Trends in Contemporary Arabic Poetry
اتجاهات الشعر العربي المعاصر
প্রকাশক
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٩٧٨
প্রকাশনার স্থান
الكويت
জনগুলি
اتجاهات الشعر العربي المعاصر
تمهيد
كانت النية تتجه؟ حين أخذت في رسم حدود هذا البحث - أن يكون دراسة مبسطة موجزة، ولكن المطلبين: التبسيط والإيجاز قد يقعان في تعارض أحيانا، فالتبسيط مثلا يتطلب القدر اليسير من الأحكام النظرية والقواعد الفكرية، والإكثار من الأمثلة والمقارنات، والإيجاز يعني الاكتفاء بأمثلة قليلة. ثم أن التبسيط في ميدان الشعر المعاصر ناشب؟ طواعية - في أنواع مختلفة من الصعوبات، قد يكون غاية في ذاته، حين يراد تقريب هذا الشعر للقراء، ولكن هذا لا يعني أن " عملية " التبسيط سهلة، أو أنها ممكنة في بعض المواقف. ثم أن من يريد أن يكتب بحثا في " اتجاهات " الشعر المعاصر، يحتاج إلى أن تكون بين يديه دراسات عن أفراد الشعراء، وإلا ذهب؟ كما ذهبت - يدرس كل شاعر على حدة، ليتخلص من تلك الدراسة المطولة بعض الظواهر التي يدرجها تحت عنوان " الاتجاهات "، وهذا يعني أن البحث المبسط قد استغرق جميع الجهد المبذول؟ والوقت الطويل - في عدد كبير من دراسات غير مبسطة.
ثم أن تقريب بحث ما إلى أكبر عدد ممكن من القراء يعتمد على المنهج نفسه الذي اختاره المؤلف، وقد اخترت منهجا لا يعد في نظري ابسط المناهج في العرض والتوضيح، وان حاولت أن اجعل المحتوى واضحا بقدر الإمكان، ذلك أني وجدتني أقف بين أمرين: بين أن اختار طريقة مألوفة في دراسة الشعر: من خلال الاتجاه السياسي، أو الاتجاه القومي، أو الاتجاه؟ الخ، وبين أن أكون أقرب
1 / 1
إلى روح الشعر الحديث من حيث اعتماده العمق النفسي والفكري، فاخترت الثاني، لأن النوع الأول من الدراسة يحيل الشعر إلى وثائق، دون أن يركز البحث حول فكرة؟ أو أفكار - معينة، فيغدو أشبه شيء بالعرض التاريخي والوصف السطحي، لمظاهر، لا يعد الشعر أهم شواهدها أو وثائقها، وقد يكون المنهج الذي اخترته وثائقيا إلى حد، ولكنه متصل بحقيقة الشعر، لا بحقيقة التاريخ، ومحمله الفكري أعمق، والقدرة فيه على اكتشاف الفعاليات الفكرية والنفسية أرحب مجالا، ورغبة في تجنب " الوثائقية " المحض، وجدتني في الغالب - أقف عند النماذج التي أجدها ذات قيمة فنية في ذاتها إلى جانب ما قد يكون لها من قيمة " وثائقية "، وكل باحث يعرف أن الشعر حين يستخدم وثيقة يستوي فيه الجيد والرديء، بل كثيرا ما تكون النماذج الرديئة اكثر دلالة حين يستشهد بها، لأنها أكثر طواعية وأبعد عن " حذاقة " الفن ودقته. وقد كان هذا النهج الذي أخذت به نفسي، مصدرا لصعوبة جديدة، لا أعني بذل الوقت الطويل في الانتقاء، وأنما أعني الصعوبة التي تقف عائقا دون التبسيط المراد.
وقد كان من حسنات هذا المنهج أنه يمكن القارئ من إدراك " الركائز " الهامة في مواقف الشاعر، وفي شعره، ولكن من سيئاته أنه يحجب تطور هذا الشعر، كما يحجب التفاوت في مدى التطور، فهنا شعراء يؤخذون معا في نطاق واحد، دون إبراز شمولي للدور الحقيقي لكل شاعر، ولمكانته الصحيحة في تيار الشعر الحديث، كذلك كان في إخضاع هذا المنهج للإيجاز مأخذ آخر وهو الاكتفاء بذكر عدد محدود من الشعراء والإعراض عن ذكر آخرين، والشعراء العاصرين كثيرون، وإنتاجهم غزير، لهذا أجد أنه لا بد من القول بأن إغفال شاعر لا يعني عدم الاهتمام بشعره
1 / 2
أو الجهل بمكانته، ولكني إنما أقدم نموذجا وحسب، وأنا وإن كنت لم أحط بكل الشعر المعاصر؟ على وجه الشمول - فإني درست أضعاف أضعاف العدد الذي ذكرته من الشعراء.
وحين ترد كلمة " المعاصر " في عنوان هذا البحث، فإنها قد تتسع لتشمل الشعر منذ مطلع هذا القرن، وقد تضيق فتقتصر على شعراء الحقبة الأخيرة، ففي هذه اللفظة من الخداع الزمني ما في لفظة " الحديث "؟ على تفاوت في ذلك الخداع - وقد أثرت أن أقصر هذا البحث على الثلاثين سنة الأخيرة، لعدة عوامل: منها أن ما قبل هذه الفترة قد دارت حوله دراسات كثيرة، بينا لا تزال هذه الفترة بحاجة إلى مزيد من الدراسات، ومنها أن شعر ما قبل هذه الفترة لا يمثل مشكلة تحتاج تبسيطا، لأنه مباشر متصل بأسباب التراث على نحو وثيق، ومن تلك العوامل أيضا أن الإيجاز لن ينصف هذه الفترة لأنه؟ في أكبر تقدير - سيمنحها إلى جانب غيرها فصلا واحدا، وهذا مجال محدود لا يكاد يتسع لحركة شعرية مديدة الأبعاد كثيرة المظاهر.
وحين آخذت في هذه الدراسة كنت أعلم يقينا؟ سواء اعتمدت التبسيط أو لم أعتمده - أنني رضيت بالحد الأدنى من دور الناقد التحليلي التشريحي، وكنت كذلك أعلم علما ليس بالظن، أن هذا الناقد يعاني أزمة بالنسبة للشعر الحديث، ذلك لأنه يحاول ويفسر، وقسم كبير من هذا الشعر يستعصي على التحليل والتفسير، وأن هذا الناقد يتقدم من الشعر مزودا بقيم ومعايير ومقاييس آلفها، ودرج على استعمالها، وأنه لا يستطيع أن يتخلى
1 / 3
عنها، لا لجمود فيه، أو انغلاق في نظرته، بل لأنه يعجز أن يطور كل يوم قيمة جديدة، لو كان تقييم الشعر الحديث أو ذلك الجانب منه؟ يعتمد فيها جديدة - ثم أنه لا يستطيع أن يعمل دون قيم في ميدان يرفض كل تقييم " من الخارج ".
ذلك أنه بتأثر من السريالية قد جدت أشياء كثيرة في النظر إلى الشعر ومهمته: إذ لم يعد الشعر صورة من صور الأدب بل أصبح شيئا مستقلا، والفرق بينهما أن الأدب نتاج فعل الموهبة داخل حدود مرسومة، وأن الشعر كشف ذو مهمتين، تحويل العالم وتفسير العالم، أو كما يقول بريتون: " أن دور الشعر أن يظل يتقدم دون توقف، أن يكتشف مجال الإمكانات في كل وجهة، وأن يبدو دائما؟ مهما يحدث من أمر - قوة تحريرية ورصدية ". وعلى هذا الأساس يصبح انفتاح الشعر للفهم هو الدور الأكبر للكشف، لآن مهمة الشاعر الأولى هي إخراج اللفظة من الحيز العقلي، حتى تصبح الكلمة قادرة على أن تعبر " عن فعالية الروح وحاجتها " أي تصبح ثورة، وتصبح " لعبة الكلمات "، بما فيها من إيحاءات صوتية، أهم بكثير من قيمتها السمانتية (الدلالية) . ولهذا يتسم جانب كبير من الشعر الحديث بالغموض لأن الشعر لا يخضع للمواصفات العقلية، أي لا يقصد فيه التوصيل المباشر بين الشاعر والجمهور، وإنما يكون هذا التوصيل بمقدار ما تتمتع به لغة الشاعر من نزعة ثورية، بل أن هذا التوصيل غير وارد إذا لم يكن هنالك جمهور يستطيع ذلك، لأن هذا الجمهور سيتكون مع الزمن.
مثل هذا الموقف يحدد دور الناقد التحليلي، فيكون ما يقوله في تحليل هذا الشعر تسورا منه على حمى ذلك الفن، أو شيئا لا يثير الاهتمام، لأنه مرتبط بمعايير لا يقرها
1 / 4
أصحاب هذا الشعر. غاية ما يمكن هذا الناقد أن يقوله هو أن يبين ميزة الشعر بخروجه على المألوف، أو يصوغ نقده في شكل شعري، فيصبح النقد لونا من الشعر، يتحدث فيه الناقد بلغة شبه خاصة، خارجة عن حدود الفهم أو الحيز العقلي أيضا. وقد شاع هذا اللون من النقد، في الأيام الأخيرة، حتى كاد يحجب ما عداه. وهو لا يلغي دور الناقد وحسب، بل يوقع الدراسات الجامعية للشعر، في ظل الاستخفاف والاستهانة. غير أن مما يشفع لهذه الدراسة ويسوغ وجودها أن هذا التيار لا يمثل كل الشعر الحديث، حتى اليوم، وأن كان يبدو تيارا قويا، يضم عددا كبيرا من الشعراء، ولقوته استطاع أن يستميل إليه بعض الذين كانوا يسيرون في تيار الوضوح، ويتجهون بالشعر نحو غايات أخرى، ويقيمون جسورا متينة بينهم وبين الجمهور المتلقي للشعر.
ومهما يكن من شيء فإن الدارس الذي يقدم لهذا الجمهور نفسه كتابا مبسطا، لا بد من أن يدرك حدود مهمته، وهو إذ لم يكن مؤرخا متزمتا - يستطيع أن يجعل " قيمه ومعاييره " مرنة "، فيعالج التيارات والاتجاهات بقبول " فكري "، متخطيا بذلك كل الأغلال " المعيارية " التي قد تحول دون ذلك.
ذلك ما حاولته هذه الدراسة، في مجملها، دون أن ندعي نجاحا كاملا، في تلك المحاولة.
وقد كان من المتوقع أن أخصص فيها فصلا للحديث عن الاتجاهات التي سلكها الشعر المعاصر في الشكل، ولكن حال دون ذلك أمور منها أن هذه الدراسة تعز على التبسيط
1 / 5
جملة، وتدخل في التفصيلات الدقيقة لطبيعة الكلمة والصورة والوان المبنى؟ الخ، كما أن تفاوت هذه الوسائل وأهدافها في الشعر المعاصر يكاد لا ينضبط، وهو حقل جدير بدراسة مستقلة أو بعدد من الدراسات.
بعد أن بسطت الموقف، بصراحة، أرجو أن يعذرني القارئ، إذا لم يجد هذا الكتيب المتواضع إجابة عن كل توقعاته، واستفساراته، وأني لأرجو أن أوفق إلى وضع دراسة شاملة، يكون هذا البحث نواة صغيرة فيها، والله الموفق (١) .
برنستون في٢ حزيران (يونيه) ١٩٧٧
إحسان عباس
_________
(١) إن طبيعة هذه الدراسة، قد حتمت علي أن أوجز في الإشارة إلى المصادر المعتمدة، وأكثرها دواوين الشعراء، وأن أقلل الاعتماد على الدراسات النقدية التي صدرت حول الشعر الحديث، لأجعل من هذا البحث نظرة مستأنفة، وتصورا ذاتيا، يتحمل حظه من الخطأ والصواب.
1 / 6
" ١ "
نظرة تاريخية موجزة
كان ذلك في سنوات الحرب، وكنا يومئذ ما نزال نستقبل أنباء المعارك الأدبية بشيء من المتعة التي تستقبل بها أفلام العنف في هذه الأيام، وقد استوقف انتباهنا خبر نشرته مجلة الرسالة المصرية في عددها (٥٦٨)، توقعناه بداية لمعركة تستشري، ويملأ الآفاق غبارها، وكان عنصر التحدي يلتمع في هذه الكلمات القليلة: " وأتعهد بجائزة مالية قدرها خمسة جنيهات مصرية أدفعها إلى من يستطيع فهم معاني تلك القصيدة وشرحها "، وأعجبنا التحدي، دون أن يكون لنا مطمع في الجائزة، وكانت يومئذ مغرية، وأغرب كثيرون منا في الضحك، وهم يقرأون القصيدة التي يدور حولها التحدي، بعنوان " إلى زائرة ":
لو كنت ناصعة الجبين ... هيهات تنفضني الزياره
ما روعة اللفظ المبين ... السحر من وحي العباره
ظل على وهج الحنين ... رسمته معجزة الإشاره
خط تساقط كالحزين ... أرخى على العزم انكساره
ماذا بوجد المحصنين ... صوت شبح خلف الستاره
غيبت في العجب الدفين ... معنى براعته البكاره
درا يقوت الناظمين ... ونهضت تهديني بحاره
خطوات وسواس حزين ... وهب تعميه الطهاره
1 / 11
وحين استحال رنين الضحكات إلى صدى باهت، بدأ صوت النقد محتجا، مجلجلا، فتسمع واحدا يقول: مشكلتي في هذه الأبيات أنني لا أستطيع أن استكشف العلاقة بين واحدها والآخر، وثانيا يقول، ما العلاقة بين نصاعة الجبين والزيارة التي تنفض، (وكيف تفعل الزيارة ذلك، أتراها تيارا كهربائيا؟!) وثالثا يقول: كيف يكون الظل على الوهج، وكيف يتساقط الخط، ورابعا يقول: ربما كان في هذه الأبيات إشارات غريبة إلى البكارة المطلقة في الكون والأشياء، ومن ثم يكون وجد المحصنين، ويكون الدر المغلق في بحار لا نهائية، وتكون الطهارة هي الهدية الكبرى من هذه البكارة الكلية، ولكن؟ لا أدري، ثمة علاقات بين الألفاظ والجمل والصور لا أستطيع أقامتها على نحو مقنع.
وخاب فألنا، لا لأن أحدا منا لم يستطع أن يحظى بالجائزة المرصودة، بل لأن ذلك التحدي لم يجر إلى معركة، تتناثر فيها الأشلاء يمينا وشمالا، إلا أن ذلك التحدي، فتح الباب واسعا، للتذمر مما كان يحاول الشعر أن يروده وأن يحققه، ذلك أن مجلة الرسالة نفسها نشرت؟ بعد عددين - تحديا آخر ممهورا بإمضاء (أ. ع) حول قصيدة بعنوان " من خريف الربيع " لمحمود حسن إسماعيل، يقول كاتبه: " فليتفضل منهم متفضل فيشرح لي هذه القصيدة شرحا تلتئم به أجزاؤها وتجتمع أوصالها، وتتكشف به غرائب مجازاتها وعجائب استعاراتها وبدائع أسرارها "، وكانت مجلة الرسالة قد نشرت هذه القصيدة نفسها في عدد سابق، وفي ما يلي مقطعان منها:
1 / 12
ذهبت للروض في الصباح ... مقيد اللحن والجناح
وفيه ما من أغان ... مطولة الشدو بالجراح أوتار أطياره سكارى ... يعزفن وجد الخميل نارا ... سعيرها خمرة الحيارى ...
حثت إليه الرؤى خطاها ... وخلفها انسابت الدموع
سيان في قبضة الرياح ... شوك الجلاميد والأقاحي
فكم رحيق بلا دنان ... وكم دنان بغير راح وكم ربيع لنا توارى ... تود لو كانت العذارى ... لسحره الغائب انتظارا ...
ماتت لياليه في صباها ... (١) فهل لأحلامها رجوع بين الاحتجاجين؟ رغم تفترتهما - علاقة اساسية، فكلاهما يلح على إيجاد شرح يجعل القصيدة مفهومة، أي يوضح الصلات المعنوية بين أجزائها، من خلال تبيان العلاقات اللغوية والنحوية والمنطقية، وبالتالي العلاقات الفكرية، وتلك ظلت تلازم الشعر العربي في جميع عصوره، وتخضع البيت أو القطعة أو القصيدة لهذا السؤال الخالد: ما معنى هذا البيت أو هذه القطوعة؟ وماذا يعني الشاعر حين يقول كذا وكذا؟ ورغم شيوع الحديث في أوساط النقد الرومنطقي يومئذ عن تأثير الشعر في
_________
(١) أعاد الشاعر نشرها في ديوانه " ابن المغر " (الطبعة الثانية): ١٥٦ - ١٥٧.
1 / 13
الشعور وعن قدرة الشعر على الإيحاء الذي يعز على الفهم أحيانا ظل المقياس الأول في النظرة إلى الشعر هو مدى قابليته للفهم وقبوله للتفسير.
ويزيد الاحتجاج الثاني على الأول أمرين آخرين، فهو يتطلب إلى جانب الفهم وحدة في القصيدة من نوع ما يسميها " التئام الأجزاء " ويضيف كلاما مبهما عن " غرابة المجازات والاستعارات "، وكلا الأمرين يرتدان إلى قضية الفهم أيضا، فأما التئام الأجزاء فأنه يعبر عن ضيق بما يمكن أن يسمى التفكك الظاهري ي قصيدة محمود حسن أسماعيل، وعن حيرة إزاء الوثبات التخيلية فيها، دون أن يعني الناقد نفسه بالبحث عن استمرارية السياق. ا، أن يفتش فيها عن روابط داخلية، أو لعلع بحث وفتش أدركه الإعياء والعجز. وأما غرابة المجازات والاستعارات فأنها هي التي ألقت القصيدة؟ في نظر ذلك القارئ - بين ضباب الغموض، ولعله تساءل: كيف تكون الأغاني مطولة الشدو بالجراح؟ وكيف يكون للرؤى خطى؟ وكيف يكون للخميل وجد، وإذا كان ذلك جائزا فكيف يعزف ذلك الوجد نارا؟ ونتذكر في هذا المقام تلك الأسطورة الجميلة التي تقول أن رجلا بعث إلى أبي تمام يسأله زجاجة مملوءة بماء الملام فأجابه الشاعر أنه لا يرى بأسا بذلك على شرط أن يبعث إليه ذلك الرجل بريشة من جناح الذل: قضية أخرى كبيرة واكبت الشعر العربي في جميع عصوره، ولعلها أن تكون أرسخ القواعد التي أسست عليها فكرة عمود الشعر، أعني: المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، وكأني بالاحتجاجين يقولان: حذار! أن الشعر المعاصر يومئذ قد أخذ يخرج على عمود الشعر حين جنح إلى مبارحة دائرة الفهم فإن القصيدتين ممعنتان في المحافظة: إحداهما
1 / 14
تجري على قافية في الصدر وقافية في العجز، وهو أمر يوحي بالتزمت في التزام نغمتين على طول المقطوعة، وأما الثانية فإنها رغم إفساح القافية في كل مقطوعة منها؟ على حدة - ترسف قس قيود التكرار بحيث تجيء كل مقطوعة مشابهة للأخرى في ما التزمته من تقفية (١) .
ومن الغريب أن ريح الثورة لم تهب من هذا المنطلق، أعني منطلق الصراع بين الفهم والإيحاء، وبين بعد الاستعارات أو قربها، وإنما انبعثت لتحطم تلك الإنضباطية في الشكل، سواء أكان ذلك الشكل قائما على شطرين أو على أساس توشيحي متنوع متكرر، كالذي تمثله القصيدتان، وكأنما كان الشعر يفتش عن طريقة تخلصه من الشكل الصارم، في القصيدة والموشح على السواء، وتمنح العبارة امتدادا والتصوير استقصاء دون التخلي عن نوع الإيقاع المنظم بادئ ذي بدء -. وقد أصبح من المعروف أن الرواد العراقيين: نازك والسياب والبياتي كانوا هم رسل هذه الثورة بتأثير من الشعر الإنكليزي، وكانت ثورتهم في شكلها الأولي تمثل تخلصا من رتابة القافية الواحدة (دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم)، وليس من هم هذا البحث الموجز رصد المحاولات السابقة في تاريخ الشعر العربي للتخلص من أسر الشكل الصارم، وإنما الذي يميز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصح مذهبا لا استطرافا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليا لا محدودا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون؟ عدا استثناءات قليلة - أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع أنواع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر.
_________
(١) كل مقطوعة تجيء قوافيها على النحو التالي أأ ب أج ج ج د هـ؟.
1 / 15
وكثيرا ما تساءل الدارسون: من هو الرائد الأول في هذا المضمار، إذ كانت الأسبقية للاهتداء إلى الشكل الجديد متنازعة بين نازك والسياب (١)، وأرى أن هذه المسألة؟ على هذا النحو - طفيفة القيمة، لأن محاولات كثيرة تمت قبل ذلك، وكان أكثرها؟ كما قلت فيما تقدم - استطرافا أو تجربة عابرة، ولعل نازك أول من شمل هذا الكشف بالإيمان العميق والوعي النقدي الدقيق، في مقدمتها على ديوان شظايا ورماد (١٩٤٩)، ويبدو أن هذه المقدمة هي التي أوجدت للتيار الشعري الجديد مسوغاته الفكرية، وقرنت بين التجربة العملية والسند النظري، ومن اللافت للنظر أن نازك حين شاءت أن تعلل ضرورة شيء من التحرر من قيود الشكل القديم ربطت ذلك بفكرتي الإيحاء والإبهام اللتين تحدثت عنهما في مطلع هذا الفصل، فاتهمت اللغة العربية بأنها لم تكسب بعد قوة الإيحاء، ودافعت عن الإبهام لأنه " جزء أساسي من حياة النفس البشرية، لا مفر لنا من مواجهته أن نحن أردنا فنا يصف النفس ويلمس حياتها لمسا دقيقا "، فكانت بهذا الموقف تجمع بين طرفي الثورة، والتقرر نهجا شعريا يتجاوز التغييرات الشكلية الخالصة ليتبنى؟ في تسامح - المؤثرات الرمزية التي تمثلها قصيدة " إلى زائرة " والإيحاءات السريالية التي تبشر بها قصيدة محمود حسن إسماعيل، وحين ربطت بين الحلم والشعر فتحت باب اللاوعي على مصراعيه دون احتراس.
وفي تلك المقدمة نفسها عبرت نازك؟ دون تحفظ أيضا - عن إيمانها المطلق بضرورة الشورة الشعرية، وبالتغيرات التي ستحدثها، وكانت تبدو في ذلك على استعداد لتقبل تلك النتائج أيا كان لونها حين تقول: " والذي أعتقده أن الشعر
_________
(١) انظر قضايا الشعر المعاصر (ط١٩٧٤) ٣٥ - ٣٧.
1 / 16
العربي، يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقي من الأساليب القديمة شيئا فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقا جديدة واسعة من قوة التعبير، والتجارب الشعرية " الموضوعات " ستتجه أتجاها سريعا إلى داخل النفس بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد ". ومن طبيعة التطور " الجارف العاصف " أن يتدفق دون كبح، وأن يسترسل دون توقف، وأن تضعف فيه المراجعة والنقد الذاتي، لأنه في سرعته لا يدع وقتا أو مجالا لذلك، وهو حقيق أن يحتقب كثيرا من الزيف، وأن يفسح المجال للنهازين، وأن يفاجئ بالتحولات المستمرة، وأن يصبح الجديد فيه بعد وقت قديما يتطلب تجديدا وهلم جرا، وأن يسخر بالحدود والقواعد وأدوات اللجم والترويض، وحين شاءت نازك أن تضع في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " (١) بعض القواعد النقدية، وأن تفرز الصالح من غير الصالح في ذلك الشعر، كانت الموجة أقوى من أن أصدها أناة النقد، ورزانة الفكر التنظيمي.
غير أن ظهور بدايات هذه الانطلاقة الشعرية وسندها بالقواعد المؤيدة على يد شاعرة؟ لا شاعر - تتقن العروض وتحسن التمرس بتغيراته المختلفة وتستمد بعض الإيحاءات من إطلاعها على أدب أجنبي، كل ذلك يشير إلى أمور يحسن أن نتنبه لها: فمن الواضح أن الدافع إلى ارتياد تجربة جديدة إنما كان هو محاولة التغلغل إلى أعمق أعماق النفس - في مجتمع لم يتعود صراحة في التعبير عن مشاعرها - ووضع ذلك التعبير على نحو تلويحي تقريبي، خاص بالأنثى حين تريد أن تحلل مشاعر خاصة بها،
_________
(١) صدرت الطبعة الأولى منه سنة ١٩٦٢.
1 / 17
طالما ظن الرجل أنه يحسن التعبير عنها أو التغلغل إلى إدراكها وللمرأة في تقبل البدعة حظ كبير، أضف إلى ذلك أن البدعة الجديدة تبعث لديها شعورا بالتفوق بسبب الاهتداء إلى كشف جديد، ثم أن هذه البدعة في شكلها الجديد تخلصها من إيقاعات البطولة الرجولية في شعر الرجال، تلك الإيقاعات التي تصبح زورا على الواقع إذا لم يكن لها في حاضر الأمة أعمال توازيها، وقد انسحب زمان طويل وإيقاعات البطولة تردد فيما ينظمه الرجال من شعر، ومن ثم تحول كثير من ذلك الشعر كلام أجوف، ومن الطبيعي أن يتوجه الشعر إلى منطقة أخرى وإيقاعات مختلفة، ويصبح حديث نفس لذاتها، وظهوره على أثر الإعجاب بما سمي " الشعر المهموس " دليل على أن حديث النفس، أصبح من مستلزمات التصور لحقيقة الشعر، ولا ريب في أن توجه " عاشقة الليل " أعني الفتاة المتوحدة التي اختارت العزلة والصمت نحو الإحساس بضرورة التنويع في حديث النفس أمر طبيعي. ولا بد هنا من استدراك صغير: فإن قولي بحاجة المرأة إلى التعبير عن مشاعر خاصة بها على نحو تلويحي إنما يتناول البداية فقط وظروفا خاصة في حياة الشاعرة التي ابتدأت الانطلاقة الجديدة، أما بعد البداية فقد أصبحت المرأة في بعض المواقف أجرأ من الرجل وأقدر على تحليل دقائق الرغبات، وذلك أمر إنما أشير إليه وحسب، وربما لم يتح لهذه الدراسة الموجة أن تتناوله بوجه ما (١) .
_________
(١) لا أعني هنا إلا ما يدخل في نطاق الإبداع الفني، أما غير ذلك فهو يقع خارج حدود أي بحث نقدي سليم، ويستطيع القارئ أن يجد شواهد على الصراحة في التحليل الدقيق في ميادين اخرى عدا الشعر مثل القصة الطويلة والقصيرة. وفي سبيل التمثيل العابر دعني اذكر هنا مثلا بعيدا هو شعر جويس منصور بالفرنسية.
1 / 18
ثم أن إتقان هذه الشاعرة للعروض وتمرسها بالتغيرات المختلفة في البحور والأوزان كان يعد ضرورة لسببين: أولهما أن التمرس بالعروض يجعل " لعبة الشكل " جزءا من هواية ممتعة، وثانيهما أن إتقانه كفيل بالتأييد النظري للتجربة، ولعل هذه هي الرابطة الممتدة؟ في نظري - بين الانطلاقة الشعرية والموشح، فقد بينت عند الحديث عن العوامل التي ساعدت على نشأة الموشح شغف الأندلسيين بالعروض، تعلما وتجربة، وتباري الأساتذة والطلاب في ميدان النظم على ما يسمى " الاعاريض المهملة " أي التفعيلات التي قدر الخليل جواز وجودها، ولكن العرب لم ينظموا عليها (١)، والحق أن الشعر الحديث لم يحاول أن يستمد في بناء القصيدة من الأعاريض المهملة وإنما أعتمد التنويع في بعض الأبحر المستعملة، فهو من هذه الناحية أشد محافظة من الموشح، وما ذلك إلا لضيق الشعراء المعاصرين بالعروض وتشقيقاته الكثيرة وتفريعاته، واستسهالهم لركوب ما يركب من بحوره، دون أن يسلموا في ذلك من كسر الوزن جهلا به، لا تحديا له (٢) .
_________
(١) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الأدب الأندلسي - عصر الطوائف والمرابطين (بيروت ١٩٦٣) وذلك في الفصل الخاص بالموشح.
(٢) الفرق بين الجهل والتحدي مما يعسر تمييزه، وفي هذا المقام تحضرني قصة صغيرة، فقد كان أحد الناشئين في الشعر - منذ سنوات - يقرأ علي قصيدة ليست من الشكل الجديد، وإنما تجري على الشطرين، ولاحظت أن أحد الأبيات فيها مكسور، فلما نبهته إلى ذلك قال: أعلم أنه مكسور وإنما تعمدت ذلك لاهز انتباه القارئ، قلت: لم أكن أدري أنك تجري على قرائك تجربة بافلوف على الحيوانات، ومع ذلك فما يزال عليك أن تفسر لم أخترت أن تنبهه في هذا الموضع، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك.
1 / 19
وبسبب التحولات السريعة المفاجئة، والشغف بالتجديد المستمر، ضربت الحركة الشعرية رواقا من الحيرة حول النقد والناقد، وكانت أكثر الدراسات النقدية التي واكبت هذه الحركة على نوعين: نوع وصفي نير المحتوى، ونوع شعري مبهم لا تتحدد فيه غاية ولا يتضح حكم، وهذه الحال تغري بأن يطرح المرء هذا السؤال: كيف استطاعت هذه الحركة ان تقوي وتشتد دون أن يكون لها سند كبير من نقد أصيل؟ أن مثل هذا السؤال يفترض أن دعم النقد لازم لكل حركة أدبية تحتاج أن تستمر وتنمو، وهو افتراض ليس من الضروري أن يكون دائما صحيحا، ولكن هبنا أخذنا به في هذا المقام، فإننا سنجد عوامل أخرى ساعدت تلك الحركة الشعرية على الثبات البقاء منها: روعة الجدة، والملاءمة لروح العصر، وصدق كثير من التجارب، والمثابرة على تحدي الصعوبات، وسرعة العدوى و؟ إلى عوامل أخرى تستحق ثلاثة منها بسطا، لأنها تمثل ثلاث مراحل في تاريخ تلك الحركة:
الأول: التضامن الصامت، ذلك أن حركة الشعر الحديث ظلت بمنحى من الانقسامات الداخلية الصارخة، وإذا استثنينا بعض المواقف الفردية كوقفة السياب ضد صلاح عبد الصبور أو وقفته ضد البياتي، وموقف نازك من العيوب التي لابست هذا الشعر، وما أشبع ذلك، وجدنا أن كل من مارس النظم على النحو الجديد، قد انظم إلى الحظيرة، وأصبح عضوا في " مدرسة المحافظة "، حتى وأن كان حظه من التجديد نزورا يسيرا، وهكذا استطاع هذا التضامن الصامت أن يحتضن مختلف الانتماءات والنظرات والمواقف، التي كان من الممكن أن تجر إلى انقسامات وتراشق بالاتهامات مثلما تفعل على الصعيد السياسي، وكان مما
1 / 20
ساعد على ذلك؟ في المرحلة الأولى - عدم وضوح تلك الانتماءات والمواقف، على نحو ساطع، إذ كان الرواد الأول لا يبغون من انتحال شكل جديد تعبيرا عن موقف فكري أو انتماء سياسي أو عقائدي وإنما كانوا يبحثون عن شكل يفرغون فيه مشاعرهم الرومنطقية، على نحو تحليلي، لم يعد يسعف عليه الشكل القديم، وإذا أنت قارنت بين ديوان عاشقة الليل وشظايا ورماد لنازك أو أزهار ذابلة وأساطير للسياب أو ملائكة وشياطين وأباريق مهشمة للبياتي، أو بين قصائد صلاح عبد الصبور ذات الشطرين وقصائده المتفاوتة في تفعيلاتها، لم تجد تغيرا كثيرا إلا في السمة التحليلية، والتطور القصصي، وإذا كانت الانتماءات والمواقف غير واضحة حينئذ، فإن الاتجاهات الشعرية نفسها كانت أيضا. ولا نجد خروجا عنيفا على منطق هذا التضامن الصامت مثل نقد أدونيس لشعر المقاومة. ولكن يجب أن نذكر أن ذلك النقد قد كتب بعد أن أصبحت الحركة الشعرية قليلة الحاجة إلى الإغضاء والمجاملة (١)، وبعد إذ أصبح شعر المقاومة نفسه " ظاهرة شعبية " تهدد كثيرا من شعر " الصفوة المثقفة " بالحجب والانكماش. يقول أدونيس " إن شعرنا في الأرض المحتلة هو أولا رافد صغير في الشعر العربي المعاصر، بل رافد ثانوي، وهو ثانيا، امتداد لا بداية، امتداد لشعر التحرر الوطني الذي عرفه العرب طيلة النصف الماضي من هذا القرن وليس شعرا ثوريا " (٢) ويؤيد أدونيس رأيه هذا بعدة ملاحظات منها أن هذا الشعر ضمن الأطر الموروثة، وانه خارج الثورة لأنه يعتبرها حدثا خارجيا قابلا للوصف والهتاف والغناء فهو من ثم محض حماسة لا تفعل شيئا، ومنها أنه مشبع المبالغة، والمبالغة تفرغ الوعي
_________
(١) كتب هذا النقد سنة ١٩٦٩، انظر زمن الشعر: ١٤٨.
(٢) المصدر نفسه: ١٦٩.
1 / 21
وتجعله خاويا، وهو نتاج غنائي بأبسط مستوى للغنائية، وهو محافظ منطقي مباشر ينطق بالقيم التقليدية. ولا ريب في أن هذا الرأي يتفق ومفهوم أدونيس للشعر، والعلاقة بينه وبين الثورة، ولم أورده لاناقشه، فذلك يتطلب خروجا عن مقتضى هذا السياق، وإنما أوردته لاشير إلى أول انقسام جذري في " معسكر " التضامن الصامت، بعد إذ توضحت معالم التباين في الانتماءات والاتجاهات.
الثاني: المجلة، لقد أثبتت مجلة " أبولو "؟ قبل ظهور الحركة لشعرية الأخيرة بكثير - أن كل اتجاه شعري يريد أن يفرض وجوده في التاريخ الأدبي لا يجد لذلك وسيلة خيرا من المجلة. ودور المجلات في الحركة الشعرية - موضوع هذه الدراسة - يتطلب بحثا تاريخيا تقييميا موضوعيا، يتعذر الوفاء به في هذا المقام. وبحسبي هنا أن أشير إلى دور مجلتي " الآداب " و" شعر " البيروتيتين في إفساح المجال لهذا الشعر يوم كان المؤمنون به قلة، ولما كانت مجلة " شعر " وقفا على الحركة الشعرية الجديدة، فأنها استطاعت أن تكون أبلغ أثرا من سواها في تاريخ تلك الحركة أيا كانت طبيعة ذلك الأثر ونوعيته؟ لأنها جعلت من نفسها منبرا لاتجاهات متفاوتة في داخل الحركة نفسها، وتبنت قصيدة النثر القصيدة ذات الإيقاع المنظم والتفعيلات المتفاوتة، وككل مجلة أخرى، شجعت بواكير شعرية لم تثبت طويلا في المجال الشعري، وأطلعت الشعراء والقراء على نماذج مترجمة من الشعر الغربي، وأيدت الاتجاه بأصوات نقدية متعددة، وحين توقفت عن الصدور خلفتها في هذا المضمار مجلات أخرى مثل " حوار " و" مواقف " ثم فاض فيض المجلات التي تعنى بهذا اللون من الشعر في كل الأقطار العربية. وقد استقطبت هذه المجلات من حولها " أسرا أدبية " و" اتحادات كتاب "، كما نشأت أسر
1 / 22
واتحادات مستقلة، أخذت تقوم بدور المجلة في تشجيع شتى فنون الأدب الحديث، ولا تقتصر في ذلك على الشعر.
الثالث: دور النشر، وهذا العامل ذو صلة وثيقة بالعامل السابق، ولهذا تقف دار الآداب ودار شعر في طليعة الدور التي أخذت على عاتقها تقديم الديوان الشعري الحديث بصورة منظمة وعلى نحو يغري القارئ باقتنائه. ثم تجاوزت " دار العودة " مدى كل دار أخرى في هذا السبيل، حين اعتمدت نشر " الأعمال الكاملة " لكل شاعر، بحيث أتاحت لقراء الشعر مكتبة كاملة ذات " قطع " موحد. ولوزارة الأعلام في العراق دور هام في هذا أيضا بما نشرته وتنشره من دواوين. ولما لم يكن الاستقصاء مطلبا لي في هذه الدراسة، أجدني اكتفي بهذه الأمثلة التي تدل دلالة واضحة على أن الحركة الشعرية الحديثة؟ في المرحلة الراهنة - قد أصبحت تتنفس في جو أكثر حرية، وتجد لها قبولا واسعا ومؤيدين كثيرين، مهما تختلف أهدافهم وتتعدد الحوافز من وراء تحمسهم لهذا الشعر.
غير أن هذه الحركة الشعرية؟ مثل كل حركة تتسم بشيء من الخروج على العرف - لم تصل إلى هذه المرحلة على بساط، من الورد، فقد واجهت كثيرا من العواصف، ومشت على الشوك طويلا، وتعرضت لحملات كثيرة من التشكيك والشجب والمعارضة، فصورت على أنها مؤامرة لهدم اللغة العربية، وأتهم أصحابها بأنهم إنما لجأوا إلى هذا اللون " الممزق " من الشعر لأنهم عاجزون عن الشعر الجزل ذي الشطرين، وهب أن هذه الهمة كانت صحيحة فأنها لا تضير الشاعر الحديث، ونحن نرى أن كثيرا من شعراء الأندلس؟ مثلا - كانوا يعجزون عن نظم الموشح، كما أن كثيرا من الوشاحين لم يكن لهم حظ كبير في القصيد، وقياسا على ذلك يمكننا أن نقول أن الشاعر الحديث ليس من
1 / 23
الضروري أن يحسن " القصيد " لأن القصيد له شروطه وظروفه وقواعده وأساليبه وبيئته. وها هنا طرفة تصلح للاعتبار، فقد استشارت هذه التهمة أحمد عبد المعطي حجازي حين أعترض الأستاذ عباس محمود العقاد على اشتراك بعض الشعراء المجددين في مهرجان الشعر بدمشق (١٩٥٩) لأنهم لا يعرفون أصول الشعر العربي وهدد العقاد يومئذ بالانسحاب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب احتجاجا، فما كان من حجازي إلا أن نظم قصيدة ذات شطرين ليثبت للعقاد أنه لا يجهل أصول الشعر العربي، وكانت تلك الهفوة؟ فيما أعتقده - سقطة العارف، لأنها أثبتت حقا أن حجازي لو مضى يقول الشعر ذا الشطرين لما ثبت طويلا في حلبة الشعر (١) .
وخير ما يمكن أن يصور جانبا من طبيعة الحركة المناوئة للشعر الحديث مذكرة تقدمت بها لجنة الشعر المصرية إلى نائب رئيس الوزارة وزير الثقافة والإرشاد القومي سنة ١٩٦٤ وقد عبرت تلك المذكرة عن أن حركة الشعر الجديد قد جعلت اللغة الفصحى موضوعا للمناقشة، ومكنت لفريق أن يدعو إلى تبني اللغة العامية لأنها هي لغة الشعب، والتهاون بأمر اللغة أنما هو تهاون بالقضية القومية العربية، مع أن الشعر كان دائما؟ من بين جميع الفنون وعند جميع الأمم - هو الفن الذي يحرص كل الحرص على صيانة اللغة. وأخطر ما في ذلك الشعر أنه يعكس روحا منافية لروح الثقافة الإسلامية العربية لأن بعض صور التعبير فيه مستمدة من ديانات أخرى غير العقيدة الإسلامية كفكرة الخطيئة والصلب والخلاص، كما أن فيه تهاونا كبيرا في استعمال لفظة " الإله " كأنها لا تزال تحمل دلالتها عند
_________
(١) انظر هذه القصيدة في ديوانه أوراس: ٤٣٤ - ٤٣٥ (ط. دار العودة) .
1 / 24