فقال كنراد وقد ثاب إلى رشده: «إني أسلم لك أنا إن لم نكشف عن طريق أكيدة نخلص بها، فلقد أشرت أنت إلى تلك التي تؤدي رأسا إلى ما نرمي. ولكن، لك الله يا مريم! لسوف تصب أوروبا كلها علينا اللعنات، ونصبح مسبة في جميع الأفواه، من البابا على عرشه إلى أدنى متسول لدى باب الكنيسة، يحمد ربه - على شعثه وبرصه وتمرغه في الدرك الأسفل من الشقاء الإنساني - على أنه ليس بجيلز أموري أو كنراد منتسرا.»
فرد عليه رئيس الفرسان برباطة الجأش التي تميز بها خلال هذا الحوار الهام وقال: «لو كان هذا ما ترى إذن فلنمض وكأن لم يكن بيننا شيء، وكأن حديثنا حديث نيام، وما لبثنا أن صحونا حتى تبددت من أمامنا الأحلام.»
فأجاب كنراد قائلا: «إن هذه الأحلام لن تنقشع.»
فرد عليه رئيس الفرسان وقال: «أجل إن رؤيا أكاليل الأمراء، وتيجان الملوك تحتل في المخيلة مكانا لا يتزعزع.»
فأجاب كنراد وقال: «إذن فدعني أحاول بادئ ذي بدء أن أفصم عري الوئام بين النمسا وإنجلترا.»
ثم افترقا، ولبث كنراد ساكنا لا يتحرك حيث كان ينظر إلى عباءة رئيس الفرسان البيضاء ترفرف، وهو يخطر في مشيته في تؤدة وأناة، ويبتعد قليلا قليلا حتى ابتلعه ظلام الليل الشرقي الذي سرعان ما يرخي سدوله وينوء بكلكله. وكان مركيز منتسرا مختالا طموحا، جريئا أريبا، ولكنه - مع ذلك - لم يكن قاسي القلب بطبعه، كان شبقا أبيقوريا، ولكنه كان - كغيره ممن يتخلقون بخلقه - يعاف الإيلام، ولا يحب أن يشهد عملا فيه قسوة أو صرامة، حتى وإن يكن في نفسه من البواعث ما يبرره، وكان لديه كذلك إحساس عام بتقدير ذكره بين الناس؛ ذلك الإحساس الذي كثيرا ما يسد النقص في المبادئ السامية التي يقوم عليها طيب الأحدوثة.
قال وما فتئت عيناه ترقبان الموضع الذي شاهد به عباءة رئيس الفرسان وهي تهتز الهزة الخفيفة الأخيرة: «حقا لقد أثرت في الشيطان روح الانتقام! من ذا الذي كان يظن أن هذا الرئيس الحازم الزاهد - الذي يتلاشى كل أمل له في آمال طائفته - يكون أشد مني رغبة في إشعال الفتنة، وأنا إنما أعمل لنفعي خاصة؟ حقا لقد كان إيقاف هذه الحرب الصليبية الهمجية هو باعثي الوحيد، ولكني لم أجرؤ على أن أفكر في هذه الطريق العاجلة التي تجاسر هذا القس القوي العزيمة على اقتراحها، وهي مع ذلك آكد الطرق، وربما كانت آمنها.»
وهكذا كان المركيز يناجي نفسه، وبهذه الخواطر كان يتمتم، حينما استوقفه صوت غير بعيد ينادي، وكأنه صوت رائد في نبراته رنة التأكيد، ويقول: «اذكروا القبر المقدس!»
وردد هذا النذير حارس بعد الآخر؛ إذ كان من واجب الخفراء أن يصيحوا بهذا النداء الفينة بعد الفينة وهم في رقابتهم المتعاقبة، حتى لا يغيب أبدا عن ذكر الصليبيين الغرض من حمل السلاح، ولكن رغم أن كنراد كان يألف هذه العادة، ورغم أنه سمع هذا الصوت النذير في كل مناسبة سبقت وكأنه أمر مألوف، إلا أن صوت المنادى قد اتصل إذ ذاك اتصالا وثيقا بسلسلة أفكاره، حتى خيل له أنه صوت من السماء يحذره من الإثم الذي يتردد في صدره، فتلفت حواليه جزعا كأنه - وإن اختلفت ظروفه - ذلك الأب القديم يرتقب كبشا يأتيه من الغاب، فداء عن القربان الذي اقترح له رفيقه أن يقدمه لا إلى الكائن الأعلى، وإنما إلى وثن أطماعهما. وإذ هو يتلفت اختطفت بصره ثنايا العلم الإنجليزي ترفرف متثاقلة مع نسيم الليل العليل، وكان العلم مرفوعا فوق ربوة مصطنعة تكاد تتوسط المعسكر، ربوة ربما كان قد اختارها في الزمن القديم زعيم من زعماء بني إسرائيل، أو بطل من الأبطال، لتكون شاهدا على جدثه، وإن صح هذا، فلقد غاص اسم الرجل في لجج النسيان وأطلق الصليبيون على المكان اسما نصرانيا هو جبل «سنت جورج»، وذلك لأن العلم الإنجليزي كان يخفق فوق هذه القمة الشامخة، ويعلو على كل ما عداه، كأنه رمز السلطان يسمو على العدد العديد من البيارق البارزة النبيلة، بل والبيارق الملكية التي كانت ترفرف فوق المواضع الدنيا.
ورجل له من سرعة الخاطر ما لكنراد، قمين بأن يرى الرأي في وميض برهة أو لمحة، وكأن نظرة واحدة إلى العلم قد بددت كل ما قام في نفسه من ريبة أو شك، فسار إلى سرادقه بخطى حازمة حثيثة، كأنه رجل قد اختط لنفسه خطة صح منه العزم على إنفاذها، ثم صرف رتلا من الرجال، لهم ما يشبه الأبهة الملكية، كانوا يقومون على خدمته. وما إن استلقى على فراشه حتى تمتم بعزمه الجديد، وذلك أن يحاول وسائل اللين قبل أن يعمد إلى خطة اليأس.
অজানা পৃষ্ঠা