فقال الصليبي محتدا: «أيها العربي! مهما أظلمت عيناك، ومهما ضللتك مهامه شريعة خرقاء، أفلا تدرك أن من بين بلاد الله بلادا أكثر تقديسا، وأن من بين الأماكن أماكن، الشيطان فيها أشد سلطانا على النفوس الأمارة بالسوء؟ إنني لن أخبرك بالسبب المروع الذي من أجله اتخذ الشيطان هذا المكان، وهذه الصخور، وهذه الكهوف ذات القباب المظلمة، التي توهم الرائي أنها تؤدي إلى أغوار سحيقة، مرتعا خاصا له ولجنوده؛ وحسبك أن رجالا قديسين حكماء، يعلمون حق العلم خصائص هذا المكان الدنس، قد حذروني منه منذ زمن بعيد؛ فهل لك أيها العربي أن تقلع عن غيك، وعن هذا الهزل الذي ليس هذا بحينه، وأن تنصرف بفكرك إلى ما هو أليق بهذا المكان، وإن تكن خير دعواتك ما هي - واحسرتاه! - إلا إثم وكفران.»
وأصغى العربي لهذا الحديث بشيء من الدهشة، ثم رد بروح من الدعابة والفكاهة لم يخفها إلا بمقدار ما تقتضيه المجاملة وقال: «إنك يا سير كنث رجل طيب، ولكنك لم ترع لرفيقك حق الزمالة، وإلا، فأنتم معشر الغرب لا تكترثون بآداب اللياقة. إنني لم أر أنك قد أسأت إلي حينما أخذت تلتهم لحم الخنزير وتشرب الخمر على مرأى مني، بل لقد سمحت نفسي لك أن تستمتع بطعام قلت إنه من حرية المسيحية، ولم أعد أن أشفقت عليك في نفسي من متعتك الذميمة، فلماذا إذن تضجر مني وتشكو، وأنا إنما أسري عنا - بكل ما وسعت من شعر جذل - هذه الطريق الموحشة؟ ولقد قال الشاعر ما معناه: «إنما الغناء كقطر الندى يساقط من السماء على صدر الصحراء فيجعل طريق المسافر بردا وسلاما.»
فأجاب المسيحي: «اسمع يا صاح! أنا لا أكره اللهو أو الغناء، بل إنا لنوليهما من قلوبنا مكانة عليا، قد يكون أولى بها ما هو خير منهما؛ ولكن الدعاء لله والأناشيد الدينية أليق بك من أغاني الحب وكئوس الخمر، وأنت تخترق هذا الوادي، وادي ظل الموت، المليء بالأبالسة والشياطين، الذين أصابتهم دعوات القديسين فطردتهم من مساكن الإنسان يهيمون في بلاد عليها وعليهم لعنة الله.»
فأجاب العربي قائلا: «لا تتحدث عن الجن بمثل هذا أيها المسيحي، واعلم أنك توجه الخطاب إلى رجل هو وأمته يرجعون بأصلهم إلى جنس مخلد، تخشونه في مذهبكم، وتستنزلون عليه غضب الله.»
فأجاب المسيحي: أعلم أن أمتكم العمياء تنتسب إلى الشيطان الرجيم، الذي مد إليكم يد المساعدة، فمكنكم من الاحتفاظ بهذه الأرض المكرمة، أرض فلسطين، فوقفتم في وجه عدد عديد من جنود الله الأبطال. إنني لا أتحدث عنك خاصة أيها العربي، وإنما عن قومك عامة وعن دينك، وليس العجيب أنكم تنتمون إلى الشيطان، وإنما العجيب أنكم تفخرون بذلك.»
فأجاب العربي: «نحن أشجع الشجعان؛ بمن نفخر في كرم المحتد إن لم نفخر بأشد المخلوقات إقداما؟ نحن الجبابرة المتكبرون؛ إلى من ننتمي إن لم ننتم إلى إبليس، الذي آثر أن يخرج من الجنة مدحورا على أن يسجد لآدم طائعا؟ إن إبليس ذميم مكروه، ولكنه مهيب الجانب، وكإبليس نحن أبناؤه أهل كردستان.»
وكان العلم السائد في هذا العصر هو قصص السحر والاتصال بالأرواح، ولذا فقد استمع السر كنث إلى رفيقة حينما اعترف بأصله الشيطاني، ولم تساور نفسه خلجة من شك، أو أثر من عجب، ولكنه مع ذلك قد أحس بفرائصه ترتعد، حينما ألفى نفسه في هذا المكان المروع برفقة رجل أعلن صراحة عن أصله الذي ذكرنا؛ وكان السير كنث لا يعرف الخوف بطبعه، فرسم علامة الصليب على نفسه، وطلب إلى العربي في جرأة أن يحدثه شيئا عن أصله الذي يفتخر به، وسرعان ما لبى العربي مطلبه فقال: «اعلم أيها الغريب الشجاع أن «الضحاك»، أحد أبناء جمشيد، لما اعتلى عرش فارس، عقد مجمعا من الشياطين تحت قباب «اصطخر» الخفية، تلك القباب التي نحتتها الأرواح الأولى في عين الصخر، قبل أن يخلق الله آدم نفسه، وهناك كان للضحاك حيتان ضاريتان، أخذ يطعمهما ويقدم لهما القربان كل يوم من دم الإنسان؛ حتى صارا - كما يحدثنا الشعراء - جزءا من نفسه، وأراد أن يبقي عليهما، فأخذ يجمع لهما الضحايا البشرية كل يوم، حتى نفد صبر رعيته؛ فرفعوا في وجهه راية العصيان، وكان من بينهم أمثال الحداد المقدام، و«فريدون» الظافر، اللذين استطاعا آخر الأمر أن يخلعا هذا الظالم المستبد عن عرشه، ويحبساه طوال حياته في الكهوف المظلمة في جبال «راموند»، ولكن هذا الرجل المتعطش للدماء كان قد بعث وهو في أوج قوته - قبل أن تخلص البلاد من حيفه - بثلة من أتباعه اللصوص، كي يأتوه بالفرائس يقدمها ضحايا كما اعتاد كل يوم، فجاءوا إلى أبهاء قصر «اصطخر» بسبع أخوات، تحسبهن من فرط جمالهن من حور الجنان. هاتيك الفتيات السبع هن بنات رجل حكيم، لا يملك من الثروة غير حكمته وجمال بناته ولكنه - على حكمته - لم يستطع أن يتوقع الكرب الذي حل به، والبنات لم يملكن أن يدفعن الشر، ولم تعد كبراهن العشرين، ولم تكد تبلغ صغراهن الثالثة عشرة، وكن جميعا على صورة واحدة، لا تستطيع أن تفرق بين الواحدة والأخرى إلا باختلاف القد، إذ كن يتوالين في طولهن متتابعات، مثلهن في ذلك مثل المصعد الذي يؤدي إلى أبواب الجنة؛ وما كان أجملهن حين وقفن تحت القبة المظلمة، وقد خلعن ثيابهن، ولم يتسترن إلا بقمص من الحرير الأبيض، يهززن بجمالهن قلوب البشر؛ إذ ذاك جلجل الرعد، وزلزلت الأرض، وتشقق حائط البهو، ومن بين تلك الشقوق تسلل رجل في زي صائد، بيده قوس ونشاب، وفي إثره ستة من إخوته، وكانوا جميعا رجالا طوالا، سود الوجوه، محياهم جميل الطلعة، إلا أن في أعينهم بريقا كبريق الموت، لا كذلك الضياء الذي يتألق تحت جفون الأحياء؛ ثم أمسك زعيمهم بيد كبرى الأخوات السبع، وقال في صوت ناعم خافت فيه رنة الأسى: «زينب! أنا «كثرب» ملك العالم السفلي، ورئيس الجن الأعلى؛ أنا وإخوتي هؤلاء - وقد خلقنا الله من النار الأولى - قد أبينا، حينما أمرنا العزيز القادر، أن نسجد لكائن خلقه من طين وسماه الإنسان. وما أخالك قد سمعت عنا إلا أنا قساة لا نلين، نوقع الشر بالنفوس، وما هذا إلا باطل، إنما نحن بطبيعتنا كرام رحيمون، لا ننقم إلا إذا لحقتنا إهانة، ولا نقسو إلا إذا مسنا أذى، من وثق فينا أخلصنا له، وقد دعانا أبوك، «مثراب» الحكيم، فلبينا الدعاء، وأبوك بحكمته لا يعيد أصل الخير فحسب، وإنما يعيد منبت الشر كذلك؛ إنك وأخوتك على حافة الموت، ولكنكن إن أعطتنا كل واحدة منكن شعرة من فرعها الجميل، دليل على الولاء، حملناكن فراسخ من هنا إلى مكان آمن تتحدين منه الضحاك ووزراءه.» ولقد قال الشاعر إن الخوف من الموت العاجل كالخوف من عصا موسى نبي الله، التي ابتلعت كل عصا انقلبت أمام فرعون الملك إلى حية تسعى؛ وهكذا كان بنات الحكيم الفارسي، فلم يرعن لخطاب كثرب، كما ارتاع غيرهن، فأعطينه ما فرض عليهن، وفي أسرع من لمح البصر انتقل الأخوات إلى قصر مسحور فوق جبل «تجرت» بكردستان، ولم تقع عليهن من بعد عين إنسان؛ ثم انقضى زمن طويل، وذات يوم ظهر إلى جوار هذا القصر - قصر العفاريت - سبعة شباب، لهم صيت في الحرب والطراد، أشد حلوكة وأعلى ارتفاعا وأشد بأسا وأقوى عزيمة من كل من نزل بأودية كردستان من إنسان، فاتخذوا البنات السبع زوجات لهم، وأصبحوا آباء لقبائل الكرد السبع، التي طبق ذكر شجاعتها الآفاق.»
استمع الفارس المسيحي متعجبا إلى هذه القصة الوحشية، التي ما زال لها أثر بأرض كردستان، ثم أطرق هنيهة وقال: «أصبت فيما قلت أيها الفارس؛ قد يخشى المرء منبتكم وينبذه، ولكنه لا يستطيع أن يحقر من شأنه، ولن أعجب، بعد الذي سمعت، من تشبثكم بدين باطل، فلا ريب أن ذلك ما هو إلا ناحية من ميولكم الشيطانية، التي ورثتموها عن آبائكم، الذين وصفتهم كأنهم صيادون من الجحيم؛ ميولكم التي تحبب إليكم الباطل دون الحق، ولن أعجب بعد منك تنتشي وتطرب وتنفس عن مكنون نفسك برواية الشعر، مترنما به في آونة أنت تدنو فيها من أمكنة ترتادها الأرواح الخبيثة التي توعر مسالكها؛ تلك الأرواح التي تبعث فيك مرحا وجذلا يحس بهما المرء وهو يدنو من موطن أسلافه.»
هذه الحرية التي عبر بها المسيحي عن رأيه سر منها العربي، ولم تجرح كرامته، فقال «حقا ما قلت ولحية أبي، فإننا، على خلاف غيرنا من المسلمين، لا نريد أن نقضي بضربة لازب على تلك الأرواح الأولى القوية العالية التي نعتقد أنا منها نأشنا، وذلك رغم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা