الجسم مبتدأ ومن للبيان، والضمير يعود إلى الإنسان المفهوم من السياق، والروح مبتدأ ثان ومن سواه خبر عنه ولطافة تمييز، والجملة من قوله الروح إلى آخره خبر عن الجسم، والمعنى أن الجسم الذي هو الشخص الروح المتعلق به حاصل من غيره، وهو عالم الأمر من حيث اللطافة والتجرد عن المواد والتمييز للمضاف، أعني سواه لعدم تعرفه بالإضافة بحسب ظاهر اللفظ، وإن كان المعنى فيه معلوما، وقوله: ولفظه معناه إشارة ما ذكر في علم اللطيف أن للعقل في إدراكه حالتين، إما أن يدرك مثال صورة الشيء، أو مثال حقيقته، فالأول ما يكون محسوسًا فيرتسم في القوة الباصرة وحينئذ تعتوره المقولات كالأين والوضع والكم والكيف فيناله الحس من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة، والثاني هو المتجرد عن الشوائب المادية والمنزهة عن العوارض الجسمانية وهو المعقول لذاته ومن أمثلته الروح فإنه ليس محسوسا حتى يناله الحس بعوارضه لنميزه بها عما يشاركه، بل هو معقول محض ومعنى صرف وهو المراد بقوله ولفظه معناه.
مَيتٌ وَمِنهُ تُوجَدُ الحَياةُ ... حَيٌ وَعَنهُ يَصدُرُ المَمات
حقيقة الحياة كما في (الكشاف) ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر، والموت عدم ذلك فيه ومثله في التعريفات والمعتبر في حقيقة الموت، تقدم الحياة، إذ هو صفة وجودية مضادة لها، وقد يصح إطلاقه على ما لم يتصف في حياة على جهة المجاز، وعليه يحمل قوله ميت أي أنه قبل خلقه عدم محض حتى أحدثه الله فصدرت عنه الحياة في البدن. وأما ما ذكره صاحب (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: (كَيفَ تَكفرونَ بِاللَهِ وَكُنتُم أَمواتًا) الاية من صحة كونه حقيقة أو مجازا حيث قال: فإن قلت كيف لهم أموات في حال كونهم جمادا وإنما يقال ميت في ما يصح فيه الحياة من البنى، قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة كقوله (بَلدةً مَيتا) وآية لهم الأرض الميتة، أموات غير أحياء، ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس فمبني على وجود الموصوف في الخارج وهو غير ما هنا ويحتمل أيضًا أنه قبل تعلقه بالبدن وبعد خلقه ساكن لا يصدر عنه أثر فهو حينئذ ميت حقيقة كما يشعر به عبارة القاموس في قوله: ومات سكن ونام وبلي، ومعنى قوله: حي إلى آخره، أي أنه بعد ظهور حياته وتصرفه في البدن يصدر عنه بعد ذلك الممات المحتوم على العباد.
فَكَم أَصابَ مَيتًا فَأحيى ... وَكَم أَماتَ مَن يُريدُ وَحيا
يعين أنه كثيرا ما أصاب الميت بتعلقه به عن أمر الله فيحييه، ووصفه بالموت قبل أن ينفخ فيه الروح إما حقيقة أو استعارة كما ذكره صاحب (الكشاف) فيما نقلناه عنه آنفا، أو القضايا الواقعة كمعجزات عيسى ﵇، والوحي في اللغة، الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكلما ألقيته إلى غيرك ذكره في القاموس فالمعنى حينئذ وكم أمات من يريد أن يصدر عنه ما ناسب حاله من تلك المعاني وهو كناية عن إرادة الحياة، وكأنه قال: كم أمات من يريد الحياة بمفارقته بعد أن كان مصاحبا له.
في ساعَةٍ يُفترِس الأَبطالا ... كأَنّهُ يَسرَحُ الآَجالَ
الإفتراس: الاصطياد وفرس الأسد فريسته، يفرسها، دق عنقها، والأبطال جمع بطل محركة وهو الرجل الشجاع، سمي به لأنه يبطل جراحته أو لأنها تبطل عنده دماء الأقران، والمعنى أنه عند حياة الجسم به يفترس الأبطال عند مباشرته للقتال ومصابرته للنزال حتى كأنه لما يصدر عنه من إتلاف النفوس يصرف الآجال.
فَإِن أَماتَ بَطلًا أَحياهُ ... كانَ عَيسى سِرُهُ حَباهُ
يريد: إذا افترس بطلا فأماته أحياه بخروج روحه لأن النفس إذا اِنفصلت من البدن صادفت الحياة الأبدية، فسعدت بالاستعداد لقبول فيض العقل الفعال، وأنست بالإتصال به على الدوام، وانقطعت حاجتها عن النظر إلى البدن ومقتضى الحواس بعد أن كان يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن الإتصال، فإذا انحط عنها شغل البدن بالموت ارتفع الحجاب، وزال المانع. وقوله: كأن عيسى إلى آخره، يشير إلى ماخصه الله تعالى من إحياء الموتى، بإذنه عزوجل، فكأن المفترس أعطاه عيسى ﵇ سره من الأحياء حيث صار البطل بموته إلى الحياة الكاملة.
1 / 17