانتظر في سجلماسة اللحظة المواتية للمجاهرة بدعوته، وكان داعيته المخلص يفتك بجيش الأمير وأخذت الحوادث تجري سراعا، وحاول زيادة الله عبثا أن يحاكم الشيعة أمام مجمع من الفقهاء في تونس، وطلب المعونة من العباسيين، وسقطت باغاية في ربيع عام 907م، وفي شهر مارس عام 909م فر زيادة الله إلى بغداد بعد سقوط الأربس، ودخل الداعي رقادة على الرغم من العداوة التي أسرها علماء السنة، وفي شهر ديسمبر من السنة نفسها تلقى المهدي بنفسه فروض الولاء من الأهلين في القيروان، وهكذا تأسست في إفريقية بفضل الجند المشاة من بدو كتامة الخلافة الفاطمية العبيدية الشيعية، فأحدثت انقلابا في الأحوال السياسية في شمالي إفريقية بأسره، قبل رجوعها إلى موطنها القديم في المشرق.

وكانت الدولة الجديدة تمد بصرها من أول الأمر إلى مصر، ولم تنقطع عن إنفاذ الحملات تمهيدا لفتحها، حتى وطدت أقدامها فيها، وقد قتل عبيد الله في يناير من 911م أبا عبد الله، وهو الذي ثبت له الملك، مثله في ذلك مثل المنصور الخليفة العباسي الذي قضى على داعيته أبي مسلم. وقد سار ابنه على رأس جيش عام 913م وفتح الفيوم، واستولى ابن آخر على مدينة الإسكندرية، فلما توقف الفتح ناحية الشرق فكر المهدي في تأسيس عاصمة له في إفريقية على البحر، فابتنى المهدية لتخرج منها الأساطيل لمهاجمة المشرق، وللتحصن فيها من هجمات البربر من داخل البلاد، وقد أنفذت عام 919م حملة أخرى استولت على الإسكندرية، واحتفظت بها أمدا وجيزا، وكان انتصار هذه الخلافة في الغرب مبينا، فقد قضت على ثورة صقلية وأدخلتها في طاعتها، ولما توفي عبد الله في مطلع عام 934م كان المغرب بأسره قد دان للفاطميين وقضى على دولة الإباضية في تيهرت والإدريسية في فاس وصفرية سجلماسة، واعترفوا جميعا بسلطان الفاطميين.

واستطاع أبو القاسم نزار القائم بأمر الله أن يوطد سلطانه على الدولة المترامية الأطراف التي ورثها. والواقع أن أسطوله تمكن من نهب جنوة عام 935م، بيد أنه لم يكن لهذه الغارة شأن، ولم يكن منه إلا أن استسلم للثورة الشديدة التي قاد لواءها النكاري أبو يزيد بن كيداد الإفراني صاحب الحمار، الذي جهر بأنه «شيخ المؤمنين»، وقاد باسم الدين هوارة شرقي أوراس لمهاجمة مدن إفريقية، ونهب البربر الخوارج عام 944م باجة والأربس والقيروان وسوسة، واستولوا على تونس وحاصروا الخليفة بالمهدية بعد أن زاد عددهم بمن انضم إليهم من بربر نفوسة والزاب، ومات أبو القاسم في أحرج الأوقات عام 946م، واستطاع ابنه إسماعيل المنصور أن يعيد الأمور إلى نصابها يؤيده أهل البلاد الذين أثارتهم مظالم الغزاة، وتنصره كتامة التي ظلت موالية له، وهزم أبو يزيد في وقائع دموية متعاقبة ورأى بعينيه تفرق رجاله، ثم سقط في يد أعدائه مثخنا بالجراح، في الموضع الذي شيد فيه ابن حماد قلعته عام 947م.

فلما انتهى هذا العصر المضطرب، أعقبه عصر آخر يسوده الأمن والرخاء، وبادر المنصور إلى إظهار سلطانه بتشييد مدينة صبرة الزاهرة، التي عرفت بالمنصورية، وسرعان ما أخملت جارتها القيروان، وازدهرت التجارة والصناعة، وكان القائد رشيق يجوب البحر ملقيا الرعب في قلوب النصارى. وجاءت اللحظة المنتظرة من زمن طويل عندما اعتلى المعز عرش الخلافة عام 953م. فقد دان له المغرب بأسره، على الرغم من شبوب الفتن بين الحين والحين لمناصرة الأمويين أصحاب قرطبة، وكانت غارات الأندلسيين على سواحل سوسة وطبرقة ثارات قديمة ليست بذات خطر، وقوي الأمل في فتح مصر، وكان قد ضعف بموت كافور الإخشيدي، فاحتل جوهر الصقلي مدينة الفسطاط في يوليو عام 969م باسم الخليفة المعز، مثله في ذلك مثل أبي عبد الله الذي احتل القيروان لمولاه المهدي، كما احتل أبو عبد الله مدينة دمشق في العام الذي يليه، وأسس مدينة القاهرة لمولاه، ثم دعاه إلى اللحاق به؛ ليقف في وجه القرامطة. فلما فرغ الخليفة الفاطمي من القضاء على آخر ثورات زناتة، وكان يتشبه بالمشارقة في رسوم الملك والخلافة، تجهز للرحيل في أغسطس 972م، فبلغ القاهرة في العاشر من يونيو 973م، وأصبحت هذه المدينة بذلك قصبة دولته.

وعهد المعز قبل رحيله بحكم إفريقية (ما عدا صقلية) إلى الأمير البربري بلكين، وكان أبوه زيري بن مناد عدوا لدودا لقبيلة زناتة الثائرة، وقد أعان العبيديين دائما برجاله من صنهاجة، وقد نجحت هذه الخطة التي رمت إلى حكم البلاد بأمراء من البربر نجاحا كاملا، وكان بنو زيري يتسلمون كتاب الولاية من القاهرة، وفي أيامهم عم الرخاء في إفريقية، وكثر الخير والزاد بفضل ارتقاء الزراعة والصناعة والتجارة مع العالم الخارجي، وكانت المحافل الرسمية غاية في الأبهة والبذخ، ونهضت دراسة الفقه والطب، وكان قد برز فيها أيام الفاطميين رجال مشاهير، كما برز في الأدب الشاعر ابن رشيق، واجتذب يهود القيروان نفرا من مشاهير التلموديين، كما نبغ منهم كثيرون.

ولم تتأثر هذه الحضارة الزاهرة بفتن زناتة المغرب الذين استفحل أمرهم مع الأيام وجهروا بولائهم لقرطبة، كما أنها لم تتأثر بانفصال حماد الذي أسس في عهد أخيه باديس بن المنصور عام 1008م دولة مستقلة في قلعته المشهورة. بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد بلغت الدولة أوجها - فيما يظهر - أيام المعز بن باديس في النصف الأول من القرن الحادي عشر، بيد أن هذا المعز كان كثير الخيلاء، وقد وقره خلفاء القاهرة وبجله أهل المغرب بأسره، ولكنه اقترف خطأ عظيما ببعث الفتن الدينية القديمة التي كان يتذرع بها سكان شمالي إفريقية للانتقاض على حكامهم المشارقة، واجتمع حوله مالكية القيروان، وتوجه بولائه إلى العباسيين في بغداد، وانتهى به الأمر إلى الجهر بعصيان الفاطميين على مراحل استغرقت العهد إلى عام 1050م.

وكان انتقام الخليفة الذي انتقض عليه انتقاما شنيعا، واستشعر وزير مصر الفاطمي أن الإهانة موجهة إليه، فأنفذ إلى الوالي الثائر جماعات من أعراب الهلالية النهابة، وكانوا يسكنون الصعيد شرقي نهر النيل، وبلغ بنو رياح أول العرب الهلالية شمال إفريقية عام 1051م، فأحدثوا انقلابا في تاريخ سلطنة تونس، وأسرع المعز إلى تحصين القيروان، فلم يجده ذلك نفعا وهزم عندها مرتين، وفي عام 1057م دهمه البدو ونهبوا أغوار البلاد جميعا، فانتقل سرا إلى المهدية في حراسة أمراء من العرب اضطر إلى الإصهار إليهم وتزويجهم من بناته، وقد أحدث هؤلاء الغزاة وعدتهم مئات الألوف انقلابا كبيرا في شمالي إفريقية؛ من حيث الاقتصاد والسياسة والسلالات. فقد رد البربر واستعربت البلاد وغلبت عليها البداوة، واضطرب الأمن، فهلك الزرع وتقوض سلطان الحكومة المركزية، وسقطت بعض المدن الكبيرة في يد العرب، واستقلت غيرها بأمر نفسها، يحكمها أمراء من أهل البلاد، أو عمال جهروا باستقلالهم، وكان منهم من قدم فروض الولاء إلى بني حماد أصحاب القلعة ليحتموا بهم، وهكذا تأسست دويلة بني خراسان في تونس، وبني الورد في بنزرت، وبني جامع في قابس، وبني الرند في قفصة. أما في الوسط فقد عمت الفوضى والاضطراب.

واستطاع بنو زيري - على الرغم من كل هذه المصاعب - أن يحتفظوا بالمهدية، ولم يكن في أيديهم إلا الساحل الممتد بين سوسة وقابس، وخلف تميم أباه المعز، فحاول عبثا أن يستعيض بعض ما فقده أبوه، فاصطلح مع ابن حماد، ولم يوفق في هجومه على تونس، وأصبح محصورا في المهدية، لا مناص له من رد هجمات العرب وصد النصارى الذين تجدد عداؤهم له، وقد سقطت المهدية عام 1087م بتحريض البابا في يد الييزيين والجنويين، فاضطر تميم إلى تعويض المنتصرين وإعفاء تجارتهم من المكوس. واعترف يحيى بن تميم وبعده ابنه علي بسلطان الخلفاء في القاهرة، وأيدتهما قبائل العرب، فأحرزا بعض الانتصار في البر والبحر، حتى دهمهما عدو لم يكن في الحسبان؛ ذلك أن النورمان كانوا قد غزوا صقلية ومالطة، وشرعوا يتدخلون في شئون إفريقية، وفي عام 1118م دبت الفرقة بينهم وبين هذا الأمير الزيري، فاستعان بالمرابطين من أقصى المغرب، واضطر الحسن بن علي أول الأمر إلى الاتفاق مع روجر صاحب صقلية، وقبول حمايته ليقف في وجه بني حماد أصحاب بجاية، بيد أن هذا لم يمنع أمير البحر جورج الصقلي الأنطاكي من إجلائه عن المهدية عام 1148م، وبسط روجر الثاني ثم وليم الأول لونا من الحماية السمحة على جربة والمدن الساحلية من سوسة إلى طرابلس، وكان غرضهم في ذلك تجاريا، ولكن هذا لم يدم طويلا، فقد ثار النصارى وسرعان ما استعادوا حريتهم، وبقيت سوسة والمهدية وحدهما في يد الكفار إلى عام 1160م عندما استولى عليهما عبد المؤمن الموحدي الذي جاء من المغرب الأقصى، وهزم عرب إفريقية عام 1151م، وكانوا قد اتحدوا في وجهه بزعامة الأمير المعز بن زياد الرياحي، ثم قضى على كل مقاومة اعترضت سبيله، واستولى على الحصون وأعمل السيف في اليهود والنصارى، فأعاد بذلك الوحدة السياسية إلى شمالي إفريقية خمسين عاما أو تزيد.

ولم تذق إفريقية طعم السلام على الرغم من نفوذ خلفاء مراكش أصحاب السلطان الجديد فيها، ولم يستشعر الناس سلطان الموحدين؛ لأنهم أقاموا من قبلهم عاملا في مدينة تونس يختار من أقارب الخليفة الأدنين، وسرعان ما ظهر عجزه عن إعادة النظام إلى الولاية التي كان العرب دائما يتهددونها، إلى جانب ما أحدثته جماعات التركمان من اضطراب بزعامة قراقوش الأرمني. وشخص يوسف ويعقوب المنصور على رأس الجند في عامي 1180 و1187م بيد أن ذلك لم يكن كافيا، فقد كان يحيى المرابط حليف قراقوش سعيد الجد، فقد انفصل عن حليفه وغلب خصمه ابن عبد الكريم الرغراغي على أمره، واستطاع أن يبسط سلطانه من قاعدته في الجريد على ولاية تونس بأسرها، واحتاج الأمر أن ينفذ الخليفة الناصر حملة يقضي بها على المرابطين؛ وذلك بزعزعة سلطان يحيى، وإقامة حكومة قوية على الولاية عهد بها أول الأمر إلى الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص، فبلغ الحفصيون بذلك أول مرتبة من مراتب السلطان.

وولي أمير آخر من بني حفص على تونس منذ عام 1184م، وقد انحدر هذا البيت الحفصي من أمير بربر هنتاتة، من قبائل مصمودة التي كانت تعيش في مراكش، وكان له شأن عظيم بين أتباع المهدي بن تومرت، وقد مكنوا لأنفسهم في إفريقية عام 1226م باستعمال أبي محمد عبد الله الذي خلعه بعد ذلك بعامين أخوه أبو زكرياء، واستقل أبو زكرياء بالأمر شيئا فشيئا، ولكنه قنع مع ذلك بالإمارة، وكان المؤسس الحقيقي للدولة التونسية العظيمة التي حكمت ثلاثة قرون ونصف قرن على الرغم من الأحداث التي تقلبت عليها، وقد استمسك الحفصية دائما بسنة الموحدين، وكان نظام الدولتين في الحكم متشابها، إذا استثنينا بعض الفروق الصغيرة، بيد أنه لما نادت مكة بثاني أمرائهم المستقلين، «ابن أبي زكرياء»، ظلت تحيط به بطانة قوية من الموحدين كانوا دعامة الدولة والجيش، وكانت دواوين الحكومة تندرج في ثلاثة أقسام كبيرة: الجيش وبيت المال والقضاء، وكان عمال الولايات يختارون عادة من أقارب الخليفة الأدنين. بيد أن من الخطأ أن ننكر ما كان لكثير من الأندلسيين من شأن في إدارة البلاد وحياتها العقلية، بعد أن أجلاهم النصارى عن الأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي.

ولما رغب بنو حفص في نشر ألوية السلام على إفريقية، كانت تواجههم دائما خلافات الأعراب فيما بينهم، وما أثاروه من فتن وقلاقل، فأضعف ذلك من سلطان الحكومة المركزية إبان القرن الرابع عشر الميلادي.

وكان لهذه الدولة عهود زاهرة حتى وفاة الخليفة المستنصر عام 1277م؛ ذلك أنهم بسطوا سلطانهم على الرغم من الثورات التي كانت تنشب بين حين وحين من طرابلس إلى صميم بلاد الجزائر، ومكنوا لأنفسهم في المدن الهامة، وامتد نفوذهم إلى ما وراء شمالي إفريقية، فلفت أنظار إسبانيا وأوروبا المسيحية. وفي هذا العهد توطدت العلاقات التجارية المنظمة مع برشلونة ومرسيليا وجنوة وبيزا وصقلية والبندقية، فعقدت معاهدات تنظم التجارة والملاحة وأنشئت في تونس قنصلية وزادت جباية المكوس، فدفعت تونس الجزية إلى صقلية ثم إلى أرغونة.

وصفوة القول أن الحكم في إفريقية كان أوطد وأزهر مما كان عليه في القرنين السابقين، وآية ذلك نهضة علوم الفقه وفن العمارة، وقد تعاقبت على البلاد فتن أثارها نزوع بعض الأمراء إلى العرش ممن تربطهم بالخليفة قرابة صحيحة أو مزعومة.

ومما يبعث على الأسف أن هذه الفتن أضعفت سلطان الخليفة، وأوهنت الروابط القائمة بين رعاياه، وولي الحكم من أعقاب المستنصر أمير واحد، هو أبو عصيدة، وبوفاته خرج الحكم من هذا الفرع. فحكم أخ ثالث هو أبو حفص ثم ابن عم له هو أبو يحيى بن اللحياني، وقد استقر السلطان آخر الأمر في أعقاب ابن آخر من أبناء أبي زكريا هو أبو إسحاق إبراهيم.

وانفصمت أواصر الوحدة بين بني حفص زمانا بخروج بجاية عن طاعتهم، وقيام دولة مستقلة فيها، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه من اتحاد، وكانت جربة قد بقيت في يد النصارى مذ فتحها روجر صاحب لورية، فأخذها الحفصيون منهم، ووقفوا في وجه بني عبد الواد بفضل تحالفهم مع المرينيين الذين قويت شوكتهم. بيد أن هذا الحلف كان ينطوي على خطر دفين، فقد استغل أبو الحسن السلطان المريني الواسع الأطماع الفتن الداخلية، وبادر إلى فتح إفريقية، واستقر هو وفقهاؤه ورجال بلاطه في مدينة تونس، ولم يكن ليعيد بني حفص إلى السلطان غير فتنة عربية موفقة، وقد حدثت هذه الفتنة عام 1250م بيد أن جيوش أبي عنان المريني استطاعت بعد سبع سنين أن تحتل تونس مرة أخرى، ولم تثبت أقدامهم فيها طويلا.

وفي هذا العهد، أيام أبي إسحاق إبراهيم، ظهر سلطان الحاجب الدساس ابن تافراكين، ولكنه لم يوفق تمام التوفيق فيما بذل من جهد لإعادة وحدة هذه الدولة، فقد خرج جنوبها خاصة عن طاعة الخليفة، وظهرت دويلات مستقلة في تلك الربوع، فحكم بنو يملول في توزر وبنو الخلف نفطة، وبنو مكي في قابس وبنو ثابت في طرابلس، إلا أن أبا العباس (1370-1394م) الذي بدأ حياته السياسية في قسنطينة، أعاد إلى الدولة مجدها، فكان ينفذ الحملات الواحدة بعد الأخرى، حتى دان له الثوار بالطاعة، وفي عهده أرادت جماعة من الصليبيين الجنويين الفرنجة أن تثأر من القرصان الذين جاوز طغيانهم الحد، ففشلت أمام المهدية 1390م.

ونهض ابنه أبو فارس بالأسطول، وأنفذ حملة بحرية على مالطة 1428م، وكان لزاما عليه من الناحية الأخرى أن يرد عادية القطلونيين والصقليين، وأنفذ حملة كبيرة على جربة، وأقام الحصون في رأس أدار ورفرف والحمامات لرد غائلتهم ثم استولى على تلمسان.

وكان عهد الحفصيين في القرن الخامس عشر يتميز بزيادة نفوذ الموالي، الذين كانوا يستعملون على الأقاليم والجيش ويعرفون بالقواد، وقد كان الأمير أبو عمرو عثمان آخر السلاطين المبرزين، وارتبطت تونس بعلاقات ودية مع أوروبا على الرغم من نشاط قرصانها، وأذن للقطلونيين والجنويين بصيد المرجان في طبرقة، وسمك التون في رأس أدار. أما في الداخل فقد اتسع سلطان مذهب المرابطين، الذي جاء من الغرب وارتقت الزراعة على الرغم من شغب الأعراب، وسرعان ما ساءت الأحوال بموت عثمان، فحكم البلاد ثلاثة من الخلفاء في غضون أعوام قليلة، ثم أخذ نجم الدولة يأفل أيام أبي عبد الله، فمزق أوصالها انتقاض القبائل عليها، قبل أن تحيق بها ضربات الإسبان الذين طاردوا قراصنة الترك في هذه الربوع.

وفي عام 1510م جردها بدرونافارو من بجاية وطرابلس، وفي عام 1520م احتل هيوزده منكاد جربة إلى حين، ثم طرد خير الدين بربروسه آخر الأمر الحسن بن أبي عبد الله من تونس.

ولم يعد الحسن إليها إلا عندما استولى شارل الخامس على المدينة، وأصبح قيلا من أقيالها، وسلم للإسبان حصن حلق الوادي، وساءت الأحوال في تونس عندما استولى أندريا دوريا على مدن سفاقس وسوسة والمنستير، ثم حلت بالإسبان حوادث خطيرة وخارت عزيمة جند الحسن، فذهب يطلب العون من أوروبا، ولكن ابنه أحمد حميدة انتهز فرصة غيابه وخلعه.

وحاول حميدة - وكان رجلا غليظ القلب مقداما - أن يستعيد ملك آبائه فلم يفلح. ثم ظهر بطل جديد هو القرصان التركي درغوث، وكان في يد الجنويين، ولم يطلقوا سراحه إلا في مقابل تسليمهم جزيرة طبرقة، وطرده الإسبان من المهدية عام 1550م، إلا أنه استطاع بمهارة أن يفلت من أندريا دوريا في أبريل من العام نفسه بين ممرات جربة، واستطاع من قاعدته في طرابلس أن يحتل قفصة والقيروان، وفيها ترك فرقة من الجند تحت إمرة حيدر باشا، ولما قاد دوق مدينة سالم حملة على جربة، هزمه درغوث هزيمة منكرة، ثم هلك في حصار مالطة عام 1565م.

واستمرت الحرب بين حميدة وعامل الإسبان على حلق الوادي، على الرغم مما عقد بينهما من المعاهدات، فسهل ذلك على أمير الجزائر علي باشا احتلال تونس، فوضع فيها حامية من الجند، ثم استعاد دون جون النمسوي مدينة تونس من الترك، فأعاد سلطان الحفصيين لآخر مرة بتأثير محمد بن الحسن، وتعيين سربلوني مشيرا له، واستولت جنود الترك التي جاء بها أسطول سنان باشا من القسطنطينية على تونس وحلق الوادي، فوضعوا بذلك حدا لحكم الإسبان، وكان مزعزعا لا يطول به العهد، وقضى على دولة بني حفص «الوطنية» التي كانت عزيزة الجانب، وأصبحت على مر الأيام لا حول لها ولا قوة، وكانت عودة حميدة إلى الملك بمثابة صحوة الموت لهذه الدولة، فقد بسط سلطانه على فيافي تونس والجريد أعواما.

أما سنان باشا، فقد جعل تونس ولاية تركية ملحقة بالجزائر يحكمها باشا، وذلك قبل أن يعود إلى القسطنطينية، ثم أصبحت منذ عام 1587م تابعة للباب العالي مباشرة، وكان يقود جيش الاحتلال أغا، ويتألف هذا الجيش من أربعة آلاف رجل على رأس كل مائة داعي «داي»، واستبد الديوان بالأمر، وهو الهيئة الحاكمة التي تضم الضباط العظام. فاندلعت نيران الثورة، وانتهت بوضع أزمة الأمور في يد واحد من هؤلاء الدعاة «الدايات»، وأصبح منصب الباشا في عهد هؤلاء الدعاة منصب شرف فحسب، وإن كان يمثل السلطان، أما الديوان فقد أعيد تنظيمه وقويت شوكته، مثله في ذلك مثل طائفة الرعايا؛ أي «طائفة القرصان». أما من ناحية الدين فقد كانت الصدارة للمذهب الحنفي.

ويعود الفضل في تنظيم الولاية للداعي الثالث عثمان، فقد أصدر مجموعة من القوانين موسومة ب «الميزان»، واستطاع أن يحافظ على الأمن في البلاد يعاونه «باي» مهمته جمع الضرائب بقوة الجند في دورتين كل سنة، وأشرفت الدولة على القرصنة في البحار، وشاركت في غنائمها، ولما طرد المسلمون من الأندلس عام 1609م استقروا في كثير من بلاد تونس مثل رأس أدار وطبورية ومجاز الباب وتستور وقلعة الأندلس، فروجوا سوق الخضر، ونشطت بعض الصناعات كالصباغة وصناعة الجوارب.

وضعف سلطان تركيا على تونس إلى حد أن فرنسا أصبحت تتمتع بفضل الامتيازات العثمانية بمكانة رفيعة في أرجاء الدولة العلية بأسرها، فأنشأت قنصلية لها في تونس 1577م، واقتضى الأمر أن أرسلت عام 1606م سفيرا هو ده بريف، لكي يتصل مباشرة بأولي الأمر في تونس.

واستعاد يوسف زوج ابنة عثمان وخليفته مدينة جربة من باشا طرابلس، واتفق في عهده على تسوية الحدود بين تونس وبين الجزائر؛ نتيجة لغارات الجزائر عليها، ثم خلفه داع اسمه الأسطى مراد (1637-1640م)، وكان قرصانا جنويا دخل في الإسلام، فحصن غار الملح وأسكن فيه جماعة من أهل الأندلس، ولكن سلطان الدعاة «الدايات» كان آخذا في الضعف، ولسنا في حاجة إلى ذكر الدعاة الأربعة والعشرين «خوجة ولاز وغيرهما» الذين حكموا من عام 1640 إلى عام 1702م؛ لهوان شأنهم ولأنهم أصبحوا ألعوبة في يد البايات الذين نجحوا آخر الأمر في القضاء عليهم.

وحكم الباي مراد من عام 1612 إلى عام 1631م، وكان قورسيقيا يلقب بالباشا، وقد تنازل في حياته لابنه محمد، فأصبح بدوره باشا، واعتمد في حكمه على كتيبة من الصبائحية وزعها بين تونس والقيروان والكاف وباجة، وأصبح سيد البلاد دون منازع.

وقد أسس حمودة الدولة المرادية، فحكم ابناه مراد ومحمد الحفصي وأحفاده محمد وعلي ورمضان، فكانت الفتن تهدد سلطانهم، وبلغت هذه الفتن غايتها بمقتل ابن حفيده مراد عام 1702م.

وامتاز النصف الأول من القرن السابع عشر بعودة العلاقات التجارية بين تونس وأوروبا، وبخاصة بينها وبين مرسيليا وليفرنو، ويرجع الفضل في ذلك إلى تجار النصارى واليهود، واتجرت في المرجان الشركات المرسيلية المؤسسة في رأس الأسود وبنزرت جنوبي طبرقة، وكانت تربح من تصدير الجلود والحبوب، واتسعت علاقات الولاية بالخارج، فشملت أمما مثل بريطانيا العظمى والأراضي الواطئة. فكانت وحدات من الأساطيل الأوروبية في النصف الثاني من هذا القرن تضرب الساحل بقنابلها، إلى جانب الحملات التي درج فرسان مالطة على القيام بها؛ انتقاما لأعمال القرصنة الماضية.

وازدهرت البلاد في الداخل أول الأمر، كما يستدل من إقامة المنشآت العامة والمساجد في طول البلاد وعرضها، ثم ساءت الأحوال على مر الأيام في عهد المتأخرين من المرادية، حتى استطاعت الجزائر أن تقوم بغزواتها.

وأخذت القبائل في الانتقاض على الحكومة، وظلت الكاف في يد بني شنوف أمدا طويلا وقلعة سنام في أيدي الحنانشة، وكان جبل وسلات موطن شغب عظيم، واجتاح البلاد وباء الطاعون مرات كثيرة فأهلك الناس.

ولما قضى إبراهيم الشريف الذي كثر في عهده سفك الدماء، وكانت قد اجتمعت له لأول مرة ألقاب الباي والداعي والباشا وأغا الجند، نودي بالحسين بن علي تركي بايا على تونس في العاشر من يوليو 1705م في غضون غزوة جزائرية جديدة، وهكذا قامت الدولة الحسينية التي لا تزال تحكم البلاد إلى اليوم. وأعاد حسين السلام إلى الربوع، وشيد كثيرا من المباني (مثال ذلك ما أنشأه في القيروان)، وحاول أن ينظم ولاية العرش لمصلحة ذريته مباشرة، فخلعه علي باشا يظاهره الجزائريون؛ ومن ثم نشأت مصاعب جديدة استفحل أمرها بفتنة يونس بن علي عام 1752م. ثم اعتلى محمد بن الحسين العرش آخر الأمر بتدخل الجزائر أيضا، وحكم علي باي ثم ابنه حمودة، ففعلا الكثير في سبيل إصلاح ما فسد من شئون الدولة وإعادة الرخاء إلى ربوعها.

ونشطت التجارة الخارجية كما نشطت الزراعة، واتسعت علاقات الباي مع الدول الأوروبية، على الرغم من قضائه على الجاليات التجارية برأس الأسود وطبرقة، وأبرمت معاهدات كثيرة كان يوقعها بنفسه، وعينت فرنسا آخر الأمر قنصلا عاما لها في تونس، على الرغم من محاربتها إياها عدة مرات، ونشبت الحرب بين تونس والبندقية واستمرت ثماني سنين (1784-1792م)، وأخضع علي باي ثوار جبل وسلات ومزق كلمتهم، ولكنه عجز عن التخلص من الجزائريين الذين ظلوا مصدر تعب كبير لحمودة، وأعمل حمودة السيف في رقاب الإنكشارية المتمردين عام 1811م.

وطرأت تغيرات ملحوظة على أحوال السلطنة التونسية إبان القرن التاسع عشر؛ أولها القضاء على القرصنة والقرصان، وكانت من أهم موارد الدولة، وقد أرغمت الدول الأوروبية محمودا على ذلك، نتيجة لمؤتمري فيينا وإكس لا شابل، ثم كان احتلال الجزائر عام 1830م أيام الباي حسين ، فأعقب هذا نتائج لم تكن في الحسبان، وقد حاولت تونس عبثا، مدة نصف قرن الملاءمة بينها وبين الأحوال الجديدة بتغيير نظامها الداخلي، وانتهاج سياسة وسط بين التراخي في تبعيتها للدولة العلية والانصراف عن هذه التبعية حينا آخر، وبين السماح للدول المسيحية بالتدخل في شئونها على يد قناصلها، وشجعت بريطانيا سلطان الباب العالي وناوأته فرنسا، ولم يبد هذا السلطان إلا في القليل من فرامانات التولية وفي إرسال الجند التونسية إلى القريم عام 1855م لمحاربة روسيا (وقد اشتركت وحدة بحرية تونسية مع الأسطول التركي في واقعة نفارينو عام 1827م)، وأخذ بعد ذلك النفوذ الفرنسي والإنجليزي والإيطالي يزداد على مر الأيام ... نعم إن خطط فرنسا لإقامة أمراء تونسيين على الجزائر لم تلق نجاحا، ولكن تونس لم تعد تأخذ الجزية التي كانت تدفعها الدول المسيحية نظير حق الاتجار معها، وتولى أحمد وكان أشبه بالحاكم المستبد المتنور، فألغى الرق ومنح اليهود حرياتهم، ونظم «الجيش التونسي» على النسق الأوروبي، واختار له مدربين من الفرنسيين، وزار لويس فيليب في باريس في عام 1846م. بيد أن إسرافه الكثير ونفقات بناء دار الصناعة في غار الملح، وقصور المحمدية استنزف موارد الدولة، وكانت جد قليلة، ففرضت ضرائب جديدة، وأصدر قانون لاحتكار أشجار الزيتون .

وأدخل ابن عمه محمد (1855-1859م) ضريبة على الرءوس مقدارها ستة وثلاثون قرشا، كما أعفيت منها بعض المدن التونسية الهامة، ولكن أهم حادث في عهده هو إصداره عهد الأمان في 9 سبتمبر سنة 1857م حمله عليه القناصل، وأعلن فيه أن أهل تونس جميعا، سواء أمام القانون وفي دفع الضرائب، كما أعلن حرية العقيدة وحرية العمل والتجارة وحق الأجانب في امتلاك الأرض والعقار، وأصدر أخوه محمد الصادق (1859-1882م) دستورا في السادس والعشرين من أبريل عام 1861م أقره نابليون الثالث، وبه ظلت السلطة التنفيذية في يد الباي تئول إليه بالوراثة، وأصبح مسئولا عن الحكم، وينتقل العرش إلى أكبر أمراء البيت الحسيني يعاونه وزراء يختارهم بنفسه، وقسمت السلطة التشريعية بين الباي والمجلس الكبير المؤلف من ستين عضوا معينين. أما السلطة القضائية فكانت مستقلة، وكانت المحاكم تتبع قانونا تونسيا جنائيا ومدنيا، أما إدارة الأقاليم فكانت في يد «القواد» يعاونهم «شيوخ» منتخبون، وجعلت للباي مخصصات، ولم يعد له حق فرض الضرائب وغيرها، ولكن سرعان ما ساء الموقف على الرغم من هذه الإصلاحات، وقد أدت السياسة المالية الخرقاء التي انتهجها مصطفى باشا خازندار من العودة إلى الاستدانة وزيادة الضرائب، إلى عصيان القبائل تحت راية علي بن غذاهم عام 1864م، كما أدت إلى تأليف لجنة مالية دولية (من التونسيين والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين) عام 1869م، وفي يوليو من عام 1859م عطل الدستور، وفي أكتوبر من عام 1873م خلف القائد خير الدين على دست الوزارة الخازندار الذي عزل من منصبه. فامتاز عهده بإصلاحات جليلة، ولو أن البلاد لم تصب منها إلا تقدما يسيرا. بيد أن موارد الدولة كانت قليلة جدا وديونها عظيمة، حتى إن اللجنة لم توفق إلى شيء، وكانت إدارة مصطفى بن إسماعيل السيئة هي الضربة القاضية التي أصابت البلاد، بينما اشتد التنافس بين قنصلي فرنسا وإيطاليا على الصدارة في الامتيازات الخاصة بالمصالح العامة.

وشجعت بريطانيا وألمانيا منذ مؤتمر برلين عام 1887م التدخل الفرنسي في شئون تونس، وقد سير الوزير جول فري ثلاثين ألف مقاتل لغزو تونس؛ نتيجة لغارات أهل جبال خمير على الجزائر وغيرها من الحوادث. وبعد عشرين يوما أرغم الجنرال بريار صادقا على أن يوقع معاهدة «قصر سعيد» المعروفة بمعاهدة باردو، دون أن يسفك دماء أو يأبه لاحتجاج تركيا. وقد أعطيت هذه المعاهدة فرنسا حق الإشراف على الشئون العسكرية والخارجية والمالية للسلطنة التونسية، وعين وزير مقيم فرنسي، يتولى الشئون بين الباي والحكومة الفرنسية، وكان القنصل روستان بطبيعة الحال أول من شغل هذا المنصب، وهكذا بدأت الحماية، وإن لم تكن قد أعلنت بالفعل. ثم أصبحت الحماية أمرا واقعا بعد ثورة الوسط والجنوب تحت إمرة علي بن خليفة والقضاء السريع عليها بواسطة حملة فرنسية ثانية، ووافق الباي بمقتضى ميثاق المرسى في 8 يونيو عام 1883م على أن يبدأ بالإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية نفعها للبلاد.

وتعتبر الحماية الفرنسية فاتحة عهد جديد في تاريخ تونس، ولم تؤثر فيها منذ أن فتحها المسلمون حادثة كهذه الحماية التي غيرت نظامها وحياة أهلها.

وكان الطابع الأصيل لهذا العهد الإبقاء على نظام الحكم القديم في مظهره، وقد ألبس هذا النظام ثوبا جديدا، وزيدت عليه نظم حديثة، وظل سائدا على رغم ما وجه إليه من نقد.

وظل عظمة الباي هو سيد السلطنة الأسمى وصاحب مملكة تونس، ولكن صاحب الأمر والنهي في البلاد هو الوزير الفرنسي المقيم الذي عرف منذ 23 يونيو عام 1885م بالمقيم العام، وكان وزيرا مفوضا للجمهورية الفرنسية في السلطنة التونسية، يأتمر بأمر وزير الخارجية الفرنسية، وكان كذلك وزير خارجية الباي لا يتصل الباي بباريس إلا عن طريقه، وكان رئيسا لمجلسه يوقع إلى جانبه على المراسيم التي أصبحت نافذة منذ مرسوم يناير عام 1883م، وكان يأتمر بأمره قواد الجيوش في البر والبحر، كما كان يشرف على جميع المصالح الإدارية، ولم يكن للباي سوى حرس صغير مكون من ستمائة رجل، وكان رعاياه يجبرون على الانخراط في جيشه الذي كان بمثابة قسم من الجيش الفرنسي، وقد هلك منه ما يزيد على العشرة آلاف رجل في سبيل فرنسا إبان الحرب العظمى.

ويتكون مجلس الوزراء من اثنين من الوطنيين، صاروا بعد ذلك ثلاثة، ومن المديرين أو رؤساء مصالح الفرنسيين، ثم قائد جيش الاحتلال وأمير بحرية بنزرت اللذين يقومان بأعمال وزير الحربية وقائد الأسطول.

وأصبحت القائديات التي تنقسم إليها القبائل أقساما إدارية على رأس كل منها مراقب فرنسي مدني.

أما المسائل التي تتصل بالمقيم العام والمراقبين المدنيين والقضاء الفرنسي، فقد فصل فيها وحدها مراسيم صدرت من رئيس الجمهورية الفرنسية. وتتنازع الحالة السياسية والإدارية والقضائية الآن في تونس سلطتان؛ إحداهما محافظة يمثلها الباي، والأخرى مجددة حديثة هي سلطة الفرنسيين. وكان أهم ما قامت به دولة الحماية هو الحد بقدر المستطاع من التدخل الأجنبي في شئون المال والقضاء؛ فضمنت فرنسا الدين التونسي، ووافقت بريطانيا العظمى وإيطاليا على إلغاء اللجنة المالية، وعاد الميزان الاقتصادي في تونس إلى الاستقرار بفضل نظام ثابت لإدارتها المالية، ووضع ميزانية لها على المنهج المألوف، وجعلت للباي مخصصات ينفق منها على بيته وحاشيته، ولا تزال الحكومة الفرنسية تعتمد في ميزانية تونس بعض المبالغ الخاصة كالإعانة التي ترصدها لأسقفية قرطاجنة، وأصبحت وحدة العملة هي الفرنك لا القرش، بمقتضى مرسوم أول يوليو عام 1891م.

وأنشئت محاكم فرنسية بمقتضى القانون الفرنسي الصادر في 10 أبريل عام 1883م، ووافق الباي بمرسومه الصادر في 5 مايو من العام نفسه على أن الذين كانوا يتمتعون بالامتيازات يحق لهم التقاضي أمام هذه المحاكم الجديدة؛ ولذلك أخذت الدول الأجنبية الواحدة تلو الأخرى تلغي محاكمها القنصلية، كما أنها تنازلت عن المزايا الجمركية التي كانت تتمتع بها أيام الامتيازات، وأبدت إيطاليا وحدها بعض التحفظات، فلما انتهت معاهدتها مع تونس عام 1868م، وهزمت في عدوة بالحبشة، اضطرت إلى الاعتراف بالحماية الفرنسية على تونس، ولكن تركيا رفضت الاعتراف حتى معاهدة سيفر 1920م، وبالرغم من هذا احتفظت إيطاليا بمكانة ممتازة في السلطنة، وأبت التنازل عنها، ويرحل إلى تونس عدد كبير من الإيطاليين، وتنشر إيطاليا نفوذها عن طريق الصحافة وبيوت المال ومعاهد الثقافة بنوع خاص، ولا تخضع هذه المؤسسات للرقابة الفرنسية بمقتضى الاتفاقات المعقودة بينها وبين فرنسا، وهي تشكو مع ذلك من عدة أمور فيها حيف برعاياها، وفي عام 1919م اعترفت فرنسا بملكية إيطاليا لواحتي غات وغدامس، بمقتضى اتفاق وضع حدا للمشكلة الإيطالية المعلقة في تونس.

وساعدت الحماية فرنسا على أن تقوم في السلطنة باستغلال الموارد الطبيعية، وتزويد البلاد بحاجاتها الثقافية والاجتماعية كالمستشفيات والصيدليات، وإعداد الأطباء وإنشاء الجمعيات الخيرية والمعاهد العلمية المختلفة، وقد أدى التقدم الحديث والتوسل بالأسباب السليمة الصحيحة إلى انتعاش اقتصادي مشجع.

وتونس بلاد زراعية أولا، وقبل كل شيء تنبت الحبوب والكروم والزيتون والبلح والخضر، وكذلك الفلين والحلفاء. على أنها قد أصبحت بمرور الزمن تصدر الحديد والرصاص والخارصين، ثم الفوسفات بنوع خاص منذ أن كشف مناجمه ب. توماس عام 1885م، أما وارداتها فهي الوقود والحاصلات الاستوائية، ومقدار كبير من المصنوعات.

وتبلغ تجارتها الخارجية حوالي ثلاثة مليارات من الفرنكات، وظل ميزانها التجاري في عجز عدة سنوات، ولم تكن مواردها من قدوم السياح كافية لسد هذا العجز.

وعملت الحكومة على تيسير الاستعمار الأوروبي، ووضع ملكية الأراضي على نظام حديث. فأصدرت قانونا عقاريا عاما ينص على أن تسجيل الأراضي اختياري، لا يتم إلا بموافقة محكمة مختلطة أنشئت لهذا الغرض. وصدر مرسوم في مارس عام 1924م مهد للقيام بمسح الأراضي، وفي باكورة عهد الاحتلال الفرنسي ترك امتلاك الفرنسيين للأراضي لتصرفهم الشخصي، ولم تنتهج الحكومة سياسة إسكان الفرنسيين المدنيين في الأراضي التونسية، والسير عليها سيرا حثيثا إلا منذ عام 1900م، وأخذت الحكومة تبتاع الأراضي لتبيعها مرة أخرى بشروط يسيرة جدا للفرنسيين من خريجي المدرسة الزراعية الاستعمارية في تونس، وأخذ الإيطاليون ينافسون الفرنسيين بكثرة فلاحيهم لا بعدد ضياعهم، ولما رأت فرنسا أن الفرنسيين المدنيين يقل إقبالهم على الهجرة شرعت تستن سياسة لتيسير التجنس، بيد أن النزاع الذي أثارته إنجلترا في هذا الصدد أمام محكمة لاهاي الدولية دفع الحكومة إلى إصدار قانون فرنسي في عشرين ديسمبر عام 1923م يسر التجنس للأجانب والوطنيين تيسيرا كبيرا، ووافقت بريطانيا بوجه عام على قواعد هذا القانون، وهي متعلقة بصفة خاصة برعاياها المالطيين. أما الإيطاليون فقد تخلصوا باتفاقاتهم الخاصة من ضروب التجنيس الإجباري ، وإن قبل بعضهم التجنس مختارا، ويبلغ عدد المتفرنسين في الوقت الحاضر ربع السكان الفرنسيين، ولا يزيد عدد المسلمين فيهم على ألفين، بينما يزيد عدد اليهود على خمسة آلاف.

واحتفظ اليهود وبينهم آلاف من أصل أوروبي، بالرعوية الإيطالية.

وظلوا في غالبية شئونهم من رعايا الباي خاضعين للسلطة والقضاء المحليين، إلا في الشئون المتصلة بالأحوال الشخصية، فتفصل فيها محكمة تونس الربانية، كما يفصل فيها أيضا كتاب العقود الإسرائيليين، ولا يؤدي يهود تونس الخدمة العسكرية، كما أنهم لا يلتحقون بوظائف الحكومة على وجه عام، ويثير تقدمهم السريع في مضمار الحضارة الأوروبية مشكلة تجنيسهم جملة أو زرافات بالجنسية الفرنسية، وبمقتضى المرسوم الصادر في 30 أغسطس عام 1921م أنشأت الحكومة لليهود جميعا على اختلاف جنسياتهم مجلسا مليا يتألف من اثني عشر عضوا ينتخبون على درجتين، ومدة عضويتهم أربع سنوات، ولهذا المجلس حق الفصل في المسائل المتصلة بالإعانات والعبادات، وتعين الحكومة رؤساء الطوائف اليهودية الأخرى، وكذلك حاخام الربانيين الأكبر ، ولا يقبل اليهود على القيام بشعائر دينهم، وإن كان للدعوة الصهيونيو هناك مكانة ملحوظة.

وقد سعت الحكومة الفرنسية إلى النهوض بالإدارة الوطنية والأحوال الاقتصادية والدينية للمسلمين، مع احترام شعورهم الديني، ولا تزال أمامها عدة مشاكل لم تحل، وتتطور الجماعة الإسلامية تطورا جوهريا على الرغم من مقاومتها للحياة الأوروبية، ومن سبق الحوادث التكهن بنتائج هذا التطور. أما حركة الدستور التي تطالب بالحكم الذاتي، والتي نشطت في أعقاب الحرب فقد كبح جماحها المقيم العام لوسيان سانت، وكان بارعا في ذلك، والظاهر أن الأهلين راضون الآن بالإصلاحات التي اتجهت إليها حكومة الحماية في سياستها الداخلية ما بين سنتي 1920 و1930م.

وتقوم السياسة الفرنسية الآن على مبدأين أساسيين: نزوع إلى زيادة التعاون تدريجيا مع الأهالي الوطنيين، وتوسع في سلطان المجالس المنتخبة.

وقد تمتع الأهلون بحقوق جديدة كإنشاء المجالس البلدية والتوسع في حرية الصحافة والاجتماع.

السكان

تضم سلطنة تونس - إلى جانب المسلمين واليهود - عددا يتزايد على الأيام من الأوروبيين؛ وذلك نتيجة لهجرة الإيطاليين إليها، وحماية الفرنسيين لها. وقد بلغ عدد السكان في إحصاء عام 1926 للميلاد 2159708 نسمة، بينهم 1932184 مسلما و54243 يهوديا تونسيا، لا يدخل فيهم اليهود المتجنسون بالجنسيات الأوروبية.

أما الأوروبيون فيبلغ عددهم 173281 شخصا، منهم 71020 فرنسيا، 89216 إيطاليا، 8396 مالطيا من رعايا بريطانيا، و4649 شخصا يتجنسون بجنسيات أوروبية أخرى.

وقد وفد أغلب الإيطاليين من صقلية وسردينيا، وهم يشتغلون بالبناء والتعدين والزراعة وفلاحة الكروم. أما الفرنسيون فأغلبهم موظفون في الحكومة وتجار ومستعمرون.

ويسكن جمهور الأوروبيين منطقة مدينة تونس، وكذلك يقيمون في غيرها من المدن الساحلية. فمنهم:

103000

في تونس

6700

في بنزرت

4150

في فريفيل

6900

في سوسة

6900

أيضا في سفاقس

أما اليهود التونسيون، فيعيش أكثر من نصفهم في مدينة تونس؛ أي حوالي 28141 شخصا، ويقيم أكثر من 3700 منهم في سوسة، وحوالي 3300 في سفاقس، وكثير منهم في بنزرت وباجة ونابل، وقليلون يسكنون داخل القطر. أما في الجنوب فيسكن قابس حوالي 2500 منهم، وفي جربة 3800، وفي المناطق العسكرية أكثر من 2500.

أما توزيع السكان عموما على أهم مدن تونس، فهو كما يلي:

تونس

185466

قابس

15119

سفاقس

27723

نفطة

13250

سوسة

21298

مكنين

12191

بنزرت

20593

القلعة الكبيرة

11830

القيروان

19426

توزر

11056

مساكن

16620

باجة

10468

ويلاحظ أن مساكن والقلعة الكبيرة - وكلتاهما على الساحل - لا يعيش فيهما إلا المسلمون.

أما عن القبائل التي تعيش في تونس، فلسنا نستطيع أن نحدد تطورها، أو نبين نظامها، حتى ولو أسقطنا من حسابنا تلك الحواضر والمدن المكتظة بالسكان؛ حيث تختلط عناصر جنسية مختلفة. فنحن نجهل أصول كثير من هذه القبائل، ولا نعرف بالضبط كيف انحلت أواصرها، واختفت معالمها.

وظل الجند العرب، أمدا طويلا، قلة في العدد لا تحدث تأثيرا ذا خطر، في الجنس البربري التونسي. أما العامل الهام في تغيير هذا الجنس، فكان غزوة بني هلال في منتصف القرن الحادي عشر، ثم غزوات بني سليم (ق12، 13م)؛ ذلك أن هؤلاء الأعراب طردوا الأهالي البربر إلى النجاد، واحتلوا السهول، وعربوا القطر التونسي، وأخضعوا السكان إخضاعا تاما لسلطانهم، فأصبح من المستحيل الآن التمييز بين قبائل العرب والبربر.

وصفوة القول أن القطر التونسي هو أكثر أقطار إفريقية الشمالية استعرابا، وإن ظلت فيه بعض القبائل البربرية إلى الآن.

إن حياة البداوة في القطر التونسي مشرفة على الزوال، ولم يعد السكان يهاجرون إلا في سنين المجاعة والقحط، وكانت العادة أن تستقر القبائل في منازلها، ولا يرحل إلا قليل من الرعاة بأغنامهم، ولم تكن تنتقل إلا قطعان الماشية، فتقضي الشتاء في الفيافي، وتمضي الصيف في التل، وقد يقضي المهاجرون أياما في سهل كمودة، أما المثاليث، فيهاجرون وحدهم في الصيف، حتى بنزرت والجلاص وسواسي بجوار باجة، ولا يزال البدو يسكنون نفزاوة وصحراء تونس.

وقد سارت حكومة الحماية على ترغيب الناس في حياة الاستقرار، بتسهيل حيازتهم للأراضي، وتوجيه جهودهم إلى الزراعة، وقد نفذ قانون سمي ب «المغارسة»، بمقتضاه يصبح لمن يزرع الزيتون فيما يمنح من الأرض، الحق في امتلاك نصف هذه الأرض عندما تبدأ أشجار الزيتون في الإثمار. أما التشريع الخاص بتنظيم الحبوس، فقد ساعد بعض الأسر الوطنية على الاستقرار بمنحهم حقوقا ثابتة في استثمار الأراضي. وقد نظم استغلال المزارع الجماعية في المناطق العسكرية الجنوبية بمقتضى مرسوم 23 ديسمبر 1918م، فأصبحت كل مجموعة من الأراضي وحدة يشرف عليها مجلس من الأعيان.

كذلك كان للحماية الفرنسية الفضل في تمكين الملاك من إصلاح وسائل الري، وتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين وإنشاء وسائل الري، وتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين، وإنشاء السكك الزراعية، وتأسيس الإدارة العامة للتسليف الزراعي، وفيما يلي بيان بعدد المواشي التي كان يمتلكها الوطنيون والأجانب عام 1928م:

الوطنيون

الأجانب

الوطنيون

الأجانب

الخيل

77000

10500

الغنم

2000000

103500

الحمير

157000

2500

الماعز

1360000

30500

البغال

28500

11500

الخنازير

6000

13000

المواشي

430000

55000

الإبل

151500

300

وللوطنيين تسعة ملايين شجرة زيتون، تؤدى عليها الضرائب، وأربعة ملايين وثمانمائة ألف معفاة منها، وللأجانب 878000 شجرة تؤدى عليها الضرائب، ومليون ومائة ألف لا تؤدى عليها.

وهناك بضعة آلاف من الأهالي يعيشون على صيد السمك، وقد بطل الآن سكنى الخيام في القطر التونسي، مما يدل على استقرار الأهلين، وفي الجنوب نوعان من المساكن؛ أحدهما يبنى تحت سطح الأرض، والآخر يسمى بالقصور أو الغرف، وهي مبان مستديرة، طويلة، ضيقة، منحنية الجوانب، تستعمل للتخزين، وعدد سكان المدن من الأهالي الوطنيين كبير بالقياس إلى غيرهم؛ إذ يبلغون 18٪ من مجموع السكان، وقد اشتهر القطر التونسي بتقدم الحياة الحضرية فيه، وبمدينة تونس أجانب مسلمون، لكل منهم حي خاص.

أما التجارة الوطنية، فآخذة بأسباب التقدم الحديث، ومن أهم مظاهر هذا التقدم، تلك الجمعيات التعاونية التي أسسها البدالون في جربة لشراء ما يحتاجون إليه، وبمدينة تونس عدد كبير من هذه الجمعيات. أما الصناعة المحلية فقد لقيت عناء شديدا لمنافسة السلع الأجنبية لها زمنا طويلا، على أن الحكومة قد عملت ما في وسعها لحماية هذه الصناعة، وبخاصة الصناعة الفنية، فأنشأت لها معاهد نظامية، وبذلت الجهود لتحسين الوسائل الحرفية والفنية في الصناعة.

ومن أقدم الصناعات القائمة في تونس صناعة الزيت والصابون، والصباغة التي يهددها الآن استيراد الأنيلين من أوروبا، ثم نسج الصوف والبطاطين في جربة وقفصة والجريد، ونسج القطن في تونس، والحرير في تونس وقصر هلال، وشعر الماعز والإبل في الجنوب، والسجاد، ويقوم بصبغه النساء وبخاصة في القيروان، ثم الطرابيش في تونس، والخزف في نابل، وكذلك نذكر منها صناعة المناخل في تونس والقيروان وسوسة، والحصر والسلال وتقطير الكحول في نابل ودبغ الجلود وصناعة الأحذية في تونس والقيروان ونابل والسروج في تونس والآلات القاطعة، والمصنوعات المعدنية والحجرية والخشبية. أما صناعة القصدير، فيحتكرها اليهود، ومنهم بعض صناع الأحذية، وكثير من الخياطين، وأغلب الصاغة.

وقد نظم مرسوم الباي نقابات ذوي الحرف، وأهمهم صناع الشواشي، الذين قد يقبلون في زمرتهم بعض اليهود، ويشترطون أن يكون أمين النقابة مسلما. أما صناعة الشاش، فلا تزال تحتفظ بمكانتها على الرغم من منافسة الواردات من فرنسا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، وإقفال السوق التركية في وجهها، وقد بلغ معدل إنتاج هذه الصناعة خمسين ألف كيلوجرام، يصدر نصفها إلى الخارج.

وفيما يلي بيان لطوائف الحرف في تونس، كما وردت في إحصاء إدارة الزراعة:

الطائفة

عدد رؤساء العمل

عدد العمال

الطائفة

عدد رؤساء العمل

عدد العمال

صناع الشواشي

200

600

صناع الأحذية

200

300

الخياطون

60

100

صناع الجلود والسروج

20

70

صناع البرانس

120

150

الصياغ والجواهرية

45

70

الطحانون

10

40

النجارون

90

125

نساجو الحرير

300

1200

الحدادون

20

35

غزالو القطن

100

300

الرسامون والنقاشون

100

230

الصباغون

30

45

الدباغون

25

45

وخلاصة القول أن شيوخ الصناعة وعمالها في تونس يبلغون 4630 شخصا.

الدين الإسلامي

ظلت تونس على المذهب المالكي أمدا طويلا، أما جزيرة جربة فثلاثة أخماس سكانها من الخوارج، ويتمسك الترك أو الذين يدعون أنهم كذلك بالمذهب الحنفي، وهؤلاء قلة، ولكنهم من الخاصة، ولهم امتيازاتهم؛ لأن منهم أسرة الباي، وكان يقوم على المناصب الدينية الرفيعة أيام الحفصيين «قاضي الجماعة» و«قاضي الأنكحة» اللذين يعينهما السلطان، كما كان يعين المفتي الأكبر والخطيب، ويلي هؤلاء في المرتبة قاضي المعاملات، وقاضي الأهلة، أما قاضي المحلة فيصحب الجند إلى ميدان القتال.

وضعف سلطان القاضي على الأيام حتى خضع لنفوذ المفتي، فصارا يجلسان معا في المحكمة الشرعية، وتلقب مفتي الحنفية الأكبر «الباشمفتي» أيام الترك بشيخ الإسلام، ولا يزال هذا لقبه إلى الآن. أما مفتي المالكية الأكبر، ولم يكن ذا منصب رسمي رفيع، فقد شرف بهذا اللقب في بعض الأحيان، وكان في كل مدينة من مدن القطر التونسي مجلس مالكي، يقضي في مسائل الشرع المتعلقة بالأحوال الشخصية، من معاملات وزواج وطلاق، ووصية، وولاية وميراث، ويتألف هذا المجلس من قاض ومفت واحد أو أكثر . وفي الديوان بمدينة تونس مجلس حنفي إلى جانب المجلس المالكي، وكلاهما يحكم في القضايا التي يرفعها إليهما المتقاضون أو يحولها إليهما قضاة آخرون.

ونظمت أعمال المحاكم بمرسومي 1856، 1875م، وينظمها الآن مرسوم 15 ديسمبر 1896م الذي ضبط المراسلات، ونص على قيدها في سجل خاص يقوم عليه مسئولون. وصدر في 3 مارس سنة 1926م مرسوم يفرض رسوما على القيد، وبعد ثلاثة أيام صدر آخر، يعفي الأهلين من هذه الرسوم، وأصبح المسجلون يعينون وفقا لمرسوم 28 يناير 1930م. أما «العدول» أو كتاب الشرع، فيكون تعيينهم بمرسوم يصدره الباي، وقد نظم قانون 9 يناير 1875م طريقة اختيارهم وتدريبهم، ويتم تعيينهم بناء على ترشيح القضاة، وكان الطلبة القدماء في الجامع الكبير يعينون عدولا، بمجرد حصولهم على إجازة الجامع، دون تدريب سابق.

ثم وضعت قواعد جديدة بمرسوم 1 يوليو 1929م، الذي أصبح نافذا في 1 يناير 1931م، واشترط في تعيين العدول: ألا تقل أعمارهم عن 24 عاما، وأن يقضوا عامين أو ثلاثة في ممارسة العمل بأحد مكاتبه، وأن يجتازوا امتحانا يتطلب علما بالتشريع التونسي ، وترخص إجازة الجامع الكبير لحاملها التقدم لامتحان الدرجة الأولى للعدول، الذي يمكن من يجتازه من ممارسة العمل بالمدن الكبيرة. أما الذين يجتازون امتحان الدرجة الثانية، فإنهم يمارسون أعمالهم في مدن أقل شأنا. وتعد وزارة العدل دفاتر القيد، وتراجعها، وتفرض عليها تفتيشا جديا منظما.

وتعرف الأعيان الموقوفة في تونس ب «الحبوس»، ويشرف عليها منذ أيام خير الدين جمعية اعترف بها مرسوم صادر في 19 مارس 1924م، وعلى رأس هذه الجمعية مدير ومجلس إدارة، وهي تنقسم إلى إدارات، لها «نواب» يقوم عنهم بالإدارة الفعلية وكلاء آخرون، وقد وضع قانون عام 1908م هذه الجمعية تحت إشراف «مجلس الأوقاف الأعلى» الذي يشرف عليه «صاحب القلم» والمدير العام للداخلية، وكان للجمعية الحق في الإشراف على إدارة الحبوس الخاصة، وقد كان التشريع التونسي بارعا في التخلص من مشكلات الحبوس، فوضع لذلك إجراءات ثلاثة:

أولا:

عقد الإنزال، وهو التنازل عن الحبوس نظير إيجار دائم. وفي عام 1905م أصبح مدين الإنزال قادرا على تسديد دينه، وصارت الأراضي تباع بالمزاد العلني، إلا إذا حفظت حقوق المستغلين لها.

ثانيا:

طريق الاستبدال نوعا، أو نقدا.

ثالثا:

الإيجار لآجال طويلة.

وتشرف الجمعية السابقة على بيت المال، فتبذل العطايا، وتنفق على أعمال البر، وتتولى الحبوس التي ليس لها وريث. •••

أما «رباطات الإخوان» في تونس، فليس من المستطاع إحصاؤها، ويزيد عدد الإخوان على ستين ألفا، وقد ورد في تقرير وضعه المقيم العام سنة 1924م، أن عدد الفقراء أو الإخوان في منطقة الكاف وحدها ثمانية عشر ألفا، ويبلغ عددهم في باجة ثلث عدد السكان جميعا، وفي تيطاوين وما جاورها ثلاثة عشر ألف فقير، وأشهر الطرق الصوفية في تونس أربع: القادرية، والرحمانية، والعيسوية، واليمانية، وإخوان الطريقة العروسية كذلك، كثير عددهم، وهناك طرق أخرى متفرعة كالمدنية والشاذلية والطيبية، إلى جانب الطريقة البوعلية في نفطة، ويقدر الموظفون الإداريون عدد إخوان الطريقة الرحمانية والقادرية في طبرقة وتالة بخمسين في المائة، وأربعين في المائة من مجموع الإخوان، ولكن بعض الطرق غلبت هاتين الطريقتين في مناطق أخرى، وتنتشر الطريقة العلوية التي نشأت حديثا في الجزائر.

والحق أن هذه الطرق لا أثر لها في شئون السياسة، كما أن سلطانها الديني آخذ في الضعف. وتعرف معاهد تحفيظ القرآن الكريم في تونس بالكتاتيب، وفي مقدمة هذه المعاهد، مدارس يشرف عليها أساتذة متخرجون في الجامع الكبير، وتنفق عليها الجمعية تحت إشراف مدير المعارف العمومية، وليست هذه المدارس الآن سوى منازل يسكنها طلبة الجامع، ويندر أن تلقى فيها الدروس، اللهم إلا المدرسة العصفورية التي تخرج «مؤدبين» أو معلمين للكتاتيب.

وقد أصبح الجامع الأكبر في عهد الترك مركزا للعلوم الدينية في تونس، وهو إلى الآن المعهد الديني الوحيد، ويضم حوالي ألفين من الطلاب، يفدون إليه من أنحاء تونس وطرابلس والجزائر ومراكش، ومناهج التعليم الحديثة فيه نظمها قانون صدر في 27 رمضان 1258ه، سمي بالمعلقة؛ لأنه علق على باب الشفاء من أبواب الجامع الكبير.

وهيئة التدريس فيه ثلاثون عالما؛ نصفهم مالكي، والنصف الآخر من الحنفية، وكان كل عالم يلقي فيه درسين في اليوم، ما عدا أيام الخميس والجمعة، والعيدين وشهر رمضان، ويتقاضى العالم قرشين في اليوم إلا إذا تغيب بلا عذر مقبول، ويعين شيخا الإسلام المالكي والحنفي ناظرين للمعهد، يتقاضى كل منهما مائة قرش في الشهر، يعاونهما قاضيين من المذهبين، مرتب كل منهما ثلاثة قروش في اليوم، وكان الشيخان والقاضيان يحضرون جلسات المشرفين على بيت المال، الذي يأخذون منه رواتبهم، فإن وجدوا في بيت المال فائضا، وزعوه بشروط خاصة، على النابهين من الطلاب، ويعين المدرسون بمقتضى مرسوم من الباي، بعد مشورة الشيخين والقاضيين.

ثم صدر أمر عال من سبعة وستين بندا، أيام خير الدين، نظم أمور المعهد في شيء من التفصيل، وتناول العلوم التي تدرس بالمعهد، والكتب التي تشرح، وحقوق الطلبة والمدرسين والمشرفين، وواجباتهم، وكذلك شئون المكتبة.

ثم بدت رغبة في إصلاح هذه النظم، وتعديل الأمر العالي السابق، فصدر أمر آخر في 16 سبتمبر سنة 1912م، من واحد وثمانين بندا، وبعض الملاحق، ويسير المعهد على هديه إلى الآن، وفي هذا القانون آثار من النظم التربوية العتيقة، ووصايا تحث على الاستقامة وحسن الخلق، وتحريم الشك في السنن التي خلفها السلف من العلماء، وتدرس في المعهد علوم تزيد وتختلف عن العلوم التي قرر دراستها في الأزهر عام 1872م، وقد نص على هذه المواد التي تدرس في الجامع الكبير، في البند الأول من الأمر العالي، وهي:

التفسير، الحديث، التوحيد، القراءات، والتجويد، المصطلح، السير، أصول الفقه، الفقه، الفرائض، التصوف، الميقات، النحو والصرف، المعاني والبيان، اللغة والإنشاء والأدب، التاريخ والجغرافيا، الرسم والخط، العروض، المنطق وأدب البحث، الحساب والهندسة، الهيئة، المساحة.

وأدت روح المحافظة الجامدة، وطرق التربية العتيقة المتبعة في الجامع الكبير، إلى الوقوف في سبيل كل تقدم في العلوم الدنيوية، وكل اجتهاد في العلوم الدينية، واقتصر تدريس الجغرافيا والتاريخ على كتابي رقم الحلل لابن الخطيب، ومقدمة ابن خلدون، مع استيعاب خلاصة للتاريخ الإسلامي. أما الهندسة فهي الهندسة الإقليدية، وتدرس في كتاب الطوسي.

ومراحل التعليم ثلاث، ويعقد امتحان للانتقال من مرحلة إلى أخرى، وفيما يلي بيان بالكتب المقررة في الدين واللغة لطلبة المرحلة النهائية، كما نص على ذلك في المادة الرابعة.

التفسير:

أسرار التنزيل للبيضاوي، تفسير الجلالين.

الحديث:

الموطأ مع شرح الزرقاني، صحيح البخاري وتفسير القسطلاني، صحيح مسلم وشرح الأبي، الشفاء للقاضي عياض، وشرح الشهاب الخفاجي.

السير:

المواهب اللدنية للقسطلاني وشرح الزرقاني. السيرة الكلاعية.

التوحيد:

شرح الجرجاني على مواقف عضد الدين الإيجي. شرح التفتازاني على العقائد لعمر النسفي. الكبرى للشيخ السنوسي.

أصول الفقه:

التوضيح لصدر الشريعة عبيد الله المحبوبي. شرح عضد الدين الإيجي على المختصر لابن الحاجب. شرح المحلي على جمع الجوامع لعبد الوهاب السبكي.

الفقه:

تبيين الحقائق لعثمان الزيلعي، «شرح كنز الحقائق لعبد الله النسفي» الدرر «شرح الغرر». شرح سيدي عبد الباقي على المختصر للخليل. شرح سيدي محمد الخرشي على المختصر للخليل.

التصوف:

إحياء علوم الدين للغزالي.

النحو:

مغني اللبيب لابن هشام.

المعاني والبيان:

الجزء الثالث من المفتاح ليوسف السكاكي مع شرح الجرجاني، المطول للتفتازاني.

اللغة والإنشاء والأدب:

المزهر للسيوطي. فقه اللغة للثعالبي، شرح المرزوقي على ديوان الحماسة. المثل السائر لابن الأثير.

ويطلق اسم المدرسين الأوائل على المدرسين الثلاثين الأصليين، ومعهم مدرس التجويد، وهم متأهلون للتدريس في المرحلة العليا. أما في المرحلة الوسطى، فهناك اثنا عشر مدرسا وآخر للتجويد، ويقوم بالتدريس في المرحلة الأولى مدرسون متطوعون، ومتخرجون في الجامع الكبير، ولا يتناولون أجرا (كما نص في المادة التاسعة)، وللمدرسين عطلة شهرين من منتصف يوليو إلى منتصف سبتمبر، وشهر رمضان، وأيام الجمع، وخمسة أيام في كل من عيد الفطر وعيد الأضحى، ويوم عرفات ويومين قبله، ويوم عاشوراء، والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ربيع الأول (المادة التاسعة والعشرون). أما يوم الخميس، فقد نص على أنه يوم عمل (المادة الثامنة والعشرون). وعلى كل طالب أن يحمل معه جدولا يوقع عليه المدرسون مرة كل شهر (المادة الثانية والثلاثون)، ويشهدون بأن حامله يحضر الدروس المقررة عليه (المادة الثالثة والثلاثون)، وعلى المشرفين الذين يعينهم النظار المحافظة على النظام (المادة الأربعون)، ويؤدي النظار واجباتهم بعناية تامة وفق قواعد المعلقة (المادة الرابعة والأربعون وما بعدها)، وقد صدر ملحق في اليوم نفسه من إحدى عشرة مادة، يضع الشروط الخاصة بالامتحان النهائي الذي يخول الطالب حق إجازة التطويع، ويبيح النجاح التحريري في الفقه الانتقال إلى مرحلة أعلى (المادة السادسة)، وللطالب الحق عند الامتحان الشفوي أن يستعد له ست ساعات، يستجمع فيها ما حصله من علم، مستعينا في ذلك بالمكتبة.

ويتأهل الطالب لنوع خاص من التطويع إذا نجح في قراءة القرآن الكريم وتسميعه.

وعين عام 1928م خمسون «معاونا على التدريس»، بامتحان مسابقة عقد بين المتطوعين، وهم يتقاضون مرتبا ثابتا قدره خمسمائة فرنك في الشهر، وفي أول يناير 1931م كانت المخصصات السنوية للمدرسين، في المرحلة الثانية، 13 ألف فرنك، وفي المرحلة الأولى ستة عشر ألفا.

وتضمنت الميزانية التونسية اعتماد إعانة مالية للجامع الكبير، كان مقدارها في السنة الأولى خمسين ألف فرنك، وارتفعت عام 1927م إلى مائتين وخمسين ألفا من الفرنكات، ثم وصلت إلى سبعمائة وسبعين ألفا عام 1930م.

وقد أدى التعديل الجديد لنظام العدول إلى معارضة الطلبة الذين لا يستطيعون الالتحاق بهذه الوظائف، والذين لا تسمح لهم دراستهم في الجامع بالنجاح في امتحان العدول، ومن هنا نشأ التفكير في إصلاح التعليم الديني، أو على الأقل إدخال الدراسة القانونية العصرية في مناهج الجامع، فشكلت الحكومة في ديسمبر عام 1929م لجنة تبحث وسائل الإصلاح، فحاولت جهد طاقتها أن تضع لهذا الإصلاح منهجا خاصا. •••

أما عن التعليم الحديث، فتقوم المدرسة الصادقية بتعليم اللغة الفرنسية والعربية إعدادا للوظائف الإدارية، وكانت تضم 417 طالبا في العام الدراسي 1928-1929م.

ويزداد إقبال الشباب المسلمين على المدارس الفرنسية، وهي مدارس ابتدائية تعلم العربية والفرنسية، ومدارس خاصة بتعليم البنات المسلمات، ثم مدارس ثانوية تفتح أبوابها للجميع. وفي آخر عام 1928م كان عدد الطلبة المسلمين في مدارس تونس الفرنسية 25876 طالبا و2930 طالبة، عدا سبعة وستين ولدا و617 فتاة في مدارس خاصة، وكان عدد تلاميذ الليسيه كارنو ألفين بينهم 359 تلميذا مسلما، وفي الليسيه الخاصة بالبنات 1200 فتاة، منهن ثمان وعشرون مسلمة، وكان كذلك 461 تلميذا مسلما يطلبون العلم في ثلاثة معاهد أخرى.

وهناك معهد عال في مدينة تونس، يعلم اللغة والأدب العربي، ويمنح الطلبة الأجانب إجازة في اللغة العربية الدارجة، وأخرى في اللغة العربية الفصحى، ودبلوما عاليا في اللغة العربية للطلبة المسلمين وغيرهم .

وقد نظمت الجمعية الخلدونية الإسلامية تحت إشراف المقيم العام، دراسات عربية في جميع العلوم، يستمع إليها حوالي مائتين من الشبان.

كما أعدت إدارة العدلية في تونس دراسات قانونية باللغة العربية تؤهل الوطنيين للاشتغال بالأعمال المتصلة بالقضاء.

اللغة

اختفت اللهجات البربرية من تونس أو كادت، حتى إننا لا نصادف من يتكلم البربرية فيها إلا في سند بمنطقة قفصة، وتمزرد بين قبائل مطماطة، وفي جزيرة جربة؛ حيث تتحدث النساء خاصة بألفاظ بربرية قديمة.

وقد تم استعراب اللغة في تونس، وإن يكن ذلك على مراحل، لا نعرف تفاصيلها على وجه التدقيق، والظاهر أن هذا الاستعراب قد حدث بأسرع مما نتصور وبخاصة في مدن الساحل، وقبل أن يشن بنو هلال وسليم غاراتهم على تونس، انتشرت لغة الحواضر بين الفلاحين، فغيروا فيها، ونشأت بذلك لهجات ريفية، وتختلف لغة البدو في حروفها وقواعدها عن عربية الحضر، وكذلك عن لغة المدن الساحلية.

ويلاحظ أن اللغة الغالبة على تونس، كانت أكثر لغات بلاد المغرب محافظة على عروبتها، وإن استعارت بعض المفردات التركية والإيطالية، وهي الآن تكثر من استعارة الألفاظ الفرنسية، أما عربية اليهود، فتأثرها بالفرنسية أشد، وقد تنقرض لغتهم هذه قبل أن يتمكن العلماء من دراستها.

ولنتحدث الآن عن الصحافة الوطنية في تونس ...

ظل إصدار الصحف محرما بها أمدا طويلا، بل إن الطباعة وتجارة الكتب كانت مقيدة وخاضعة للرقابة الإدارية التي نظمت عام 1870م بالمرسوم الصادر لتنظيم الدراسة بالجامع الكبير.

وأخذت جريدة «الرائد الرسمي التونسي» منذ عام 1859م تنشر بعض الأخبار الإدارية، وقد تنشر بعض المواد الأخرى، ثم صدر في 14 أكتوبر 1884م مرسوم أعقبه مرسوم آخر في 16 أغسطس (1887م)، يرخصان بإصدار الصحف الفرنسية والإيطالية والعربية، وظهرت بعد ذلك بعام صحيفتان يوميتان عربيتان هما: «الحاضرة» لأبي شوشة و«الزهرة» للشاذلي، ولا تزال الصحيفة الأخيرة تصدر إلى الآن، وتعد من صحف المحافظين، وإن كانت في أول أمرها تدعو إلى التجديد، وبجانب هاتين الصحيفتين تصدر صحيفة «النهضة» كل يوم ما عدا يوم الاثنين، وأغلب الصحف العربية التونسية الآن أسبوعي: «الزمان» و«لسان الشعب» و«الصواب » و«النديم» و«الزهو»، أما صحيفة «الوزير» فهي شهرية، وكذلك صحيفة «المنير» التي تصدر في غير نظام.

وقد ظهرت أخيرا مجلة شهرية مصورة، تعنى بالتاريخ والأدب واسمها «العالم الأدبي»، غير أن أوسع المجلات الأدبية انتشارا في تونس هي المجلات التي ترد إليها من القطر المصري.

وصدر تقويم يسمى «الرزنامة التونسية» من 1899-1921م، ثم حلت محله نشرة سنوية إدارية تسمى «التقويم التونسي».

وجدير بنا أن نلاحظ تلك الجهود الضائعة في سبيل إنشاء صحافة عربية محلية، كالذي بذل في إنشاء صحيفة «العصر الجديد» في سفاقس، و«القيروان» في مدينة القيروان، بينما نجحت مجلة فرنسية أسبوعية صغيرة، يصدرها بعض المسلمين في سفاقس واسمها «تونس الجديدة» لزهير العياضي، كما انتشرت مجلات أخرى منها «التونسي» لباش حانبا، و«صوت التونسي» للشاذلي خير الله، وقد حلت محل صحيفة «العلم التونسي » التي أخذت بدورها مكان صحيفة «الحر»، ثم أصدر عبد العزيز لروي في أغسطس 1930م مجلة «الهلال»، وفي هذه الصحف التي تصدر كلها بالفرنسية نزعة وطنية إسلامية.

وقد كان لليهود أدب وصحافة باللغة العربية اليهودية، تكتب بحروف عبرية، ولكن هذه اللهجة اندثرت وقضت عليها اللغة الفرنسية، فلم يعد يصدر بها إلا مجلة صغيرة اسمها «الصباح».

ولليهود الآن صحف أسبوعية ثلاث تصدر بالفرنسية «المساواة» وهي محافظة، ثم «العدل» وهي معتدلة، والأخيرة تسمى «الصحيفة اليهودية» وهي أروجها تدعو إلى الصهيونيو، أسسها فلكس ألوش عام 1924م في سفاقس، ثم نقل إدارتها أخيرا إلى مدينة تونس.

مدينة «تونس»

ويقال «تونس»: حاضرة سلطنة تونس، على خط عرض 39

47

36 °

شمالا، وخط طول 10

10 °

شرقي جرينتش، وتونس في الوقت الحاضر مدينتان متصلتان، تختلف الحياة في إحداهما عنها في الأخرى اختلافا عظيما، فالأولى مدينة يسكنها أهل البلاد، وليسوا جميعا من المسلمين، وهي أثر من آثار القرون الخوالي بقي على حاله أو كاد، أما الأخرى فمدينة أوروبية حديثة النشأة مظهرها جديد كل الجدة، لا تزال تنمو وتتسع باطراد، القديمة على مسيرة ثلاثة أرباع الميل تقريبا من طرف البركة المسماة ببحيرة تونس، ترتفع شيئا فشيئا من الشرق إلى الغرب حتى تشرف على مغيض من ماء ملح كاد يجف، يعرف ب «سبخة السيجومي»، وعلى هذا الجانب خارج أرباض تونس ذروة «المنوبية»، وفيها مشارف مترامية، وإلى الجنوب الشرقي من المدينة وفي كنفها هضبة سيدي أبي الحسن وجبل الجلود، وعلى مسافة أخرى تلال «بيركسة»، وإلى الشمال هضبتا بلفادير و«رأس الطابية»، ووراءهما جبل أحمر وجبل نهيل، ولا تحول هذه المعارج بين تونس وبين سهولة الاتصال بسهل مرناق ووادي نهر مليان من ناحية، وبسهل منوبة ووادي مجردة من ناحية أخرى، كما يصلها ساحل البحيرة الشمالي بحلق الوادي وقرطاجنة، وحصونها الطبيعية جيدة ولكنها غير منيعة، فكثيرا ما احتلت تونس بلا كبير عناء، وصهاريجها تغني الناس عن جلب ماء الشرب من بعيد، وموقع تونس حسن جدا من الوجهة الاقتصادية، فهي على المخارج من أواسط سلطنة تونس، وفي موضع جد خصيب، قريبة من البحر والسواحل الأوروبية.

مدينة تونس ومسجدها الجامع.

ولسنا في حاجة إلى أن نقف عند قول كتاب العرب بأن كلمة تونس عربية الأصل، وهم يزعمون أنها مدينة ترشيش التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس، ولم نهتد بعد إلى اشتقاق معقول للاسم، وقد قيل إن اسم تونس الذي يطلق على المدينة نفسها يرجع إلى العهود البونية، إن لم يكن قبل ذلك، وروى ديودورس وبوليبيوس أن تينس بلدة كبيرة شيدت وراء حصون، ولا شك أنها قامت في معظمها حول «القصبة» الحالية على مسافة من البحيرة، وكانت صالحة للملاحة وقتذاك، وقد حاصرها الليبيون وفتحوها، وهم الذين ثاروا في مستهل القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ثم فتحها أجاثو قليس رجولوس، وكانت معسكر الجند المرتزقة الثوار، ثم سقطت في يد سقبيو الإفريقي، ولعل سقبيو الأملياني هو الذي دمرها.

ويجب ألا نخلط بين تينس التي غدت تونس فيما بعد، وبين مدينة أخرى بالاسم نفسه على رأس أدار «بون» تعرف بالبيضاء.

ولم يكن لمدينة تونس في عهود الرومان والوندال والبوزنطيين شأن كبير، وقد وصلها بقرطاجنة طريق روماني، ولم يكن يذكر بوجودها سوى إشارات متفرقة في مصنفات الجغرافيين أو رجال الدين، ولعلها أسطورة من الأساطير أو لعلها حقيقة من حقائق التاريخ قصة حياة القديسة زيتونة التي عاشت أيام الوندال، والتي يقال إن الجامع الكبير وهو جامع الزيتونة سمي باسمها، وإن الملك مارتين صاحب أرغون طالب بجثمانها عام 1402م.

وكان الفتح الإسلامي، فخرجت مدينة تونس من الظلمات إلى النور فجأة، وسجلت اسمها في صفحات التاريخ بوصفها المدينة الإسلامية التي ورثت بعض مفاخر قرطاجنة، ثم سرعان ما أخذت تنافس مدينة القيروان؛ فما استولى حسان بن النعمان عام 698م على قرطاجنة العاصمة القديمة ودمرها، حتى بادر إلى البليدة القائمة عند نهاية البحيرة، وأخذ يحولها إلى قاعدة بحرية تقلع منها الأساطيل في سفرات نائية، ويحتمي فيها من مباغتة الروم، وشيد في تونس «دار الصناعة»، وقيل إنه جلب من مصر ألف أسرة قبطية تزود هذه الدار بمهرة الصناع، ولسنا نعرف عن المدينة نفسها في هذه الفترة شيئا محققا، وكل الذي نستطيع أن نتبينه ظنون يشوبها الإبهام عن أصل مختلف الشعوب التي نزحت إليها، فالذي لا شك فيه أنه نزلها أولا تجار وعمال نصارى، ثم أخذ سكانها يتضاعفون بمن أسلم من أهلها، ومن انضم إليهم من الجند العرب، وكانوا غلاظا مشاغبين ذوي طمع، والمسجد الجامع هو أول بناء إسلامي بحق شيد للعبادة، وقد ظل قبلة أهل المدينة قرونا، وفي رواية أن الذي شيده هو ابن الحبحاب عامل بني أمية، وهو الذي جدد كذلك دار الصناعة، ولكنا لا نعرف من الذي شيد الأسوار.

مدخل مسجد الزيتونة بمدينة تونس.

وصفوة القول أن تونس لم تكن كالقيروان في انتظام نشأتها، فقد نمت فجأة، وتبدلت حياتها السياسية والدينية والاجتماعية تبدلا عظيم الخطر، وتهيأت لشأنها الجديد الذي أملته الظروف وإرادة فاتحها البعيد النظر، ولعل ذلك لم يكن طفرة - كما يتبادر لأول وهلة - بل تم على مراحل.

وأخذت مدينة تونس تتوسع في تجارتها إبان القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، ولكنها كانت مع ذلك مشهورة بصفة خاصة بتدريس الفقه وعلوم الدين، فكان فيها - قبل أن يرتفع صيت القيروان - علماء مبرزون، ساهموا بدروسهم في نشر الإسلام بين ربوع البلاد، منهم: المحدثان علي بن زياد، وعباس بن الوليد الفارسي، وقد صنف أبو العرب التميمي في مستهل العهد الفاطمي رسالة نافعة في طبقات هؤلاء العلماء التونسيين الأول، وقد أضيفت إلى المسجد الجامع بنايات دعت الضرورة إليها، كما زين بوسائل شتى، وقد أدخل على هذا المسجد تعديلات هامة لا شك أنها من عمل أحمد الأغلبي البناء العظيم، ومهما يكن من شيء فقد كان من اليسير جلب الحجر والمرمر إلى تونس لتشييد المباني دينية أو غير دينية؛ ذلك أن قرطاجنة كانت قريبة، فما أيسر أن تنهب خرائبها، وتهيئ الكثير من المواد البناء والعمد وتيجانها.

أما من الناحية السياسية، فيظهر أن تونس كانت مجمع المعارضة ومركز مناهضة السلطان المنبعث من القيروان، وكان الجند من بني تميم الذين تضمهم أسوارها مبعث القلاقل والفتن، واشتركت تونس في جميع الفتن التي أخمدها عمال الأمويين والعباسيين ثم أمراء الأغالبة، واشتركت في الثورة الكبيرة التي حمل لواءها منصور الطنبذي، ففتحها زيادة الله الأول عنوة وضرب أسوارها عام 218ه الموافق 833م، وأنزل بها إبراهيم الثاني جام غضبه بعد فتنة من هذه الفتن، ورأى أن يضبط أمورها بنقل بلاطه وقصبة حكومته إليها عام 281ه الموافق 894م، وشيد لهذا الغرض عددا من المباني منها «القصبة» ولكنه قفل راجعا إلى رقادة بعد عامين اثنين، وقتل ابنه عبد الله الثاني عام 290ه الموافق 903م في قصر بناه لنفسه وشيكا، وصلب قاتلاه؛ الأول على باب الجزيرة، والثاني على باب القيروان، ولم تكن الأسباب قد تهيأت بعد لكي تصبح تونس قصبة إفريقية.

وتعمد الفاطميون وخلفاؤهم من صنهاجة إهمال مدينة تونس، وكانت قصبتهم في القيروان أو في المهدية التي أنشئوها، وظل أهلها متمسكين بأهداب السنة، ومما له دلالته الكبيرة أن أعظم أولياء تونس قد عاش في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي؛ أي في الوقت الذي اقتتل فيه أولو الأمر من الشيعة والثوار من الخوارج أعنف قتال في سبيل الغلبة على إفريقية؛ هذا الوالي هو سيدي محرز الذي سأل ابن أبي زيد تأليف رسالته الشهيرة وتلقاها، وهي الخلاصة المعتمدة للمذهب المالكي في شمال إفريقية، وكان هو الذي أنزل السكينة على قلوب أهل المدينة بعد أن مرت بها تلك الفترة الوجيزة المشئومة التي احتل فيها أبو يزيد المدينة عام 332ه الموافق 944م، وحثهم على إقامة سور مكين حولها، وشجعهم على تنظيم أسباب الاتجار فيما بينهم، ولعل الفضل يعود إليه في بناء فندق «الحرائرية» القديم، وهو قبالة زاويته تقريبا، وعلى مسافة قصيرة من باب كبير من أبواب المدينة، وربما صح هذا على «السويقة» التي سمي الباب باسمها فقيل «باب السويقة»، وثمة رواية متواترة تذهب إلى أن سيدي محرز أنشأ أيضا «حارة اليهود» وهي على مسافة من زاويته من اتجاه المسجد الجامع، وجلي أنه قصد بهذا العمل إلى أن يستبقي من ذلك الحي قوما يحذقون التجارة خاصة، وهي من أسباب ازدهار المدينة .

وقد شهد ابن حوقل في القرن العاشر الميلادي بما كانت عليه مدينة تونس من ازدهار، فأطنب في الإشادة بوفرة غلاتها، وحسن موقعها، وثراء أهلها، وخص بالذكر فخارها وري البساتين التي حولها بطواحين الماء، وزاد البكري تفاصيل أخرى من القرن التالي؛ فذكر الأسوار، والخندق، والأبواب الخمسة، وهي باب الجزيرة في الجنوب، وباب البحر الذي يفتح على الفرضة، وباب قرطاجنة في الشرق، وباب السقائين، وجلي أنه كباب السويقة في الشمال، وباب أرطة في الغرب، وكان مدخل الفرضة يغلق بسلسلة، يحميها من الشمال سور ومن الجنوب حصن من الحجر يعرف ب «قصر السلسلة»، وقد أعجب البكري بأسواقها العامرة، وحماماتها، وبالمسجد الجامع، وكان درج مدخله - كما هو الآن - اثنتي عشرة درجة، وأشاد بكثرة زادها من الفاكهة والسمك، ولم يفته أن يذكر فخارها، ثم انتقل إلى موضوع آخر فتحدث عن إقبال أهل تونس على علوم الفقه.

والظاهر أن تونس كانت في أمن ورخاء، حتى وقعت الواقعة المشئومة في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، فقلبت الحالة الاقتصادية والسياسية بأسرها رأسا على عقب، ونعني بهذه الواقعة غزوة العرب الهلالية.

وغلب الفاتحون الجدد الزيرية الضعفاء على أمرهم، فاعتكفوا في المهدية، ووقعت تونس زمانا في يد عابد بن أبي الغيث أمير بني رياح عام 446ه الموافق 1054م، ثم طلبت الأمن فدخلت في طاعة الناصر الحمادي صاحب القلعة، فأرسل إليها عامله عبد الحق بن خراسان الصنهاجي عام 451ه الموافق 1059م، وسرعان ما جاهر هذا العامل باستقلاله، فتأسست بذلك أول دولة تونسية، ومكنت هذه الدولة لنفسها قرنا من الزمان، إلا عشرين عاما حتى غزاها الموحدون بعد ذلك بقرن على التحقيق.

وجار عليها أول الأمر الرياحية من بني علي، وكانوا قد وطدوا أقدامهم في المعلقة من أعمال قرطاجنة، فصالحتهم تونس لتأمن غاراتهم، ووعدوا بألا يتعرضوا للناحية أو لأحد من أهلها نظير جزية سنوية، بل إنهم سرعان ما حضروا أسواق تونس للبيع والشراء جميعا، وسلمت المدينة من سعايات زيزية المهدية، ونورمان صقلية، وعكر صفوها في الوقت نفسه شبوب الفتن والأحزاب المتنافسة، وشغب الصف واقتتالهم، والتنابذ بين الأحياء المختلفة، ومع ذلك فقد بدأت تجارتها في البحر تنفق في هذا العهد المضطرب، فانتظمت تجارتها مع إيطاليا ونمت، وازدادت العلاقات التجارية مع النصارى، فأدى ذلك إلى رخاء لم يكن في الحسبان، وقد كان لبني خراسان أنفسهم نصيب كبير في ترقية مدينة تونس وازدهارها، فحصنها أحمد، وهو أعظم أمرائهم، في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وبنى الأسوار التي ذكرها الإدريسي، كما أنه هو الذي شيد «القصر»، وربما كان المسجد المعروف الآن بجامع القصر متصلا به في أول الأمر، وفي هذا الحي بالقرب من شارع بنو كريسان، والظاهر أنه تحريف خراسان، لا تزال مقبرة بني خراسان قائمة إلى الآن، ولعلها كانت متصلة في الأصل بمقبرة السلسلة، والباب الكبير للمسجد الجامع من أيام هذه الدولة. وتحددت هيئة تونس الآن عندما قامت ضاحيتاها الكبيرتان - باب سويقة وباب الجزيرة - وهما يمتدان شمالي المدينة القديمة وجنوبيها، وأخذ شأنها يعظم حتى أصبحت قصبة إفريقية، وقد ظل هذا حالها من أيام عبد المؤمن عام 554ه الموافق 1159م إلى وقتنا هذا، فاندمج تاريخها السياسي في تاريخ سلطنة تونس.

وقد أفزعت الناس غارات ابن عبد الكريم الرغراغي الفاشلة عام 595ه الموافق 1199م، كما شق عليهم حكم آخر المرابطين يحيى بن غانية عام 1203-1204م، فكان من نصيب الحفصيين أن يعيدوا إلى تونس أمنها وسلامتها ، وأن يزيدوا في منشآتها، وأن يجعلوا منها قصبة جديرة باسمها، وقد شيد أبو محمد بن أبي حفص - وكان لا يزال يحكم البلاد من قبل خليفة مراكش في حي باب السويقة (في شارع الحلفاويين) - مسجدا جامعا يعرف باسمه إلى الآن، وإن كان هذا الاسم قد حرف بطبيعة الحال حتى أصبح «باي محمد»، وكان أبو زكريا أول أمراء هذه الدولة المستقلين، وتدل منشآته على أن المدينة بدأت تدخل في عهد جديد، فقد شيد عام 1230م خارج المدينة ناحية الجنوب الغربي مصلاه الحصين المعروف ب «جامع السلطان»، وهو الذي أشار إليه ابن بطوطة في القرن التالي، ثم شرع في تعمير القصبة، وأقام في طرفها مسجدا خاصا به هو مسجد الموحدين أو القصبة، ومئذنته على النمط الموحدي الخالص، وأنشأ خزانة كتب بددها ابن اللحياني أحد خلفائه، واقتفى أثر المشارقة ففتح في تونس مدرسة الشماعية بالقرب من سوق الشماعين القديم، وهو الآن سوق البلغجية، وقد رممت فيما بعد، وكانت أول مدرسة فتحت في شمالي إفريقية، وأبو زكريا هذا هو الذي أجار بنات يحيى بن غانية الثلاث في القصر الذي عرف منذ ذلك ب «قصر البنات»، ثم إنه هو الذي نظم الأسواق حول المسجد الجامع مباشرة، وفتح سوق العطارين، وربما كان هو الذي أنشأ كذلك سوق القماش.

وجاء بعده ابنه الخليفة المستنصر بالله، فلم يقتف أثر أبيه في العناية بشئون التجارة والدين، بل كان رجلا تياها يميل إلى الأبهة والبذخ، فبنى قاعة لمحافله تعرف ب «قبة أساراك» عام 1253م في قصر القصبة، وغرس حدائق للهوه في الربض المجاور له عند رأس الطابية على الطريق إلى باردو عند أبي فهر، ووصل القاعة بالبساتين طريق محجوب تسير فيه النساء فلا يراهن أحد، وفي عام 665ه الموافق 1267م أتم الخليفة تعمير جسور قرطاجنة المعلقة القديمة المعروفة بالحنايا، فأشاد ابن حازم بهذا الصنيع في شعره، وجلب الماء إلى بركة أبي فهر الكبيرة، ومنها إلى المسجد الجامع.

وبنت أمه عطف، وكانت أرملة فاضلة لزوج تقي، مدرسة أخرى هي المدرسة التوفيقية الملحقة بجامع التوفيق أو جامع الهوى، الذي يرجع تاريخه إلى هذا العهد، وقد بنى الحفصيون في القرن الأول من حكمهم مسجدين آخرين هما: جامع الزيتونة البراني (عام 1283م) خارج باب البحر، وقد شيد بأمر أبي الفضل ليحل محل الفندق الذي كانت تباع الخمر فيه، وجامع الحلق في الحي نفسه عند المصلى، وبنى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق مدرسة ثالثة هي مدرسة المعرض في سوق الكتبيين - وقد بنيت أيضا لتحل محل فندق يؤمه شاربو الخمر - ولكنها زالت من الوجود وأصبحت أثرا بعد عين، ثم عمرت الأسوار أو بعضها على الأقل، ومنها الباب الجديد، وباب المنارة وربما بني معها باب البنات وليس له الآن وجود.

وأصبحت تونس عام 1300م قريبة الشبه جدا بتونس الحالية، فقد امتدت المدينة من الشمال إلى الجنوب، وكانت تنحصر بين القصبة من ناحية الغرب - وهي قصر الأمير الحصين الذي يشرف على المدينة وعلى سهل المنوبة - وبين باب البحر من ناحية الشرق عند أسفل السهل، وهذا الباب يفتح على دار الصناعة ومنها إلى البحيرة، وفي منتصف هذا المرقى وفي سرة المدينة بالضبط المسجد الكبير، وتفتح أبوابه على الأسواق الجديدة المحيطة به، وقد عرف الباب الشمالي بباب البهور، ونحن نتساءل أكان اسم الباب الغربي باب الشفاء؟ وكانت كل سوق تغلق أبوابها إذا جاء الليل، ولا يزال هذا شأنها إلى اليوم، وباب الربع القريب من السوق الذي يعرف بهذا الاسم هو المخرج الجنوبي لهذا الحي كما هي الحال الآن. وقد تجمعت دكاكين بعض أرباب الحرف اليدوية حول المدينة خارج هذه الأبواب، فالصباغون داخل باب الجزيرة، والحدادون عند الباب الجديد، والسروجية عند باب المنارة، وكانت تجاور باب البحر بطبيعة الحال عدة فنادق يتوزعها تجار النصارى، فلما ضاقت بهم هذه البقعة بادروا إلى بناء حي صغير أو ربض خاص بهم خارج الباب، وهو الصورة الأولى للحي الأوروبي، وكانت الدور تبنى متلاصقة، لا فسحة بينها ولا رحبة للأسواق والمحافل، ولم تكن بطحاء ابن مردوم سوى مفرق طريق.

أما الأحياء الخارجية، فهي أحدث عهدا وأقل زحاما، فيها رحبات واسعة يبيع الناس فيها ويشترون، ويحمي كل حي من هذه الأحياء سور خارجي ينتهي عند القصبة، أما أبواب الصف الأول من هذه الحصون فهي في الحي الجنوبي: باب خالد (ولا شك أنه كان في الأصل باب المنصور) في الغرب، وباب الجرجاني في الجنوب، وباب الفلاق وباب علاوة

1

في الجنوب الشرقي، وفي الحي الشمالي: باب الخضراء في الشمال الشرقي، وباب [أبي] سعدون في الشمال الغربي، وباب الأقواس في الغرب، ولعله عين باب العلوج، وقد ورد ذكره لأول مرة بعد هذا العهد، وإذا أردنا أن نعين مكان ربض العلوج فلا مناص من أن نضعه بجوار الباب الأخير، والعلوج مرتزقة نصارى يدفع لهم سلاطين تونس أعطياتهم.

أما القصبة نفسها، فإن أحد بابيها يفتح على الريف، وهو باب الغدر، والآخر على المدينة وهو باب إنتجمي.

وبين باب علاوة وباب الخضراء مجموع من الخنادق تجري فيها الميازيب، فتصب شرقا في البحيرة، والمقابر حول المدينة، وقد لحقت على الأيام بأرباضها، فلما اتسعت هذه الأرباض خرجت عنها، وإلى الجنوب الغربي الزلاج الرحب، ويكاد يكون قائما بنفسه، وهو يخلد ذكر أبي الحسن الشاذلي المتصوف «سيدي بالحسن»، صاحب الطريقة الشاذلية، وقد عاش هناك في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، وتلاصق باب الجرجاني بجوار مقبرة الهنتاتية أضرحة كثير من «الأولياء».

وقد اعتزت تونس بالمرابطين الذين لا ينكر سلطانهم السياسي أحد، مثل أبي محمد المرجاني مؤدب أبي عصيدة الذي أصبح خليفة فيما بعد، ولها أن تفاخر أكثر من ذلك بمن أخرجتهم من الفقهاء والأدباء والعلماء الذين ازداد عددهم على الأيام، وقد ازدهرت بها علوم الدين كما قال العبدري عام 1289م، وممن برزوا فيها القاضي ابن زيتون عند نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.

وكانت للمسلمين المهاجرين من الأندلس مشاركة قيمة في النهوض بدراسة الأدب وفقه المالكية، منهم ابن الأبار، وقاضي القضاة ابن الغماز، وقد وفدا من بلنسية، وبنو عصفور من إشبيلية، وكذلك بنو خلدون أجداد ابن خلدون مؤرخ شمالي إفريقية الأشهر.

كان القرن الرابع عشر موضع إعجاب الرحالة خالد البلوي فهو العصر الذهبي للفقهاء والمفسرين، ومنهم ابن عبد الرفيع، وابن عبد السلام، وعيسى الغبريني، والقاضي ابن راشد القفصي، والمفتي ابن هارون، ثم ابن عرفة الإمام الجليل. أما في ميدان السياسة فإنا لم نأنس في الحكام إلا ضعفا، وفي المحكومين إلا اضطرابا وخوفا، فليس أيسر من أن يهدد الأعراب المدينة، كما احتلها المرينيون مرتين، وكان نموها ناحية الغرب وناحية الجنوب الغربي بالغ القوة في القرن السابق، ثم أعقبه شيء من الخمول، ومع ذلك فنحن نذكر أن مدرستين قد أنشئتا في هذا العهد، ابتنت الأولى أخت الخليفة أبي يحيى، وتعرف بالمدرسة العنقية (في شارع عنق الجمل)، وبنى الأخرى ابن تافراكين الحاجب (في شارع سيدي إبراهيم)، وقد أصبحت الآن أطلالا، ومن سمات هذا العصر أن المهندسين قد عنوا أولا وقبل كل شيء بما تتطلبه ضرورات الحرب، فقد عمر أبو الحسن المريني - بعد هزيمته في القيروان عام 1348م - أسوار مدينة تونس، واحتفر حولها خندقا، ودعم ابن تافراكين الأسوار الخارجية، وأنشأ أحباسا عظيمة لحمايتها.

وكان القرن الخامس عشر، فاستقرت أمورها السياسية، ونشطت لذلك حركة المباني نشاطا ملحوظا، بيد أنها لم تكن واسعة النطاق، ولم يشيد أبو فارس وحفيده أبو عمر عثمان في حكمهما الطويل إلا خزانتي كتب ومدارس قليلة، وانصرف جل اهتمامهما إلى أعمال البر، فابتنيا أول مارستان إسلامي في تونس، وعدة زوايا في الأرباض يلتجئ إليها الناس في النهار والليل جميعا، كما اهتما بما يتصل بالماء مدفوعين إلى ذلك بعامل الدين أيضا، فأنشآ صهريجا كبيرا في المصلى، وميضأة في سوق العطارين، وسقايات ومصاصة، (وهي سبيل يمص فيه الإنسان الماء من صنبور)، وأخذ المرابطون وأصحاب الطرق يسيطرون على الدين يوما بعد يوم. وأبرز رجال هذا العصر سيدي أحمد بن عروس صاحب الطريقة العروسية، وسيدي قاسم الجليزي، وسيدي منصور بن جردان.

والظاهر أن التجارة كانت آخذة بأسباب الرقي وقتذاك، وقد حافظت تونس على اتصالها بأوروبا، وكانت بها أسواق للزيت والخضر وفحم الحجر وسوق للصفارين (النحاسين)، وسوق للعزافين (صانعي السلال)، وقد قدر عدد المنازل رسميا عام 1361م بسبعة آلاف منزل، كما قال ابن الشماع، ثم زاد عام 1516م إلى عشرة آلاف منزل كما قال الحسن بن محمد الوزان الزياتي، وأورد الرحالة فان غستيله معلومات قيمة عن حياة النصارى في تونس عام 1485م، أما أولو الأمر فقد انتهجوا سنة أسلافهم وعملوا على الإقامة خارج المدينة، وأغلب ما يكون ذلك في ضيعتهم باردو، وسرعان ما أصبحت مجموعة كبيرة من المباني، وينسب إلى أبي عبد الله الحفصي قصر العبدلية عند المرسى، وكذلك خزانة الكتب المعروفة بالاسم نفسه والملحقة بالمسجد الجامع.

وكان القرن السادس عشر قرنا يسوده الاضطراب، فأصبحت المدينة المنكودة الطالع غرضا من أهم أغراض الترك والإسبان في حروبهم الطويلة، وقد نهبتها جنود خير الدين عام 1534م، ثم سلبها جيش شارل الخامس المظفر في العام الذي يليه، وفر أهلها في جمع واحد أمام النصارى من باب الفلاق، وقد غير اسمه تبعا لذلك فأصبح باب الفلة (أي باب الهزيمة)، وجلي أن الأحوال التي عمر فيها الحفصيون ما تخرب وصانوه لم تكن جد مواتية لنمو المدينة، فقد صرف الأمراء كل اهتمامهم إلى الحصون التي زيدت عليها حصون حلق الوادي، ويظهر أنها لم تتم حتى خريف عام 1573م، عندما طرد دون جون النمساوي من تونس القائد رمضان، الذي ظل عاملا عليها أربع سنين من قبل علي باشا، وقد حصنت القصبة تحصينا قويا، وقام في مكان دار الصناعة على ساحل البحيرة، حصن على هيئة النجم، يصله بأسوار المدينة متراسان، بيد أن هذا الجهد ذهب أدراج الرياح، وعاث الجند الإسبان في المدينة فسادا، فهجرها الأهلون واستولى الترك في سبتمبر عام 1574م على هذا الحصن وهدموه، وأقام سنان باشا في تونس حكما موطد الأركان، فأخذت العمارة في الازدهار بعد ذلك بأمد وجيز.

وزاد خروج الناس من الأندلس واستمر قرونا، واتسع مداه فجأة عندما رحب الداي عثمان بعرب الأندلس الذين طردهم فيليب الثالث، فأقام أهل الحضر منهم في تونس وسكنوا حيين اثنين هما: شارع الأندلس جنوب غربي «المدينة»، وحومة الأندلس بالقرب من موضع الحلفاويين، وهم الذين أدخلوا صناعة الشاشية «القلانس الخمر»، وكان لتونس في القرن السابع شأن خاص بفضل اجتماع الأندلسيين المسلمين بالترك الحنفية المشارقة، وقوة المرتدين الفرنجة والقرصان.

وكان الداي يوسف الأول أول من اشتهر بإقامة المنشآت العامة، كإنشاء حي تجاري حول باب البنات، وتعمير سوق الغزل المجاور لهذا الحي، وبناء سوق لتجار جربة، وإصلاح عدة أسواق أخرى، وتوسيع أسواق الحفصيين ناحية الشمال، وهي: سوق البشامقية (وهم صناع السراويل التركية، شارع سيدي ابن زياد) وسوق البركة لبيع العبيد السودان، وسوق الترك للخياطين الترك، وإنشاء قهوة، ومد مجاري المياه إلى بقاع مختلفة في المدينة، كالمسجد الجامع فيما يلي سوق الترك، وشيد صفيه علي ثابت (عام 1620م ) الميضأة البديعة التي تزين الآن «البلفدير»، وعمر علي كذلك المسجد الجديد في ربض باب الجزيرة، وربما كانت إعادة بناء المسجد الشرقي المعروف بباب الجنائز قد حدثت في ذلك العهد، وابتنى يوسف (عام 1622م) في شارع سيدي ابن زياد مدرسة ومسجدا للحنفية، مئذنته مثمنة الشكل، وإلى جانبه ضريحه، وأخذ سلطان الدايات يتضاءل بعده، فلم يقوموا بعمل عظيم. وقنع أحمد خوجة بتعمير المدرسة الشماعية والمدرسة العنقية، وشيد محمد لاز عام 1649م مئذنة القصر العجيبة، فلما توفي عام 1653م شيدت له ولأهل بيته «تربة» في ميدان القصبة.

شارع الأندلس بمدينة تونس.

وقد شيد البايات المرادية كثيرا من العمائر، وبنى حمودة مسجد سيدي ابن عروس الحنفي على نمط مسجد الداي يوسف وبالقرب منه، كما بنى بجواره ضريحا لأهل بيته، وعمر كذلك منارة المسجد الكبير وشيد مارستانا في شارع العزافين وشرع في تعمير الجسر المعلق، وبنى ولده مراد المدرسة المرادية في سوق القماش، وفتح ابنه الثاني سوق الشاشية، وأقام حفيده محمد مسجد سيدي محرز بعد عام 1675م، وهو أهم مساجد المدينة، ويقال إن المهندس الفرنسي دفيليه هو الذي رسم خطة قبابه. وكانت القصبة في أول أمرها مقر الباشوات قبل تقلص سلطانهم، وكانت تضم بنايتين كبيرتين: في الأولى حرس الدايات والضباط مع أهلهم، والثانية وراءها، وفيها السقيفة التي يلقي فيها الداي جنده، وفي أقصاها مسكنهم، أما الديوان الذي يرأس فيه الأغا المجلس العسكري فهو قاعة متسعة مستطيلة، ولا تزال المحكمة الشرعية في هذا الموضع، وكان الحي الواقع غربي المدينة وشمال غربيها - وبخاصة طريق الباشا - هو حي السراة أو الحي التركي الصميم، وقد زينت بالمرمر دور الدايات الفخمة وغيرهم من الأعيان، وكانت الرحبة الوسطى - وهي من سمات الدور المألوفة في ذلك العهد - تزين أحيانا بجوسق أو بركة من الماء، ولكن الرياش والزخارف كانت فيها نزعة إلى محاكاة الرديء من الفن الإيطالي.

وتوسع القرصان في مغامراتهم فازداد عدد العبيد من النصارى، ومن ثم كثر عدد تلك السجون العجيبة التي ينسب كل منها إلى قديس تنذر له البيعة التي يحتويها السجن، وذكر الأب دان تسعا منذ عام 1635م، وسرعان ما أصبحت ثلاثة عشر سجنا، وفي أيام جان له فاشيه قنصل فرنسا شيدت أول كنيسة في دار القنصلية، نذرت إلى القديس لويس، وهو أيضا الذي أقام على أطلالها كنيسة القديس أنطونيوس في وسط المقبرة الرومانية الكاثوليكية، وأقام حولها الأسوار العالية خارج باب البحر (في موضع الكتدرائية الحالية)، وهو الذي استأذن من الديوان وحصل منه على أرض بنى عليها قنصلية للفرنسيين عرفت ب «فندق الفرنسيين»، وقد تم بناؤها عام 1661م، وكان البروتستانت يدفنون خارج باب قرطاجنة في مقبرة القديس جورج، في الموضع الذي تقوم عليه الآن الكنيسة الإنجليزية، ويظهر أن تجار النصارى لم يكونوا كثيرين على الرغم من حماية القنصلية لهم، «فالأمة» الفرنسية لم تكن منذ أمد طويل سوى ستة أشخاص! وكان غالب التجارة الخارجية في يد اليهود ومعهم المهاجرون من الأندلس والبرتغال، وقد وفدوا إلى تونس مباشرة أو بطريق إيطاليا، وكانوا يتميزون عن التوانسة القدماء، أما الكرانة أو البرتغال فكانوا جماعة منفصلة برأسها، وإليهم نسب «سوق الكرانة»، وكانت مقابر اليهود خارج الأسوار شرقي حي باب السويقة بجوار شارع سيدي سفيان الحالي، ثم امتدت ناحية الجنوب.

وسادت القلاقل السياسية ختام القرن السابع عشر، وبداية القرن الثامن عشر، واحتل إبانها أهل الجزائر تونس مرتين، وصحبت ذلك فتن سفكت فيها الدماء، ولم تكن الأسوار من المناعة بحيث ترد هجوما عنيفا، ولم تتبع في بنائها قاعدة من قواعد التحصين، بل إن تونس وقعت مرة أخرى تحت رحمة أهل الجزائر في عهد الحسينية، ونهبها هؤلاء الجزائريون عام 1735م، فحاول التوانسة عبثا أن يقفوا في وجوههم، واستعانوا في ذلك بحصون تعجل علي باشا وابنه محمد في بنائها.

وقد حفلت المدينة في الفترات التي رفرف عليها السلام ببنايات أخرى، ففي أيام رأس الدولة الجديدة حسين بك علي توفيت الأميرة عزيزة عثمانة عام 1710م، وهي كبرى حفيدات الداي عثمان، ودفنت بالقرب من مدرسة الشماعية، وقد انتفع كثير من منشآت البر والتقوى بجزيل عطاياها، وكان حسين نفسه بناء عظيما ، فقد شيد في الحي الجنوبي من تونس الجامع الجديد أو «جامع الصباغين»، وهو الذي اختط الطرق والمباني الملاصقة لسوق السروجية، وفي عهده شيد ضريح الداي قره مصطفى بجوار مسجد القصر، وهو الذي نقل قصبة ملكه إلى باردو، وقد عني ببناء المدارس كمدرسة النخلة، والمدرسة الحسينية، والمدرسة الجديدة، وخلفه علي باشا فنسج على منواله، وبنى أربع مدارس هي: الباشية في سوق الكتبيين، والسليمانية، وسميت كذلك تخليدا لذكرى ولده المتوفى سليمان، ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، ثم أنشأ علي باي بعد ذلك مدرسة أخرى باسم المدرسة الجديدة، وإليه يرجع الفضل في بناء مقبرة الحسينية المعروفة ب «تربة الباي»، وهي غير بعيدة من مسجد الصباغين، وكذلك تكية العجائز الفقراء، وفد بنيت عام 1775م.

شارع حلفاويين بمدينة تونس.

وبنى الوزير المشهور يوسف صاحب الطابع حوالي عام 1800م المسجد الذي يحمل اسمه في ميدان الحلفاويين، ولعله أقيم في موضع «المسجد المعلق على الحلفاويين» كما يتضح من رواقه الخارجي المرتفع، وبنى في الحي نفسه نافورة الحلفاويين عام 1804م داخل باب سيدي عبد السلام، وبنى في الطرف الآخر من المدينة حوضا كبيرا للماء داخل باب اللواء.

وفرغ مولاه حمودة باشا من بناء «دار الباي» فوق القصبة بقليل، وقد وقف جهده على بناء الحصون والثكنات، ورأى أن يحمي تونس من أهل الجزائر خاصة، فطلب من مهندس هولندي أن يعمر أسوارها الخارجية، ولم يكمل هذا العمل من جانبه الجنوبي، واستغرق من عام 1797 إلى عام 1804م كما يستدل من الكتابات المنقوشة على الأبراج التي تكتنف الأبواب، واستعيض عنها في هذا الجانب بالمتاريس الأمامية التي بناها علي باشا، وبجدران المنازل الخارجية التي يتكون منها خط دفاعي متصل، وشيد حمودة في عام 1798م الثكنات على طول الطريق المجاور لقصره الخلوي البديع في المنوبية، وبنى غيرها في أخريات أيامه عام 1814م في وسط سوق العطارين (وهي تضم الآن دار الكتب العامة، وإدارة العاديات). وفي العهد نفسه شيدت ثكنات أخرى في المدينة، في شارع القشلة؛ أي الثكنة (وهو الآن الجمعية الفرنسية للبر)، وشارع الكنيسة (وهو الآن إدارة الأوقاف)، وشارع منكويت، وشارع سيدي ابن زياد، وأكبرها ثكنة الفرقة الأولى «برنجي آلاي»، وقد بناها الباي حسين بن محمود، ثم أخوه مصطفى بالقرب من المركاض في موضع المصلى القديمة، وبنى أحمد باي عام 1839م مخزنا للمدفعية خارج المدينة، ويعد أحمد باي خالق «الجيش التونسي».

وقد قنع بأن يطلب في مناسبتين (1743 و1744م) سباكا من طولون لإصلاح عدة مدافع في مصنع للطوارئ، أما حمودة باشا فأنشأ مسبكا دائما في جناح من قصر الحفصية، يشرف عليه بعض الفرنسيين، ثم نظم أحمد باي الدبدابة التي يصنع فيها الخبز والزيت للجيش، والظاهر أن هذه المشروعات العسكرية قد عملت على تحويل تونس إلى حامية عسكرية، وأخذت المحلة الأوروبية في الوقت نفسه تحتل جانبا من المدينة، وكانت تنمو نموا مطردا لا يعوقها عائق بفضل احتلال الفرنسيين للجزائر عام 1830م والإصلاحات التي قام بها البايات، ففتح النصارى الدكاكين، وشيدت الكنائس، وفتحت المدرسة الإيطالية في سولمة عام 1831م، والمدرسة اليهودية عام 1840م في مربرجو، وكلية بورجاد عام 1841م، وأصبح حي ميدان البورصة بأسره أوروبيا خالصا (وسمي حديثا باسم ميدان الكردينال لافيجري)، وكذلك الشارع الحالي للديوان القديم، وشارع جلاسييه، وشارع القومسيون، وأخذت المدينة الحديثة تتسع خارج الأسوار متجهة ناحية البحيرة، ومن ثم نقلت قنصلية فرنسا عام 1861م إلى الدار التي يشغلها الآن المقيم العام، ومع هذا فقد بقيت بعض القنصليات داخل المدينة، وهي قنصلية إسبانيا (في شارع سيدي البوني)، وقنصلية بريطانيا العظمى (في ميدان الكردينال لافجري) وقنصلية إيطاليا (شارع زركون)، وقوي بأس الأوروبيين حتى تأثرت به آخر الأمر إدارة المدينة نفسها، وكان لكل من الربضين أيام الحفصيين شيخ يقوم عليه، ولعلهما كانا تحت إشراف شيخ المدينة، وقد بقي هؤلاء الشيوخ في عهد الأتراك، وكانوا يقومون على خفارة المدينة بعد أن تغلق أبوابها ليلا، تعاونهم جماعات من السكان تتناوب العمل فيما بينها، ويتبع هؤلاء «المحركون» وهم شيوخ الأحياء، وكانت شرطة النهار أيام الحسينية من عمل الدولتلي، وكان يقوم بمنصب رئيس البوليس في القاعة المستطيلة المعروفة ب «دريبة » في شارع سيدي ابن عروس، أما القصبة فكانت إدارتها منفصلة تحت إشراف أغا.

ومع ذلك فقد ألف مجلس بلدي عام 1858م يضم رئيسا، ووكيلا، وكاتب سر، واثني عشر عضوا من الأعيان، وكان يزود بالمال من ضريبة تفرض على الخمر والكحول، وحل محل الدولتلي عام 1860م «فريق» يرأس الضبطية، وقد بذل جهد كبير لتساير المدينة العصر، فمرر خط للبرق يصل بينها وبين الجزائر، وخط حديدي يصلها بحلق الوادي، كما زودت المدينة بالمجاري، وقام المهندس الفرنسي كولان بجلب الماء إليها من زغوان، وحل برج الماء محل الصهريج المغطى الذي كان قائما في القرن السابق بجوار باب سيدي عبد الله.

وبنيت من أماكن العبادة زاوية سيدي إبراهيم الرياحي، وأنشئ المعهد الصادقي (في ثكنات شارع الكنيسة) نسبة إلى الباي محمد الصادق، ثم بني المارستان الصادقي، وكان قصر الزورق هو الذي أقام فيه الدايات أول الأمر (في شارع القضاة)، وفي عام 1876م عمر وزير من وزراء الباي دار الحسين (وهو الآن قصر الفريق) الذي بني في القرن الثامن عشر، وظل قصر خير الدين، وهو قصر الحفصية القديم بعد توسيعه مقر المحكمة زمانا في مستهل أيام الحماية (وهو في شارع المحكمة)، أما قصر مصطفى بن إسماعيل فكان في شارع الباشا، وأصبح قصر الخازندار مارستان اليهود، وهو الآن مهجور، ومما يجدر ملاحظته أنه لما ثار أبناء الحسين في وجه علي باشا في منتصف القرن السابق، عني الباي بحي الحلفاويين الذي كان يسكنه «الحسينية» الموالون له.

وأحدث الاحتلال الفرنسي (من عام 1881م) تطورات خطيرة في تونس، وتمتد المدينة الأوروبية من باب فرنسا - وهو باب البحر القديم - إلى البحيرة؛ حيث الأرصفة والمراسي، ومن البلفدير إلى الجلاز، ثم تمتد في الحي الجنوبي داخل الأسوار وخارجها فتغطي روابي مونفليري، والسور الخارجي باق إلى اليوم، أما سور المدينة فقد اندثر أو كاد، ولم يبق منه سوى أبواب قليلة، وعمرت القصبة تعميرا كاملا، وهي الآن ثكنات للجند، وتشغل الإدارة الداخلية دار الباي، وتشغل الإدارات الأخرى مع المعهد الصادقي وقصر العدلية بنايات حديثة تمتد على طول شارع البنات من ميدان القصبة، وتسير مركبات الكهرباء «الترام» حول المدينة، ولكنها لا تجوس خلالها، وقد بذلت الجهود؛ لكي تحتفظ المدينة بطابعها الشرقي، وهناك بنايات تستعمل في غير ما أنشئت له، بيد أن المظهر العام للمدينة لا يزال كما كان منذ خمسين سنة، وينحصر التعليم الديني في المسجد الكبير، وقد عمرت مئذنته تعميرا كاملا عام 1894م، وأنشأ المقيم الفرنسي مليه المدرسة الخلدونية في سوق العطارين؛ ليتعلم فيها فتيان المسلمين مبادئ العلوم الحديثة.

ولا تزال الحرف الوطنية تتجمع في الأسواق، لكل حرفة منها «أمين»، ويزور بعضها كثير من السائحين، فتنشط حركة التجارة؛ لأنهم يبتاعون الأدوات «الشرقية» والعطور والبسط والسلع المصنوعة من الجلد، ويصيح المنادون في سوق الكتبيين وسوق البركة على الكتب والحلي، وقد هجر الحي اليهودي الحقير أهلوه الذين يستطيعون الإقامة بجوار ميدان بوتييه أو في المدينة الأوروبية، وسوف تقوم عن قريب في هذا الحي البنايات الحديثة والطرق المتسعة. أما المسلمون فهم على العكس من ذلك، يعيشون في الأحياء الوطنية، اللهم إلا بعض الأسر الغنية التي ابتنت لها قصورا ريفية في آخر طريق باريس، ولا يفوتنا أن ننوه بازدياد سكان الأرباض البعيدة من أوروبية وإسلامية ويهودية، وقد اتصلت في الواقع واندمجت في مدينة تونس، وأعيد تنظيم المجلس البلدي بمقتضى المرسوم الصادر في 31 أكتوبر عام 1883م وألحق به مرسوما عام 1888م، 1914م بخصوص المجالس البلدية للولاية، ويتألف المجلس من رئيس، ووكيلين فرنسيين، وسبعة عشر عضوا يعينون بمرسوم (ثمانية من الأوروبيين، وثمانية من المسلمين، ويهودي تونسي)، وارتفع عدد سكان مدينة تونس في تعداد عام 1926م إلى 185990 نسمة، منهم 27922 فرنسيا، و51214 من الأجناس الأوروبية الأخرى، و82729 من المسلمين الوطنيين و24131 من اليهود التونسيين.

القيروان

مدينة من أهم مدن تونس على مسيرة مائة واثني عشر ميلا جنوبي مدينة تونس، وأربعين ميلا غربي سوسة، ويربط بينهما خط حديدي، وهي على خط عرض 40

35 °

شمالا، وخط طول 2

10 °

شرقا، وقد بلغ عدد سكانها عام 1910م اثنين وعشرين ألفا، منهم ثمانمائة من الأجانب بينهم ثلاثمائة من الفرنسيين.

مدينة القيروان.

وترتفع القيروان مائتين وخمسين قدما فوق سطح البحر، وهي في قلب سهل عظيم يخترقه نهر زرود، ونهر مرجولل الذي يغيض في السبخات الملحة، ويفيض هذان النهران فجأة فتستحيل الأرباض إلى بحيرة تضرب مياهها أسوار المدينة، وتكثر غلة الأرض إذا غزر المطر، ويقول البكري: إن الأرض في الجانب الغربي المعروف بفحص الدرارة تنبت في بعض الأحيان مائة ضعف ما يبذر فيها، ولكنها تبدو بالصحراء أشبه؛ لأن تربتها مغطاة بطبقة ملحية، ولا ينبت بها شجر أو عشب، وتتفاوت درجة الحرارة في القيروان تفاوتا كبيرا، فهي في الشتاء 24,8 °

وفي الصيف

120,2 ° «فهرنهيت» ومطرها ليس بالغزير، فهو أربع عشرة بوصة في السنة، ومن ثم تقل فيها المسايل والعيون فيختزن السكان في الصهاريج ما يحتاجون إليه من ماء الشرب.

والقيروان في الواقع مدينتان، الأصلية منهما محاطة بسور محصن من الآجر، له شرفات وأبراج مدورة، وقصبة محيطها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون ياردة، ويعقب ذلك ربض متسع يمتد ناحية الشمال والشمال الغربي، ويعرف بربض جلاص نسبة إلى قبيلة تسكن المنطقة المجاورة، وقد نشأ ناحية الجنوب في العهد الأخير حي أوروبي صغير، وفي داخل المدينة شبكة من الدروب الضيقة الملتوية، وفي المدينة نشاط تجاري صناعي، مع أنها فقدت كثيرا من مكانتها الاقتصادية، والصناعة فيها وطنية كصناعة البسط والأغطية الصوفية والنحاس والجلود من سروج وأحذية. واشتهرت القيروان فيما مضى بما شيد فيها من دور العبادة، وأهمها مسجد سيدي عقبة الكبير، وهو من أكبر المباني في إفريقية الشمالية، وقد بني مع المدينة نفسها، ومن المباني الأخرى مسجد سيدي صاحب، بني في القرن الأول للهجرة وجدد بناؤه ووسع في القرن السادس عشر للميلاد، ومسجد الأبواب الثلاثة الذي يعاصر المسجد السابق، ومدرسة سيدي عبيد الغرياني، التي أنشئت في القرن السادس عشر، وقد أخذوا مواد البناء لأقدم المساجد من سوسة وقرطاجنة؛ ولذلك كان فنها خليطا عجيبا من الفن البوزنطي والفن الشرقي، ويتضح أثر الفن الشرقي في زخارف القيشاني والخشب، وهي تماثل ما في العراق وبغداد، أما المباني الأحدث ففيها سقوف خشبية مقسمة، وزخارف عربية يظهر فيها أثر أندلسي مغربي، وفي مباني القرنين السابع عشر والثامن عشر أثر المهندسين والعمال الفرنجة وبخاصة الطليان منهم.

مسجد القيروان الجامع من الداخل.

تاريخها

يرجع تاريخ القيروان إلى الفتح العربي، أنشأها عقبة بن نافع سنة خمسين من الهجرة لتكون قاعدة أعماله الحربية، ومخزنا لمؤنته، وليرهب بها قبائل البربر، وقد زعموا أن عقبة قال إنه أرادها معسكرا لجند الإسلام إلى آخر الزمان، وقد شيدت القيروان على أنقاض مدينة حمودة أو قمونية الرومانية، أو بالقرب منها، واستعمل العرب أنقاضها في مبانيهم، واختير موضع المدينة على مسيرة يومين من البحر حماية للمسلمين من الروم، الذين ظلت المدن الساحلية بأيديهم، وقد أقام عقبة أول ما أقام قواعد مسجده، فقصرا للحكومة، ثم منازل لجنده وسورا طوله 2750 ياردة. وقد روى الناس عن تخطيط المدينة كثيرا من الأساطير، زعموا أن موضعها كان أدغالا كثيفة تمرح فيها الظباء والحيات، أمرها عقبة فاختفت، واستلهم عقبة من حلم رآه مكان القبلة، ومحراب المسجد، وعين ماء لا غناء عنها لجنده، وقد غضب الخليفة عليه فاستدعاه إلى المشرق عام 55 من الهجرة، ولما يتم بناء القيروان، فخر بها خلفه دينار أبو المهاجر، وبنى على ميلين منها مدينة جديدة أسماها تيكروان، فلما صفح الخليفة عن عقبة وأعاده إلى إفريقية جدد بناء مدينته فأصبحت قصبة إفريقية الإسلامية ومقر ولاتها، وقد تعرضت المدينة بعد وفاة عقبة لأحداث شتى، واحتلها البربر في العام الرابع والستين من الهجرة بعد فتنة كسيلة، وظلت في أيديهم أربع سنين، ثم استولى عليها الوفرجومة ونهبوها في فتنة الخوارج، واقترفوا فيها كثيرا من المظالم فتفرق عنها سكانها، وما انقضى الشهر الرابع عشر حتى جاء أمير هوارة أبو الخطاب الإباضي، فطرد الوفرجومة واستعمل على المدينة عبد الرحمن بن رستم سنة إحدى وأربعين ومائة من الهجرة، وبعد أربعة أعوام انتصر ابن الأشعث على الخوارج وأعاد مقر الحكومة إلى القيروان. وقد حاول إصلاح ما أفسده البربر وعمل على تحصينها، فسورها بحائط من الآجر عرضه اثنا عشر ذراعا، إلا أن ذلك لم يمنع قبائل الإباضية تحت إمرة أبي حاتم من حصار المدينة سنة 154ه، فحبس بها عاملها عمر بن حفص، وكان قد فر من طبنة ثم قتل أثناء الحصار، وخلفه جميل ويقال حامد بن صقر، فاستسلم للعدو وفتح له أبواب المدينة وقنع الفاتح بدك حصونها، فلم تقع مذابح وترك الأهلون وشأنهم، ولم يطل عمر الخوارج بها سوى عام واحد. استعاد المدينة بعده يزيد بن حاتم، فأعاد بناء المسجد الكبير، وخص كل طائفة بسوق، ثم اتسعت رقعة القيروان وبلغت أوج عزها أيام الأغالبة، وتنافس أفراد هذه الدولة في تجميلها بروائع الآثار، وأكثروا فيها المباني النافعة.

فمد زيادة الله الأول وإبراهيم أنابيب الماء، وأقاما الصهاريج بعد أن أصبحت الأحواض التي بنيت أيام الخليفة هشام لا تفي بحاجة الناس، ولم تندثر هذه الأحواض، فقد رمم الفرنسيون أحدها ولا يزال يعرف بحوض الأغالبة، أما المسجد الجامع فقد بني من جديد، وكان مسجدا متواضعا بناه عقبة، فهدمه حسن بن النعمان، ثم أعاد بناءه وزينه بأعمدة من الرخام جلبت من أطلال قرطاجنة، وسرعان ما ضاق المسجد بالمصلين، فوسع عام 105 للهجرة، ثم جدد يزيد بن حاتم بناءه كله ما عدا المحراب، ثم نقض زيادة الله الأول المسجد والمحراب جميعا، وأقام مكانه المسجد الحالي، ويقول البكري: إن تكاليف البناء بلغت ثمانين ألف مثقال من الذهب، وأتم إبراهيم بن أحمد عمل زيادة الله، فمد البناء الرئيسي، وابتنى فوق الصحن المتصل بالمحراب قبة تسمى قبة باب البهو، طولها مائتان وعشرون ذراعا، وعرضها مائة وخمسون، ويقسمها أربعمائة وأربعة عشر عمودا إلى سبعة عشر صحنا، وأصبح المسجد الكبير يضارع أشهر آثار الشرق، وعمرت في هذا العهد دور أخرى للعبادة، كمسجد الأبواب الثلاثة، ومسجد سيدي صاحب «مسجد البربر»، ومسجد الأنصار، وقد زعموا أن هذا المسجد بناه قبل دخول عقبة الصحابي رويفع بن ثابت.

وشيدت خارج المدينة مساكن الأمراء، كرقادة والقصر القديم، ويعرف أيضا بالعباسية، بناه إبراهيم بن الأغلب سنة 184ه، على ثلاثة أميال شمال شرقي القيروان، وجعله قصبة الإمارة، وأقام فيه مع حراسه الزنوج، ونشأت حول القصر مدينة مزودة بالحمامات والنزل والأسواق، يحيط بها سور ذو خمسة أبواب، وعلى ميسرة منها قلعة تعرف بالرصافة، أما رقادة فكانت على أربعة أميال ناحية الجنوب الغربي، وهي من آثار إبراهيم بن أحمد، الذي اختار مكانا عرف بطيب هوائه، وبنى فيه قلعة نشأت حولها مدينة هامة ذات أسواق وحمامات، وبها بساتين وحدائق واسعة، ومحيطها أربعة وعشرون ألف ذراع.

وكانت مدينة القيروان سوقا تجارية كبيرة، كما كانت مزارا مكرما وقصبة دولة قوية، اصطفت فيها حوانيت التجار على جانبي طريق مسقوف طوله نحو ميلين، وكانت مدينة علم، للمالكية فيها حظوة، وكثر فيها تلاميذ علماء أجلاء، كأسد بن الفرات، وابن رشيد، وسحنون، وازدهرت فيها دراسة الطب، وأنشأ فيها مدرسة نظامية إسحاق بن عمران اليهودي طبيب الأمير زيادة الله الثاني، وتلميذه إسحاق بن سليمان.

وزال حكم الأغالبة وظلت القيروان على عزها القديم أيام الفاطميين وأوائل الزيرية، رغم أن المهدي عبيد الله نقل مقر الحكومة إلى المهدية.

وقد لقيت المدينة ألوانا من البلاء إبان فتنة أبي يزيد، وفي عام 333ه استولى عليها النكارية ونهبوها، غير حافلين بتوسل الأعيان والعلماء الذين قدموا يناشدون الفاتحين رحمتهم، ثم استعادها الخليفة سنة 334ه، فبنى على مسافة منها مدينة صبرة التي أسماها المنصورية، إشارة إلى انتصاره على أبي يزيد، واتخذها عام 337ه مقرا له، ثم جاء خلفه المعز، فنقل إليها أسواق القيروان ومصانعها رغم تذمر الأهالي الشديد، وأقيم حول المدينة الجديدة سور له خمسة أبواب أهمها باب الفتوح، يخرج منه الأمير إلى الحرب على رأس جنده، ولكن رقادة طمست معالمها بعد أن هجرها أهلوها وخربها النكارية، فلم يبق منها غير حدائقها، ونفقت تجارة القيروان والمنصورية طوال هذا العصر، فازدهرت فيهما صناعة البسط والمنسوجات القطنية والصوفية، وامتدت حول المدينة مزارع وحدائق، وزادت ثروة الأهالي حتى إن عمال الفاطمية استطاعوا غصب أربعمائة ألف دينار منهم دفعة واحدة، ويروي البكري أن المكوس التي تجبى يوميا عند باب من أبواب المنصورية كانت تبلغ ستة وعشرين ألف درهم، وشكا أهل القيروان ظلم الفاطميين، وظل جمهورهم على مذهب أهل السنة، وتجلى سخطهم في معارك دموية وقعت أوائل عهد الزيرية، وفي عام 407ه شبت فتنة قتل فيها ثلاثة آلاف شيعي، ونهبت العامة مدينة المنصورية، وقابل أهل القيروان خلاف المعز مع الفاطميين بالترحاب.

شارع من شوارع القيروان.

وأدت هذه الفتن إلى فتح الهلالية إفريقية، فلقيت منه القيروان بلاء شديدا، فقد أمر المعز جنوده بإخلاء المدينة بعد هزيمة حيدران، فنهبوها قبل انسحابهم إلى المنصورية، ثم أعاد بناء أسوار القيروان، فبلغ طولها 22 ألف ذراع، وأحاط المدينتين بسورين بينهما نصف ميل، ورغم كل هذه التحوطات، اشتد هجوم الهلالية وازداد عنفا، فهجر القيروان فريق من أهلها وعزم المعز على الجلاء عن المنصورية والتراجع إلى المهدية، فدخل العرب القيروان وأذاقوها العذاب؛ محوا كل ما فيها من جمال وجلال، ولم ينج من شرهم شيء من ذخائر أمراء صنهاجة، وعاثوا في المدينة سلبا وتدميرا، وتفرق الأهلون أيدي سبأ، فذهب بعضهم إلى مصر، وهاجر آخرون إلى صقلية والأندلس، ورحل رهط كبير إلى فاس.

ولم تفق قصبة إفريقية من هذا البلاء، فقد نهبها الهوارة مرة أخرى سنة 1060م، وتنازعها الزيرية والقائد ابن ميمون، الذي حاول أن يقيم فيها إمارة مستقلة لنفسه، مستعينا ببني حماد، وظلت على الرغم من هذا في يد العرب، عزلاء لا تدفع عادية البدو، وفرض هؤلاء المكوس على كل شيء، وأصبح أهلوها قلة، ساءت صنائعهم وكسدت تجارتهم، وعمر عبد المؤمن جانبا منها، ولكنها سارت في طريق الاضمحلال مسرعة الخطا أيام خلفائه والحفصية من بعدهم، وكادت تقفر المدينة في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، ولم يعد يسكنها سوى من لجأ إليها من الفلاحين، وأخذ عدد سكانها في الزيادة أوائل القرن السادس عشر، ولكنها ظلت على بؤسها، وجار أمراء تونس على أهل القيروان، فلم تهدأ لهم ثورة، بل نفضوا عن كواهلهم حكم الحفصية عندما قبل هؤلاء حماية الإسبان، وأمروا عليهم سيدي عرفة الشبي، ولم يستطع مولاي حسن - رغم مساعدة الإسبان - التخلص من هذا الأمير الذي عضدته قبائل العرب وأتراك القرصان درغوث.

ونزل بالقيروان إبان الحكم التركي ما نزل بغيرها من النكبات، وأراد الباي مراد عام 1701م عقاب أهلها على فتنهم فخرب الأسوار والدور، ولم يبق فيها إلا المساجد والزوايا، بينما بذل حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية جهودا عظيمة لتعمير القيروان، فجدد السور الحصين، وعمر أكثر من خمسين مسجدا، وشيد لنفسه قصرا يقيم فيه إذا خرج رجاله إلى الجريد؛ لجباية المكوس، وعطف الأهلون على الباي ونصروه على ابن أخيه علي باشا، الذي لم يستطع الاستيلاء على القيروان، إلا بعد حصار دام خمسة أعوام، وهدمها الأمير الظافر مرة أخرى، ثم أعيد بناؤها، فكانت عام 1784م أعظم مدينة بعد تونس، بل كانت أفخم منها بناء، وأنظف طرقا.

ونشطت فيها التجارة والصناعة، وأعفي أهلها من الضرائب لولاء آبائهم للباي حسين، واحتفظت القيروان بحرمتها الدينية، وظل سكانها على عدائهم للنصارى.

ولما أبرمت معاهدة باردو عام 1881م التي جعلت تونس تحت الحماية الفرنسية، ظلت القيروان معقلا من معاقل الحركة الوطنية، فسيرت لها فرنسا ثلاثة جيوش تحت قيادة الجنرال سوسييه، زحفت من تبسة، وتونس، وسوسة، وتلاقت أمام أسوار المدينة، فاحتلتها بلا قتال في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1881م.

المهدية

مدينة على ساحل تونس الشرقي، كان المؤرخون الفرنجة في العصور الوسطى يسمونها مدينة إفريقية، وقد بنيت بين سوسة وسفاقس في شبه جزيرة صغيرة ينتهي عندها رأس إفريقية، ويصلها باليابسة برزخ ضيق كما يتصل الكف بالمعصم، وكان في موضع المدينة دون شك محلة فينيقية وقرية رومانية، وقد سميت بالمهدية نسبة إلى المهدي عبيد الله الشيعي الذي أسسها وحصنها سنة ثلاثمائة من الهجرة، بعد أن قرأ الطالع، وأنبئ بالأخطار التي قد تهدد الفاطميين، وكان بها سور من الحجارة الصغيرة، يمتد ناحية الجنوب على طول الشاطئ، ولا تزال منه أبراج قليلة باقية إلى اليوم، وكان السور يحمي الميناء، وهو ثغر فينيقي قديم اكتشف بين الصخور، تدخل إليه السفن من باب كبير على جانبيه حصنان منيعان، وعلى مسافة قليلة دار الصناعة البحرية، وكان السور منيعا محصنا بأبراج مدورة ومربعة، وأمامه من جانب البرزخ حائط يخترقه باب لا يزال إلى الآن قائما، وبأعلى موضع في شبه الجزيرة قصبة تركية قديمة، ربما بنيت مكان قصر المهدي، ولعل قصر ابنه القائم كان أمامها ناحية الغرب، ومن آثار الفاطميين بالمدينة كذلك مسجد كبير بني بالقرب من البحر لا تزال آثاره باقية إلى الآن، وبجواره دار المحاسبات ووراء شبه الجزيرة ضاحية زويلة، وموضعها معروف إلى اليوم، وقد اكتشفت عندها مخلفات قديمة من بينها آثار من الزجاج.

وبعد أن ترك المهدي رقادة القريبة من القيروان ذهب سنة 308ه ليقيم بالمهدية، وازدهرت المدينة لما صارت قصبة الدولة، وأصبحت - كما يقول ابن عذارى - أعظم مدينة في بلاد المغرب، وقد خرج من توزر أبو زيد أحد ثوار الخوارج، وأصبح سيدا على بلاد إفريقية بأسرها، وظل يحاصر المهدية خمسة أشهر وبها القائم بن عبد الله، وانتهى الحصار بالفشل، فكان ذلك إيذانا بزوال دولة الخارجي، وكان الفاطميون يلجئون إلى المهدية إذا أحدقت بهم الأخطار، كذلك كانت بعد قرن من الزمن ملجأ أفراد الزيرية عندما ذهبت بملكهم غزوة الهلالية، وحدث عام 449ه أن المعز الزيري هجر القيروان إلى المهدية ومنها خرج، وخلفاؤه بعده ينشدون إعادة دولتهم، وكذلك جعلوها قاعدة لغاراتهم البحرية.

وفي المهدية تهيأت الأسباب للقرصان، فكانت أمنع معقل للقرصنة التونسية، وهكذا ظلت إلى الزمن الحديث، وأغار على المدينة أهل صقلية وبيزة وجنوة ردا لغارات القراصنة المسلمين، وفي عام 1087م سقطت المدينة في يد القوات المسيحية المتحالفة، واستولى عليها النورمان مرة أخرى سنة 1148م، ثم حوصروا فيها برا وبحرا حين فتح عبد المؤمن الموحدي إفريقية، وعادت المدينة إلى قبضة المسلمين، ولكن النورمان استولوا عليها مرة أخرى ونهبوها. ثم عقدت معاهدة صلح مع وليم الثاني ملك صقلية واستطاع النورمان الاتجار معهما، وأتى عهد بني غانية أمراء المرابطين، فاستولى على المدينة مغامر ادعى الخلافة اسمه عبد الكريم الرغراغي، وأدت هذه الفتن إلى استعمال أحد الموحدين من بني حفص على إفريقية، ومن ثم أصبحت المهدية إحدى حواضر المهديين، وكان يعهد بحكمها في الغالب إلى أحد أبناء سلطان تونس، وأدى نشاط القرصنة المستمر إلى قيام حملة من جنوة سنة 1390م يؤيدها شارل السادس ملك فرنسا، الذي سير إليها أسطوله وفرسانه، وقاومت المهدية ولكنها أجبرت على دفع الجزية للنصارى. ولما غزا شارل الخامس تونس احتلت المدينة حامية إسبانية، وفي العام التالي استولى عليها القرصان درغوث، ثم أسره أسطول أندريا دوريا، ولكنه أطلق سراحه فعاد إلى المدينة، وثبت قدمه فيها. وفي سنة 1550م حاصر دوريا المدينة حصارا مشهورا وانتزعها من درغوث وعهد شارل الخامس بأمرها إلى فرسان مالطة فأبوا، وبعد قليل عادت المهدية إلى سلطان المسلمين، ونهضت من كبوتها، وظلت تحت الحكم التركي إلى القرن التاسع عشر وكرا للقرصنة ومثارا للرعب في قلوب تجار النصارى، وبقيت كذلك تسعمائة عام.

وهي الآن بلدة صغيرة يسكنها حوالي عشرة آلاف نسمة، يرتزقون من صيد السمك وعصر الزيوت.

بنزرت

مدينة على الشاطئ الشمالي لبلاد تونس، تبعد أربعين ميلا ناحية الشمال الغربي من مدينة تونس، وبنزرت على خط طول 53

9 °

شرقي جرينتش وخط عرض 17

37 °

شمالا.

وسكانها خمسة وثلاثون ألف نسمة، وهي بين البحر وبين بحيرة متوغلة في البلاد إلى مسافة أحد عشر ميلا، تبلغ مساحتها 35 ميلا مربعا.

وموقع بنزرت يسيطر على المضيق بين صقلية والشاطئ الإفريقي، ومن ثم أصبح له شأن عظيم من الناحية الحربية.

وبنزرت في موضع المدينة الفينيقية هبوديرتوس التي أصبحت من ممتلكات قرطاجنة، واستولى عليها الرومان بعد ذلك، وجعلوا منها مستعمرة يحكمها أغسطس، وخربها القوط ثم سلبها معاوية بن حديج عام 41ه الموافق 661-662م، واستعادها الروم وظلت في حوزتهم أمدا وجيزا ثم استولى عليها آخر الأمر حسان بن النعمان وقت أن استولى على قرطاجنة، وذكر ابن حوقل في القرن الثالث الهجري أنها قصبة الكورة البحرية سطفورة، وإن كان الناس قد هجروها وقت ذاك، فأصبحت خرابا بلقعا، وأفاقت المدينة من كبوتها، فكانت أيام البكري محاطة بسور من الحجر، وفيها مسجد جامع وأسواق، وتروج فيها تجارة الأسماك، وكانت تشرف على المدينة قلعة يحتمي الأهلون فيها من غارات الروم، وينزوي فيها الذين يقفون حياتهم على العبادة، وكان بها في ذلك الوقت مرسى يعرف بمرسى القبة، وروى الإدريسي أن بنزرت مدينة نافقة التجارة، وكثيرا ما روعتها الفتن والغارات التي اجتاحت بلاد تونس، وأوقعتها الغزوة الهلالية في يد أفاقي عربي يدعى الورد اللخمي فاستقل بها، ودانت لعبد المؤمن عام 1160م، وغزاها يحيى بن غانية المرابطي فيما بين عامي 1202-1203م. ثم ركدت أحوالها إلى القرن السادس عشر، على الرغم من وفود العرب من الأندلس، وبناء ضاحيتهم فيها، وقد وصفها الحسن بن محمد الوزان الزياتي بأنها بليدة أهلها فقراء مساكين.

وكثر القرصان في هذا الثغر إبان القرن الخامس، واستفحل أمرهم حتى رأت الدول المسيحية أن تعمل على الوقوف في وجههم. فظهرت حملة فرنسية جنوية بقيادة كبير أساقفة سالرنو أمام بنزرت عام 1516م، ولكنها عجزت عن الاستيلاء على المدينة، وأراد أهل بنزرت الانتقام، فما إن أصبح خير الدين سيد تونس عام 1534م حتى نفضوا عنهم سلطان بني حفص وخضعوا له. بيد أن شارل الخامس استولى على بنزرت في العام التالي بعد استيلائه على تونس ووضع حامية بها، ثم عمد توا إلى تخريب حصونها، فأعاد الإسبان بناءها بعد ذلك، وشيدوا قلعة أخرى سموها «قلعة إسبانيا»، لا تزال موجودة إلى اليوم، وانتهى الحكم الإسباني للمدينة عام 1572م باحتلال الترك لها، وكانت بنزرت من أقبح معاقل قرصان البربر صيتا، فكم نهبوا شواطئ صقلية وإيطاليا وهاجموا سفن الدول النصرانية الكبرى، على الرغم من مراكب فرسان مالطة، وكان في معتقل بنزرت عشرون ألف أسير من النصارى.

وقد عقدت فرنسا في نهاية القرن السابع عشر العزم على امتشاق الحسام، بعد أن فشلت مفاوضاتها معهم، فضرب دوكوش المدينة بالقنابل عام 1681م، وعام 1684م، ولم يجد الفرنسيون كذلك بدا من ضرب المدينة ثانية بالقنابل في القرن الثامن عشر، فتم ذلك على يد عمارة بحرية فرنسية يقودها أمير البحر ده بوفيز في اليومين الرابع والخامس من يوليو عام 1770م، ثم على يد أمير البحر البندقي إيمو الذي كاد أن يخرب المدينة تخريبا تاما عام 1785م، وأخذت بنزرت تضمحل في القرن التاسع عشر بإخضاع القراصنة وامتلاء الثغر بالبطائح.

ولما احتل الفرنسيون بنزرت في أول مايو سنة 1881م عند بداية الحملة على بلاد تونس وجدوها بليدة، خيم عليها البلى، تخترقها دروب مليئة بالرمال.

وتغيرت معالمها وأصلح الكثير من شئونها منذ بسطت الحماية الفرنسية على البلاد. فامتلأ جزء من القناة القديمة بالماء، وحفرت قناة أخرى بين البحر والبحيرة، تسمح للسفن الكبيرة بالسير فيها، وشيدت فيها ميناء صالحة ممتدة في البحر، وقامت العمائر على شواطئ البحيرة، وبنيت دار للصنعة في سيدي عبد الله، على مسيرة عشرة أميال من البحر، وأسست حصون على المرتفعات المحيطة بها لتذود عنها عادية المعتدين. ثم بنيت آخر الأمر مدينة جديدة بين المدينة القديمة والقناة سرعان ما ازدهرت، وإن لم تحقق بعد الآمال المعقودة عليها في زيادة سكانها ورواج تجارتها.

سفاقس

سفاقس أو سفاقص مدينة في تونس على الشاطئ الشرقي، جنوبي خليج قابس، في مكان بلدة تبرورة القديمة، وأنشئت المدينة على مسطح من الأرض، وكانت خطتها منظمة إلى حد بعيد، وقد نشأ بجوارها ربض أوروبي وهي مستطيلة الشكل، تتقاطع شوارعها تقاطعا عموديا، وبني في وسطها المسجد الكبير حوالي سنة 275ه، وأعيد بناؤه في نهاية القرن العاشر، وأصلح بعد ذلك مرارا.

وقد بني أيام الأغالبة سور من الطين والآجر، ثم رمم ما تصدع منه بالحجر، ويقول البكري: إنه بني بالحجر والآجر معا، وكان ينفق على إصلاحه الأمراء والمحسنون. واكتنف هذا السور أبراج مربعة، ويصفه التجاني بأنه حائط مزدوج.

وكانت سفاقس في إبان الفوضى التي أعقبت الغزوة الهلالية حاضرة إمارة صغيرة مستقلة تحت حماية العرب، وقد استولى عليها روجر الصقلي سنة 1148م، ثم استعادها عبد المؤمن بعد إحدى عشرة سنة، ففقدت بذلك شيئا كبيرا من عظمتها الغابرة، وكثيرا ما كان العرب يتلفون ما يحيط بالمدينة من مزارع.

وكانت سفاقس قبل الغزو مركزا اقتصاديا له شأنه، وكانت إحدى المناطق الهامة لزراعة الزيتون، وكانت سفن المسلمين والنصارى تحمل منها الزيت وبخاصة إلى إيطاليا، وفي القرن العاشر أسس أهل بيزة فندقا بها، وكذلك اشتهرت سفاقس بصناعة النسيج، وكان صيد السمك وسيلة هامة من وسائل الرزق لأهلها.

وفي عام 1881م كانت سفاقس أحد المعاقل القليلة التي قاومت الاحتلال الفرنسي، فسارت إليها قوة لضربها بالمدافع، وأخذت المدينة بعد ذلك تتمتع برخاء جديد، ويسكن المدينة خمسة وسبعون ألف نسمة، ويصدر منها الإسفنج الذي يستخرج من خليج قابس، ويحيط بها نطاقان من الحدائق وأحراج من الزيتون تشغل ثلاثين ميلا مربعا، ويزرع الزيتون فيها بوسائل تقدمت إبان القرن التاسع عشر.

قابس

قابس حاضرة ناحية أرد، على خط عرض 58

52

33 °

شمالا، وخط طول 6

4

6 °

شرقا، وتبعد ثمانين ميلا جنوبي سفاقس ومائتين وخمسين ميلا جنوبي مدينة تونس، وهي على الشاطئ الغربي لخليج قابس بجوار برزخ صخري يفصل البحر عن شط الفجج، وقابس ثلاث منازل: المدينة، وربض أوروبي، ثم قرى جرة وشنين ومنزل، والربض الأوروبي على الضفة اليمنى لنهر قابس يبعد عن البحر نصف ميل. ومصب النهر ميناء يصلح لرسو السفن الصغيرة. أما الكبيرة فترسو في البحر بميناء غير أمين ضحل في مواضع، يعلو فيه المد تسع أقدام، والنقل في الميناء قليل، فقلما تربو الصادرات والواردات على 25 ألف طن، وتترامى أحياء الوطنيين على طول نهر قابس، الذي يعلو ثمانية أميال فوق مستوى البحر، ويسقي واحة جميلة شتان بين خضرتها اليانعة والجدب الغالب على ما جاورها، وهناك حدائق واسعة فيها مائة وثلاثون ألف نخلة، ومائتا ألف شجرة، ومساحتها سبعة آلاف فدان، منها ثلاثة آلاف يرويها النهر، ويوزع الماء عليها بوسائل آلية بعضها قديم، وبعضها حديث، ونخيلها بالغ الجودة. أما ثمره فليس بشيء، وتطيب فيها أشجار الفاكهة. فكانت واحة قابس تعجب الناظرين، ويصفها الشيخ التجاني في القرن التاسع عشر بأنها دمشق الصغرى وجنة الله في أرضه، ولكن سكنى الواحة غير صحي؛ لذلك بنيت مساكن الناس خارج الحدائق، فلا يقيم بها إلا بعض الزنوج، ووراء أحراج النخيل بقاع صحراوية قد تصلحها وسائل الري، وقابس مدينة بحرية صحراوية بمظهرها وموقعها الجغرافي، وقديما كان في موضع قابس مدينة تكاب التي أسسها الفينيقيون، ثم انتقلت إلى أهل قرطاجنة، ثم إلى الرومان، وقد استعملت أطلالها في بناء مدينة قابس، ولا يعلم كيف آلت المدينة إلى العرب، ولما غلب الفاطميون على إفريقية، ولي عليها نعمان الكتامي، وظل أحفاده يحكمونها إلى زمن البكري، وقد ازدهرت قابس أيام الفاطمية والزيرية، وأشاد ابن حوقل بخصب واحتها، وجودة حريرها وصوفها، ورواج تجارتها وكثرة التجار الوافدين عليها، وأضاف البكري أن المدينة كانت محاطة بسور من عظيم الصخر، وبها مسجد فخم، وفنادق وأسواق.

واحة قابس.

وكان سكانها خليطا من العرب والأفاريق، ونزلت أرباض المدينة قبائل مختلفة من البربر، غلاظ أجلاف، تمسكوا بمذهب الإباضية، وهم في نظر ابن حوقل، قوم أشرار خالطت دينهم شوائب من الزندقة، وجاءت غزوة الهلالية إلى قابس وما جاورها بدم عربي جديد، ويروي ابن خلدون أن الخليفة المستنصر وهب قابس قبيلة زغبة عندما سير الهلالية لقتال السلطان الزيري، ومهما يكن من أمر هذه الرواية فإنها تدل على أن قبيلة زغبة استقرت في قابس بعد أن هزمت المعز الزيري على نجد حيدران، بمعاونة رياح وعدي وجشم، وأنشأ أبو جامع أحد أمرائهم دويلة هناك، ظلت مستقلة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولما احتل أسطول صقلية مدينة المهدية، دانت قابس لملك صقلية، حتى غلب عليها عبد المؤمن فنفى آخر أمراء بني جامع إلى مراكش.

ولقي الموحدون عناء في بسط سلطانهم على قابس، فقد حاول أهلها منذ أواخر القرن الثاني عشر رفع نير الموحدين، ونصروا بني غانية على خلفاء عبد المؤمن، فدانت المدينة لعلي بن غانية وحليفه قرقوش، ثم استعادها المنصور خليفة الموحدين، عندما هزم هذا المغامر وحليفه عند الحمة، وسرعان ما أعاد فتحها قرقوش، ثم طرد منها مرة أخرى، ولكن يحيى بن غانية ثبت قدمه فيها، ولم تعد إلى الموحدين إلا عام 601ه على يد الخليفة الناصر، وعلى الرغم من هذا كله لم تخلص لهم نيات أهل قابس، وكانوا كذلك في القرنين الثالث والرابع عشر ينزعون إلى الاستقلال عن الحفصيين، فخرج أمراؤها من بني مكي على سلطان تونس، ولم يكد الحفصيون يبسطون نفوذهم عليها، حتى عاود أهلها الثورة إثر غارات المرينية على إفريقية، وأيقظ الفتنة من جديد، سنتي 1379، 1387م، رجل من بني مكي يدعى عبد الوهاب، وأراد أبو العباس أن يضع حدا لهذه الفتن فاجتاح الواحة واجتث نخيلها، وما انقضى قرن من الزمن حتى ثارت فتنة أخرى دلت على ما فطر عليه السكان من شغب.

ويظهر أن غزوة الهلالية لم تحدث في قابس ما أحدثته في سائر البلاد، فقد وصفها الإدريسي حينذاك بأنها مدينة ذات شأن، تكثر السلع في أسواقها، وظلت تجارة البحر نافقة طوال القرون الوسطى، فاجتذبت التجار إليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكثيرين من النصارى، كما سمح لأهل بيزا بالاتجار فيها، وكان قبر الصحابي «أبو لبابة الأنصاري»، مزارا يكثر قاصدوه، وقد نلحظ من وصف التجاني لها أن بوادر الانحطاط ظهرت عليها منذ أوائل القرن الرابع عشر؛ إذ خربت مبانيها كقصر العروسين الذي بناه رشيد بن جامع في القصبة، وهدمت المنارة التي ذكرها البكري.

وساءت أحوالها في القرن السادس عشر، ولم تكن أحسن حظا في أيام الترك، وإن بقي ثغرها يصدر ما تأتي به القوافل من تجارة السودان، واحتل الفرنسيون قابس عام 1881م، وظهرت بوادر الفتن في جنوبي تونس بعد انتهاء معاهدة قصر سعيد.

ولما ضربت سفاقس بالمدافع سيرت جيوش الفرنسيين إلى قابس، فقاتلهم أهلها، وسلمت جرة ومنزل في 23 يوليو، بلا مقاومة، وعسكر الفرنسيون في رأس الوادي ليتحكموا في النهر الذي تعتمد الواحة عليه، فلما استتب السلام، نشأت مدينة أوروبية بين الواحة والبحر، ومنذ ذلك الحين صارت قابس مقرا للقيادة العسكرية لمنطقة تونس الجنوبية، ومركزا للإدارة المدنية، وفشلت الجهود التي بذلت لاسترجاع مكانتها الاقتصادية بإعادة القوافل إليها، بعد أن انتقلت إلى طرابلس منذ الاحتلال الفرنسي.

توزر

مدينة في جنوبي تونس على مسيرة مائتين وثلاثين ميلا إلى جنوب الجنوب الغربي من مدينة تونس، وعلى مسيرة مائة وعشرين ميلا غربي قابس، وهي على خط عرض 48

54

33 °

شمالا، وعلى خط طول 8

8 °

شرق جرينتش.

واحة توزر.

وتوزر أهم موضع بالجريد ، وهي على المضيق الذي يفصل بين شط الغرس في الشمال وشط الجريد في الجنوب، وهي تلاصق هذا الشط ، وهي مدينة وقرى متناثرة في الواحات الممتدة جنوبا على مساحة مقدارها أربعة أميال مربعة، ومباني المدينة في نظام رتيب، وغالب البيوت مبنية من الآجر المصفف على أشكال هندسية. أما المساكن في الواحات فهي أكواخ مبنية من جذوع الأشجار وسعف النخيل، والأهالي يصنعون البسط والأغطية من الصوف والحرير، بيد أنهم يعتمدون في معاشهم على بساتينهم وأحراج نخيلهم، ويعود الفضل في خصوبة الواحات - وهي أغنى بقاع الجريد - إلى كثير من العيون البالغ عددها أربعا وتسعين ومائة عين، تتفجر غربي كثبان الرمال، ثم تتحد فتؤلف جدولا ينحدر نحو الشط، وتوزع المياه للري بوسائل وصفها البكري في مصنفه «مسالك الأبصار»، ولا تزال هذه الوسائل تستعمل إلى اليوم، ويخرج من أشجار النخيل التي يبلغ عددها حوالي 228 ألف نخلة، تمر مختلف أنواعه، وبخاصة النوع المعروف ب «دقلت نور»، وقد زاد قدر ما تصدره توزر زيادة ملحوظة، بعدما وصلتها سكة الحديد بسفاقس وبقية بلاد المملكة، والسكان بربر مستعربة، وعدد سكان توزر نفسها 11056 نسمة، منهم 10723 مسلمون، 181 يهوديا و152 من الأوروبيين، وذلك وفق إحصاء 1926م.

وتوزر مدينة عتيقة، وأنشأ الرومان بالقرب من موضع بلدة الحدر مدينة وأرباضا لا تزال أطلالها تشاهد إلى الآن، ومنها قاعدة مئذنة المسجد وبئر وآثار أعمدة وبقايا قصور ... إلخ، ثم احتلها الوندال واستعادها الروم، وليس من شك أن الفاتحين الأول من العرب قد نهبوها، ثم سقطت في يدهم آخر الأمر في نهاية القرن السابع الميلادي، وكان على أهل المدينة أن يختاروا بين اثنين؛ إما الإسلام وإما الجلاء، ولعل الذين نزحوا عن المدينة كانوا قلة؛ لأن التجاني يرى أن أهل توزر من نسل الروم الذين كانوا في إفريقية عندما فتحها المسلمون.

ويظهر أن توزر كانت في القرون التالية في رخاء عظيم، ويتفق ابن حوقل - الذي يطلق على هذا الإقليم اسم قسطيلية - والبكري، والإدريسي في ذكر عظم تجارتها وكثرة نخيلها، ويذهب البكري إلى أن ألف حمل من التمر يخرج منها كل يوم.

ولم يخل تاريخ توزر من الحوادث الجسام، فقد خضع أهلها بالاسم لجميع الدول التي حكمت إفريقية، ولكنهم جاهدوا في المحافظة على استقلالهم، وظهرت عداوتهم للفاطميين من مناصرتهم للثائر أبي زيد، وفي أيام بني زيري حكمهم أمراؤهم من آل فرخان ثم من بني وطاس، وقد نهب علي بن غانية مدينتهم في عهد الموحدين، ثم استعادها الخليفة أبو يوسف وتخلصوا من حكم بني جعفر في نهاية القرن الثامن، واعترفوا في القرن الرابع عشر بإمارة ابن يملول، وقد تعذر على السلطان أبي العباس التخلص منه عام 1379م، وقد امتازوا في عهد خلفائه بالعصيان، وكثيرا ما أجبروا أمراء تونس على امتشاق الحسام لردهم إلى طاعتهم، واختل أمن المدينة بما كان ينشب بين الأهلين وقبائل العرب المجاورة من قتال، ولم يتغير حالها في العهد التركي إلا قليلا، ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، اشترك أهل توزر في عدة فتن، وكان البايات يلاقون مشقة كبيرة في جباية الضرائب، وزادت منازعات «الصف» في تعكير الأمن، وفي القرن التاسع عشر اقتتل اثنان من هؤلاء الصف، هما أولاد هدل والزبدة، واحتل كل منهما حيا من المدينة، واستعرت الحرب بينهما حتى نشر الاحتلال الفرنسي عام 1882م الأمن والطمأنينة في ربوعها.

অজানা পৃষ্ঠা