اتجاه المعطلة بجميع مللهم ونحلهم المتأثرة بالفكر الاعتزالي المغرق في الاعتداد بالعقل وجعله فوق النص. كان أهم حدث في هذه المسيرة العقدية هو ظهور علم الكلام المبني على المنطق الصوري، والذي استحدثه علماء المسلمين لإثبات العقائد الدينية على الغير بواسطة إيراد الحجج ودفع الشبهات، وقمع فتن الفلسفات الوافدة. وقد ساهم هذا العلم في حينه، مساهمة حقيقية في المحافظة على نقاء العقيدة وصفائها، ورد كيد الكائدين في نحورهم. إلا أن نجم هذا العلم قد أفل في العصر الحديث، بظهور مناهج في التفكير أقوى وأكثر اتزانًا ومصداقية من منهج المنطق الصوري الذي بني عليه علم الكلام، وبالانفجار المعاصر الهائل في ميدان الاختراعات والاكتشافات والعلوم المادية، بانفتاح آفاق الآيات الكونية على مصراعيها، والثورة المعلوماتية والاتصالاتية، وظهور مناهج للبحث والاستقراء والتجريب والمحاجة مبنية على مبادئ العلم، رياضيات وفيزياء وهندسة؛ مما غير استراتيجية التعامل في ميدان العقائد، وجعل الكرة الأرضية قرية واحدة يحاول كل فرد فيها معرفة جاره عقيدة وسلوكًا وأعرافًا. وهذا يلقي على عاتق علماء المسلمين مسؤولية استحداث علم جديد للإقناع والاقتناع، مبني على أحدث طرق الاستدلال وأكثرها دقة. والاستفادة من الآيات الكونية التي فتح الله آفاقها للناس، وبين الحكمة من ذلك بقوله:) سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٍ (فصلت ٥٣. ذلك أنه بالتجربة المشاهدة حاليًا، كلما اتسع أفق العلم والاكتشاف ازدادت قوة الحجة في القرآن الكريم، وانفسحت بالتقدم العلمي أسراره المعجزة، واتضح مدى ارتباطه بخالق الكون، وانكشف في الوقت نفسه، زيف ما سواه من الأديان، وانبناؤها على الخرافة والشعوذة والأوهام. بل إن العلم الحديث، الذي يسير دفته حاليا غير المسلمين، يساهم عمليا في شرح بعض آيات القرآن الكونية، وتفسير بعض ما عجز المؤمنون به عن فهمه منها، وحسبنا من ذلك مثلا قوله تعالى عن توجيهات إبليس لعنه الله للبشر) وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًَّا مِنْ دُوْنِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًَا مُبِيْنًا (النساء ١١٩. فقد فسرتها حاليًا مكتشفات العلماء غير المسلمين في ميدان علم الأجنة والوراثة والاستنساخ. ثم لما عارضهم المجتمع الإنساني لأسباب أخلاقية، أجابوا بأنهم يأملون أن ينفعوا البشرية بهذا الاكتشاف ويسخروه لعلاج الأمراض المستعصية. وجوابهم هذا أخبر به القرآن الكريم تعقيبًا منه على الآية السابقة. قال الله تعالى:) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيْهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (النساء ١٢٠. وما دام الإنسان قد فتح الله له باب الاستخدام الجيني والوراثي وكشف له بعض أسراره، فلم يعد مستبعدًا ماديًا وعلميًا على الأقل، ظهور الدابة المذكورة في القرآن، التي تكلم الناس. ذلك أنه بأدنى خلل أو خطأٍ أو تلاعب بالمورثات، قد تخرج من مختبرات الأجنة والاستنساخ. يقول تعالى) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (النمل ٨٢. إن مسؤولية استحداث علم جديد للدعوة والمحاجة والإقناع واجب، على القادرين القيام به. لا سيما في هذا العصر الذي يتعرض فيه أبناء المسلمين لمختلف الفتن والضلالات، وتتعرض فيه الأمة للانهيار في كافة الميادين. والواقع حجة واضحة وضوح الشمس، فأمامنا شواهد الأمم ذات الديانات الباطلة التي تقدمت ماديًا بتخليها عن خرافات أديانها، والأمة الإسلامية قد تأخرت ماديًا وروحيًا بتخليها عن دينها الحق، الذي ينظم شؤون المادة والعقيدة تنظيمًا ربانيًا لا شبهة فيه.
الخلاف المذهبي
موضوع الخلاف في الأحكام الشرعية العملية واسع الأكناف متشعب الأطراف له صلة بعدة علوم، علوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله وقواعده، والتعارض والترجيح، والمنطق والبحث والمناظرة، كما أن له ارتباطا بواقع الأمة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. لذلك لا تفي هذه الفذلكة بحقه من الدرس والبحث والتحليل؛ وإنما نكتفي فيها بالإشارات الموجزة التي لا تخل بالمعنى، وتفسح المجال لفهم مغاليق التحفة ومسارها ونهج صاحبها فيها. ذلك أن الخلاف الفقهي نشأ بعد وفاة الرسول (ص) واضطرار المسلمين لاستنباط أحكام قضايا من نصوص يوهم بعضها بالتعارض، أو أحكام حوادث توهم بأن ليس لها في الكتاب والسنة حكم معين. فالخلاف في هذا العهد كان مبنيا على فهم النصوص والحمل عليها حملًا عفويًا تلقائيًا، ثم أضيف إلى ذلك إجماع الصحابة المستند إلى النصوص. ثم بعد جيل الصحابة تتابعت أدوار التشريع واحدا تلو الآخر، فنشأ علم الفقه واتسع الاستنباط بكثرة الحوادث. ذلك أن النصوص متناهية والحوادث متجددة غير متناهية؛ فعكف طائفة من التابعين على الفتوى كسعيد بن المسيب في المدينة وعلقمة وإبراهيم النخعي بالعراق، معتمدين في استنباطاتهم على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وفتاواهم، ينهج بعضهم نهج القياس، وينهج آخرون نهج المصلحة إن لم يكن نص. ثم بزغ عصر الأئمة المجتهدين، فاتضحت مناهج الاستنباط وتميزت طرق الاستدلال واتسع الخلاف بين الأئمة تبعًا لمناهجهم. فكان أبو حنيفة ﵁ مثلًا يلتزم بالكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة، فإن لم يجمعوا تخير من آرائهم لا يخرج عنها، ولا يأخذ برأي التابعين وتابعي التابعين لأنه منهم وهم رجال مثله؛ كما كان له منهجه في اعتبار العام قطعيًا لا يخصصه إلا قطعي أو خبر مشهور، فإن خصص بأحدهما صار ظنيًا، ومنهجه في الأخذ بالقياس والاستحسان. ثم كان مالك ﵁ فسار على منهج خاص به في الأخذ من الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع، وعلى ما اشترطه في رواية الحديث ونقده، وما تقتضيه ظروف المصلحة وسد الذرائع والاستحسان، وغير ذلك من دلائل وأمارات. ثم جاء الشافعي ﵁ فجمع مقاصد العلم ومناهجه في الرسالة، وكان بذلك أول من صنف قواعد الاستنباط ورتبها ورسم معالمها، وجمع فيها بين منهجي النعمان ومالك؛ وهذا ليس بغريب منه، فهو تلميذهما ووارث سرهما وابنهما البر، ولا اعتبار لما اختلف فيه الأتباع وشجر بينهم بعنف تجاوز حده، وتوتر عصف بأسباب الود. ثم تتابع تطور هذا العلم من قبل مدرستي المتكلمين والفروعيين، وارتقى الحوار والتأليف والتصنيف فيه إلى نشوء علم جديد هو " علم الخلاف " المبني على المنطق والمناظرة، وهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبه وقوادح الأدلة بإيراد البراهين القطعية. فدارت بين الفقهاء الخلافيين مناظرات في أعيان المسائل الفقهية المنسوبة إلى أئمتهم، مما شحذ العقول ووسع المدارك وفتح آفاقًا للتشريع والتنظير، وفهم دقائق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فهمًا لم يتيسر لغير الفقه الإسلامي على مدار تاريخ الإنسانية.
1 / 22