وارتاعت الملكة بدورها ، وأنحت كعادتها في عبثها هذا على من كن يتحوطنها، وحاولت أن تخفف من أسى أديث، وأن تخمد فيها ثائر غضبها بألوف الأقوال المتضاربة، وكانت على يقين من أن لم يحدث أذى، وخيل إليها أن الفارس لا بد نائم بعد سهره ليلا. وفيم الخوف من غضب الملك إن كان الفارس قد فر بالعلم؟ ليس العلم إلا قطعة من حرير، وما الفارس إلا رجل جريء معدم. وإن كان كنث قد زج به في السجن إلى حين فلسوف تستصدر له من الملك العفو سريعا، وما عليها إلا أن تتريث حتى تمر برتشارد هذه السحابة الكئيبة ثم تنقشع.
وهكذا واصلت حديثها بغير انقطاع، وتفوهت بكل ضروب المتناقضات، وهي ترجو عبثا أن تخدع أديث وتخدع نفسها بأن اللهو لن ينتهي إلى أذى، ولكنها كانت الآن من صميم قلبها نادمة أحر الندم على هذا العبث الذي عبثت. وبينا أديث تحاول دون جدوى أن تعترض هذا السيل الدافق من الحديث العقيم، دخلت إلى غرفة الملكة إحدى السيدات فملكت على أديث بصرها، إذ كان الموت في مرآها المروع الخائف؛ وما إن وقع بصر أديث على محياها حتى خرت على الأرض صريعة، ولولا الضرورة الملحفة وعلو خلقها لما أمكنها أن تستبقي على الأقل ظاهرا من رباطة الجأش.
وقالت للملكة: «مولاتي، لا تنبسي هباء بكلمة واحدة تلفظينها بعد هذا، ولكن أنقذي حياة ...» ثم أردفت وصوتها يختنق وهي تتكلم وقالت: «أنقذي حياة إن كان للحياة من بعد هذا منجاة.»
فأجابت السيدة كالستا وقالت: «إن في النجاة لأملا؛ فلقد نما إلي الآن أنه سيق إلى الملك، ولما ينته الأمر ولكن ...» ثم انفجرت في فيض من البكاء غزير، كان لمخاوفها الذاتية فيه نصيب وقالت: «ولكن الأمر عما قريب ينتهي إلا إن سلكتن طريقا أخرى.»
فقالت الملكة محتدة: «نذرت للقبر المقدس قنديلا من الذهب، ولسيدتنا صاحبة عين جدة حرما من الفضة، وللقديس «توماس أرثر» بساطا للرحمة قيمته مائة بيزنط ...»
فقالت أديث: «هيا، هيا يا مولاتي. ادعي القديسين إن شئت، ولكن كوني أنت خير قديسة .»
فأجابت الوصيفة المرتاعة وقالت: «حقا مولاتي، ما تقول السيدة أديث إلا صدقا؛ انهضي مولاتي وهيا بنا إلى سرادق الملك رتشارد نطلب العفو عن حياة هذا الرجل الفاضل.»
فقالت الملكة: «إني ذاهبة، سوف أتوجه إليه توا.» ثم نهضت وهي ترتعد ارتعادا شديدا، والنسوة حواليها في مثل حيرتها وارتباكها، عاجزات عن أن يؤدين لها تلك الخدمات التي لم يكن عنها مندوحة لهذه الزيارة الرسمية. وتقدمت أديث إلى الملكة هادئة رابطة الجأش، إلا أن صفرة كصفرة الموت كانت تعلو جبينها، وناولت بيدها الملكة ما أرادت، وسدت وحدها ما قصر فيه الوصيفات العديدات.
ولم تستطع الملكة حتى آنئذ أن تنسى ما تميزت به من الاستخفاف والاستهتار فقالت: «أية خدمة تؤدين أيتها النسوة، كيف ترضين أن تقوم السيدة أديث بواجبكن في الخدمة؟ هلا ترين يا أديث أنهن لا يعملن شيئا! ما أظنني بمستطيعة أن أتم ارتدائي في حينه؛ لنبعثن إذن لرئيس أساقفة صور ونستخدمه لنا وسيطا.»
فصاحت بها أديث قائلة: «كلا، كلا، بربك لا تفعلي، اذهبي بنفسك يا مولاتي، لقد صدرت عنك الإساءة وعليك محوها.»
অজানা পৃষ্ঠা