يحدد المترجمون التحريريون اللغة أو اللغات التي يستطيعون الترجمة منها (وهي لغاتهم الأساسية)، وتلك التي يستطيعون الترجمة إليها (وهي لغاتهم المستهدفة)؛ على سبيل المثال: قد تكون اللغات الأساسية هي الألمانية والإسبانية، واللغة المستهدفة هي الإنجليزية. في عالم الترجمة التحريرية والشفوية يتحدث المرء عن اللغات النشطة (أي المترجم إليها) واللغات السلبية (أي المترجم منها). في الفئة الأولى من اللغات، تكون اللغة «أ» هي لغة المرء الأصلية أو لغة أخرى تشبه تماما لغته الأصلية (ومن ثم تكون اللغة المستهدفة)؛ وتكون عادة اللغة «ب» هي أولى اللغات الثانية التي يتقنها المرء جيدا (وعادة ما تكون هي أيضا لغة مستهدفة). وفي فئة اللغات الثانية، نجد لغة واحدة أو أكثر يفهمها المرء بالكامل، وهذه اللغات تكون اللغات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يتخصص كثير من المترجمين التحريريين والشفويين في مجالات معينة، مثل القانون أو الاقتصاد أو السياسة.
تعتبر الترجمة التحريرية مهارة ثنائية اللغة خاصة؛ فأنت تحاول التعبير بإحدى اللغات، بأكبر قدر ممكن من الأمانة، عن معنى وأسلوب نص بلغة أخرى؛ ويعني هذا الفهم الكامل للنص الأصلي باللغة الأساسية، والتمتع بمهارات النقل الضرورية، بالإضافة إلى المهارات اللغوية والثقافية، في اللغة المستهدفة. ولا تبقى إلا مساحة صغيرة للغاية لحدس المترجم أو إبداعه؛ فيجب أن يتبع المترجم النص الأصلي بأقصى قدر ممكن من الدقة، ويعرضه على نحو صحيح في اللغة المستهدفة. لا عجب إذا من وجود كليات متخصصة يستطيع فيها الطلاب تعلم المهارات المرتبطة بالترجمة، عادة على مستوى الدراسات العليا (على سبيل المثال: معهد مونتيري للدراسات الدولية في كاليفورنيا، ومدرسة الترجمة التحريرية والشفوية في جنيف). إن أحد متطلبات الالتحاق بهذه الأماكن التمتع بمهارات لغوية ممتازة في لغتين أو أكثر؛ تحول بعد ذلك الدراسة الطالب إلى مترجم معتمد.
يوجد فعليا مئات الآلاف من المترجمين في العالم في عصرنا الحالي، ويعمل كثير منهم في المؤسسات الدولية والهيئات الحكومية والشركات الكبرى وشركات النشر وغيرها. وكحال المهن الأخرى، يوجد أشخاص متميزون، وهم المترجمون الذين يقدرون لمهاراتهم لكنهم غير معروفين بالنسبة إلى الناس، لكن كل أقرانهم يعرفونهم ويكنون لهم احتراما كبيرا. يوجد أيضا بعض المؤلفين المشهورين الذين كانوا (أو ما زالوا) مترجمين؛ على سبيل المثال: قدم الشاعر الفرنسي شارل بودلير ترجمة ناجحة للغاية لأعمال إدجار آلان بو، وترجم الكاتب الأمريكي الذي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف «أليس في بلاد العجائب» إلى الروسية، بالإضافة إلى أعمال لفيرلين وتينيسون وبايرون وكيتس وشكسبير وما إلى ذلك (التي تكون شعرية عادة)، وترجم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الكثير من الأعمال الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية.
توجد لدى المترجمين الشفويين مجموعة أكثر تعقيدا من المهارات؛ فبالإضافة إلى ما ذكرناه عن المترجمين التحريريين، لا بد لنا أن نضيف كل المهارات اللغوية والمعرفية التي تسمح للمترجمين الشفويين بالانتقال من سماع مدخلات شفوية بإحدى اللغات إلى إنتاج مخرجات شفوية باللغة الأخرى، سواء أكان هذا فوريا أو تتابعيا.
1
تشتمل هذه، ضمن أشياء أخرى، على حسن الإنصات، ومعالجة المدخلات باللغة الأساسية وفهمها، وحفظها، وصياغة الترجمة باللغة المستهدفة، ثم إلقائها، فضلا عن أداء مهمة مزدوجة (تلقي المقطع التالي في نفس وقت إلقاء ترجمة المقطع السابق)، وتدوين الملحوظات في بعض أنواع الترجمة الشفوية، والنطق الواضح. ومن ثم يكون التدريب على الترجمة الشفوية صعبا للغاية ويحتاج إلى سنوات إضافية من الدراسة.
فيما يتعلق بالوضع اللغوي، يعمل المترجمون الشفويون في وضع ثنائي اللغة، لكن لا تكون إحدى لغتيهم أكثر تفعيلا من اللغة الأخرى، كما يحدث في تواصل الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين، وإنما يجب أن تكون كلتا اللغتين (اللغة الأساسية واللغة المستهدفة) مفعلتين بالقدر نفسه؛ فلا بد أن يكون المترجم الشفوي قادرا على سماع لغة المدخلات (اللغة الأساسية) ولغة المخرجات (اللغة المستهدفة) أيضا، ليس فقط من أجل مراقبة ما يترجمه، وإنما أيضا تحسبا لاستخدام المتحدث للغة المستهدفة في شكل عمليات تبديل لغوي. ومع ذلك، يجب عدم تفعيل (تعطيل) آليات إنتاج اللغة الأساسية تماما، حتى لا يخطئ المترجم الشفوي ويكرر ببساطة ما يسمعه بدلا من ترجمته (كما يحدث أحيانا عندما يصاب المترجمون الشفويون بتعب شديد). في ظل كل هذه المتطلبات، لا عجب أن المترجمين الشفويين، تماما مثل المترجمين التحريريين، يعتبرون من الأشخاص الثنائيي اللغة المميزين، وأن الثنائيي اللغة العاديين لا يكونون مترجمين تحريريين وشفويين بالفطرة. علم أحد الطلاب الثنائيي اللغة هذا من خلال التجربة عندما اختبر لوظيفة مترجم شفوي، فقال:
عندما كنت طالبا في باريس، وجدت إعلانا ذات يوم يبحث عن مترجمين شفويين للعمل في مؤتمر ليوم واحد. سيطلب منهم تقديم ترجمة شفوية لهذا المؤتمر من الإنجليزية إلى الفرنسية. كنت ساذجا، فقلت لنفسي: أليس كل الأشخاص الثنائيي اللغة مترجمين شفويين بالفطرة؟ وذهبت إلى المكتب المنظم للمؤتمر. كانوا يستقبلون الناس بترحاب شديد، وشعرت بثقة كبيرة في إمكانية الحصول على هذه الوظيفة. وجدت نفسي داخل حجرة صغيرة من أجل اختبار تجريبي، ووضعت على أذني السماعات التي أعطوها لي. سمعت الجملة الأولى واستطعت ترجمتها على نحو جيد، فقلت لنفسي: يبدو هذا أمرا سهلا. لكن بدأت المشكلات على الفور؛ ففي أثناء ترجمتي للجملة الأولى، كانت الجملة الثانية تقال بالفعل ولم أكن منتبها بالكامل إليها. استطعت تذكر بدايتها، لكن لم أتذكر نهايتها. حاولت جاهدا لكن سرعان ما تأخرت كثيرا عن الصوت المسجل ولم أستطع ببساطة أن أقول أي شيء بعد بضع دقائق. تركت الحجرة والمكتب وأنا غير فخور بنفسي. ظل هذا المشهد واضحا في ذهني لمدة أربعين سنة، ومنذ ذلك الحين أحترم كثيرا المترجمين الشفويين والتدريب الذي يضطرون إلى الحصول عليه حتى يؤدوا وظيفتهم على أفضل وجه.
2 (3) العملاء السريون
يعتقد كثير منا أن العملاء الذين يعملون مع أجهزة المخابرات يكونون على الأرجح ثنائيي اللغة والثقافة، في صورة كورت شتاينر في رواية «هبط النسر» لجاك هيجنز، وهي رواية عن محاولة ألمانية لخطف ونستون تشرشل في أثناء الحرب العالمية الثانية. في القصة كان والد شتاينر لواء في الجيش الألماني، وكانت والدته أمريكية. تربى شتاينر نفسه، الذي كان قائدا لإحدى وحدات الكوماندوز الألمانية، في كل من إنجلترا وألمانيا، وكان ثنائي اللغة تماما.
অজানা পৃষ্ঠা