ولكن العابد المخلص إذا توسل إلى وثن حق، انكشفت له من الوثن أمارات الرضا في ملامح صورته المرمرية، التي لا تلين ولا تتحرك؛ فلا عجب إذن إذا لاحت إشارة في خفاياها معنى القبول من عين أديث البراقة اللامعة، أديث بارعة الجمال، التي كان لها في سحر سيماها جمال يفوق جمال الاتساق والوسامة في ملامحها، والبريق والضياء في بشرتها؛ ولذا بدرت منها - رغم غيرتها وحذرها - دلالات خفيفة؛ ولولا ذلك لما تسنى للسير كنث أن يعرف منها على الفور والحين، وبغير ارتياب، يدها الجميلة التي لم يكد يبدو منها إصبعان من تحت القناع، ولما قر في نفسه اليقين بأن الزهرتين اللتين سقطتا متواليتين في مكان واحد إنما كانتا إلماعا من حبيبة قلبه. ولن نحاول هنا أن نقص كل ما أدى إلى هذا التفاهم المتبادل بين أديث وحبيبها من ملاحظات متوالية، وإشارات خفية، ونظر وتلويح، ومؤاخاة غريزية في الحب، فإنما نحن في ذيل العمر، ولو تحدثنا عن رموز الحب الخفية، تحدانا في القدرة على ذلك شباب له عيون سريعة اللمح في هذه الشئون؛ وحسبنا أن نقول إن هذا الحب قام بين شخصين لم يتبادلا كلمة واحدة، وكانت أديث من ناحيتها تحبس الكلام لإحساسها القوي بالصعاب والأخطار التي لم يكن بد من أن تعترضها في توثيق عرى الروابط بين قلبيهما؛ والفارس من ناحيته تساوره ألوف الشكوك والمخاوف، ويخشى أن يكون مبالغا في تقديره للإشارات الخفيفة التي أومأت بها فتاته، والتي كانت تتخللها - بحكم الضرورة - فترات طويلة يغلب عليها الفتور، وتبدو في غضونها أديث قليلة الاكتراث، وكأنها لا تلحظ وجوده، إما لأنها كانت تخشى أن تثير بمسلكها تنبه الأخريات، وتجر بذلك على عشيقها الأخطار، أو لأنها كانت لا تحب أن تسقط في اعتباره لشدة لهفتها على أن تملك منه قلبه.
ربما كانت هذه القصة طويلة مملولة، ولكنها ضرورية للرواية، وتعيننا على إيضاح ما كان بين المحبين - إن كان هذا أمرا يستحق العناية - حينما بدت أديث على غير انتظام في المعبد، وكان لها على مشاعر الفارس هذا الأثر البليغ.
الفصل الخامس
إذا ما ضربنا في الوادي الخيام،
فعبثا يسحرنا من الغيد الحسان القوام.
وإن بدا لنا «اشتاروث» أو «ترماجون»،
قلنا لطيفيهما اغربا عن هذا المكان.
وارتون
لبث السكون العميق والظلام الدامس ساعة وبعض ساعة يخيمان على المعبد الذي خلفنا فيه فارس النمر جاثيا على ركبتيه، تارة يتوجه إلى الله بالحمد، وطورا يذكر فتاته بالشكر، اعترافا بالنعمة التي أسبغت عليه؛ أما سلامته، أما نصيبه - وقد كان أبدا قليل الاكتراث بهما - فلم يعد لهما الآن في اعتباره وزن ذرة من تراب، فهو في جوار السيدة أديث، وقد جادت عليه ببعض شارات العطف، وهو الآن في مكان مبارك بما فيه من آثار لها أجل تقديس، وهو كجندي مسيحي، ومحب مخلص، لا يخشى شيئا، ولا يفكر في شيء، إلا في واجبه نحو السماء وفي حق فتاته عليه.
وفي الفترة التي انقضت بعد ذلك، رنت في أرجاء المعبد ذي القبو رنينا قويا جلجلة صفير كصفير صائد البزاة، وهو ينادي الصقور، ولم يكن هذا الصوت مما يليق بجلال المكان، وقد ذكر السير كنث بوجوب تيقظه، فهب من سجدته، ومد يده إلى خنجره ، ثم سمع صرير لولب أو بكرة، وسطع إلى أعلى نور كأنه ينبعث من فجوة في الأرض، وظهر للعين كأن بابا أرضيا قد ارتفع إلى أعلى أو انخفض إلى أسفل، وفي أسرع من لمح البصر، امتدت من الفجوة ذراع هزيلة، بعضها عار وبعضها مدثر في كم من الحرير الأحمر الموشى بالذهب، ممسكة بمصباح رفعته إلى أقصى ما تستطيع أن تمتد إلى أعلى، ثم أخذ الشبح صاحب تلك الذراع يصعد خطوة خطوة، حتى بلغ مستوى أرض المعبد؛ وكان لهذا المخلوق الذي بدا الآن جسم ووجه كأنهما لقزم مروع الهيئة ذي رأس كبير، عليه غطاء مزين بثلاث ريشات من ريش الطاووس زينة رائعة جميلة، يرتدي ثوبا من الحرير النفيس الأحمر الموشى بالذهب، مما جعل كآبة منظره أشد وضوحا، وتجذب العين منه أساور من ذهب تطوق معصميه وعضديه، ويتشح بوشاح من الحرير الأبيض يعلق به خنجرا ذا مقبض ذهبي؛ ويحمل هذا الرجل ذو الهيئة العجيبة بيسراه شيئا يشبه أن يكون مكنسة، ولم يكد يطل من الفجوة التي ارتفع منها حتى وقف ساكنا، وكأنه أراد أن يظهر جليا فحرك المصباح الذي كان بيده حركة خفيفة أمام وجهه وصورته، حتى يسطع الضوء على ملامحه الهمجية الحوشية أولا، ثم على أطرافه المعروقة المشوهة ثانية؛ وكان لهذا القزم جسم غير متسق الأجزاء، ولكن خلقه لم يبلغ به الانحراف حدا يشك معه الرائي أنه فاقد القوة والنشاط؛ وبينما كان السير كنث يتأمل هذا المنظر الذميم، طرأت على ذاكرته تلك العقيدة السائدة التي كانت تؤمن بالجن أو عفاريت الأرض، التي كانت تقطن الكهوف، وكان الشبح الماثل أمامه يطابق الصورة التي كانت في ذهنه عن هيئة هذه العفاريت، فحدق فيه بتقزز لا يخالطه الخوف، وإنما يمازجه نوع من الرعب قد يبثه مثل هذا المخلوق الخارق للطبيعة في أشد القلوب ثباتا وحزما.
অজানা পৃষ্ঠা