هكذا بدا الطريق فجأة. وكان ذلك عندما أبطأ السائق من سرعة السيارة، وانحنى على مقودها في توجس. ومضى يصعد بها المرتفع ثم يدور مع الطريق وهو يطلق نفيره في صوت حاد. لم يكن هناك من شبح لكائن واحد على مبعدة عشرات الأميال في كل اتجاه. وما كان أحد ليتوقع غير ذلك في هذه الصحراء المترامية النائية. ومع ذلك كان على السائق أن يحذر المفاجآت عند كل منحنى أو مرتفع.
وحبس الطبيب أنفاسه وهو يتطلع من النافذة إلى الصخور الضخمة كالقلاع التي برزت على كل جانب، وخفت الضجة ثم تلاشت داخل السيارة. وقد انحنى كل الركاب على النوافذ يتأملون في جزع الهوة الضخمة التي تهبط على جانب الطريق مباشرة. وعند المنحنى كانت السيارة قد ازدادت بطئا حتى أوشكت على الوقوف، ومضت تتقدم في خطوات بطيئة كالزحف. وكانت هناك أعمدة خشبية قصيرة طليت باللونين الأحمر والأسود وثبتت على حافة الطريق تحذر من الهاوية. وكان اثنان من هذه الأعمدة ملقيين على الأرض. وتجاوزت السيارة المنحنى وانحدر الطريق إلى أسفل، فاعتدل السائق في مكانه وترك السيارة تنساب هابطة دون أن يغير سرعتها؛ فقد كان هناك منحنى آخر. ودار الطريق من جديد صاعدا، والتمعت الشمس على الصخور الضخمة وبدت كتلها مزعجة. ولوى الطبيب عنقه إلى الوراء ليتأمل الجزء من الطريق الذي خلفوه وراءهم. وإلى أسفل كان الطريق الطويل الضيق يمتد وسط الصحراء في شريط أسود لا نهاية له، ويلتوي على نفسه ويدور صاعدا وهابطا في دوائر. وأحس بأنفاس الراكب الجالس خلفه تصطدم بقفاه في دفقات قصيرة متلاحقة، ثم سمعه يهمس بصوت خافت: «ياه .. زي التعبان.»
وعندئذ أخذ كل شيء يبدو كشيء آخر. وقبل ذلك لم يكن هناك غير الضجر بالساعات الأربع التي تستغرقها الرحلة حتى أسيوط. وكان الطريق في البداية يمتد مستقيما، والصحراء تنبسط يمينا ويسارا إلى ما لا نهاية دون أن يعترضها مرتفع واحد؛ فلم تكن الجبال إلا خطوطا بعيدة في الأفق. ولم يكن هناك ما يوحي بأن جغرافية المكان ستتغير؛ فرحلة المجيء كانت بالليل الذي أخفى تفاصيل الطريق، ولم تتكشف حقيقته إلا عندما بدأ ينثني ويدور صاعدا هابطا ويتلوى ويتموج منطلقا إلى الأمام كالثعبان.
لم يكن هناك من طير أو حيوان أو إنسان في أي ناحية. لم يكن هناك غير الرمال والصخور. والأعمدة التي تتتابع في سرعة خاطفة على جانبي الطريق، بعضها يحمل إرشادات للسائق، والبعض الآخر يحمل أرقاما مختلفة فشل الطبيب في أن يحدد أيها يعين المسافة المتبقية على أسيوط، والبعض الثالث كان أقرب إلى شواهد حجرية صغيرة تحمل أرقاما مطموسة وتبدو كالتماثيل الحجرية القديمة لفلاسفة اليونان والرومان التي تظهر صورها في الكتب والمجلات.
وإلى اليسار كانت أعمدة التليفون التي تربط الواحات بأسيوط تجري مع السيارة. كان عمود منها تسنده أسلاك متينة تثبت إلى الأرض بأثقال من الأحجار حتى لا تجرفها رياح الصحراء العنيفة. وفي بعض الأحيان كان العمود ينتصب مجردا من الأسلاك أو مثبتا بسلك واحد. وكان العمود ساقا رفيعة من الخشب يعترضها قضيب صغير في قمتها، فيبدو كالصليب. وكانت مئات من هذه الأعمدة بل آلاف تتسابق أمام الطبيب في خط مستقيم على اليسار، وبدت له أشبه بصلبان أعدت ليعلق فوقها متمردون ثائرون. يعلق الواحد منهم من يديه، ويلصق ساعداه بالقضيب الأفقي، ويدق في كل كف مسمار طويل، ويربط الجسد بالعمود بحبل متين كي لا يقع الثقل كله على اليدين، وتنزف الدماء من اليدين، ثم من الأنف والفم، ثم تتصاعد رائحة نتنة تجذب الذباب والصقور، ويتدلى الرأس عاجزا خائرا؛ العينان مغلقتان ولكنهما تطرفان بين الحين والآخر بنظرة حائرة تتجمع في أعماقها قوى خفية تجاهد لتتبين أو تدرك شيئا ما. وربما تتحرك الشفتان أيضا وتطرفان مثل العينين، لكن أحدا لن يعرف أبدا ماذا أراد صاحبهما أن يقول.
وكان الطبيب قد قرأ في مكان ما من قبل عن الصلبان التي أقامها الرومان في إحدى الطرق المؤدية إلى روما منذ ألفي سنة، وعلقت فوقها أجساد ستة آلاف عبد. وكان أولئك العبيد قد ثاروا وقاتلوا ثم هزموا وظلت أجسادهم المصلوبة مصدر متعة ولذة لأحرار الرومان بعض الوقت أما الصلبان فلم تشبع أبدا منذ ذلك الحين؛ كان الرومان قد نقلوها عن مستعمراتهم ووجد من نقلها عنهم بعد ذلك. وخطر للطبيب أن الصلبان كانت متقاربة بلا شك كهذه الأعمدة، وأنه لا يزال هناك من يستمتعون بمنظر الدماء والصلب، ولا يزال هناك أيضا العبيد الذين يثورون ويقاتلون ويهزمون. مثل الرجال الذين جاءوه بهم عندما كان طبيبا في السجن، ووقفوا أمامه في سكون وقد تدلت رءوسهم وعروا صدورهم وظهورهم، فبدت جراحهم كأنما أنزلوا لتوهم من فوق الصلبان قبل أن تنهشهم الطيور الجارحة.
كانت الصلبان تسابق السيارة، تسرع إذا أسرعت، وتبطئ إذا أبطأت، والأسلاك التي تصل بينها تهتز بين الحين والآخر إذا هبت الرياح، لكن الهواء كان قد أصبح عزيزا. وتوهجت الشمس، وبدأ السائق يبطئ من سيارته قليلا. كان يجلس في هدوء دون أن يعبأ بشيء حوله، ولا بد أنه كان يحس بملل فظيع؛ فأي لذة في أن يظل رائحا غاديا في هذا الطريق الطويل الذي لا يتغير به منظر واحد. أعمدة التليفون هي هي، والصخور وأرقام الكيلومترات والاستراحتان الخاليتان وسيارة النقل التي أوقفها صاحبها على جانب الطريق ونام فوقها. وهذه الخيمة الوحيدة .. لم يكن بها من أثر للحياة، كأنما هجرها أصحابها فجأة لسبب ما، أو افترستهم الوحوش ولم تترك منهم شيئا. لكن شخصا ظهر فجأة على باب الخيمة عندما اقتربت السيارة منها، كان يرتدي ملابس الجنود وعلى رأسه بيريه أزاحه إلى الخلف، وظهرت قطرات عرق على وجهه وعنقه. وعندما فتح سترته بدت منها فانلة متسخة، وكان يحمل دفترا صغيرا في يده، وتقدم على مهل من السيارة التي توقفت تماما، واتجه إلى باب السائق وقد تقلصت ملامح وجهه في ضيق، وأدرك الطبيب أنها نقطة مرور. وعلى باب الخيمة ظهر جندي آخر يحمل بندقية في يده ولا يرتدي شيئا في قدميه، ووقف يتطلع إلى السيارة في غير مبالاة وعيناه تدوران بنوافذها تبحثان بلا شك عن وجه امرأة يرطب قليلا من جفاف الصحراء. وفكر الطبيب أنه لا يوجد أحد غير هذين الجنديين هنا، وحاول أن يتصور كيف يقضيان الوقت طول النهار وطول الليل، وكيف يحصلان على طعامهما. وخطر له أنهما لا بد يقاسيان الليل؛ فبرد الصحراء مثل حرها لا يطاق، ولا بد أنهما ينامان أيضا متجاورين، وربما شعر أحدهما بالبرد والوحدة ذات ليلة فالتصق بزميله؛ ففي الليل - عندما يشتد البرد وتعجز الأغطية القليلة عن مقاومته وعندما تبدو السماء هائلة صامتة وتعوي الذئاب والوحوش التي لم يرها أحد - عندئذ لا تعرف ماذا يمكن أن يحدث.
وكان الطبيب يستطيع أن يتتبع الشعور بالبرد والوحدة في أي إنسان، وربما كان السبب في ذلك أنه قضى شطرا كبيرا من حياته العملية في السجون؛ ففي تلك المباني القاتمة - الصفراء من الخارج المظلمة من الداخل - ترى كل شيء عاريا. وعندما كان السجناء يأتون إلى غرفته ليوقع عليهم الكشف كان يتأملهم في فضول، كانوا مساكين جدا، مرضى وعواجيز ومحطمين، لا تستطيع أن تميز بينهم بملابسهم الزرقاء المتشابهة ووجوههم اللامبالية، بعضهم مريض فعلا وقاسي كثيرا حتى وصل إليه والبعض الآخر يحشد كل ما أوتي من دهاء ليفوز منه بكوب من اللبن أو قطعة لحم أو بطانية، لكن الطبيب كان يرى الخوف والألم على وجوههم جميعا.
وفي البداية - عندما كان شابا مليئا بالحيوية وعندما كان كل شيء يبدو بسيطا واضحا كما كان الطريق يبدو هذا الصباح قبل أن يتلوى ويتعقد ويتموج كالثعبان - كان يظن أنه يستطيع أن يقهر الألم، لكنه كان واهما؛ فقد كان الألم كالسرطان تستأصله من مكان فيظهر على الفور في كل مكان آخر. وأصبح يستيقظ من نومه كل ليلة صارخا بعد حلم واحد لا يتغير، وفي هذا الحلم كان يرى نفسه جالسا إلى مائدة صغيرة وسماعته معلقة في رقبته وخلفه سجين يحمل إناء به سائل أحمر أدرك أنه دماء، وكان يغمس أصابعه في هذا الإناء بعد كل كشف، وعلى جانبيه يقف عملاقان كالحراس في ملابس التمريض البيضاء، وهو تحتهما ضئيل جدا، وأمامه صفوف من السجناء يقتعدون الأرض لكنهم لا ينظرون إليه؛ فبصرهم معلق بأحد العملاقين الذي يلوك شيئا بين أسنانه وقد شردت عيناه وتبدت ملامح وجهه غاضبة شرسة تنذر بأنه قد يعود إلى وعيه مزمجرا في أية لحظة. ويأتي المتعهد السمين باللبن - الذي يشربه مرضى السجن - كي يفحصه الطبيب، ويضع الرجل إناء اللبن أمامه ثم يصب فيه دلوا من مياه الغسيل القذرة، ثم يدخل آخر حاملا الذبيحة التي سيأكل منها السجناء، ويقربها منه ليفحصها، ويريه وهو يبتسم الأجزاء المهترئة المريضة ثم يحملها وينطلق إلى الداخل. أما هو فيلوح بيديه ويود أن يصرخ ويحتج ويرفض ويهدد، لكن الصوت يحتبس في حنجرته ويتخبط هناك ناشبا أظافره في سقف الحلق.
ولم يكن من الممكن أن يستمر هذا إلى الأبد؛ فقد كان شيئا يحطم الأعصاب.
অজানা পৃষ্ঠা