الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
ثم تشرق الشمس
ثم تشرق الشمس
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
صعد همام بك الأزميرلي إلى الطابق الأعلى من منزله، وابتسامة فرحانة تشيع في وجهه كله، وكانت زوجته سميرة هانم تجلس في البهو الذي تعودت أن تنتظره فيه. وما لبثت ابتسامة زوجها أن ترقرقت على وجهها، وأحس الزوجان الكبيران فرحة مشرقة بينهما؛ فقد عاشت سميرة هانم مع زوجها السنوات الطوال لم تلقه يوما حين عودته إلا بهذه الإشراقة، وعاش هو معها يطيب نفسا بلقائها وبكل شيء تقوم به، فلم يكن غريبا إذن أن تطفر السعادة بينهما عند اللقاء. ولكن همام بك كان يحمل لزوجته في يومه هذا هدية أراد أن يشفعها بهذه الابتسامة التي صحبته في طريقه إلى الطابق الأعلى من منزله.
جلس الزوج إلى كرسيه وأخرج من جيبه ورقة مطوية وأعطاها زوجته، ولم يزد على قوله: مبروك يا ستي.
وأخذت الزوجة الورقة وقد شاع في وجهها فرح مستطلع، وفتحت الورقة وهي تقول: خيرا.
ثم لم تنتظر الإجابة، بل راحت تقرأ الورقة التي تبينت فيها أول ما تبينت أنها ورقة رسمية عليها أختام وتوقيعات كثيرة، ثم ما لبثت أن تجهم وجهها هونا وقالت لزوجها: ما هذا؟ - ماذا؟ ألم تعرفي؟ - ما الذي جعلك تفعل هذا؟
وفهم الزوج مبعث غضبها، وازداد بهذا الغضب فرحا وازداد به حبا لزوجته وإعجابا، وقال وفي صوته رعشة: عشرون فدانا، قصدني صديق أن أشتريها منه بدل أن يشتريها منه غريب لا يعرفه، ورأيت أن أكتبها باسمك، ولم أشأ أن أخبرك حتى أسجل الشراء في المحكمة المختلطة.
وقالت سميرة هانم وقد اختلج وجهها، وطفرت إلى عينيها دموع حبستها أن تسيل خشية من إغضاب زوجها الذي يريد رضاءها: ومن قال لك إني أريد أرضا أو فدادين؟ - وماذا يغضبك في هذا؟ - يغضبني أنني لا أريد منك إلا أنت، أنت وحدك، وتفكيرك في كتابة أرض لي تفكير لا أحب أن يجول في ذهنك؛ لأني لا أحب أن يجول في ذهني، أنت غناي كله، وما كنت أحب أن تظهر رضاءك عني في أرض. تكفيني منك ابتسامة رضا، ويغنيني في حياتي أن أراك مرتاحا في بيتك وبين أولادك. - الله يبقيك يا سميرة.
وكادت الدموع تطفر إلى عيني الرجل، ولكن رجولته ما لبثت أن تغلبت، وما لبث هو أن غير موضوع الحديث: أين الأولاد؟ - خيري ويسري ما زالا في المدرسة. - تقولين خيري ويسري في المدرسة وكأن يسري أصبح تلميذا كبيرا مثل خيري.
وعادت الابتسامة هونا إلى وجه سميرة هانم وهي تقول: لو رأيته وهو يغالب النوم مصمما أن يسهر مثلما يسهر أخوه عاجزا في الوقت نفسه أن يغالب رأسه المائل وجفونه المقفلة، وكلما صحت به أن يقوم للنوم انتفض لحظات معارضا، ثم ما يلبث رأسه أن يعود إلى الميل وجفونه إلى الانطباق. - أرجو أن يصبح مثل أخيه في المذاكرة. - خيري، الله يحميه. - الحمد لله، فيه البركة، لا أذكر أنني طلبت منه أن يذاكر أبدا. - الحمد لله، ناجح دائما، ولكني يا همام بك غير مرتاحة لاستذكاره خارج البيت في هذه الأيام. - لماذا؟ إنه يذاكر عند محسن ابن عمه، والبكالوريا محتاجة لتعاون الطلبة. - نعم أعرف، ولكن هل يا ترى يقدمون إليه حاجته من طعام وشاي وقهوة كما نفعل هنا؟ - بيت عزت مفتوح.
وابتسم همام ابتسامة تخفي معنى ما، أو لعلها تبين عن ذلك المعنى وهو يقول: ولعل هناك يا ست سميرة من يهتم بشأنه أكثر مما تفعلين، أين نادية؟ - في حجرتها. - ناديها تجلس معنا.
وقبيل أن تقوم سميرة هانم تأتي الخادمة لتنبئ البك أن صديقه فواز بك في الطابق الأسفل ويريد أن يلقاه، ويقوم همام بك إلى صديقه، وتعود سميرة إلى الورقة تقرؤها، ثم ما تلبث دمعات لها أن تسيل؛ فقد كانت هذه الورقة تجسم لها الخوف من يوم تحتاج فيه إلى ريع أرض، ويومذاك ما الأرض وما المال، بل وما الدنيا جميعا إذا فارقها زوجها؟ هذا العطوف الطيب السمح الذي يحول بينها وبين هموم الحياة، لا كان ذلك اليوم، لا كان.
الفصل الثاني
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة الخديوي إسماعيل، وخرج التلاميذ. وكان خيري مع جماعة من إخوانه يعرفون أن عليه أن يذهب إلى مدرسة المنيرة لينتظر أخاه يسري ويصحبه إلى البيت، فرافقوه الطريق، ولكن محسن عزت لم يشأ أن يصحبهم وقال لخيري: لا بد لي أن أذهب إلى البيت، فقد تركت أختي الصغيرة مريضة، وأريد أن أطمئن عليها.
وقال خيري في لهفة شفوق: من؟ فايزة؟ - نعم. - مسكينة! وهل تتحمل المرض؟ طيب اذهب أنت وسألحق بك.
وانفصل محسن عن الجماعة، فساروا إلى مدرسة المنيرة، ولما بلغوا بابها كان لا يزال أمام انصراف تلاميذها بضع دقائق، وظل خيري ورفاقه أمام الباب يتحدثون ، ولكن نجيب كامل صديق خيري المقرب أحس الجزع الذي يعانيه خيري، فقال له في صفاء: إن شئت فاذهب أنت إلى محسن، وسأصحب أنا يسري إلى البيت. - أترى ذلك؟ - وما البأس؟ - أخشى أن يجزع يسري لغيابي، سأنتظره حتى يخرج ثم أذهب أنا إلى محسن. ولكن وحياة والدك يا نجيب احرص على يسري في الطريق؛ فهو كثير الحركة لا يهدأ. - ألا أعرف يسري؟ لا تخف يا أخي. - واحذر أن تدخل به في مظاهرة. - مظاهرة؟ آه، أظنها الآن بلغت عابدين.
وقال صلاح الفولي: بهذه المناسبة ألا تعرف ماهية هذه المظاهرة يا خيري؟ - هل يمر يوم من غير مظاهرة؟ حزب الوفد وحده كان يقيم المظاهرات كل يوم في وزارة محمد محمود، فما بالك والوفد اليوم مع الأحرار الدستوريين، المظاهرات كل ساعة، هل مر علينا يوم في وزارة صدقي من غير مظاهرات؟ - يا أخي، وكأن الرجل معجون من حديد، صلب، كأن المظاهرات تخرج لتحيته. - المهم أن تحافظ على يسري يا نجيب، احذر منه. - لا تخف.
وتدخل صلاح الفولي في الحديث سائلا خيري: قل لي يا خيري، هل محسن ابن عمك مباشرة؟ - تقريبا. - لا أفهم، ما معنى تقريبا؟
فقطع نجيب الحديث قائلا: هل تمت شجرة عائلة خيري عندك ولم يعد ينقصها إلا صلة خيري بمحسن؟!
واغتاظ صلاح فقال في حدة: يا أخي ما شأنك أنت، هل سألك أحد؟
وقبل أن يجيب نجيب دق الجرس، وما هي إلا بضع دقائق حتى انفرج باب المدرسة عن أفواج التلاميذ، وقد تباينت جسومهم وأعمارهم تباينا شديدا؛ فهذا طويل فارع الطول، وهذا نحيل ضئيل لا يكاد يبين في الحشد الذي يجاهد للخروج من الباب، وآخر سمين مفرط السمن. وبينهم من يتعهد شاربه في اعتزاز، وبينهم من يتعهد طربوشه في تأنق، ومنهم من لا يعتز بشيء أو يهتم بشيء إلا أن يخرج من المدرسة وينفتل إلى بيته، أو إلى الرفاق الذين ينتظرونه عند بيته. وبين التلاميذ من ينتظره خادمه، وبينهم من ينتظره ذووه، ومنهم من لا ينتظره أحد، ولا فارق ثمة عندهم بين هذا وذاك، فكلهم في هذا الرحاب سواء.
وتكسر فيهم غرور الثراء
وزهو الولادة والمنصب
بيوت منزهة كالعتيق
وإن لم تستر ولم تحجب
ويظهر يسري وعينه إلى المكان الذي تعود أخوه أن ينتظره فيه. فيقصد إليه في غير ترحيب ولا ضيق، غير ملتفت إلى هذه الابتسامة التي أشرقت على وجه خيري حين رآه. فما كان يفهم لها معنى، إلا أنه كان فرحا على أية حال أن خرج من المدرسة ليستقبل البقية الباقية من يومه في لعب ومرح.
وطلب خيري إلى أخيه أن يسير مع نجيب حتى البيت، وطلب إليه أيضا أن يكلمه في التليفون عند عمه عزت بك ليطمئنه على وصوله، فوعده يسري بالطاعة. وانصرف هو ونجيب وبقية الرفاق وعين خيري تصاحبهم حتى حاد بهم الطريق، فانصرف هو إلى بيت صديقه وقريبه محسن.
كانت فايزة طفلة في سنتها السادسة، ضحكة البيت المرحة الطروب. إليها يلجأ الأب إن ضاق بالسياسة التي يعمل في ميدانها، وإليها تلجأ الأم كلما وجدت من بيتها فراغا، وحولها يجلس محسن وخيري كلما ضاقا بالمذاكرة. كانت فايزة عند محسن أخته الحبيبة الضاحكة، وكانت عند خيري كل هذا وشيئا آخر أكثر من هذا وأعز، كانت وسيلته إلى وفية؛ فحولها كانوا يجلسون كلما عن لهم أن يتركوا المذاكرة حينا، وحولها كانت تصاحبهم وفية تلهو معهم وتفتح لأختها الصغيرة موضوعات الأحاديث التي تظهر لثغتها، وبين الضحكات الصاخبة تلتقي عيون صافية، وقلوب شغفها الحب الطاهر، ومنعها الحياء أن تبين عن حب بها زاخر موار.
هي وفية أمل الصبا والشباب، كانت الطفولة تجمعهما في الملعب، ثم استقبلا الشباب معا فنزل بينهما ستارا رقيقا دقيقا عنيفا لا يلين؛ فالخلوة بينهما لا تتاح، واللقاء بينهما بمقدار، والعيون حولهما رواصد، والرقيب عليهما عتيد، يحسانه في دعوة الأم لوفية إن طال بقاؤها في الغرفة، ويحسانه في نظرة محسن العاتية إذا علت ضحكة لها، ويحسانه أول ما يحسانه في نفسيهما التي تحول بينهما وبين الانطلاق الذي كانا يمرحان فيه حين كانت الطفولة تظلهما. وهما مع ذلك يحمدان الشباب، ذلك الوافد الجديد؛ ففي بريقه عرفا معنى هذا الخفق العنيف الذي كان يزحم صدريهما ولا يدريان له سببا، وفي هذا الخفق عرفا الحياة، وفي هذا الستار الذي أسدله الشباب عرفا الحب، وفي هذا الرقيب الذي حل بهما عرفا لذة ناره. إنهما يحمدان الشباب ويحمدان ما فرضه عليهما من قيود، فهي قيود لم تستطع على شدتها أن تمنع العين أن تلتقي بالعين، والابتسامة أن تلاقيها ابتسامة، والإشراقة أن تستقبلها إشراقة. وحول فايزة كانت تلتقي العيون والابتسامات والإشراقات.
وهكذا جزع خيري لمرض فايزة جزعا شديدا، فذهب إلى منزلها يريد أن يطمئن عليها، ويرجو من صميم قلبه ألا يطول هذا المرض. واستقبله البيت في وجوم صاخب؛ فالخدم مشغولون بتنفيذ الأوامر التي لا ينقطع لها سيل، والجميع حول سرير فايزة يحيطون بها في إشفاق وخوف، ينتظرون الطبيب أن يفرغ من فحصه. وصعد خيري إلى الطابق العلوي، وحين عرف بوجود الطبيب مكث خارج الغرفة ينتظر. ولم يطل به الانتظار وإن أحسه هو طويلا، وخرج الطبيب ومعه وفية، وسارع خيري إلى وفية يسألها عما قال، فطمأنته في ابتسامة تكاد تشرق. وهدأت نفسه بعض الشيء، ودخل الغرفة وراح يضحك فايزة مقلدا طريقة نطقها للحديث، وهي تضحك في ابتسامة واهنة، وعمه عزت بك يحاول أن يضحك ليهون على زوجته إجلال ما كانت تنوء به من خوف شديد من هذه الحرارة المرتفعة التي تعانيها ابنتها.
ولم يطل خيري مقامه، بل سرعان ما طلب إلى محسن أن يؤجلا المذاكرة إلى الغد. وما أسرع ما ارتاح محسن لهذا الطلب! وخرج خيري من الغرفة، وقبل أن يصل إلى السلم التقى بوفية مرة أخرى، فطالعته منها ابتسامة عذبة. وسؤال هامس ناغم لم يزد على كلمة واحدة حملت معها معاني نعم بها قلبه أي نعيم. - خارج؟
وفي هناءة غامرة أجاب: أجلنا المذاكرة إلى الغد. - وماله. ولماذا لا تبقى معنا قليلا؟ - أنتم مشغولون بفايزة، وأنا أريد أن أذهب إلى البيت لأطمئن على يسري؛ لأني لم أوصله اليوم. - لماذا؟ - كنت مشغولا على فايزة فأرسلته مع أحد أصحابي، وطلبت إليه أن يكلمني هنا بالتليفون، ولكنه لم يتكلم، وأخاف أنا أن أتكلم ويكون حضرته في الشارع يلعب دون أن يري وجهه لنينا فتشغل لغيابه. - طيب يا سيدي، نشكرك. - علام الشكر؟ - على اهتمامك بفايزة. - أنت لا تعرفين كم هي عزيزة علي يا وفية، فايزة عندي مثل نادية تماما.
وأوشك أن يستطرد في حديث عن المكانة التي تشغلها فايزة في قلبه، بل أوشك أن يبين لها مكانة هذا البيت جميعا في نفسه، ولعل أملا متهافتا داعبه أن يحدثها عما لها هي في نفسه، واهما أن عينيه ووجهه هذا المشرق وذلك الضياء الذي يشع من خلجاته جميعا لم ترو لها حديث نفسه كاملا، لم تخف منه خافية، أوشك خيري ثم وقف به إيشاكه عندما ارتفع صوت إجلال هانم من حجرة فايزة: يا وفية! - نعم يا نينا.
وقبل أن يرتفع صوت إجلال هانم مرة أخرى ليدعو وفية، كان خيري قد استأذن وكانت هي قد همست في إعزاز: مع السلامة.
نزل خيري يثب السلم وثبا عنيفا، سريعا متلاحقا، ولكنه مع ذلك أهون من ذلك الوثب الذي أخذ قلبه يخفق به داخل ضلوعه فرحا بهذا الحديث الصغير الكبير الذي مهدت له الصدفة. لقد كاشفته بحبها في طلبها إليه أن يبقى، وكاشفته بحبها في نظراتها الحالمة الوادعة الرضية، وكاشفته بحبها في نغمات صوتها الهامسة الحالمة، وكاشفها هو بحبه فيما رواه عن مكانة فايزة من قلبه، وفي إشفاقه عليها وفي مسارعته إلى بيتهم مرسلا أخاه مع صديق. لقد تكاشفا بالعيون والوميض، والكلام يدور من بعيد كما يدور العابد حول معبوده المقدس ويكبره أن يلمسه. لم يقل أحبك وإن قالها ألف مرة، ولم تقل أحبك وإن كان قد سمعها منها ألف ألف مرة، لكم يحبها، ولكم يطيب له أن يقول في نفسه، ولكم تحبني.
الفصل الثالث
بلغ خيري البيت وقصد من فوره إلى حجرة يسري وفتحها، فوجده يلهو ويلعب على الأرض، فقال له في شيء من عنف شفوق: لماذا لم تكلمني يا أخي؟ - والله نسيت يا آبيه. - نسيت؟ ألا تقدر خوفي عليك؟ - ومم تخاف؟ هل أنا صغير؟ - طيب يا سيدي، أنا غلطان!
وأقفل الباب وذهب إلى أمه ينبئها بمرض فايزة، واستقبلت الأم النبأ في شيء من الإشفاق سائلة عن نوع المرض، ثم قالت لابنها إنها ستزورهم بمجرد عودة أبيه لتستأذنه وتستقل سيارته في زيارتها. ثم دار بينهما الحديث بعد ذلك في نواح شتى، ولكن الأم لاحظت أن الابن فرح طروب يجاهد عينيه ووجهه ألا تفضح ما يموج في قلبه من هناءة ورضا. وشاءت الأم أن تظهر لولدها أن ما يبذله من جهد قد نجح، وأنها لم تلحظ السعادة التي يعيش فيها.
ولكن غريزة المرأة الأم لم تمهد لها المضي فيما تشاء، فإذا هي تجذب الحديث جذبة عنيفة إلى ناحية لم يكن خيري يتوقع أن ينحرف إليها الحديث، قالت الأم في هدوء: خيري! - نعم يا نينا. - لماذا لا نخطب لك؟ - ماذا؟ - لماذا لا نخطب لك؟ - أنا تلميذ ولا أزال في البكالوريا. - وماله؟ - كيف؟ - أنت تلميذ مستقيم، نخطب لك، وحين تتخرج تتزوج. لم لا؟ - ولكن يا نينا. - ماذا؟ - لا يا نينا، هذا غير معقول. - أترى هذا؟ - والله أظن لو انتظرنا قليلا. - ولماذا ننتظر؟ - والله أمرك. - قد لا تنتظر العروس التي تريدها.
وانتفض خيري في حيرة ذاهلة: ماذا؟ العروس التي أريدها؟ أي عروس؟
وقالت الأم في سخرية رحيمة: وفية. - نينا. - نعم. - هل قلت إني أريدها؟ - إنك يا ابني تقول هذا كل يوم، كل دقيقة، كل مذاكرة مع محسن، وكل عودة من عند محسن، المصيبة أن الأولاد دائما يظنون أن آباءهم وأمهاتهم سذج، وأنهم يستطيعون أن يضحكوا منهم.
وتشرق نفس خيري وتعلو وجهه حمرة يجاهد أن يخفيها فيخفق جهده، ولا يجد شيئا يقوله آخر الأمر إلا: على كل حال يا نينا لا بد أن ننتظر قليلا. - طبعا، حتى تنال البكالوريا.
ويتلعثم خيري وهو يقول: نعم، وتشفى فايزة. - ماذا؟ تشفى فايزة! وهل مرضها خطير يا ابني؟ - أبدا، ولكنها مريضة على كل حال. - مرض بسيط وستشفى منه طبعا قبل دخولك الامتحان بوقت كبير. - إن شاء الله، أقوم أنا أذاكر قليلا. - قم يا بني، ربنا يوفقك، أليس عندك مدرس اليوم؟ - نعم، سيأتي حامد أفندي، وكان مفروضا أن يأتي محسن ليأخذ الدرس معي؛ ولذلك سأؤجل الحصة اليوم. - وهل سيعطي يسري درسه؟
وضحك خيري وهو يقول: إن حامد أفندي مدرس ممتاز، وهو يدرس ليسري من أجل خاطرنا فقط. - أليس مدرسا في مدرسته؟ - مجرد سوء حظ، إنما الحقيقة أنه فوق مستوى الابتدائي بكثير. وقد طلب إلي أن أرجو عمي عزت ليرقى إلى الثانوي. - وهل كلمته؟ - نعم، ووعد بأن يتكلم له. - ربنا يوفق الجميع يا ابني. - على الله، أقوم أنا.
وقام خيري إلى مذاكرته، ولكن أي مذاكرة؟ لقد داعب حديث أمه أملا كان يهفو إليه وما كان ليتوقع أن يأتي إليه هكذا من قريب، لم يكن ينوي المذاكرة في يومه هذا، أما وقد أصبحت المذاكرة هي طريقه إلى وفية فهو سيذاكر اليوم، وكل يوم، وكل ساعة، ولكن أي مذاكرة يطيقها اليوم؟ عيناه في الكتاب وخاطره مشغول يجمح به إلى هواه الذي كان بعيدا فأصبح وهو لا يمنعه عنه إلا هذا الكتاب، فيعود إليه هنيهات، ثم يتركه. وهكذا كانت مذاكرته كحسو الطائر، يشرب مهما يشرب، فلا يصيب من الماء إلا رذاذا أو أقل من الرذاذ.
الفصل الرابع
كان حامد أفندي عبد الكريم يقيم مع أمه الست مريم وأخته دولت في شقة متواضعة على رغم أنفها في الدراسة، أما أبوه فقد تركهم لا يرد جوعهم إلا معاش ضئيل، استطاع حامد أن يزيده بعض الشيء بوظيفة حصل عليها كان يعمل بها بعد الظهر. واستطاع أن يجمع بين الوظيفة والمدرسة حتى يحصل على دبلوم المعلمين، وأصبح مدرسا للغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ بمدرسة المنيرة الابتدائية. وقد كان حامد مثابرا في المذاكرة، حتى لقد استطاع أن يحصل على مكان كريم بين زملائه المتخرجين في دفعته، ولكنه كان بلا وساطة؛ فلم يستطع أن ينال إلا هذا المكان بمدرسة المنيرة. وهكذا ما كاد يعرف أن لأهل يسري صلة بذوي السلطان حتى بذل غاية جهده أن تتصل أسبابه بيسري. وقد نجح جهده وأصبح المدرس الخصوصي ليسري ولخيري أيضا. ولم يضع وقتا كثيرا، فإنه ما لبث أن طلب إلى خيري أن يكون شفيعه إلى عزت بك، ليشفع له في الوزارة، وقد اتسعت الآمال أمام عينيه منذ ذلك اليوم وأصبح يحلم بالترقية إلى المدارس الثانوية، حتى لقد قصد في يومه هذا إلى الوزارة ليعرف الأمكنة الخالية بمدارس القاهرة الثانوية، ولكن أبحاثه قادته إلى سبيل آخر لم يكن ليفكر فيه؛ فلقد أبلغه زميل له بالديوان العام أن الوزارة في سبيلها إلى إرسال بعثة إلى إنجلترا في العلوم الاجتماعية، وأن المرشحين لهذه البعثة من المتقدمين في دفعته. وقد أبلغه زميله أيضا أنه يستطيع أن يسافر في هذه البعثة إذا هو عثر على وساطة كبيرة ذات نفوذ في الوزارة. وهكذا عاد حامد إلى بيته والآمال تزحم نفسه أن يفوز بهذه البعثة، أربع سنوات قابلة للزيادة في إنجلترا، ومن هناك يستطيع أن يدور بالعالم أجمع. إنجلترا، أي أمل ضخم هذا، وأي مستقبل عريض ينتظره عند عودته، وما له لا يسعى وأي ضير في ذلك؟ ليجعل هدف البعثة بديلا عن هدفه القديم من ترقيته إلى المدارس الثانوية. قد تعترض أمه، ولكن أي أم لا تعترض على غياب ابنها أربع سنوات عنها؟ ولو أطاع الناس جميعا أمهاتهم لما نال أحد دكتوراه ولظلوا قابعين بجانب أمهاتهم فلا يصيبون من العلم إلا هذه الدرجة التي نالوها. وقد يضيق الحال بأمه بعض الشيء، ولكنها تعودت أن تكتفي بالمعاش، فلتعتمد عليه هذه السنوات. ولكن دولت كبرت وكثرت طلباتها، ولكن ما البأس بأمه وأخته أن تحتملا الضيق هذه السنوات القلائل ثم يعوضهما عنها بالعيش الرغيد؟ وماذا عليه لو قبل زواج دولت من فهمي الفهلوي، ولكن كيف؟!
وكان حامد قد بلغ منزله حينئذ وانتبه إلى السلم؛ فقد عوده حرصه على الحياة أن ينتبه إلى السلم كلما أوشك أن يصعد، فجميع الباقي من درجاته متآكل لا يسمح إلا بأطراف القدم أن تستقر عليه. كما تعود ألا يعتمد على الدرابزين. وكم عود الفقر حامد من عادات؛ فقد عودته ملابسه القديمة مثلا أن يتأنى في مشيته وحركاته حتى لا يشتد الاحتكاك بها فتبلى البقية الباقية منها. وقد ظن كثير من الناس أن هذا البطء في المشي والحركة وليد كبر يعتمل بنفسه، ويعلم الله، ويعلم حامد، أنه لولا الفقر لتحرك مثل سائر الناس. وهكذا كان حامد دقيقا في تفكيره حريصا كل الحرص على ماله ونفسه.
بلغ حامد السلم وصعده في تأن وفي تفكير يبذله كلما ترك درجة إلى أخرى. وحين بلغ شقته فتح الباب فوجد أمه جالسة في البهو، ويجلس إلى جانبها فهمي الفهلوي وقد انهمك كل منهما في حديث أخذ بمجامع تفكيرهما كل مأخذ. وكانت الجملة التي بلغت أذن حامد عند فتحه الباب: أنا أعجبك جدا يا ست أم حامد.
وأنقذ حامد أمه من الإجابة وهو يقول: أهلا وسهلا، كيف حالك يا أسطى فهمي؟ - معدن يا حامد أفندي، معدن والحمد لله، ماشية، الدكان يكسب خمسين قرشا يوميا على الأقل. - ربنا يزيد ويبارك. - أنا والله لا أعرف ما الذي لا يعجبك في. - لماذا يا أخي - لا قدر الله - أنت تعجب السلطان. - يا أخي العفو، كل مناي أن أعجبك أنت فقط. - ربنا يهيئ الخير يا أسطى حامد. - الخير بيدك أنت يا سي حامد أفندي. - شربت القهوة؟ - شربناها والحمد لله، أستأذن أنا. - ولماذا العجلة؟ - الدكان وحده، البركة فيك يا ست أم حامد، فقد يرضى علينا الأستاذ، سلام عليكم.
وشيعته همهمة من حامد وأمه أشبه ما تكون برد لتحيته، وما كاد فهمي يغلق الباب حتى قالت الست مريم: والله إنه ابن حلال.
فقال حامد محاولا أن يغير الحديث: وهل قلت إنه ابن حرام؟ - فما عيبه؟ - يا ستي اتركي هذا الموضوع. - ولماذا أتركه؟ رجل يا بني ويستر على أختك. - وهل هي بائرة؟ - لا قدر الله، ولكني لا أرى فيه عيبا. - كيف هذا يا أمه؟ أين هو منا؟ - يا ابني العظمة لله، أليس هو فهمي ابن الحاج سيد الفهلوي الذي كان صديق أبيك العمر كله؟ - يا أمه الدنيا تتغير . - ولكن النفوس يا بني لا تتغير. - كل شيء يتغير. - إلا النفوس الحلوة يا ابني، لم تكن هكذا أبدا، يا ابني، فهمي ابن حلال ونعرفه، نعرفه وهو طفل صغير، وسيكون لدولت كأخيها، لماذا ترفض؟ - أنا لا أزوج أختي من عامل! - وإذا كانت هي تقبله؟ - أنا لا أقبل. - وماذا ينتظر لها؟ - واحد متعلم. - وماذا يفعل بها المتعلم؟ هل تراها نالت الشهادات. - إنها تقرأ وتكتب، وعلى كل حال لا يهم، فالمتعلم سيطلبها من أجلي أنا. - وهل سيتزوجك أنت هذا المتعلم، المتعلم يريد المتعلمة مثله أو الغنية، ونحن والحمد لله لا علم ولا مال، اقبل فهمي يا حامد يا ابني، من يعرف؟ لعله أحسن من غيره. - لا يا ستي، أنا لا أقبل أن يعيرني زملائي بأني زوجت أختي من شخص جاهل، عامل. - يا ابني مصلحة أختك أهم من أقوال زملائك. - أنا أدرى بمصلحتها، وعلى كل حال هي ما زالت صغيرة، صغيرة جدا. - يا ابني هذا حرام، في أيامنا كانت البنت لا تصل الحادية عشرة إلا وهي متزوجة. - اسمعي، فعندي خبر مهم. - خير، اترقيت؟ - لا، لا. - خطبت؟! - أليس في ذهنك إلا الزواج؟ - وماذا أهم من الترقية إلا الزواج؟ - بعثة.
وضربت أم حامد على صدرها في ذعر: ماذا؟
بعثة.
لمن؟
لك!
أجننت؟ - سؤالك عجيب، لمن تكون البعثة إن لم تكن لي؟ - وتتركني أنا وأختك يا حامد؟ - كم سنة فقط، وأعود الدكتور حامد عبد الكريم. - دكتور؟! ألست مدرسا؟ - نعم، دكتور في التدريس. - وتتركنا يا حامد؟ - أليست مصلحتي هي أهم شيء عندك؟ - طبعا. - هذه هي مصلحتي.
وتطرق الأم وبوادر دمعات تبدو في عينيها وتفيض، وتجاهد لسانها كل جهد لتقول: ما تراه يا ابني.
وما تكاد تقول هذا حتى يقول حامد محاولا أن يبعث إلى نفسها بقية من أمل: على كل حال المسألة لم تتأكد بعد. - ربنا يعمل ما فيه الخير يا ابني. - أين دولت؟ - ذهبت عند خالتك وصفية لتساعدها في خياطة بعض الملابس. - خالتي؟ منذ متى كانت وصفية خالتي؟ - ماذا جرى يا حامد؟ كلامي لم يعد يعجبك، طول عمرك تنادي وصفية بيا خالتي. - كلام فارغ! ولماذا تذهب إليها دولت؟ ألم تجد إلا دولت لتساعدها؟ - وماله يا ابني؟ - النهاية، الغداء جاهز؟ - جاهز يا ابني، دقيقة واحدة حتى أعده لك.
ويدخل حامد إلى حجرته، وما تلبث دولت أن تجيء. فتاة تخطو نحو شبابها الأول، سمحة الملامح، بريئة الوجه، ملفوفة القوم، ريانة العود غضة، ساذجة النظرات ساجية، ذات عينين سوداوين، فيهما حلاوة الشباب الباكر المتطلع إلى المستقبل في تعجل لا ريث فيه ولا مهل، رشيقة الحركة عن طبيعة مواتية في غير كلفة ولا افتعال. وكان وجهها في إشراقه أشبه بالمرآة الصافية لا يخفي نأمة عن نفسها إلا بدت آثارها عليه في وضوح أبين من الكلام. ذات شعر كث غزير ناعم، ولكنها كانت تقيد كثرته العارمة في ضفيرة كبيرة تلفها في إحكام، ثم تغطيه بوشاح تربط عقدته خلف ذقنها، فيزيد ذقنها وضوحا وجمالا. لم يكن في وجه دولت من عيب إلا هذه الأرنبة النافرة في أنفها، ولعل بعض الناس يرون فيها جمالا، أو بلورة لجمال دولت. وقد كانت دولت تحب أخاها حبا عارما، فيه إجلال يستره أن يبين، فقد كان يمثل أمامها العلم والمال والسيطرة، وهي أمور تفقدها جميعا فقدانا تاما. وقد كان كذلك يمثل أمامها حياتها التي تحياها، فقد كانت بغيره خليقة أن تضيع في الزحام وهي بلا سلاح إلا هذه الصبابة الضئيلة التي تصيبها أمها كل شعر كمعاش لأبيها. وهكذا كانت دولت تجد في أخيها كل شيء تفقده كما كانت تجد فيه نفسه كل شيء تملكه.
دلفت دولت إلى البهو فوجدت أمها تضع الأطباق على المائدة، فهمست وكأنها تخفي جرما: هل جاء حامد؟
فأجابتها أمها في صوت متردد بين الهمس والجهر: من زمان.
وعادت دولت تسأل هامسة: أسأل عني؟ - نعم. - وماذا قلت له؟ - الله! ألا ينتهي هذا التحقيق؟ وماذا يمكن أن أقول؟! قلت المكان الذي ذهبت إليه. - هل غضب؟ - وما شأنك أنت ما دمت أنا التي أمرتك أن تذهبي؟ ادخلي هاتي الأكل، بلا مسخرة.
وامتثلت دولت لأمر أمها، وأقبلت الأسرة تأكل صامتة أفواهها، صاخبة عقولها، يضج في داخل كل منهم زحام من الآمال والمخاوف والظنون. فأما رب الأسرة فمفكر في هذا الباب الجديد الذي أومأ إليه صديقه بالديوان العام، يكبر الأمل في نفسه حتى ليكاد يصبح حقيقة مجسمة يعيشها بكاملها، فهو يتخيل نفسه في لندن ذاتها، ويمتد به الخيال ويمتد حتى ليرى نفسه أستاذا في الجامعة يرتدي روبها ويحاضر طلبتها في سمته المترفع ويده في جيبه. وبلا وعي يضع يده في جيبه فتهوى إلى الفضاء، فقد ارتدى الجلباب، ولم يكن للجلباب جيب، فيصحو وقد اضمحل الأمل وذوى حتى ليكاد يضرب عنه صفحا، مكتفيا بأن يصبح مدرسا في المدارس الثانوية. ولكن لماذا يضيع الفرصة؟ ولا يزال بآماله يتأرجح بينها حائرا راغبا حينا في الأمل الكبير من الدكتوراه، راغبا عنه حينا آخر خشية أن يخذله الديوان، وهو مع تفكيره العميق يطحن الأكل طحنا غير شاعر بما يأكل، وإنما هو يحرك فكيه حركة وانية واثقة، وعيناه في شرود، وذهنه يتجول بين لندن والمدارس الثانوية بالقاهرة.
وأما أمه فمفكرة هي أيضا في هذه المشكلة الجديدة التي أضافها ابنها إلى مشكلة زواج دولت، فهي تفكر فيما سيئول إليه حالهما إن سافر ابنها، وكيف تدبر أمرها بالمعاش الضئيل الذي تركه لها زوجها. وحين تضيق بها السبل يذهب بها التفكير إلى ما قد يستدعيه الحال عندئذ من أن تعمل، ثم ما يلبث أن يردها عن هذا التفكير علمها بكبر سنها وجهلها بالعمل خارج بيتها جهلا تاما. وما تلبث أن تدير بذهنها فكرة أخرى، لماذا لا تعمل دولت؟ وتنظر إلى دولت فتجدها ذاهلة هي الأخرى تقلب النظر بين أمها وأخيها وقد ران عليهما هذا الصمت المطبق.
كانت دولت حائرة لا تدري ماذا تقول، فهي إن نظرت إلى أخيها طالعتها منه هذه النظرة الذاهلة تنبعث من عينيه العميقتين وقد ازدادت ملامح وجهه الدقيقة صرامة وقوة. ثم ما تلبث أن تجد أساريره قد استرخت هونا ولكن إلى حين، فما هي إلا خلجة عين حتى تعود إليه الصرامة والإصرار. وهي إن نظرت إلى وجه أمها الذي كسته الأيام ترهلا وطيبة، والذي عرفت فيه الرضا المذعن والاستسلام الهادئ وجدته وقد غشيته كآبة وتفكير، فهي ذاهلة عما حولها، لا تكاد تحس بأحد ولا بشيء. ويصخب عقل دولت حائرا بين الظنون والتخمين، فهي تفكر في أمر وتكاد تؤكد أنه سبب هذا الصمت الذاهل الحيران، ثم ما تلبث أن تنفيه لتفكر في سبب آخر ما يلبث أن يتداعى كسابقه، وهي حائرة لا تدري ماذا تقول أو تفعل إلا أن تلوك الطعام كما يفعل أخوها وكما تفعل أمها، غير دارية من أمرهما أمرا. ولا يزال ثلاثتهم في شرودهم هذا الذاهل حتى ينتهوا من طعامهم صامتين. ويقوم حامد إلى حجرته شأنه كل يوم، وإن كان في يومه هذا قد عزم على أن يستبدل بالنوم كتابة مذكرة بحالته لتقدم إلى مراقبة البعثات.
وتذهب الأم إلى الشباك تطل منه على الحارة، بينما تقوم دولت بتنظيف المائدة.
تظل الأم رانية إلى الحارة. الدكاكين مقفلة، والطريق خال إلا من متأخر يروده منهوكا عجلا يريد أن يسارع بالعودة إلى داره فيعوقه تعب النهار، فالهمة بادية في عينه وإن قصرت قدماه عن همته، وتطول الجلسة بمريم، ويبدأ التجار والصناع في العودة إلى محالهم. وتكثر الأرجل الضاربة في الحارة، ويتجمع أصحاب المحال في أماكنهم التي تعودوا التجمع فيها، وترتفع أصوات بالتحايا وأخرى بالنكات وأخرى بالضحك وأخرى بالزجر يلقيه كل رئيس عمل إلى عماله مظهرا سيطرته عليهم. وترتفع أعين إلى الشبابيك، وتتابع أعين أجسام المارات، وتعلو بين الحين والحين تكبيرة لله أريد بها وجه الشيطان، أو مصمصة شفاه أريد بها إعلان غزل. ولا تعدم الحارة صوت حاج فيها يزع الغاوين وينصحهم بالاحتشام، فيلقونه بالصمت حينا أو بالقول الرضي الخجلان حينا آخر.
ويخيل لمريم أن باب بيتها قد فتح وأقفل، ولكنها لا تعنى بالالتفات إلى الباب، فقد كانت بتفكيرها المضطرب في شغل شاغل. وما يلبث ابنها حامد أن يبدو في الطريق في مشيته البطيئة المليئة بالعظمة، تلك العظمة التي لا تتفق وجسمه القميء الضئيل أو وجهه الدقيق القسمات، يرين عليه الجد والعمل من طول ما تعود الجد والعمل، فعينان غائرتان عميقتان، ووجنتان لاصقتان بأسنانه، وفم مطبق لا ينفرج، وطربوش لاصق برأسه في ميل لا يختلف في يوم عن يوم حتى ليحسب من يراه أنه لا يخلعه في ليل أو نهار، فإنه من العسير أن يتأتى لأحد بالغة ما بلغت دقته، أن يظل طربوشه في وضع واحد لا ينحرف عنه قيد شعرة، إلا إذا كان لا يخلعه.
ويسير حامد في طريقه بطيئا كما عهدته الحارة، عظيما كما عهده أهلها. وتراه أمه يرفع يده بالتحية للقوم الجلوس، وتسمع تحيته التي عهدتها وتعودت أذنها أن تلتقطها من بين الأصوات الصاخبة، تلك التحية الواهنة النغمة الأنيقة المخارج. ورأت مريم القوم يجيبون تحية ابنها، وتفيق على أصواتهم من سرحتها، فأصواتهم اليوم غيرها بالأمس، كانوا يحتفون بابنها إذا مر وحيا، ولكنهم اليوم يردون تحيته وكأنهم يقومون بواجب فرضه عليهم القرآن الكريم من رد التحية بأحسن منها. بل إنهم حتى لا يردونها بأحسن منها ولا بمثلها، إنما هي همهمة لا تكاد تبارح شفاههم إلا لتسقط في الطريق قبل أن تبلغ الأذن، فما تعي الأذن منها إلا طنينا. وتدرك أم حامد أن فهمي قص على إخوانه من أهل الحارة إباء حامد أن يزوجه دولت، وتدرك الأم أن أهل الحارة أحسوا كبر حامد من رفضه هذا، فهم ساخطون يفرجون عن سخطهم في هذه النغمة المتخاذلة التي أجابوا بها تحية حامد. ويدرك حامد هذه المعاني ولكنه لا يعنى بها إلا هنيهة، ثم ينصرف بتفكيره وجسمه أيضا إلى هذا الأمل الذي يسعى طريقه إليه.
الفصل الخامس
ظل خيري في مذاكرته تلك التي لا تغني، يقرأ لحظات بذهن شارد، ثم يرفع رأسه عن الكتاب ليفرغ للشرود فراغا كاملا، ثم يعود شاردا إلى الكتاب مرة أخرى. وهكذا حتى وجد حامد أفندي واقفا على رأسه يلقي عليه التحية في ود ظاهر وإشراق: السلام عليكم.
ويفيق خيري تماما إلى أستاذه ويقف ليحييه، ويسأل حامد: وأين محسن، ألم يأت بعد؟ - والله أخته الصغيرة مريضة، وقد اتفقنا أن نؤجل الدرس إلى الغد. - أهي مريضة إلى هذا الحد؟ - لا، ولكن رأيته مشغول الخاطر، فاعتقدت أنه لن يكون صالحا للدرس اليوم. - ما هذا الكلام يا أخي؟ لقد اقترب الامتحان. - نعم صحيح، ولكن أخته عزيزة عليه جدا. - أعتقد أن المذاكرة ستشغله عن التفكير في مرضها. - أترى ذلك؟ - طبعا. - نطلبه في التليفون ليأتي. - ولماذا لا نذهب إليه نحن، فنطمئن على أخته من جهة و...
وقاطع خيري أستاذه في لهفة: فكرة، هيا بنا.
وهكذا وجد اقتراح حامد نفسا متوثبة لتنفيذه، وقد كان خيري خليقا أن يكون هو المقترح، ولكن من أين له الذهن الذي يداور ويخلق المعاذير وهو فارغ لتوه من هذا الحديث الخطير الذي دار بينه وبين أمه؟ لقد كان مشغولا عن وفية بها، كان مشغولا عن خلق المعاذير للذهاب إليها بالتفكير في زواجه منها.
أما حامد فقد كان شغله الشاغل أن يلقى عزت بك، وأن يجعل رجاءه لديه لندن بدلا من المدارس الثانوية، والتقت من حامد وخيري الرغبتان وإن اختلفت الدوافع وتباينت الأسباب. •••
كان محسن جالسا إلى أخته فايزة لا يرفع نظره عنها، وهي مغمضة العينين بلا حديث ولا مطالب إلا أنفاسا تتردد متسارعة. وقد جلس أفراد الأسرة الآخرون حولها شأنهم شأن محسن، لا يتكلمون، وإنما أصبحوا جميعا عيونا لا تميل عن طفلتهم الحبيبة. وجاءت الخادم تنبئ محسن أن خيري وحامد ينتظرانه في الطابق الأسفل، وحاول أن يستدعي خيري ليعتذر إليه ولكن أباه قال له: لماذا لا تنزل؟ انزل أنت فأختك بخير، وسألحق بك أنا أيضا بعد قليل.
ويصدع محسن بأمر أبيه، وينزل إلى أستاذه وقريبه. ويسأل خيري في لهفة عن صحة فايزة، كما يتظاهر حامد بهذه اللهفة نفسها، ويلقي خيري على محسن ذلك النقاش الذي دار بينه وبين حامد والذي أدى إلى مجيئهما. وما يكاد خيري ينتهي من الحديث حتى يدخل عزت بك فيسلم عليهم، فيقوم حامد في احتفاء كبير ويتقبل السلام في احتفاء أكبر، ثم يسأل في إشفاق وحزن يبدو صادرا من أعمق أعماق نفسه: سلامة الست الصغيرة.
ويقول عزت بك في أدب رقيق: إن شاء الله خير، أنا على موعد غدا يا أستاذ حامد مع وزير المعارف لأرجوه في مسألتك.
ويقول حامد في أدب شديد منتهزا الفرصة في مهارة: ألف شكر يا سعادة البك، الحمد لله أن سعادتك لم تذهب بعد. - لماذا؟ هل تمت المسألة؟ - أبدا! ولكني عرفت اليوم أن هناك بعثة من دفعتي ستذهب إلى لندن، وأنا من أوائل الدفعة، فإذا أمكن أن تزكيني سعادتك لأرشح في هذه البعثة تكون سعادتك قد أديت لي جميل العمر. - بكل سرور يا أخي، هل كتبت مذكرة بهذا الشأن؟ - نعم، ها هي ذي.
وكأنه كان على موعد مع هذا اللقاء الذي هيأته له ظروف متضافرة من مرض فايزة وعدم خروج عزت، ثم من رغبة عزت أن يطمئنه على المسعى الذي رجاه فيه ونزوله إليه، ظروف متنافرة تجمعت خيوطها من كل منحى في الحياة تمهد له هذا اللقاء وتتيح له أن يقدم المذكرة إلى عزت شخصيا بلا وسيط من خيري أو محسن.
ويخرج عزت عائدا إلى ابنته. ويعود الأستاذ مشرقا مرحا إلى تلميذيه فلا يلقيانه بهذا المرح، فأما محسن فمشغول بأمر أخته، وأما خيري فمشغول بأختي محسن جميعا. ويدرك حامد أن لا فائدة ترجى من الدرس في يومهم هذا، ويصبح الدرس الذي كان مهما لديه غير ذي قيمة الآن، فقد أتى له المجيء إلى محسن بالفوائد التي كان يرجوها منه، وأصبح الامتحان الذي كان قريبا لا يحتمل تأجيل درس أمرا يسهل التغلب عليه. وهكذا اقترح في جرأة: لنؤجل الدرس اليوم، فإني أراكما مشغولين بفايزة.
ويقول محسن: والله أنت محق يا أستاذ، أنا لا أستطيع أن أركز ذهني في شيء اليوم.
ويرى خيري أن أمنية حامد قد تحققت دون أن تتحقق أمنيته هو، فيسارع قائلا: أتنتظرني دقائق يا أستاذ حتى أرى فايزة وأعود؟
ولكن حامد تواقا إلى أن يخلو بالطريق ليفكر وحده في أعقاب هذا اللقاء الذي تم بينه وبين عزت، فهو يقول: ولماذا العجلة يا أخي؟ على مهلك أنت، وأستأذن أنا.
ويفرح خيري بهذا الاقتراح ويقول: أترى ذلك؟ - نعم، فنحن ذاهبان من طريقين مختلفين، أستأذن أنا، السلام عليكم.
ويخرج حامد، ويصعد خيري ومحسن إلى الطابق الأعلى فيجدان الأسرة كما هي في غرفة فايزة. ويلقي خيري نظرة على المريضة، ثم يخرج إلى البهو ويتبعه محسن، فيقول له: ادخل أنت عند أختك، وسأنتظر أنا أمي هنا، فهي قادمة لترى فايزة، وسآخذ أنا السيارة إلى البيت.
ويحاول محسن أن يجلس معه فيهدده إن فعل أن يترك البيت، فلا يجد محسن مناصا من طاعته. •••
يبقى خيري منفردا لحظات، ثم ما تلبث وفية أن تخرج إليه وتعجب لوجوده، فما كانت تعلم أنه ما زال بالبيت. تلقي إليه ابتسامة وتذهب إلى الخدم تأمرهم أن يعدوا مشروبا ساخنا لأختها، ثم تعود إلى خيري فتجلس إليه.
يرنو خيري إليها طويلا حائرا لا يدري كيف يبدأ الحديث، وتظل هي تنتظر أن يفرج شفتيه عن أي كلام، حتى إذا يئست قالت: لماذا لم تدخل؟
وأفاق خيري دهشا يسأل: أين؟ - عند فايزة. - آه، كيف هي الآن؟ - الحرارة مرتفعة. - بسيطة إن شاء الله، وفية. - هه.
وحل الصمت بينهما مرة أخرى، ثم عاد خيري يقطعه قائلا في نفس النغمة الملهوفة التي ناداها بها: وفية.
وتطلق وفية «هيه» ممدودة، كأنما خيل إليها أنه لن يسمعها إذا هي لم تمدها، وإن تكن قد صحبتها بابتسامة عذبة، ويتحفز هو مرة أخرى وهو يقول: وفية هل ... هل ... - هيه، هل ماذا؟
ويومض في ذهنه باب آخر يستطيع أن يدخل منه إلى الحديث الذي يريد، فيقول: هل تعرفين ماذا قالت لي نينا اليوم؟
وازدادت الابتسامة إشراقا في وجه وفية وهي تقول: وكيف أعرف؟ - هل تستطيعين أن تحزري؟
وابتسمت وفية وهي تقول: اذكر لي رأس الموضوع على الأقل.
ولم يكن خيري يتوقع هذا السؤال، فحار ماذا يقول إلا أن يردد في محاولة للتفكير: رأس الموضوع، رأس الموضوع. - نعم، فيم كان حديثكما؟ - حزري. - اذكر لي الموضوع، وسأحزر التفاصيل.
وتومض الكلمة المناسبة في ذهن خيري فيقول: نجاحي، إذا نجحت ... - تشتري لك سيارة.
ويضحك خيري قائلا: لا، لن تشتري لي شيئا. - إذن ... - إذن ستقدم لي أعظم أمل في حياتي. - ماذا؟ ما هو هذا الأمل؟ - قولي. - يا أخي أنا أسلم بغبائي، قل لي، ماذا قالت لك؟
وتعود اللعثمة إلى خيري عاجزا كل العجز أن يكمل، راغبا في إنبائها رغبة تأخذ عليه مشاعره، وبين العجز والخجل والرغبة يرتبك خيري وتكاد تدرك وفية، ويجمع خيري بعض شجاعته ليقول ثالثة في حيرة وارتباك: وفية هل ... وفية ...
وقبل أن يكتمل الكلام ليكون شيئا مفيدا يرتفع صوت الخادم معلنا قدوم سميرة هانم، وتقوم وفية قائلة: عمتي.
وتنزل السلم لتستقبلها، ويظل خيري في مكانه ينتظر أمه حائرا لا يزال، لا يدري أيفرح أن طالت بهما الجلسة بعض الشيء فاستطاع أن يومض بما في نفسه ومضا لا يكاد يبدد ظلاما، أم يلوم نفسه هذه الخجلى دائما والمترددة العاجزة التي لا تستطيع أن تترك لسانه وشأنه ليقول مرة - ولو واحدة - ما لا بد أن يقال.
وتصعد أمه وهو في حيرته لا يزال، وقبل أن تقول أمه شيئا يسارع هو قائلا: أتسمحين لي بالسيارة أصل بها إلى البيت وأعيدها؟
وتقول الأم: ولماذا لا تنتظر حتى نذهب معا؟ - أريد أن أذاكر.
وتبتسم الأم، فقد أصبح للمذاكرة أسباب قوية تصل إلى أعماق الفؤاد وهي تدري، ومن خلال ابتسامتها تسمح له بالسيارة.
وفي الطريق يعود خيري إلى تفكيره، ترى أفهمت وفية أي وعد بذلته أمه إن هو نجح، لقد فهمت، وإلا فما هذه الغلالة الوردية الرقيقة التي كست وجهها، ويريد أن يعود إلى لوم نفسه ثم ما يلبث أن يثوب، ماذا تراني كنت قائلا؟ أحبك؟! ألا تدري؟ إذن كنت أسألها أتحبينني؟! ألا أدري؟ وهل يرضى لي حيائي أو حياؤها أن أقول أو تقول، هو الحب ما بيننا يقوله الضياء الذي يحيط بنا إذا التقينا، واللهفة التي أحسها وتحسها إلى هذا اللقاء، كيف أقول؟ كيف تقول؟ أتراني أقبل أن تقول لي أحبك؟ لا، أم تراها تقبل أن تسمعها مني؟ إنما حبنا أعظم من أن تعبر عنه كلمة مهما تكن خالدة بعيدة الأصول في الزمان الماضي، باقية على كل زمن مستقبل. ولكن الهوى العذري بيننا، ولكن التقدير الذي أكنه لها، ولكنه التقاليد التي ربينا أنا وهي في ظلها، كل هذا يمنعها ويمنعني أن تقول أو أقول. ألا ما أجمل أن تجمعنا جملة واحدة، أنا وهي، اهدئي إذن يا نفسي، فهكذا أنت، وما كنت لأكلفك أمرا لم تتعوديه، إنها تعلم، ولم يبق إلا أن أذاكر، لا شيء إلا أن أذاكر، ألا ما أهون العقبة التي تقف بي دونها، وأفاق خيري من تأملاته على صوت السائق وهو يقول: خيري بك، خيري بك، سأتأخر عن الست. - ماذا؟ هل وصلنا؟ - منذ نصف ساعة. نحن هنا يا خيري بك من نصف ساعة.
ويبتسم خيري وينزل من السيارة. الابتسامة تعلو شفتيه، وأفكار كثيرة كلها باسمة تدور في ذهنه، وفي قلبه.
الفصل السادس
لم يكن همام بك ينتظر زائرا في يومه هذا، ولا كان مرتبطا بموعد، ولا كان راغبا في الذهاب إلى المقهى. وتذكر أنه منذ زمن بعيد لم يخرج مع زوجته إلى مكانهما المفضل بجانب الأهرام، فقد كانا يريان في الذهاب إلى ذلك المكان نزهتين لا واحدة، نزهة الطريق ونزهة الجلسة.
وظلت سميرة هانم تعين زوجها في ارتداء ملابسه حتى أتمها، وخرج إلى غرفة الجلوس ينتظر زوجته أن ترتدي ملابسها هي الأخرى. ولم ينس قبل أن يتركها أن يطلب إليها أن تعجل حتى لا يفاجئهما زائر غير منتظر. لم يكد همام بك يستقر في كرسيه حتى قدمت إليه الخادم تنبئه أن فواز بك في الطابق الأسفل ينتظره.
وقام همام بك من فوره وذهب إلى زوجته ينبئها بقدوم الزائر، وكأنه خشي أن تكره قدوم صديقه أو تكره صديقه، فطمأنها أنه سيصحبها إلى النزهة الموعودة عند خروج فواز. ولم تكن سميرة هانم في حاجة إلى هذا الوعد لتخفي غضبها عن زوجها، فإنها لم تتعود أن تظهره على غضبها، وإن كانت لا تحب في حياتها شيئا قدر حبها للخروج مع زوجها، وما أندر ما كانت تخرج مع زوجها.
فواز بك نافع، صديق همام بك منذ كانا طفلين، ورثا الصداقة عن أبويهما اللذين كانا صديقين أيضا. وقد جمعت الأعمال المشتركة بين الصديقين فتوطدت بينهما الصلات، ثم جمعت بينهما الأزمات فوقفا دونها يدا واحدة وقلبا واحدا، يخشى كل منهما على صاحبه ما يخشى على نفسه. وقد ضاربا معا في البورصة وخسرا فيها كل شيء. ثم جاهدا حتى استردا ما خسرا. وحينئذ توقف همام عن المضاربة ناظرا إلى أولاده مشفقا أن تلتهم المضاربة ما لم يصبح حقا له وأصبح حقا لأولاده. أما فواز فقد صمم على المضي في المضاربة فصارت حياته سلسلة من الصعود والهبوط، فهو إما في قمة الجبل أو في حضيض الهاوية. ولم يستطع يوما وهو في قمة الجبل أن ينظر إلى الحضيض في خشية فيكف، فقد أصبحت المضاربة تسري مع دمه لا يستغني عنها، أو يستغني عن دمه نفسه.
ولم يمنع توقف همام عن المضاربة ومضي فواز فيها صداقتهما أن تظل كما هي. وكثيرا ما حاول فواز أن يغري صديقه بصفقة يراها رابحة، ولكن همام كان قد أقلع وما كان ليعيده إلى البورصة إغراء مهما يكن جامحا. بل لم تكن تغريه تلك الذكريات التي كان يستعيدها صديقه أمامه، أيام كانا والفقر يطل عليهما بوجهه الكالح الشاحب الكئيب، ثم ينشب فيهما أظفاره الضاربة المرنة فما تند عن واحد منهما أنة أو آهة، وإنما يلقيان الفقر والغنى معا بذلك الوجه الجامد تعود الأحداث سعيدها وشقيها، فسيان عندهما فقر أو غنى. هكذا كانا يبدوان للناس وإن أحرقت الخسارة كبديهما، وإن زلزلت قلبيهما، ولكنهما لا يظهران أحدا على ما تنطوي عليه جوانحهما من حريق أو زلزال، كبرا منهما وتعاليا على الأحداث. لقد كانا نوعا من الرجال ينشب أظفاره في الزمن فلا يطيق الزمان أن يطيح به.
لم يكن إغراء الذكريات ليجدي في جذب همام إلى المضاربة ثانية. وقد كان يجهد في دفع الإغراء الذي ينتابه من ذكريات الفقر جهدا أشد عنفا مما يبذله في دفع إغراء فواز إياه بالربح الوفير. فقد تجد الذكريات مسارب إلى النفوس يعجز عن العثور عليها المال بجلاله وسلطانه.
حتى لقد هم همام يوما أن يعود إلى المضاربة فما وقف به إلا ابن عمه عزت الذي يرى في البورصة مقبرة لأموال الكرام ولكرامتهم معا. وقد ألح على همام حتى ثناه عن هذه المحاولة فلم يعد إليها ثانية.
أما فواز فقد كان يرى في المضاربة عملا طبيعيا له، فهو يقامر فيها بأمواله جميعا، فإن لم تكف عمد إلى صاحبه وطلب إليه أن يضمنه لدى من يقرضه مالا. وما كان همام يتردد لحظة إذا قصده صديقه. ولم يكن فواز في هذا جائرا على صديقه، فقد كان يرى فيما يفعله أمرا طبيعيا لا يفكر في غيره. ولم يكن همام يضيق بطلب صديقه وإن ساورته الخشية، إلا أنها خشية لا تزيد في خاطره على همسة، ما تلبث أن تزول في دوامة الصداقة والأخوة والنجدة التي تزخر بها نفسه.
كان فواز جالسا في مكتب صديقه ينتظر نزوله، ولم يطل به الانتظار، فسرعان ما بدا على باب الحجرة محييا تحية الأخ الهينة العميقة.
كان التناقض بين الصديقين في الشكل عجيبا. فأما همام فطويل القامة عريض المنكبين يضع طربوشه معتدلا على رأسه، ويضع على فمه ابتسامة مطمئنة لا تبارحه، يرى فيه الرائي بشرا وثقة وهدوءا، وقد كان وجهه مستديرا في غير امتلاء، ذا شارب متقن الصبغة، وكانت سوالفه كثة سوداء أيضا كشاربه، وكانت عيناه عميقتين فيهما ذكاء وفيهما كوجهه اطمئنان وهدوء. أما فواز فقد كان قصير القامة مليء الجسم والوجه، حليق اللحية والشارب والرأس أيضا، وإن تكن الأيام هي التي تولت عنه نزع شعر رأسه، ولم يكن ضاحكا كصديقه، وإنما هو متجهم الوجه إلا حين يسمع نكتة، فإنه يخف إلى الضحك لها خفة الذكي اللماح، وقد كان هو نفسه مرح العبارة سريع اللفتة ضاحك الحديث. شيء واحد اتفق فيه الصديقان، هو ذلك الاطمئنان الذي يشيع في وجه كل منهما.
التقى الصديقان، ولم يمهل فواز صديقه أن يجلس، بل سارع قائلا: أما صفقة يا همام!
وازدادت الابتسامة اتساعا على وجه همام وهو يقول: ألم تيأس مني بعد؟ - بل ألم تعقل أنت بعد؟ - وأي جديد يدعوني إلى العقل الذي تحسبه أنت عقلا؟ - أرباحي، مكاسبي، انظر، أنا أغنى منك اليوم عشرات المرات. - المهم أن تظل كذلك. - ولماذا لم تسمع كلامي؟ كسبت من الصفقة الأخيرة ثروة، ثروة طائلة، ودعوتك لتربح معي فرفضت. - الحمد لله، كل رجائي أن أترك ما جمعت للأولاد. - أليس لي أولاد أنا الآخر، مم تخاف؟ - ألا تعرف؟ - الفقر؟ - أهو قليل؟ - لم تخفه أبدا. - كنت أخافه دائما كما تخافه أنت دائما. ولكننا كنا نخفي خوفنا. - أتذكر؟ - أذكر، وهل يمكن أن ننسى؟ - أتذكر يوم خسرنا كل أموالنا وخرج كل منا مدينا بعشرين ألف جنيه؟ - وهل ينسى ذلك اليوم؟ جلسنا في المقهى نلعب النرد، وجاء صديقنا محمد باشا يوسف يهمس في أذني أنه يريدني لأمر جليل. - نعم، كان محتاجا لألف جنيه سلفة. - يرحمه الله، كان رجلا. - لا أنسى ضيقك وألمك، يومذاك لم تهزك الكارثة وهزك أن صديقا لك قصدك وليس معك ما تجيب به طلبه، والله إنك رجل يا همام، اقترضت المبلغ بفائدة بشعة وذهبت به إلى صديقك. - وهل كان يمكن إلا هذا؟ - رجل والله. - الله يرحم محمد باشا. رد المبلغ وتوفى ولم يعلم أني كنت أشد منه إفلاسا. - ومع ذلك تخاف؟ - الأولاد يا فواز، الأولاد. - اسمع، لماذا لا تكتب الأرض باسم زوجتك؟
فقال همام جازعا: أتعني أهرب أموالي؟ - وما البأس! - أخون ثقة الناس، أسرق يا همام، أترضى لي ذلك؟ أتفعلها أنت؟ - يا أخي والله ... - ماذا؟ - لقد اضطررت أن أفعل هذا. - ماذا؟! - أليس لي الحق أن أخاف أنا أيضا؟ - هذه سرقة يا فواز! - وماذا أفعل؟ - توقف عن المضاربة. - لا أستطيع، وأنا لم أبتدع شيئا جديدا. - لا يا فواز، صداقتي بك في كفة وبقاء أموالك باسم زوجتك في كفة. - على مهلك يا همام. - أبدا، غدا، غدا يا فواز، غدا وليس بعد غد. - أترى هذا! - ولا صداقة بيننا حتى أرى أموالك باسمك، إلا هذا يا فواز، إلا هذا. - أمرك، لم يكن ضميري مستريحا أنا أيضا. - بل كان يجب على ضميرك ألا يقبل هذا من أول الأمر. - طيب يا سيدي، أمرك. - بل أمر الأخلاق يا رجل، غدا يا فواز. - غدا يا همام، غدا إن شاء الله. - وسأنسى لك هذه الحكاية وكأنها لم تكن. - لهذه الدرجة أنت غاضب؟! - أنت تعرف إلى أي مدى أنا غاضب. - والله لقد جئت إليك من أجل هذا، فمنذ نقلت أموالي وأنا أحس شيئا يخزني فلا أستطيع النوم أو الاستقرار. - أتنسى ما فعلناه مع حمدي الأسواني لأنه هرب أمواله؟ ألم أشتمه في وجهه وأيدتني أنت؟ - انظر إليه الآن، خسر مائة ألف جنيه ولم تمس أمواله بسوء. - ولكنه بلا كرامة. - أي كرامة تقصد؟ الناس جميعا يحترمونه! - يحترمونه في وجهه، ويحتقرونه إذا ابتعد عنهم. - يا أخي أنت مبالغ، انظر إلى سيد باشا الحديدي، أكل أموال أخيه وخرجوا إلى المقاهي يسألون الصدقة، وقد ترك لهم أبوهم ألف فدان، ومع ذلك يحترم الناس سيد باشا ويحتقرون أولاد أخيه. الناس لهم الغنى، لا يهمهم من أين أو كيف أصبح غنيا. المهم عندهم أنه غني. - أتحترم أنت سيد باشا؟ - والله ... والله ... - أتفكر؟ إن كنت تحترمه، فأنت لست صديقي! - ماذا؟ أأصبحت صداقتي هينة عليك إلى هذا الحد؟ - إنما أنت عزيز علي؟ وهذا الذي تقوله كبير وليس هينا كما تظن. - طيب يا سيدي وهو كذلك، أعود إليك غدا إن شاء الله ومعي ما يرضيك. - وإني منتظر.
الفصل السابع
طال مرض فايزة والمسكينة لا تملك إلا طاعة الأطباء دون أن تجدي الطاعة أو يجدي الأطباء. وقد كان خيري خليقا أن يزورها في كل يوم ليرى وفية ويطمئن على فايزة، ولكنه حين أعمل عقله وجد أن الامتحان الحاسم أصبح على الأبواب، ووجد أن الاطمئنان على فايزة يمكن أن يتم عن طريق محسن، أما مذاكرته هو لدروسه فلا يمكن أن تتم إلا عن طريق المذاكرة نفسها بلا طريق آخر. واستطاع بالأمل الذي وضعته أمه له عند النجاح أن يكبح هوى قلبه وإلحاحه عليه أن يزور وفية ، فظل في بيته وقد تولاه سعار من المذاكرة، وطلب إلى محسن أن يأتي ليذاكر معه حتى يتهيأ لهما جو بعيد عن مرض فايزة، وحتى يستطيع محسن أن يبتعد قليلا عن خوفه على أخته ويفرغ إلى هذا الامتحان الذي يتقدم منهما حثيثا لا يوقفه مرض فايزة أو خوف محسن.
كان خيري حائرا، أيريد الأيام أن تمضي سراعا، فتدنو به إلى الأمل المرتقب، أم يريدها أن تمر رهوا بطيئة وهي تحمل في قوابلها الامتحان وما في الامتحان من رعب؟ حيرة سرعان ما تدور بها المذاكرة فتذوي في طوايا النفس لا تعود إلا عند فراغ - وما أقل الفراغ - أو قبيل نوم - وأين منه النوم؟
أما محسن فقد كان يجد في الذهاب إلى خيري مسلاة عن هذا المرض الذي انصب على أخته فكأنما انصب على البيت جميعا، وقد كان خليقا أن يجد عند أصدقائه في المقهى هذه المسلاة نفسها، ولكنه لم يجد في نفسه خفة إلى مرح أصدقائه هؤلاء، كما أن خيري لم يتح له الذهاب إليهم، فهو لا يزال به يذكره بقرب الامتحان وبضرورة المذاكرة حتى لوى به عن طريق المقهى إلى البيت.
كان خيري ومحسن منهمكين في المذاكرة حين دلفت نادية إلى الحجرة فلم يحس بها واحد منهما. ووقفت نادية قليلا ثم ضاقت بهذا الصمت الذي ران على الصديقين. واشتد ضيقها أن لم يرحب بمقدمها أحد، وهي لم تدخل حجرة إلا واستقبلها الترحيب المرح الفرحان. ولم تطق السكوت فقالت في غضب: يا سلام، طيب أنا أيضا أذاكر ولن أكلم أحدا.
واختطفت كتابا وأمسكته وأولت الشابين ظهرها في سرعة خفيفة طفلة، وانتبه الاثنان إلى نادية جازعين لصوتها في الوهلة الأولى، ثم لم يلبثا أن استغرقا في قهقهة طويلة. وقام إليها خيري يعتذر وسعى بها إلى محسن، وتركا المذاكرة حينا وراحا يحادثان نادية ويحاولان استرضاءها. ولم يلبث خيري أن رأى الدموع تطفر من عيني محسن، فتذكر مثل هذه الجلسة حول فايزة، وما لبثت الدموع أن طفرت من عينيه هو أيضا فسارع إلى عينيه يزجرهما بيده، ثم تمالك من أمر نفسه ما كان يفلت وصاح بمحسن: ماذا جرى يا أخي لا قدر الله؟ إنه مجرد مرض ويزول. - أيزول حقا يا خيري! - إن شاء الله يا أخي، لماذا هذا التشاؤم؟ - فقط لو نعلم ما هو المرض! - حرارة، مجرد حرارة. - مسكينة يا خيري، صغيرة ولا تحتمل المرض! - على العكس، فإن الصغار يتحملون المرض أكثر مما نحتمله نحن.
وأخذت نادية بهذه الدموع التي تبادلها الصديقان وعجز عقلها عن فهم الحديث. ولكنها رأت أنه لا بد أن تشارك في الأمر، ولم تكن تستطيع المشاركة إلا في الحديث عن البكاء، فهو الشيء الوحيد الذي تفهمه في كل ما حدث. - أنت زعلت يا آبيه محسن مني، طيب لا تزعل، لن أذاكر وسأكلمك.
وضمها محسن يخفي عنها دموعه، ولكن خيري أخذها من بين أحضانه وحملها ليصعد بها إلى غرفتها، وأراد محسن أن يبقيها فقال خيري: لا، ليس اليوم، أعصابك أصبحت تالفة جدا.
وخرج خيري فلم يغب غير دقائق، ثم عاد إلى محسن يقول له: قم بنا. - إلى أين؟ - إلى منزلكم. - لماذا؟ - عجيبة! أأقول لك إني أريد الذهاب إلى منزلكم فتقول لماذا، هل لا بد من مناسبة؟ - لا أبدا، أهلا وسهلا، ولكن المسألة لا تحتاج. - بالعكس تحتاج جدا، أولا نتمشى قليلا ونريح أنفسنا، وثانيا أرى فايزة فإني لم أرها من زمان، هيا.
وقاما. •••
كان عزت بك الأزميرلي رجلا من رجال السياسة، وقد كان يلجأ إلى بيته من صخب الحياة التي يحياها، وكان يجد الهناءة كلها في بيته، في الجلوس إلى أولاده كلما أتاحت له أعماله هذه الجلسة.
وكانت فايزة أقرب أبنائه إليه، فهو شديد الحب لها، فقد رزقها وهو كبير السن. وكانت في هذه السن الحبيبة التي لا يستطيع أحد إلا أن يدلل أصحابها. وقد هاله مرضها، وحين طال بها أصبح يهرب من البيت ويلقي بنفسه في غمار السياسة، فإذا وجد فراغا كان يقصد إلى ابن عمه همام محاولا ما وسعه الجهد ألا يعود إلى البيت.
وارتاحت إجلال هانم لغياب زوجها وابنها محسن ، فقد أتاح لها هذا أن تفرغ لتمريض ابنتها لا يشغلها عنها شاغل من زوج أو ولد. وأصبحت لا يلازمها إلا ابنتها الكبرى وفية، فقد كانت هذه عونا لها على هذه الشدة التي طال بها الأمد. وكانت وفية تحب أن تقوم بهذا العون، فهي تحب أمها وتحب أختها وتشفق على كلتيهما من الجهد والمرض. وقد أتاح شباب وفية لها أن تبذل الجهد الذي لا تطيقه أمها، فهي تتولى إعطاء الدواء لفايزة، وهي تتولى شئون البيت، وهي تنتظر أباها وأخاها حتى يعودا، وهي تقوم بهذا جميعه راضية لا تفكر في شيء إلا شفاء أختها، وإلا هذا الشيء الذي لا تملك أن تنساه وإن زجرت نفسها وعنفتها أن تذكره في هذه الأيام التي تمر بهم، هواها، إنه لا يستحي أن يذكرها بنفسه في هذه الأوقات الحالكة من حياتها. بل لقد أصبحت لا تذكره لأنها لا تنساه أبدا. لقد أصبح شعورا ملازما لكل شعور آخر ينتابها، فهو معها يتردد مع أنفاسها، ومع مسرى كل تفكير يمر بذهنها، ومع كل خلجة يختلج بها قلبها.
أقبل محسن وخيري إلى البيت ودخلا حجرة فايزة، ولم تكن بها وفية.
لم يكن خيري قد رأى فايزة منذ فترة طويلة، فجزع لهذا الهزال الذي نزل بها، ولم يشأ أن يظهر أهلها على ما لاحظه، وخشي أن يخونه تعبير وجهه، فتضاحك وحاول أن يداعب فايزة ففشلت دعابته، واستدار يخرج من الغرفة مسرعا. وجلس في ذلك الركن من البهو الذي حاول فيه أن يبوح بحبه فلم يستطع. ولم يطل به الجلوس، فقد جاء محسن ليجلس إليه، ولكن ما لبثت إجلال هانم أن دعت محسن ليعود إلا أخته لأنها تسأل عنه. وقام محسن وهو يقول في تأثر شديد: إنها لا تراني كثيرا في هذه الأيام؛ ولهذا تتعلق بي كلما دخلت إلى غرفتها.
فقال خيري: لا شأن لك بي، سأنتظرك هنا حتى تعود.
وذهب محسن إلى أخته، وراح خيري يدور بعينه على أبواب الحجرات الأخرى لعله يرى بصيصا ينبئه أن وفية هناك، ولكنه لم يجد. كاد يسأل عنها الخدم، ولكن الخجل منعه أن يفعل. ومنعه أيضا ظهورها من باب الخدم وبيدها إناء مليء بعصير الليمون.
وقفت وفية حين رأته وقد شاعت في وجهها فرحة كبيرة لم تبن عنها إلا في: أهلا.
ولكنها كانت كافية ليجد فيها خيري كل ما يتمنى محب أن يجده عند هواه.
وقام خيري إليها يحمل عنها الإناء وهو يقول: أهلا بك.
واقترب الحبيبان، وأنعم خيري النظر وتقلبت على عينيه طيوف من الفرح والعجب والإشفاق. كانت وفية في شاغل عنها جميعا بفرح لقياه، وحين أفاقا إلى وقفتهما وتنبهت وفية أنه يريد أن يأخذ عنها الإناء قالت: لا، سأدخله إليها وأعود، فإن أمي لا تأمن أن يصنع أحد العصير إلا أنا.
وتنحى خيري عن مكانه ذاهلا لا يزال.
كانت وفية طويلة القامة هيفاء، لا هي بالنحيفة ولا هي بالمليئة، وإنما كما يشتهي الجمال أن تكون. وكان شعرها أسود فاحما كثا غزيرا، ينسكب انسكابا ويتهدل على جبينها صقيلا. وكان خيري يحب منها يدها وهي ترفع خصلات شعرها الجامحة لتعيدها إلى رأسها. وكان وجهها أبيض تشوبه سمرة خمرية، تشع فيه عيناها السوداوان في حور شديد لا يشوب بياضهما إلا زاوية حمراء صغيرة في عينها اليسرى يراها بعضهم عيبا ويراها خيري جمالا أي جمال. وكانت أهدابها العليا ترتفع في إباء حتى لتكاد تبلغ أجفانها، بينما تنسدل أهدابها السفلي طويلة مثل العليا. كانت أهدابها كالزهرة الغضة تفتحت منذ قريب. وكان أنفها دقيقا يتفق وشفتيها الرقيقتين وذقنها الصغير. كان خيري يحب في وفية، وفية، بكل ما فيها، وقد باغته العجب حين رأى بعض شحوب يكاد يحيل سمرتها إلى بياض، ولكنه أزمع في نفسه ألا يفاتحها بما لاحظه. •••
عادت وفية إلى حبيبها، وجلست إليه في المكان نفسه الذي أحست فيه أنه يريد أن يقول فلم يقل، جلست وهي تقول: خير، ماذا أتى بكما؟ - أعجيبة أن نأتي؟ - نعم، الامتحان قرب، وهذه بكالوريا يا خيري. - صحيح، ولكن ...
وأراد خيري أن يسكت، ولكنه لم يجد جوابا من إكمال الحديث فأكمله، وذكر لها ما كان من دموع محسن، وما لبث أن تلألأت على أهداب وفية دمعات تأبى أن تسيل أو تغيض. وحاول أن يعتذر ولكنه رأى دموعه هو أيضا تنحدر على وجنتيه. ولم يكفكف دموعها أو دموعه، فقد أحس بعد أن رأى فايزة أنه لا بد من هذا البكاء.
ومن بين الدموع روت وفية لخيري كيف تزداد حالة أختها سوءا في كل يوم، وحين سألها خيري: والأطباء؟
قالت في أسى: يخيل لي أنهم يعرفون المرض ولكنهم يخفونه عنا. - يخفونه؟ - يخيل لي هذا. - لعلهم لم يثقوا منه بعد! - لا أدري! - أتنتظرون أحدا منهم الآن؟ - نعم، سيأتي الدكتور عبد الحميد فاضل. - سأنتظر حتى ألقاه.
الفصل الثامن
كانت دولت تجلس إلى أمها في سكون، وقد أمسكت بيدها قميصا لأخيها ترتق فتوقه، والأم تنظر إليها بين الحين والحين تريد أن تحادثها في أمر يأخذ عليها تفكيرها، ولكنها ما تلبث أن تعيد الكلام إلى داخلها في تردد حائر.
وكانت دولت تحس عيني أمها كلما صوبتا إليها وتحس رغبتها العارمة في الحديث، بل كانت تحس حيرتها وجهادها لنفسها أن تكتم هذا الحديث. الأمر الذي كانت تغباه ولا تعرفه هو موضوع هذا الحديث، وإن كانت تظن ظنا يكاد يبلغ اليقين أنه حديث يدور حول سفر أخيها حامد الذي أصبح وشيكا. ولكن أي شأن لدولت بهذا السفر؟ لقد عاشت عمرها في البيت آلة، آلة لغسل الأطباق ولغسل الملابس ولغسل الأرض وللمعاونة في المطبخ ولشراء الحاجات ولكل ما يتصل بأعمال البيت، ولكنها آلة بلا رأي ولا رغبة تبديها ولا معارضة، آلة لها كل ما للآلة من حقوق وعليها كل ما على الآلة من واجبات، فعلى الآلة أن تقوم بعملها وعلى صاحبها أن يحميها من الطبيعة فيكسوها إذا كان الكساء يحفظ عليها انتظام سيرها، ويئويها إلى سقف إذا كان لا بد لها من سقف، وعليه أن يلقي فيها الوقود حتى تعمل، وكانت دولت تثور في بعض الأحيان كلما هفت نفسها إلى شيء وعجزت عن إبداء رغبتها، ولكنها ثورة تذوب من فورها في غمار أعمالها وفي غمار الأحلام التي ترسمها لنفسها عن مستقبل لها في ظل رجل، أي رجل، فقد كان حديث الرجال يطربها، فكانت تتلقفه من أفواه النسوان اللواتي يكبرنها في السن، واللواتي لا حديث لهن يدور إلا عن الرجال، وكانت دولت تقول لنفسها إذا مال حديث أولئك النسوة إلى الأطفال، ومن أين يأتي الأطفال؟! وهكذا كانت تلتذ هذا الحديث عن الرجال، فإن انحرف حورته في ذهنها إلى الوجهة التي ترضيها. فإن خلت إلى نفسها خلت وفي نفسها ذخيرة وافرة من الأحلام والآمال، في ظل رجل، أي رجل.
وهكذا وجدت دولت نفسها حائرة في أمر هذا الحديث الذي تريد أمها أن تلقيه ثم تكتمه. فهي تعلم أن لا شأن لها بأي شأن مهما يكن متصلا بحياتها، فهي لم تعود أن تتدبر حياتها، آلة، ومهما تكن لهذه الآلة من أحلام وأفكار وآمال وهواجس إلا أنها تعلم أنها أمام أمها وأخيها بلا أحلام ولا أفكار ولا آمال ولا هواجس. وقد تبدي رأيا أو تطلب شيئا، ولكن هذا لا يعني أن يأخذ أحد منهما برأيها، بل إنها تعلم أنهما في الغالب سيهملان هذا الرأي، ولعلهما يهملانه عن عمد لأنه صدر عنها، وتعلم أيضا أن الطلب الذي قد تهفو إليه قلما يتحقق، بل إنه لن يتحقق إلا إذا أيدتها أمها فيه.
فماذا إذن يدور في ذهن أمها ولا تستطيع أن تصارحها به؟! لم تطق السكوت طويلا، فألقت سؤالا تعرف جوابه ولكن كان لا بد منه. - ألم يقل أخي متى يسافر؟ - لم يحدد الميعاد بعد، ولكن يهيأ لي أنه سيسافر قريبا، قول لي يا دولت. - نعم يا أم.
ثم سكتت الأم ولم تقل شيئا، ولكن دولت لم تسكت بل عادت تقول: نعم؟ - يا بنتي ... - ماذا يا أم؟
وأجمعت الأم أمرها أخيرا وقالت: ماذا نفعل حين يسافر أخوك؟ - ماذا نفعل يا أم؟ - أنبقى هكذا بلا رجل، وأنت يا بنتي كبرت وأخاف عليك أولاد الحرام؟ - مم تخافين؟ - هيه، ماذا أقول؟ النهاية، ألا تعرفين مم أخاف؟ - يا أم، لا تخافي ، بنتك ناصحة ولا تفوتها الفايتة.
وخالطت صوت الأم نبرة من السخرية وهي تقول: صحيح، لم أكن أعرف. - صحيح والنبي يا أم، لا تخافي أبدا.
وقالت الأم في صوت يائس ساخر: طيب.
ثم سكتت قليلا ولكنها لم تطق، فقصدت إلى ما تريد دون لف أو دوران. - وماله فهمي الفهلوي! أليس رجلا يستر عليك؟ واسمه على كل حال رجل في البيت بدل أن نبقى امرأتين وحيدتين! - وما شأني أنا يا أم؟
وفي سخرية مريرة قالت الأم: أخوك يريد لك رجلا متعلما. - وماله يا أم؟ - وماذا يفعل بك المتعلم؟ - وما عيبي؟
طيب يا أختي، يا فرحتي بك وبأخيك وبالمتعلمين الذين يرتمون تحت أقدامك وأقدام بسلامته حامد. - الله يا أم، وأنا ما ذنبي حتى تسخري مني، لم تقدري على الحمار قدرت على البردعة، الأمر أمر أخي، وهل خرجت عن طوعه؟ - يا بنتي نريد الستر، الستر يا بنتي، ربنا يستر. - أنا طوع أمركما، افعلا ما تريانه، ولو أني أريد أن أعمل في غياب أخي. - وماذا تعملين؟ هل معك الشهادة؟ - أي شيء، أليس لي يدان وأعرف القراءة والكتابة، سأعمل حتى أساعدك في المصاريف. - وهذه أيضا لا أدري كيف أدبرها، ليس لنا إلا المعاش، هيه، النهاية. - ألا ينوي أخي أن يرسل لك شيئا من أوروبا؟ - وكيف؟ إن ما سيناله يكفيه بالكاد، أمر الله، هو العالم.
وقبل أن تجيب دولت يدخل حامد، وقد أعد نفسه للتجهم الذي تلقاه به أمه في هذه الأيام حتى عوده. ويجلس حامد بعد أن يطلب إلى أخته أن تعد له فنجان قهوة. وتقوم أخته وهي تسمع أمها تقول له: بسلامتها تريد أن تعمل.
وتسمع أخاها يقول: وماذا تعمل؟
وتقول دولت وهي تغادر البهو: أي عمل؟
وتمص الأم شفتيها وهي تقول: حكم! - لو كان معها شهادة!
ويسكت الاثنان، فقد استنفدا في هذه الأيام كل نقاش يمكن أن يدور حول سفره، أو زواج أخته من فهمي، أو إرسال نقود من الخارج، لم يبق لهما موضوع يمكن أن يتناقشا فيه، لم يعد أمامهما إلا الصمت.
وعادت دولت بالقهوة وهي تقول: وأي عيب في أن أعمل يا أخي؟ - لا عيب، ولكن ماذا تعملين وأنت بلا شهادة؟ - ممرضة، مربية، أي عمل، وعلى كل حال أنا أقرأ وأكتب. - نعم أعرف. - اسمع والنبي يا حامد، لماذا لا تكلم تلميذك خيري، لعله يجد لي عملا؟ - سأفكر في الموضوع يا دولت، أشوف.
الفصل التاسع
كان همام بك في حجرة مكتبه ينتظر ابن عمه عزت الذي أخبره بالتليفون أنه قادم إليه لأمر هام، وقد انتهز همام هذه الفرصة ليراجع حساب البنك الذي جاءه في هذا الصباح، وليراجع أيضا حسابات مزارعه. وما كاد يجلس إلى مكتبه حتى فتح باب الحجرة وبدا منه صديقه فواز جامد الوجه كعادته، وألقى تحيته في هدوء وجلس إلى الكرسي الذي تعود الجلوس إليه، وقام همام من مكانه وجلس إلى الكرسي المقابل له وهو يقول في نبرة عادية يحاول أن يفتح أبواب الحديث: هيه كيف الحال؟
وقال فواز في نبرة طبيعية: الحمد لله. - ماذا فعلت في الصفقة الأخيرة؟ - خسرت. - كم؟ - كل شيء. - ماذا؟! - كل شيء، لم يبق لي شيء على الإطلاق. - كل شيء؟
وأخرج فواز تصعيدة من أعماق قلبه وهو يقول: كل شيء. - الأرض والعقارات والأسهم و... - والمال السائل وكل شيء ... - وماذا تنوي أن تفعل؟ - سأضارب. - يا فواز! - ماذا؟ أتريد أن تنصحني الآن بعدم المضاربة، هل أمامي شيء آخر؟ - والله لا أدري، أنا لا أعرف حتى ماذا أقول، أصبحنا يا فواز في سن لا تحتمل هذه الهزات، السنوات تمر، والعمر له حكم. - أعرف، ولكن ماذا أفعل؟ - هل أستطيع أن أفعل شيئا؟ - طبعا. - تحت أمرك. - ضمانة. - متى؟ - غدا. - أين؟ - عند الخواجة بتشتو في الساعة العاشرة. - سأكون هناك. - أتشترك معي في هذه العملية؟ - شكرا. - هيه، أمرك، أتعرف من رأيت اليوم؟
ثم جرى الحديث بين الصديقين وكأنما لم يحدث شيء، كأنما هو فواز الغني الذي لم يخسر أمواله جميعا ولم يصبح فقيرا يكاد لا يملك الملابس التي يرتديها، هو هو لم يتغير فيه شيء، يضحك إذا مر الكلام بما يضحك، ويهتبل النكتة إن عرض لها الحديث، حتى إذا أقبل عزت ورآهما في حديثهما هذا ظن أن الأنباء التي بلغته عن إفلاس فواز غير صحيحة، وإن كان قد عرفها من مصادرها التي لا تخطئ، جلس عزت إلى الصديقين وشاركهما في الحديث، ودار بهم الكلام في كل متجه. وحاذر عزت أن يذكر البورصة وما كان فيها، وكان الآخران بعيدين عن حديثهما أيضا، فقد استنفدا عنها ما تستحق من حديث، وطالت الجلسة وهم فواز بالانصراف، ولكن همام ألح عليه أن يقعد مصمما في دخيلة نفسه أن يجعل عزت ينصرف قبل فواز. فقد أدرك الأمر الهام الذي كان يريده فيه، إنه أراد أن يخبره بإفلاس فواز وأراد أن يحذره من ضمانته، وكان همام يعلم أن لا جدوى من هذا التحذير فأراد أن يتجنب المناقشة.
وأدرك عزت السياسي المداور ما بيته همام في نفسه، فعزم على البقاء حتى يخرج فواز، وأدرك همام أن لا محيد له عن هذه المناقشة بينه وبين عزت.
خلت الحجرة بهما، فبادر همام يسأل وعلى فمه ابتسامة: يا أخي، أليس لك بيت؟ - بلى لي بيت، وسيظل لي بيت.
واتسعت الابتسامة على وجهه وهو يقول: ماذا تقصد؟ - أقصد أنه سيظل لي بيت ما دمت لا أضمن الناس، وخاصة الذين يضاربون بأموالهم جميعا، ولا يكتفون بهذا بل يطلبون ضمانة أصدقائهم أيضا. - ماذا تنتظر مني أن أفعل؟ - يا أخي، ربنا خلق كلمة في اللغة العربية اسمها لا، وأخرى اسمها متأسف، ولا أستطيع، وعندي أولاد. - عندي أيضا أصدقاء، وعلي واجبات لهم. - واجباتك نحو أولادك أولا. - أتعرف يا عزت أنه كتب كل أمواله باسم زوجته؟ - عظيم، تضمنه زوجته. - جعلته أنا يعيدها باسم نفسه، ألا تراني مسئولا عن إفلاسه الآن إلى جانب مسئوليتي كصديق العمر؟
وارتج على عزت هونا ثم قال: أتعرف المبلغ الذي ستضمنه فيه؟ - لا، لم أسأله. - أراهن أنه مبلغ يزيد على أملاكك. - لا أستطيع الرفض. - يا همام، أرجوك. - ماذا فعلت مع طبيب فايزة؟
وغامت عينا عزت بالدموع فجأة، ولكنها ما لبثت أن غاضت وقد تماسك قائلا: لا فائدة. - مطلقا؟ - لن تسمع شيئا بقية عمرها؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله. - المصيبة أنها صغيرة ولا أدري كيف يكون مصيرها؟ كيف تتعلم؟ كيف؟
ثم تماسك وصمت. - ألا تذهب بها إلى أوروبا؟ - سأذهب، ولكن ليس للعلاج. - لماذا؟ - أنت تعرف كما أعرف أنا أنه لا فائدة، حمى شوكية قضت على السمع، لا علاج لها في أي مكان. - فلماذا تذهب؟
أولا لا أريد أن أفجع أمها في أمل قد يلازمها بضعة أشهر أخرى، وثانيا أريد أن أبحث عن مدرسة لتعليم ...
وعادت الدموع في عينيه مرة أخرى، وأطرق همام. ولكن عزت أكمل جملته في صوت يختلط بالبكاء: الصم.
الفصل العاشر
رحمتك اللهم ورضاك، كان أهون علي لو أرحتها من العالم وأخذتها إلى جوارك، ولكن الأمر أمرك لا حيلة لنا فيه. ما ذنبها يا رب؟ ماذا جنت؟ ولكن سبحانك، تصيبنا لتختبر الصبر فينا، وهل نملك إلا الصبر؟ بماذا تلاقي الدنيا هذه الفتاة المسكينة؟ بنتي حبيبتي، لقد سدت منافذ الصوت إلى عقلها، وقف وعيها عند هذه السنوات القلائل التي بلغتها من العمر، ما مصيرها؟ أتظل ترنو إلينا بهذه العيون الحائرة القلقة المذعورة؟ إنها لا تدري ما بها وهي تحسه أو فيما يكون الحس، لم تعد تسمع شيئا، لا تستطيع الضحك، ولا تعرف إلا البكاء، كلما رأتنا نتكلم، فهي لا تسمع كلامنا وإنما تراه، تبكي، لقد فقدت شيئا كبيرا، ثم هي لا تدري ماذا فقدت فتبكي، تسأل، تسألني، وتسأل أخاها، وتسأل أختها: لماذا لا أسمع؟ وكيف نجيب؟ وكيف تسمعنا إن نحن أجبنا؟ يا حبيبتي يا بنتي، أهكذا ينقطع ما بينها وبين الحياة، لا تتصل بالدنيا إلا بعيون جاهلة. طفلة صغيرة حائرة، ترى أتجدي هذه المعلومات القلائل التي تعلمتها؟ وإلا فكيف تتعلم؟ أو كيف تعيش؟ يا رب هذا هو القضاء، فأين اللطف فيه؟ وتلك هي الكارثة، فيدك الكريمة يا رب ترفع بعضها أو تخفف وقعها، يا كريم يا رب.
ضاقت بالسرير وضقت بالأمل، فتركت هي السرير. أتراني أستطيع أن أترك الأمل؟ وماذا لي غيره، يأس؟ يأس قاتل أسود مرير، كحياتها بل كحياتي، أبقاك الله يا عزت، تريد أن تخفف عني المصيبة ولعلها عليك أشد. وتريد أن تفسح لي أملا من السفر إلى الخارج، وهل أجهل المرض، أليس في أوروبا صم؟ فما لهم لم يعالجوا هناك إذا كان هناك من يعالج؟ ولكنها صغيرة، فالفاجعة فواجع، والمصيبة مصائب، لن تكون بنتي فايزة صماء فحسب، بل قد تغدو شبه بلهاء. أو كيف تفهم ما يدفع عنها البله وهي لا صلة لها بدنيا الناس إلا عقل استقر عند السادسة لا ينمو. وكيف له أن ينمو؟ وعلم توقف لا يزيد. وكيف يزيد؟ أأرجو لها الموت؟ يا لي من أم قاسية، أأتمنى لها الموت لترتاح هي أم لأرتاح أنا؟ ماذا فعلت يا رب حتى يصبح موت ابنتي أمنية عندي؟ هل أستحق هذا؟ لعلك في مطوي علمك قد ادخرت لي عندك ثواب هذا العذاب. ولكن سبحانك أي ثواب يعدل ما ألاقيه، ولكن سبحانك فإنك تعلم ما لا نعلم وحسبنا أنت. إنك أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
وقامت إجلال هانم من جلستها الصامتة الصاخبة تملأ الدموع وجهها، دموع حارقة لا تطفئ نارا ولا تريح فؤادا. قامت فاستقبلت القبلة وأقامت الصلاة تتمتم ألفاظها غائبة عن معانيها وتؤدي مناسكها ذاهلة، وإنما هي قيام وركوع وسجود تقوم بها جميعا كشيء يسير في طريق فرض عليه لا يدري مبتدأه أو منتهاه.
وحين بلغت إجلال قراءة التحيات الأخيرة دلف إلى الغرفة زوجها عزت واتخذ كرسيا وظل يرنو إليها يجاهد نفسه ما وسعه الجهد ألا تبدر من عينيه دمعة، والله وحده يعلم أي كفاح مرير بذله حتى يذود الدموع عن عينيه، تاركا قلبه يبكي في نشيج مرير مكتوم. كان لا بد له أن يصبر حتى يصبر البيت جميعه، وكان لا بد له أن يتماسك حتى لا يفقد أسرته كلها، فصبر وتماسك.
إذا أصاب الموت بيتا فأيام أو شهور ثم يعود البيت إلى سابق حياته، فالموت يطوف طواف الزائر العجلان، يختار من يختاره ثم يمضي به لا يترك إلا الذكرى. وللأيام على الذكرى سطوة، فهي تنسيها، وإن عادت بها فلحظات أو ساعات ثم يعود القوم المصابون إلى مألوف حياتهم. أما هذه الكارثة التي أصابت بيت عزت فهي قائمة تسعى في البيت تطالع القلوب التي تحف بها بالهول الذي أصابهم فيها، وإنهم ليدركون ما أصابهم ويقدرون عواقبه، وينظرون إلى المستقل الذي ينتظرها فلا يرون إلا سوادا حالكا، أما هي فقطعة من إحساس يسعى في البيت، إحساس يعلم أنه مصاب بفادح من الأمر، ثم يقف بها العلم عند الشعور بلا إدراك ولا تفكير في العواقب ولا نظر إلى المستقبل.
فرغت إجلال من الصلاة ولم تفرغ دموعها فإنها لا تزال تنهمر على وجنتيها سكبا بلا توقف، وأنعم عزت فيها النظر بعض الحين حتى ملك مر لسانه وقال: وبعدلك يا إجلال؟ - لا عليك يا عزت، تحملني، المصيبة كبيرة. - لعل الله يكرمنا فنجد علاجا في أوروبا. - أتراني صغيرة يا عزت؟ لا فائدة، وأنا أعلم أن لا فائدة.
وارتج على عزت هنيهة ثم قال: كيف؟ كيف؟ من قال هذا؟ - أنا أقوله، اسمع، المهم أن نبحث الآن عن طريقة تتعلم بها القراءة والكتابة. - لعلنا في أوروبا نجد الطريقة. - ماذا تتعلم هناك؟ لغة أخرى غير لغتنا، لا، دع عنك سفر أوروبا هذا، لا فائدة منه على الإطلاق. - يا ستي من يعرف؟ - عزت، أرجوك، أنا لست صغيرة. - طيب! لعلنا نجد لها مدرسة هناك؟ - ولا هذا، هل يمكن أن أتركها في هذه المدرسة؟ ثم ماذا تتعلم فيها؟
أتتعلم أن تجهلنا نحن أيضا ونحن كل ما بقي لها؟ أم تتعلم قراءة لغة أخرى وكتابتها فلا نستطيع التفاهم معها؟ - إذن فماذا تريدين؟ - أريد شيئين، أريد بنتا كبيرة بعض الشيء ترافقها وتحاول أن تلهيها وتؤدي لها ما تحتاج إليه، وأريد أن تبحث عن وسيلة لتستأنف تعليمها، فهي تعرف الحروف، وكانت قد ابتدأت تتعلم الهجاء. فلنحاول أن ننتفع بهذا القليل الذي تعلمته لعلها تستطيع القراءة فتفهم ما لا نستطيع إفهامه لها بالكلام. - أمرك. - تعليم فايزة أهم من تعليم محسن نفسه. فايزة ستظل وحيدة العمر كله.
وأطرق عزت في حزن مرير وهو يقول: نعم، أعرف هذا. - لا بد أن نواجه الحقيقة، نحن نعرف أنها لن تتزوج ولن يكون لها بيت إلا هذا البيت، فلا بد أن تفهم حتى تستطيع أن تعيش. - نعم يا إجلال، أنا أدرك هذا تماما، ربنا يوفقنا إن شاء الله. - سبحانه ليس لنا إلا هو. •••
كان بيت عزت واجما جامدا لا يخطئ من يدخله أمره، هو بيت ينضم على كارثة. نجح محسن في الامتحان ونجح معه خيري، ولكن خبر النجاح مر بالبيت عابرا عجلا لم تستقبله إلا ابتسامة باهتة. بل إن بيت خيري نفسه لم يستطع أن يفرح بنجاح ابنه البكر الذي صاحب هذه المصيبة التي ألمت بعائلة عزت.
بل إن خيري نفسه لم يفرح بنجاحه كما كان يقدر لنفسه أن يفرح. فما كان هناك من سبيل أن يتحقق أمله الكبير في هذه الأيام الأولى من الفاجعة. وما استطاعت نفسه أن تفرح وهو يرى إلف هواه حزينة أسيفة. نجح الشابان ولكنهما استقبلا نجاحهما استقبالا فاترا هادئا لا نبض فيه ولا حياة.
وقد استقر خيري في بيت عزت بك لا يبرحه، يرافق محسن أينما ذهب لا يتركه إلا عند الليل، وكانا يقضيان أغلب وقتهما في البيت. وكانت وفية تجلس إليهما في كثير من الأحيان، وكثيرا ما خلا خيري إلى وفية، ولكن لا حديث إلا عن فايزة ما تقول وما تفعل وما سيفعلان بها، وكيف يقضي عزت بك وقته، وكيف تحيا إجلال هانم حياتها. خيمت التعاسة على البيت جميعه، وإن كان نبض الحب لا يزال قويا في القلبين الصغيرين إلا أنه نبض لا يجاوز القلب إلا في نظرة وامضة، أو دمعة مشفقة يتبادلها الحبيبان.
كان خيري ومحسن يجلسان في حجرة المكتب حين قدم إليهما الأستاذ حامد. حياهما وجلس صامتا وهما صامتان، ثم لم يلبث أن قال: لا أعرف ماذا أقول يا محسن، هل أقول مبروك أو أقول الله معكم؟
وقال محسن في ألم: والله يا أستاذ نحن في أشد الحاجة إلى عون الله. - لم أعرف إلا الآن، فقد مررت ببيت خيري فوجدت يسري وهو الذي أخبرني.
وأراد خيري أن يغير الموضوع فقال: متى تسافر يا أستاذ حامد؟ - الأسبوع القادم إن شاء الله. - بالسلامة. - سلمك الله، سأكتب لكم دائما. - هل ستغيب هناك؟ - والله حسب الظروف، سأبقى ما استطعت البقاء.
وقال خيري: والست والدتك وأختك هل ستقيمان في نفس البيت؟ - طبعا، البيت إيجاره رخيص. - لا تشغل بهما، فسأزورهما دائما، وأرى إن كانتا تحتاجان إلى شيء، اعتبرني أخاك. - أنا أعرف يا خيري مقدار وفائك، وأنا معتمد عليك كأخ وكصديق.
وقال محسن: هذا أقل ما يجب يا أستاذ حامد. نحن لا ننسى معروفك. - بل أنا الذي لا ينسى معروفكم أبدا، أنتم لا تعرفون أثركم في حياتي لأنكم تعودتم أن تجيبوا طلبات الناس، هي عندكم رجاءات تبذلون جهدكم في تحقيقها. أما عند كل فرد تحققون رجاءه فهي مستقبله وحياته، وربنا لن يضيع أجركم أبدا يا محسن. - هيه يا أستاذ. - لا، لا تيأس، لكل ضيق فرج. - ألف شكر يا أستاذ، طبعا أنت تعرف أننا على استعداد لأي طلب تريده قبل السفر. السفر طلباته كثيرة وقد تكون فوجئت به، فإن كنت تريد سلفة فنحن طبعا أخواك ونحن ...
وقاطعه حامد شاكرا: أبدا، أبدا يا محسن، لقد أعددت نفسي تماما ولكن ... - ماذا؟ - كنت نويت ألا اذكر هذا الطلب. - ولماذا يا أخي؟ - والله الحكاية الأخيرة هذه، أظن لا يجوز لي أن أرجو في شيء وأنتم مشغولون بأمر فايزة. - إننا نحيا على كل حال يا أستاذ حامد. قل ماذا تريد؟ - أختي. - ما لها؟ - تعرف القراءة والكتابة وتريد أن تجد عملا، فإذا استطاع البك الوالد أن يجد لها عملا في مستشفى مثلا أو شيئا كهذا أكون شاكرا. - بالطبع سأبلغه، سافر وأنت مطمئن.
وقال خيري: اطمئن يا أستاذ حامد، سأضم رجائي إلى رجاء محسن وألح على عمي عزت بك. - شكرا، أستأذن أنا.
وقال خيري: كنت أنوي والله أن أسافر معك إلى الإسكندرية لأودعك، ولكن لا أستطيع ترك محسن وحده في هذه الأيام. - أنا أعرف شعورك تماما يا خيري، وأعتبرك أخي الأصغر، وأنت بتفكيرك هذا كأنك ودعتني في الإسكندرية. السلام عليكم.
ومد حامد يده وشد على قبضة خيري في حب وود، وصافح محسن وخرج. وخلت الغرفة بالصديقين مرة أخرى، وانفرد بهما الصمت فترة طويلة، ثم قال خيري: ربنا يوفقه.
ولكن محسن قال، وكأنما تذكر شيئا كان غائبا عنه: الله، خيري، ألم يقل إن أخته تريد أن تعمل؟ - نعم. - فلماذا لا ترافق فايزة؟ فنحن نريد لها مرافقة. - أتظنه يرضى؟ - ولم لا؟ - فعلا، ولم لا؟ سأذهب إليه. - أتعرف بيته؟ - نعم، كثيرا ما أوصلته إليه بالسيارة.
الفصل الحادي عشر
أجابت دولت الطرق فانفرج الباب عن شاب، رجل، رجل في بواكير الشباب الأولى، مشرق الوجه، وامض العينين، طويل القامة، باسم الثغر، شديد العناية بهندامه وبطربوشه، يميله إلى الناحية اليمنى من رأسه إمالة هينة ما تكاد تلحظ. ورأت في عينيه السوداوين خجلا، وفي وجهه المشرق مبادئ احمرار، وفي فمه كلاما يتردد بين الانطلاق والاختفاء. ثم رأت في عينيه إعجابا يكتمه ولكنها أدركته، طارق جديد على البيت لم يعهده البيت. نظرت إليه مليا، وسمحت للإعجاب الذي خالط نفسها أن يبدو في عينيها دون أن تخفيه، ثم قالت في غنة حلوة تعودت أن تنغم بها حديثها كلما خلت إلى أحلامها مع الرجال: نعم؟
وقال خيري وهو يرنو إليها ثم يخفض بصره كلما طالعته نظرتها الجريئة: منزل الأستاذ حامد عبد الكريم؟ - نعم هو، تفضل. - لا، أشكرك، الأستاذ موجود؟ - سيأتي حالا، تفضل. - أين أجده؟ - لن يغيب، تفضل بالدخول.
ولم يستطع خيري إلا أن يتفضل بالدخول، وكيف يستطيع أن يصدف عن هذه الدعوة المنغومة الحلوة. إنها الأنثى في جلالها، في ذروة عنفوانها وقوتها، شباب ريان كالنبت الأخضر الغض تيقظ في بواكير الفجر والندى يتلألأ على أوراقه، وعينان جريئتان كالأمر، كالقوة، كالسلطان، وعود مزدهر مرسوم يدق حيث ينبغي له أن بدق، ويمتلئ حيث يجمل به أن يمتلئ، فارع مياد هفهاف كالفرحة النشوانة، كالأمل، كالشباب، وثديان جديدان كالرجاء المجاب، كالرغبة المحققة.
لم يكن بد من أن يتفضل، ودخل.
لم تكن أم حامد بالبيت، فقد خرجت تشتري لابنها بعض الملابس التي رأت أنه سيحتاج إليها في سفره. وخلا البيت بخيري ودولت، قادته إلى حجرة الجلوس فاستقر بها مقامه ولم تستقر عيناه المترددتان بين الإنعام والإطراق، ولم يستقر قلبه من الخفق. وجيبا شديدا، وجيب الشاب الجديد، وجيب الدم يدور في الجسم فوارا عنيفا جائحا، تذكر وفية ولكنه قال في نفسه: وهل خنتها؟ الأمر مختلف، واطمأن إلى أن الأمر مختلف، وراح يلتذ هذا الوجيب وهذا التحديق وهذا الشباب. وأخرجته دولت من حيرته: قهوة؟ - لا شكرا.
وظلت واقفة تريد أن تعرض شيئا آخر مما يقدمه المضيف لضيفه، ولكنها انشغلت عن هذا بإنعام النظر فيه، نظرة جائحة قوية، رجل، وأي رجل؟
قال خيري: حضرتك الآنسة دولت؟ - وحضرتك الأستاذ خيري؟
وضحك ضحكة ساذجة وازداد وجهه احمرارا إن عرفته ثم قال: كيف عرفتني؟
وقالت في دلال وأنوثة: عرفتك.
وضحك مرة أخرى في بهجة استخفت له: كيف؟ - عرفت والسلام. - هل أنا مشهور إلى هذا الحد؟!
وتأودت دولت في غنج وهي تقول: جايز.
ورنا خيري إليها نشوان الفؤاد ذاهل النظرة. جف ريقه وشرد ذهنه إلى عوالم يا طالما طاف بها وكانت رفقته فيها امرأة وجهها أخلاط وجسمها أمشاج من الأجسام غير محددة المعالم أو واضحة المعارف. امرأة متقلبة الوجوه لا تثبت محاسنها على حال، فقد تكون في يوم جميلة غاية الجمال وتكون في آخر قبيحة غاية القبح، ولكنها قط لم تكن معروفة عنده. لم تكن وفية مطلقا كما أنها لم تكن بهذا الجمال الذي يتمايل أمامه مشرفا عليه من عل، باسما دائما، فرحا دائما بهذه الدماء الموارة في عروقه، وبهذا اللسان الجاف، يلتذ جفافه، ويلتذ كل إحساس آخر يخالجه. رنا إليها وأطال، وهي رانية إليه لا تميل عيناها عنه، فقد طالما رافق أحلامها، ويا طالما شاركها في وحدتها عند المساء، منذ رأته من الشباك في أول يوم جاء فيه بأخيها إلى البيت رأته ولم يرها، ثم ظلت تراه كل ليلة وتستجلب صورته إلى عينيها قبل أن تغمضهما، ثم تترك للأحلام أن تكمل آمالها العربيدة.
طال بينهما الصمت فلا يجد قولا إلا: اقعدي، لماذا أنت واقفة؟
وفي نظرة إليه ناعمة عميقة حالمة معربدة، قالت وفي صوتها تلك الغنة التي تصطنعها: مبسوطة هكذا؟
وظل رانيا إليها، وكالحلم الجميل يخشى صاحبه أن يستيقظ فلا يراه، خشي خيري أن يصرفها من وقفتها هذا شيء، خشي ألا يراها، خشي أن تذكر شيئا وتتركه، خشية داخلت نفسه، فألحت وملأت جوانح تفكيره طنينا عاليا، خشي أن تنصرف فراح يفكر في شيء يبقيها إلى جانبه، ماذا يمكن أن يبقيها إلى جانبه؟ حديث، أي حديث يستطيع أن يحرك به لسانه؟ وأي لسان يحرك؟ ولكن لا بد مما ليس منه بد، فليفكر في موضوع الحديث أولا وعند الحديث يعينه الذي لا تغفل له عين، أي حديث يمكن أن يحادثها فيه؟ وعاده الصوت المنغوم: أتريده حضرتك في شيء؟!
وانتبه خيري قائلا: من؟
وقالت دولت في فرح أن استطاعت أن تخلب لبه وتلهيه عن طلبته الأولى: حامد، حامد أخي، ألم تقل إنك تريده؟
وصحا خيري وتذكر أنه يريد حامد، وفي تذكره وجد موضوع الحديث الذي يهفو إليه: آه، نعم، أريده طبعا، أريده في موضوع خاص بك. - بي أنا؟ - نعم بك أنت.
واقتربت منه وقد تكلفت الاهتمام تكلفا يتيح لها أن تدنو وتنعم بعينيها في عينيه، وتوسع من جفونها وتعيد قولها: ماذا ... ماذا ...؟
وانتهز خيري فرصة هذا الاقتراب وأجلس دولت إلى كرسي بجواره وهو يقول: اقعدي أولا. - ها أنا ذي قعدت، ماذا؟
وراح خيري يقص عليها قصة فايزة، ودون أن يحس وجد دمعات تفيض من عينيه، إن المصيبة قديمة على البكاء، ولكنها كانت المرة الأولى التي يرويها فيها فبكى. لقد استقبل المصيبة ولم يكن مصدرا لروايتها إلا اليوم، فأحس لذعة الكارثة وكأنها شيء جديد. وعجب خيري حين رأى دمعات أخرى تنحدر على خدي دولت، ولكنه سرعان ما تمالك أمر نفسه وهو يقول: آسف لم أقصد. - لا عليك. - هذه هي المسألة. - وما شأن أخي أو أنا بهذا؟ - كان أخوك عند ... عندنا وعرفنا منه أنك تريدين أن تعملي. - نعم. - هل عندك مانع أن تكوني شبه مرافقة لهذه البنت المسكينة؟
ونظرت إليه مليا وقالت: تقصد مربية؟ - عندها مربية، أقصد الكلمة التي قلتها تماما، مرافقة.
وظلت دولت تنظر إليه ثم قالت: وهل سأراك هناك؟ - طبعا.
وأطرقت دولت هنيهة ثم قالت: على كل حال الأمر لأخي. - أعلم، ولكن هل توافقين أنت؟ - نعم. - إذن سيوافق.
الفصل الثاني عشر
دق جرس التليفون في بيت عزت بك، وكان جالسا إلى جانبه مع زوجته إجلال هانم، فرفع عزت السماعة، ثم فوجئت زوجته به وقد ملكه ذعر عارم عنيف وهو يقول: هل أنت متأكد؟
ثم يعود فيقول: وهل عرف؟
ثم جاهد نفسه ليقول قبل أن يضع السماعة: لا، لا تخبره أنت، سأخبره أنا.
وراح يردد في ذهول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! ثم قام من فوره والذهول لا يزال آخذا به غير مبال بزوجته التي راحت تلح عليه في جزع: ماذا يا عزت؟ ماذا حصل؟ عزت.
واتجه عزت إلى السلم يريد أن ينزله لولا أن صاحت به زوجته صيحة يائسة: عزت، أخبرني يا أخي ماذا حصل؟
وأفاق عزت هونا ليرى زوجته وهي في جزعها ويقول: لا شيء، لا شيء، لا أستطيع أن أخبرك الآن.
والتفت إلى السلم ينزل في تمهل يائس حزين. •••
كان همام في حجرة مكتبه الفاخرة يراقب ابنه خيري والكاتب الذي يعمل عنده وهما يرصفان الكتب في المكتبة الجديدة التي ركبت اليوم بحجرة المكتب. وكان همام فرحا بمكتبته هذه، فقد صنعت بأمره في باريس، فهي قطعة من الفن الرفيع تغطي جدران حجرته جميعا، كل جزء ظاهر منها محفور مغطى بالبرونز الذي لعبت به أيدي صناع ماهرة، فهو رسوم وتشكيلات وزخارف. وكانت قاعدتها مثلها تقفل على أدراج أو رفوف. وكانت الضلف مغطاة بقطع من البرونز المشغول ... ملائكة أو آدميين أو طيورا تكاد جميعها تسعى وتحيا لو أصابت من قدرة الله نبضا. - هيه يا عم خيري؟ ظللت تشكو ضيق المكتبة وكثرة الكتب، أين هي هذه الكتب التي كانت لا تجد مكانا؟ أرى المكتبة خاوية لا تزال.
ويقول خيري في جذل فرحان: وهل كنت أدري أنك ستأتي بهذه المكتبة كلها؟ إنها بيت وليست مكتبة. - أتعجبك؟ - تعجبني؟! إنها رائعة يا بابا، هائلة. - عظيم، عليك إذن أن تختار الكتب التي تخفى هذه الأرفف. - بسيطة، سأملؤها لك قبل أن أدخل الكلية. - اشتر ما تشاء وأحضر لي الفاتورة ولاحظ أنني أمتحن اختيارك. - وماذا تعطيني إن نجحت في هذا الامتحان؟ - المكتبة. - كيف؟ - ستصبح الكتب لك. - إنها لي بغير مكافأة. - لا، أنا أقصد أن أعطيك هذه الحجرة فتصبح حجرة مكتبك أنت. - وأنا لا أقبل. - كيف؟ - لو كانت هذه الحجرة لي لما قبلت أن تكون لي ولا تكون لك، فإنك مهما تصنع لن تستطيع أن تجمل حجرتك بمثل هذه المكتبة، ولا يمكن أن تكون لي أنا حجرة خيرا من حجرتك، لأول مرة يا بابا أراني مضطرا لرفض هديتك. إن جمالها لا يكمل إلا بك، وبجلوسك فيها، أريد مكافأة أخرى.
وابتسم الأب فرحا بحديث ابنه وهو يقول: أطال الله عمرك يا خيري، لك ما تشاء. - إذن سأفكر وأخبرك. - فكر ما تشاء، إن كل ما أملكه لك. - بل لك أنت يا بابا، أطال الله عمرك. - هيه يا خيري، لم يعد لنا أمل إلا أن تسعدوا أنتم.
وقبل أن تخونه عيناه سارع يقول في لهجة آمرة ضاحكة: أسرع يا ولد، لا تكثر الحديث، افرغ من عملك، إنك ثرثار كبير. - حالا، حالا، أين تريد كتب المنفلوطي؟ - هنا، قريبا من متناول اليد. - وكتب طه حسين؟ - هنا أيضا، فإني أحب أن أعود إليها دائما، أقرأتها؟ - نعم. - كم مرة؟ - مرة واحدة. - أنت مجنون، كيف تستطيع أن تقرأها مرة واحدة؟ - أقرؤها ثانية، وهذه كتب هيكل والمازني والعقاد. - ضعها جميعها في الأرفف القريبة من اليد، وضع معها دواوين الشعر، فهذه لا تقرأ مرة واحدة. والأغاني، والعمدة، ونفح الطيب، وأمثال هذه الكتب اجعلها جميعا قريبا من يدي، دع الكتب الأخرى للأرفف الباقية، تلك التي لا يرجع إليها إلا في القليل النادر، أما هذه الكتب الرخيصة فلا تضعها في المكتبة، هذه تقرأ ثم ترمى. آه، هذا الكتاب.
وقبل أن يكمل همام جملته يدخل عزت إلى الحجرة فيستقبله همام في فرحة طاغية: أهلا، كنت أفكر فيك، فأنت من هواة الأثاث الجميل، ما رأيك؟
ولا يجيب عزت على السؤال وإنما يقول في حزن واضح وذهول لا يخفى: أريد أن أراك وحدك.
وأحس همام أن عزت يحمل شيئا فاجعا، فالتفت إلى كاتبه يقول: اتركنا قليلا يا زكي أفندي.
وقال عزت: وخيري أيضا.
وأخذ همام بعض الشيء وقال: وخيري أيضا. - نعم.
ودون أن يسمع خيري مناقشة أخرى حول خروجه أو بقائه قال للكاتب: تعال يا زكي أفندي.
وخرجا وأقفلا الباب وخلت الحجرة بولدي العم، وتلعثم عزت قليلا ثم قال: همام، طول عمرك رجل فأرجو أن تتحمل ما سأقول في ...
وقاطعه همام: يا عزت أني كونت ثروتي وأعصابي في البورصة، وبقدر عظم ثروتي قويت أعصابي. قل. - فواز خسر كل شيء.
وارتج على همام هنيهة وهو يقول: الدين الذي ... - نعم الذي ضمنته فيه، هو طبعا لا يملك شيئا، وأنت ... - الضامن، نعم. إذن فقد خسرت كل شيء، بل أصبحت مدينا أيضا. - إذن ... - أنا تحت أمرك ثروتي كلها طوع مشيئتك، أي شيء تريده، سأبقي على البيت، سأشتريه أنا وأؤجره لك حتى تجمع ثمنه، وأضمنك في أي مبلغ حتى تستعيد ما خسرته. كل ما أرجوه أن تظل أنت كعهدنا بك ثابتا كالجبل، لقد كنت حياتك كلها هكذا فأرجو أن تظل هكذا.
وابتسم همام ابتسامة فيها شكر وفيها تقدير للرجل الكبير الذي يعرض عليه حياته ومستقبله ومستقبل أولاده، لم يقل شكرا فقد رآها ضئيلة لا تقوم بما في نفسه، ولم يقل إنه لا يقبل فقد كان واثقا أن عزت يعلم أنه لن يقبل. إنه لا يقبل أن يعرض ابن عمه وهو كأخيه لمثل ما تعرض له، فبيت عزت بيته، ولئن ينهدم بيته خير من أن ينهدم بيتاه، ولم يقل ماذا سيفعل، فإنه لم يكن يدري ماذا سيفعل.
لم يقل شيئا إلا نظرة الشكر هذه التي أطلت من عينيه وظلت مطلة في ثبات، وإلى هذه الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه وتجمدت ابتسامة يعجز صاحبها أن يستردها وتأبى هي أن تزول. وفي بطء تحرك لسانه في فمه يقول: الأولاد يا عزت.
وسمع عزت الجملة وكأنها تصل إليه من أغوار واد سحيق، فهو يسمعها بذكائه لا بأذنه، وخيل إليه أن هماما أصيب، فأراد أن يستعيد ما سمع أو فهم. أراد أن يقول شيئا أي شيء فهو يسأله: ماذا ... ماذا قلت يا همام؟
ويريد همام أن يقول ثانية، يريد أن يفضي إلى ابن عمه، أخيه، بهذه الفكرة التي تلح على ذهنه في إصرار، الأولاد، والأولاد هم زوجته وأولاده. يريدهم أمانة في عنق هذا الأخ، يريد أن يقول، فيقول، ولكن الكلمة تدور في رأسه وتدور أيضا في فمه، ولكنها عاصية عن الانطلاق أو هي عاجزة عن الانطلاق. ويرى عزت لسان همام يدور في فمه كالعجوز المقعد يدور في الدرب المظلم فلا يبصر الطريق ولا يبلغ المقصد، ويدرك عزت ما وقع بابن عمه. وينفي إدراكه عن ذهنه بأمل واهن أن تكون إلمامة إلى زوال، ولكنه يعلم أنها ليست كذلك. يعلم، ولكن لا بد للمصيبة من أمل - مهما يكن ضائعا - يخفف وقعها أو يمنعها على الأقل أن تنزل دفعة واحدة، هو يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يتعلق بأمل أوهن من خيط العنكبوت وأوهى. يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يقول في جزع: همام ... همام ... ماذا بك يا همام؟
ولا يجيب همام إلا بهذا اللسان التائه العاجز المقعد يتعثر في فمه ولا يبين.
واندفع عزت إلى باب الغرفة في جنون يصيح: خيري! خيري!
ولا ينتظر حتى يقترب منه خيري الملهوف الجازع، بل يقول له: استدع الدكتور حالا، الدكتور عبد العزيز، عبد العزيز إسماعيل، حالا! حالا يا خيري!
ويقول خيري: ماذا ... أبي! هل به شيء؟ أبي ما به يا عمي؟ أبي.
ويندفع إلى حجرة المكتب ويحاول عزت أن يمنعه، ولكنه ينفذ إليها دافعا الضلفة المغلقة من الباب محطما زجاجها صائحا: أبي! أبي!
ويستدير عزت إلى خيري ليقول له: أسرع باستدعاء الدكتور.
وينظر همام إلى خيري، ويجد أخيرا وسيلة أخرى ليفهم بها عزت ما يريد، فهو يشير إلى خيري ثم يشير إلى عزت ويكرر الإشارة مرات ومرات لا يقف عنها حتى يقول عزت: من عيني يا همام، من عيني يا أخي، لا تخش شيئا، أنت بخير. وتراح أنفاس همام اللاهثة ويطمئن أنه أبلغ أخاه الصديق ما يريد، ويستسلم لمرضه في إذعان مطمئن، ويهدأ لسانه إلى مستقر، لقد أدى الأمانة، فليحملها من أودعها يديه، وإنها لأيد أمينة، إنها أيدي عزت، إنه ابن عمه، أخوه، صديقه.
الفصل الثالث عشر
انفجار شريان في المخ، انفجار الحياة. شريان، صغير أو كبير لا يهم، لقد انفجر وكانت الحياة معلقة بهذه الخيوط الرفيعة التي تجري فيها الدماء، ولم تحتمل الخيوط الحياة، فانفجرت فمات. مات همام كأي إنسان يموت، لم يرحم الموت أنه أراد أن ينقذ صديقه، ولم ترحم الحياة أنه اندفع إلى غمار المخاطرة من أجل الصداقة. لا، لم يراع الموت ولم تعطف الحياة، شأنهما دائما يغبيان المروءة ولا يحفلان بالرجولة، سيان عندهما شقي مات وهو يتسلق بيتا ليسرق، أو رجل رمى بنفسه إلى البحر لينقذ واحدا من أبناء الحياة. الموت يستقبل كلا الاثنين وتصدف الحياة عن كليهما.
حلت الكارثة بالبيت الكبير، وكان أكبر الرجال فيه هو ذلك الشاب الذي يريد أن يستقبل الحياة، فأبت الحياة أن تستقبله. ونزلت النازلة بأمه سميرة هانم، فهي من الخطب في هلع آخذ حزين مر، وهي من النازلة في يقظة كاملة تريد أن تواجه هذه الجديدات التي تطالعها بها حياة جديدة من الفقر وهي لم تعود الفقر، ومن العسر قد كانت للآخرين يسرا.
وتقدم عزت يجاهد بأقصى جهاده أن يبقي عليهم البيت، ولكن خيري أبى في عزم واثق. - ماذا نفعل بالبيت يا عمي؟ سيكون ثمنه دينا علينا، وأولى بنا أن نواجه الموقف بغير حرص على المظاهر.
وقالت الأم: ومن يخدم هذا البيت الكبير؟ وأين لنا بما يكفي خدمه والعيش فيه. بل أينا لنا بالقلوب التي تستطيع العيش تحت سقف كان يظل كبيرنا وكنا ننعم في بره؟
وقال خيري: لا تخش علينا من كلام الناس يا عمي. فقد عاش والدنا غنيا ومات فقيرا، ولكنا نشرف بفقره ونعتز به أكثر من اعتزازنا بغناه. لقد أراد أن ينقذ صاحبه فأصابتهما الفاجعة.
وقال عزت: يرحمهما الله، مات كلاهما من الصدمة، على كل حال يا خيري أنا معجب بهذا الكلام الذي أسمعه منك، وكل رجائي أن تعوض أنت ما فاتكم من غنى وتلتفت إلى المذاكرة. - سأعمل يا عمي. - تعمل؟! فيم؟ - سأتوظف. - بالبكالوريا؟ - نعم. - وتترك التعليم العالي؟ - سأحاول أن أذاكر من الخارج. - يا ابني الحالة لا تستدعي هذا. - كيف؟ - أمك عندها العشرون فدانا التي كتبها لها أبوك. - وماذا تفعل العشرون فدانا في هذه الأزمة يا عمي؟ أنت أدرى، قنطار القطن بثلاثة جنيهات. - إنها تكفي ولا شك، سأشرف عليها أنا. - بل لا يا عمي، أعفني. - ماذا؟ - لا نستطيع. - ماذا؟ - أكثر الله خيرك وأبقاك، أما هذا فلا نقبله. - ما هو هذا الذي لا تقبله؟ - لا نقبل الصدقة يا عمي عزت. - صدقة؟! - نعم صدقة، صدقة كريمة تحاول كل جهدك أن تغلفها بخلقك السامي، ولكن لا نستطيع. - يا بني، لا صدقة هناك. - نحن نعلم حبك لأبي، ونعلم أنه أودعنا أمانة في عنقك، وكل أملنا أن ترعانا بإشرافك، أما مالك فحرام علينا. - يا خيري لا تقل هذا. - إنك لا ترضى أن تقبل الصدقة يا عمي عزت، لم يصل بنا الحال إلى هذا. - وأين الصدقة في إشرافي على أرضكم؟ - الصدقة في أن تقدم لنا من أموالك ما نحتاج وتدعي أن ما تقدمه إلينا إنما هو من نتاج الأرض، وأنا لا أقبل هذا، وأمي أيضا لا تقبله.
وجرت دمعات على خد الأم الوالهة وهي تقول: يرحمك الله يا همام، تركت والله رجلا وإن كان صغيرا.
وأطرق عزت في حزن وإكبار: أي والله، ترك رجلا. أنا تحت أمرك يا بني، افعل ما تراه. - تجد لي وظيفة. - غدا تتسلم عملك. - شكرا يا عمي. •••
لم يحس يسري ولم تحس نادية من الفاجعة إلا ظلالا ضئيلة، فقد علما أنهما لن يريا أباهما من بعد، ورأيا الحزن القاتل يخيم على البيت الكبير. ثم رأيا البيت الكبير ينكمش إلى شقة صغيرة. ثم رأيا الخدم يتضاءلون ويختفون الواحد منهم بعد الآخر، فاختفى سائق السيارة مع السيارة نفسها، وتناقص الخدم والخادمات فلم يبق إلا الحاجة زينب التي تقوم على تربيتهما والتي كانت حاضنة لأمهما وهي طفلة، وبشير أغا الذي كان عبدا ثم نال حريته وأبى نيلها وظل مع جدهما ثم مع أبيهما، ثم ها هو يظل معهم بعد أبيهم، فهو لا يعرف بيتا غير بيتهم، وقد كان في أخريات أيام همام لا يعمل شيئا، ولكنهما يريانه في هذه الأيام وفي هذه الشقة الصغيرة يقوم بكل عمل يمكن أن يقوم به. وشيئا آخر أحساه، أصبح خيري فجأة ذا أهمية لم تكن له في البيت الكبير، ورأياه يصدر أمرا عجبا له أول الأمر ثم ما لبث أن أصبح طبيعيا على الأيام، فقد أصبحت الحاجة زينب في الشقة الصغيرة طباخة وتركت أمر رعايتهما، وأصبح كل منهما يقوم بشأن نفسه ما وسعه الجهد.
رأيا هذا وأحساه، ولكنه لم يصل إلى أعماق نفسيهما، فالوفاء صغير عند الأطفال والنسيان كبير. عجبا ولعلهما ضاقا بالبيت بعض الشيء، ولكن ما أسرع ما وجد يسري أصحابا بدل الصحاب وما أسرع ما شغلته المدرسة التي لم يصبها في هذا الانقلاب الكبير تغيير، فهي هي مدرسة المنيرة لا تزال.
وأما نادية فقد بدأت تذهب للمدرسة، وكان هذا تغييرا جديدا على حياتها، لم تدر إن كانت له صلة باختفاء أبيها أو بالنقلة من بيت إلى بيت، أم لا صلة هناك.
واستطاع عزت أن يستقدم للشقة الجديدة أثاثا من البيت الكبير، وقد وجد من الدائن ترحيبا، فقد أكبر هذا الدائن خيري الذي قدم كل ما يملك سدادا للدين ولم يهرب شيئا. وأراد عزت أن يأخذ المكتبة إلى الشقة، ولكن خيري أبى، فقد أصبح يكره هذه المكتبة التي لم تشهد في بيتهم إلا مصرع أبيه، ولكنه أخذ الكتب جميعا وجعل منها هوايته.
واستقر الأثاث الفخم في الشقة الصغيرة يشهد ما يشهده أصحابه من فقر بعد غنى، وعسر بعد يسر، وضيق بعد سعة. لم يفكر خيري ولم تفكر أمه أن يبيعا الأثاث ليستبدلا به رخيصا غيره، فقد كان الأثاث يحمل ماضيا للأسرة، ومهما تكن في هذا الماضي من مرارة إلا أنه قطعة منهم، تحن لها النفس، وإن أمض النفس أن تذكره.
استقرت الحياة بالأسرة، ومهما يكن الحال الذي استقرت عليه إلا أنه استقرار خير من الضياع. وجاهدت الأم نفسها وأعانها كبرها، فاستطاعت أن تظل دائما الست الكبيرة الهادئة المطمئنة، إن حزنت فلزوجها، وإن بكت فعلى فقيدها، ولم تذكر عزا مضى ولا غنى زال ولا رفاهية ذوت، وإنما تذكر زوجا كريما ورجلا رجلا، وركنا ظل إلى أن مات ركنا. وفي هذه المعاني عاش خيري، واستطاب أن يرى نفسه عماد بيت، والتذ بشعوره بأنه يجاهد من أجل أمه أن تعيش كريمة وأخيه أن يتم تعليمه وأخته أن تتثقف حتى يرضيهم ربهم بمن يضمها إلى بيته فقيرة ذات أصل وثقافة وجمال.
وكانت أسرة عزت تكثر من زيارتها للشقة الصغيرة. وكانت سميرة هانم ترد الزيارات في ثقة بالنفس وهدوء، فقد أكرمها الله بولد أبقى على كرامتها أن تهان وعلى يدها أن تمد. فهي إن شكرت عزت، فإنما تشكر الوفاء لم يشبه عطاء، والرعاية لم تخالطها الصدقة، فهي بعد مثلها مثل إجلال لا تقل عنها شيئا، فأمر غناها وفقرها لا شأن له بصلاتها بقريباتها وصديقاتها ما دامت لا تحتاج إليهن في فقرها كما كانت لا تحتاج إليهن في غناها.
لا شأن لواحدة منهن أنها كانت تأتي إليهم بالسيارة، وأصبحت تأتي بعربة أجرة يجرها حصان أو اثنان، ولا شأن لواحدة منهن أنها كانت ترجع إلى البيت الكبير فأصبحت ترجع إلى الشقة الصغيرة، ومن تشأ منهن أن تزورها فبيتها بيتها، كبيرا كان أو صغيرا.
وبهذا التفكير الواثق المطمئن كانت تزور من يزورها من قريباتها وصديقاتها، شيء واحد جد على علاقتها بالناس، أقلعت عن زيارتها للفقيرات من قريباتها، فقد أخجلها أن تذهب إليهن دون أن تحمل ما تعودت أن تحمله لهن مما يعين على الحياة. ورفضت أيضا أن تبدأ صديقة أو قريبة من مثيلاتها لم تبدأها بالزيارة، فقد رأت إحجامهن ترفعا منهن لا يقابله عندها إلا ترفع مثله. •••
لم يستطع خيري في غمرة عمله والأحزان والتغيير الذي أصاب حياته جميعا أن ينسى هواه، وكيف له أن ينساه؟ فقد تستطيع الحياة أن تفقد أباه، وتستطيع أن تفقده المال ورفاهية العيش، وتستطيع أن تفقده آماله من شهادة عالية ومكان بين الناس كبير. وقد يستطيع أن يقنع عن اليتم بساعد إن يكن ضعيفا إلا أنه لا بد له على الأيام أن يشتد. وقد يستطيع أن يرضى من المال بالستر، ومن الرفاهية بالعيش الرضي. وقد يستطيع أن يخدع آماله في مكان كبير بين الناس بأن يرى نفسه داخل نفسه كبيرا يسعى من أجل أمه وأخويه. ولكن بماذا يقنع هواه وهو هوى في القلب بلا منطق أو عقل؟ إنه هوى، بماذا يستطيع أن يخدع حبه أو يرضيه؟ وكيف السبيل إليها اليوم؟ لقد صحبت أمها إلى البيت في كل زيارة، ولقيها، وحادثها. يا له من حديث كالحصان الجامح العربيد تمسك به يد طاغية عاتية لا يملك منها فكاكا. حادثها عن عمله هنيهات، وانتظر أن تدعوها أمها كما كانت تفعل. ولكنها لم تدعها، لقد أرادت الأم أن تشعره أن شيئا بينهما لم يتغير، وشعر هو وفهم، ولكن هيهات، لقد تغير كل شيء، رفض هو سكون أمها فلم يلبث أن دعا هو وفية أن يذهبا معا ليجلسا إلى أمها، رفض الخلوة التي كان يحلم بها ويدعوها ويرجوها ويسعى إليها. وأحست هي، ولكن كيف تبين له عما تحس؟ أرادت أن تقول له إن شيئا لم يتغير، وقالتها بما صنعت من جلوسها إليه، ولكنها لم تستطع أن تذكر هذا في حديث. خيل إليها أنها لو قالت إن شيئا لم يتغير فكأنما تقول إن كل شيء قد تغير. أرادت الأمور أن تجري في نفس المجرى الذي كانت تسير فيه، ولكن الأمور أبت وأبى هو وأبت الحياة.
هيهات، إنه هوى لا سبيل إليه، قالها وأحس في نفسه الطعنة، وأحس راحة الموت بعد الشقاء، وهدوء المنكوب بعد الفاجعة. لا أمل له في هواه، فليبحث له عما يصرفه عن هذا الهوى، فها هو ذا أصبح حرا من الحب، وإن كان الجرح في نفسه عميقا.
وأحست وفية أنه حزم أمره على اليأس، وحاولت في زياراتها العديدة أن ترسل إلى هذا اليأس وامض أمل، ولكنه أغلق نفسه من دونها.
أتراها تيأس مثل يأسه وتتركه؟! لكم تمنى ألا تفعل، ولكم تمنى أن تفعل، حيران بين يأس استقر عليه وبين حب شب معه وانتهى إلى رماد من ذكريات ودماء من جراح. أيتزوجها فيصبح عالة عليها وعلى أبيها؟ هو يعلم أن أباها يقبل، ولكن أيقبل هو؟ ولكن أيقبل أن تصبح أيامه الماضية جميعا من طفولة وشباب ذكريات لا تحمل إلا الألم والحسرة؟ وما له لا يقبل؟ ألم تتغير حياته جميعا؟ فليكن هذا جرحا مع الجراح، ولتتكسر النصال على النصال. ولكن هذا الجرح أشد عمقا وأبعد في الزمن والنفس غورا. لعلها ... لعلها ماذا؟ إنني لن أقبل، أم تراني أقبل؟ رحماك يا رب العالمين.
الفصل الرابع عشر
دأب خيري منذ انتقل إلى الشقة وحصل على كتب أبيه، على أن يشتري هو الخشب ويصنعه ليكون مكتبة تغطي جدران حجرته، ولم تكن المكتبة التي يهفو إليها إلا أرففا بعضها فوق بعض، يسيرة الصنع رخيصة التكاليف، تعينه على قطع الوقت وعلى تجميل الحجرة وعلى حفظ الكتب. وقد جعلت أمه من هوايته الجديدة هذه مادة ضحكها، فكان يشاركها في الضحك ويدعو إليه أخته وأخاه، فقد تستطيع النفوس الحزينة أن تجد في بلواها ما يضحك، وقد تراح النفوس إلى هذا الضحك، كم هي رحيمة يد الله! الدمع يغسل والزمان يلهي والحياة تقسو فلا يجد الناس لدفع قسوتها سلاحا إلا الضحك فيضحكون.
واستطاع يسري أن يجد في المكتبة إلى جانب الضحك مادة للعب أيضا، حتى جرح يوما أصبعه فأمره أخوه ألا يلهو بأدوات النجارة مرة أخرى ، ولم يطعه فزجره فلم ينته. فلم يجد خيري مفرا من أن يقفل الحجرة كلما ترك البيت، وأصبح يقوم بعمله هذا واجدا في ذلك العمل اليدوي راحة لذهنه وقلبه معا.
كان خيري مشغولا بإقامة مكتبته حين جاءه بشير أغا يخبره أن صديقا له اسمه نجيب جاء لزيارته. ويقول خيري في فرح: نجيب كامل؟
ويقول بشير أغا في عربية غير عربية: لا أعرف، قال نجيب، كامل غير كامل لا أعرف؟!
ويسارع خيري إلى غرفة الجلوس فيجد صديقه نجيب كامل وعلى فمه ابتسامة حلوة وهو يقول: يا أخي اذكرنا، تركت البيت، أرسل لنا العنوان الجديد، أم تراه حتما علينا أن ندوخ حتى نعرفه.
في هذه العذوبة والصفاء يجمل نجيب كل هذا الذي حدث. لم تضع ثروتهم ولم يفقدوا عائلهم ولم يصبهم الدهر في جاههم ومالهم ومجدهم وآمالهم، لم يحدث شيء من هذا، وإنما انتقلوا من بيت إلى بيت، هذا كل ما حدث.
وفي عناق حار اختفت الدموع التي ترقرقت في عيني خيري، وفي أهلا وسهلا تهدج بها صوته بدا منه لصديقه الشكر والحب والإعزاز. وجلس الصديقان. - والله زمان يا نجيب. - أي والله، زمان. - هيه ما أخبارك؟ - كلية الحقوق طبعا، كما تعرف. - طبعا.
وأوشك صوته أن يتهدج ثانية، ولكنه جمع نفسه وهو يقول: كنا ننوي الالتحاق بها معا. - وما المانع الآن؟ - أني موظف، أظنك عرفت. - نعم أعرف، ولكن ما يمنعك أن تذاكر معي؟ - أخاف أعطلك. - بالعكس، فأنت من بعد الساعة الثانية لا عمل لك، وستكون أحرص على المذاكرة مني، فأنا قد أعتمد على المحاضرات، بينما لن تعتمد أنت إلا على المذاكرة. - نبحث الموضوع. - لا نبحث ولا يحزنون، وعلى فكرة أصبحت أعيش وحدي في شقة خاصة بي. - ماذا؟ - ما سمعت. - ولماذا، كفى الله الشر؟ - رقي أبي إلى باشكاتب محكمة قنا، وطبعا لم يكن بد أن أظل وحدي. - ومن يخدمك؟ - استأجرت خادما كسولا لا يعرف من شئون البيت شيئا، يخيط الزرار فلا يتماسك إلا ريثما يدخل في العروة، ثم يسقط على الأرض شاكيا جهل من ركبه ، ويطبخ الأرز فيصبح لبخة أو يطبخه فيصبح حصى. - اطرده.
ويفكر نجيب قليلا وهو يقول: والله أظن مسألة الطرد هذه مستحيلة. - لماذا؟ - قريبي. - قريبك؟! - جدا، ثم لا يتقاضى أجرا. - طبعا لا يتقاضى أجرا، إنه خليق أن يدفع لك أجر إبقائك له، من هو هذا القريب؟ - نجيب كامل. - من؟
ويغرق الصديقان في الضحك، ويقول نجيب: أصدقت أن لي خادما؟ أجننت؟ مرتب أبي يسع الكتب بطلوع الروح، فمن أين أجيء بالخادم؟ - إذن فأنت وحيد! - وحيد!
ومد نجيب شفته مخرجا نغمة تتأرجح بين السرور والخبث، وقال: ليس دائما.
وأشرق وجه خيري بالفهم، ولكنه فضل أن يبدو كأنه غبي لا يفهم ما يقصد إليه صديقه. - لا أفهم. - بطبيعة الحال، الملابس تحتاج إلى غسل. - وما شأن هذا بوحدتك. - الغسالة آية في الجمال. - ومن أين لك بأجرها؟ - في الثلاثين من عمرها، وأنا في العشرين. - عظيم، غيره. - زوجة صاحب البيت، صاحب البيت في الستين من عمره، وهي في الخامسة والعشرين، وأنا ...
ويقاطعه خيري: في العشرين، مفهوم، غيره. - هذا هو الثابت، وكله مع التساهيل. - وكله مجانا. - المسألة لا تخلو من زجاجة عطر للغسالة، وهدية صغيرة للست، إنها حاجات بسيطة، والقادمات من الخارج يكتفين بالعشاء، والطماعة تذكرة سينما. - ما ألذ وحدتك ومذاكرتك، عنوانك، أسرع.
الفصل الخامس عشر
كانت سميرة هانم تجلس إلى ولديها وابنتها نادية في حجرتها التي اتخذوها مكانا يقضون به يومهم إن لم يكن لديهم زائر، وتنقلت سميرة هانم بعينيها على وجوه أبنائها ثم قالت في نفسها: «نحمدك يا رب ونشكر فضلك، أخذت المال والعائل وتركت البنين، أكمل كرمك يا رب وبارك فيهم.» ومست فؤادها نفحة من راحة لا تلبث تهفو إلى القلوب الحزينة فتمنحها إشراقا وأملا. وفي غمرة من هذا الإشراق قالت الأم لخيري: هيه يا معلم، ألم تنته من مكتبتك؟
وضحك يسري ونادية، وارتج على خيري لحظات، فقد كان غارقا في تلك الآونة يفكر في شأنه وشأن وفية، وقد أخذت بمجامع نفسه أفكار تتأرجح بين اليأس القاتل والأمل الواهن لا يكاد يبين. وأدركت الأم بحاستها ما يفكر فيه. أدركته بهذه الضحكة المضطربة التي أطلقها تعليقا على سؤالها. وأرادت أن تتأكد مما أدركت، فالتفتت إلى يسري تسأله: هيه يا يسري، ألم تذهب اليوم إلى بيت عمك عزت؟
وكانت عيناها ترقبان خيري، فرأته يفيق تماما إلى اسم البيت الذي ذكر أمامه.
وقالت نادية وكأنما تذكرت شيئا: قل لي يا يسري، لماذا تذهب وحدك إلى بيت عمي عزت؟ لم لا تأخذني معك لألعب مع فايزة؟
وقال يسري: يا عبيطة، وهل ألعب معها؟ إني ألاعبها، أرسم لها وأصنع لها البيوت. أتعرفين أنت كيف تلاعبينها؟ إنك ستتكلمين وتتكلمين وتجعلينها تبكي لأنها لا تسمعك.
وقال خيري: والله فيك الخير يا يسري. وماذا تصنع لها أيضا؟ - ألاعبها، أظل أنا ودولت نلاعبها، وأحيانا تطلب دولت إلي أن أبقى معها وتتركنا هي لتستريح.
وقال خيري في خبث: هيه؟ - هيه ماذا؟! - أهي دولت؟!
وقال يسري في لعثمة وسرعة: مالها دولت؟ - لا، لا شيء، ولكنك قلت لي إنها حلوة ولطيفة.
واحمر وجهه خجلا وهو يقول: وماله؟
وأغرقت سميرة هانم في الضحك وهي تقول: وكيف عرفت أنها حلوة ولطيفة يا سي يسري؟!
وقال يسري في غضب: وهل أنا عيل؟! - لا، العفو. - والله لأتركنكم، لن أقعد معكم.
وقال خيري: وأين تذهب؟ إلى دولت، أقصد إلى فايزة.
وأسرعت نادية تقول في براءة: خذني معك.
ولحقت بأخيها الذي كان قد غادر الحجرة تاركا خلفه ضحكا يملأ أرجاءها. ملأ الضحك الغرفة هنيهات، ثم أعقبه ذلك الجو الذي تعود أن يواكب الضحك أنى يكون. والتفتت الأم إلى ولدها تقول له: خيري! - نعم يا نينا. - ألا تعرف أن عندي مجوهرات كثيرة؟ - أعرف يا نينا. - لماذا لم تسألني عنها؟ - ولماذا أسألك؟ - كان من الطبيعي أن تسأل، لعلها تنفعك الآن! - بل ستنفعنا غدا حين تزوجين نادية، وحين يتخرج يسري ويريد الزواج وتكون الأحوال قد تعدلت. وتنفعنا إذا - لا قدر الله - صادفتنا عقبات في حياتنا هذه الجديدة. - أبقاك الله يا خيري، أتدري لماذا أكلمك عنها الآن؟ - لا والله لا أدري! - أريد أن أختار منها شبكة لك، وأبيع واحدا من العقود وأجعل ثمنه مهرا لوفية.
ونظر خيري إلى أمه طويلا ثم قال: أترضين لي ذلك يا نينا؟ - ما هو الذي أرضاه؟ - أترضين أن أتزوجها فتصبح هي الزوج وأنا الزوجة؟! لماذا تتزوج فقيرا لا يحمل شهادة؟ وأين أسكنها؟ وماذا تفعلون أنتم؟ - وهل ستظل بلا شهادة، ألا تذاكر مع نجيب؟ - آمال يا نينا، أتظنين أن هذه المذاكرة تفيد؟ وعلى كل حال افرضي أني نلت الليسانس، وبعد؟ - كل شيء يمكن تدبيره. - لا يا نينا، أنت تعرفين أن هذا لا يمكن تدبيره أبدا، وأظنك لا تقبلين أن أتزوج منها وأعيش على نفقة أبيها، وأضطر لإجهاد نفسي حتى لا أضيع كرامتي كلها، فلا أستطيع أن أقوم بواجبي نحوكم. - يا بني نخطبها وتتزوج حين تتخرج. - وأترككم؟! - يكون يسري كبر. - أتريدين أن يترك يسري المدارس أيضا ليقنع بوظيفة بالبكالوريا مثلي، لا يمكن. إن كانت الظروف حكمت ألا أنال أنا الشهادة العالية فلا بد أن ينالها يسري. - ماذا أقول لك يا بني؟ أنا أعرف مكانها في نفسك، وأشفق عليك، ولكني أرى رأيك كاملا، عوض الله صبرك خيرا يا بني و...
ودق جرس الباب الخارجي، ومرت الحاجة زينب بهما لتفتحه، وما لبثت دولت أن دخلت عليهما الحجرة. - إجلال هانم ترجوك أن تتفضلي بزيارتها لأنها متعبة، ولم تستطع المجيء معي. - طيب يا بنتي، انتظريني حتى أتوضأ وأصلي المغرب. - حاضر.
وقعدت دولت، وقامت سميرة هانم وتركت الحجرة تخلو بالاثنين، وما لبثت دولت أن قالت: ماذا ... لماذا لا نراك؟ إن جئت لا تصعد، وإنما تكتفي بلقاء البك ثم تمضي ... ماذا جرى؟ أليس لك أحد تسأل عنه؟ - والله ... - إن كنت لا تريد أن تسأل عن وفية فاسأل عن فايزة، أو عن التي أحضرتها لفايزة. - أنا مطمئن على أخبارك من يسري.
وضحكت دولت ضحكة فيها دعابة وقالت: آه، أيكفي هذا؟ المهم، معي رسالة لك. - ماذا؟ - فكرت ألا أعطيها لك، ولكن خشيت أن تعرف وفية أنني ... المهم، لم أستطع حجزها، هذه هي الرسالة، اقرأها وقل الجواب.
وفتح خيري الرسالة، كانت سطرا واحدا: «أرجو أن أراك غدا في الساعة السابعة بالسلاملك.»
ارتج على خيري لا يدري بماذا يجيب، لكم يهفو إلى الذهاب، ولكن كم من العراقيل تقف دونه. يريد أن يقول نعم فتمسك بلسانه آلاف الحجج التي أقامها في نفسه. ظل ينظر إلى الرسالة ثم ينظر إلى دولت فيرى على فمها ابتسامة فيها سرور، ويرى في عينيها إشفاق أن يوافق، ثم يسمعها تقول: «هيه، ماذا أقول لها؟» وقبل أن يجيب تدخل أمه فتنقذه من هذه الحيرة التي ألقته إليها الرسالة. وتقيم الأم الصلاة ثم ما تلبث أن تخرج من الحجرة تتبعها دولت التي لم تشأ أن تنظر إليه منذ دخلت أمه؛ حتى لا تضطر أن ترى موافقته على الذهاب في إيماءة خافية.
الفصل السادس عشر
ماذا كان يمكن أن أفعل؟ كيف كان يمكنني أن أصل إليه؟ إنه لا يراني إلا إذا اطمأن أنني لست وحدي. أصبح كل جهده ألا ينفرد بي بعد أن كان كل جهده أن ينفرد بي. أعلم أن فقره وغناي حائل بيني وبينه، ولكنه حائل يقيمه هو، أبي يريد هذا الزواج وتريده أمي، فهما يعلمان ما بيننا، ويعلمان أن كل من يعرفني ويعرفه كان يتوقع خطبتنا من يوم إلى آخر، وكانا سعيدين بذلك. واليوم لا يزال أبي يريد هذا الزواج ويرى فيه الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من عون أسرته دون أن يجرح كبرياءها أو كبرياءه، وأمي - كعادتها - لا رأي عندها إلا رأي أبي، فلماذا لا يتقدم هو؟ أعلم أنه متكبر، ولكن ألا يكفي حبنا القديم الذي لا يزال جديدا؟ ألا يكفي هذا اعتذارا لكبريائه؟!
لقد أرسلت إليه الخطاب ولم يجب، ولكن لا بد أن يأتي، ألا يقدر أنني أنا أيضا قد تنازلت عن كبريائي وقبلت أن أكتب إليه؟ ألا يكفيه هذا؟ لشد ما أخشى أن يرى في خطابي شفقة لا حبا، بل لا، إنه يدري كم أحبه، كيف يدري؟! أكنت كاشفته؟ نعم، كاشفته، أكان لا بد أن أقول؟ ألم ير إلى عيني؟ إلى وجهي؟ ألم ير؟ أكان محتاجا للحديث حتى يدري حبي؟ إن لم يكن قد أدرك كم أحبه فهو لا يحبني، وأنا لا أريده، بل لا، إني أريده، إنه كل شيء لي، كل شيء، أحلامي وآمالي وزوجي وبيتي. بربك يا خيري، بحبنا، بأيامنا الطفلة اللاهية، وبكل ما كان بيننا من لقاء نشوان، وهوى عاصف مستور، بكل ابتسامة مني استقبلتها ابتسامة منك، وبكل فرحة بلقائك التقت بفرحتك، لا تخذلني، لا تدعني لأيام أجهل شريكي فيها، لا تدعني لوحدة لن تزول عني، ألا تفكر إلا في كبريائك؟ ألا تذكر مصيري أنا؟ ألا تضحي بالكبرياء لتنقذني أنا من أيام أجهل فيها المصير، فأنا ضائعة ملقاة في دوامة من عصف الحياة بي لا أرى فيها مستقرا أو ملاذا. خيري، أكبرياؤك أحب إليك من حياتي؟ أهينة أنا عليك؟ إنها أنا بكل ما مضى من أيامي في ظلال حبك، وبكل ما بقي لي من حياة، أتاركي وحدي لترضي هواجس نفسك من مثل وكبرياء وإباء؟
ما إخالك ألا تفكر في نفسك فقط، ألا تفكر في أنا؟ أتنظر إلى حقك ولا تنظر إلى حقي؟ إن توهمت أن واجبك نحو نفسك هو أن تأبى الزواج بي، فواجبك نحوي أنا أن تقبل هذا الزواج. فليكن زواجك بي تضحية بكبريائك في سبيل حياتي أنا، أهينة حياتي؟ ألا تعدل هذا الثمن الذي تبذله مهما يكن باهظا؟ لو كنت مكانك ما ترددت، لو كنت إياك في موقفك وكنت أنت في موقفي لتقدمت. إنها أنانية منك تلك التي تملي عليك موقفك هذا، فاترك أنانيتك هذه من أجلي أنا، ومن أنا؟! ألست أنا أنت؟ خيري ألا تجيء؟ من ينقل إليك هذا الكلام إن لم أقله أنا؟ من يذكرك بحقي عليك إن لم أذكرك أنا به؟ لا بد أن تأتي، لا بد أن تأتي حتى أجعل عقلك يفكر بعقلي، فإني أدري أنك الآن لا تفكر إلا بكبريائك أنت، ولا تذكر غير كرامتك أنت، فاذكر حياتي. أتذكر حياتي؟!
كانت وفية تحترق في هذا اللهيب من الذكريات والآمال، وهي ماكثة بجانب شباك السلاملك ترقب الطريق تأمل أن تراه ، وكانت لا تني تنظر إلى ساعتها وقد جاوزت السابعة، تحطم كل دقيقة تمر بعضا من آمالها، وبعضا من كبريائها، أهي التي تنتظر؟ وهي التي تسعى إلى اللقاء؟ وهي التي ترسل الخطاب؟ فالكارثة التي أصابتها إذن أصابتها هي أول ما أصابت، في كبريائها، في آمالها، في حياتها جميعا.
وفي نظرة إلى الطريق رأته قادما، إذن فقد جاء، فأعطني يا رب القوة أن أقول ما أريد أن أقول، يا رب.
واقترب خيري من الباب الرئيسي للبيت، وقصدت وفية إلى باب السلاملك ففتحت لعينها ضلفة ترى إلى الطريق ولا يراها من بالطريق. واجتاز خيري الباب الكبير، ولكن ماذا حدث؟ إنه لم يمل إلى سلم السلاملك، وإنما جاوزه قاصدا إلى البيت نفسه، لم يستطع أن يمنع عينيه أن تلقيا بنظرة إلى السلاملك، فهو إذن يعلم أنها وفية، ولكنه مع ذلك لا يلقي إلا هذه النظرة القلقة ولا يزيد، ثم يعدوها إلى البيت. لم يأت لي إذن. أقفلت وفية الباب وعادت إلى مكانها وأسلمت نفسها إلى بكاء يتفجر من أعماق نفسها. •••
دلف خيري إلى حجرة المكتب في بيت عمه عزت، فوجده جالسا بها ينتظر مقدمه. وما إن رآه حتى قام إليه يحييه في ترحيب، وما لبث أن قال: أكنت مشغولا اليوم؟ - والله كنت على موعد مع أحد أصدقائي. - أرجو ألا أكون عطلتك عن شيء هام. - أنا تحت أمرك دائما يا عمي. - والله يا بني أنا أريدك اليوم في موضوع هام، وإني آسف أن الظروف اقتضت أن أكلمك أنا فيه. - تحت أمرك يا عمي. - لعلك لا تعرف أن المرحوم والدك كان قد خطب مني وفية لك ووافقت، واتفقنا ألا نخبر أحدا بذلك حتى تتم تعليمك. - ماذا؟ - إنه لم يخبر حتى والدتك، وأنا لم أخبر إجلال إلا اليوم. - حتى والدتي؟ - نعم، قدرنا أن الأمهات لا يسكتن، وتوقعنا أن أمك قد تخبرك على سبيل التشجيع لك على المذاكرة أو تعجز عن كبت عواطفها، المهم أن أحدا لم يعرف بهذه الخطبة إلا أنا وهو. - والله يا عمي ... - لم أكن أنوي أن أفاتحك الآن، كنت أريد أن أنتظر حتى تتم تعليمك، فقد علمت أنك تذاكر مع أحد أصدقائك. - نعم. - ولكنني مضطر أن أطلب إليك إعلان الخطبة.
وارتج على خيري فلم يجب، وواصل عزت بك الحديث: تقدم لخطبة وفية جميل نظمي ابن نظمي باشا السيد. ووالده من أقرب أصدقائي، ولا أستطيع رفض خطبته إلا بإعلان خطبتك أنت، أما الزواج فليتم على مهل.
وأطرق خيري طويلا وران الصمت على الحجرة، ورأى عزت دمعات تسيل من عيني خيري فظل رانيا إليه ينتظر جوابه. وأخرج خيري منديله يذود عبراته، ثم رفع إلى عزت وجها شاحبا تصلبت نأماته في عزم كعزم المقدم على الانتحار، وبلسان واثق ينطلق عن نفس تحترق من الألم قال خيري: أشكرك يا عمي. - علام تشكرني؟ - أنت طبعا تعرف من هي وفية بالنسبة لي. ولا شك أن أبي كان يعرف هذا يوم خطبها، كان يعرف أنه يحقق بخطبته أملي الأكبر في الحياة، ولكني اليوم لا أستطيع، لا أستطيع مطلقا، ولن أنسى لك هذا الموقف مني.
وأطرق عزت طويلا ثم قال: يا بني لا أستطيع أن ألح عليك في هذا. ولكني أستطيع أن أقول، وأقسم برحمة أبيك، إن رغبتي في زواجك من ابنتي لا يشوبها شفقة عليك، وإنما هو أمر أهفو إليه كما كنت أهفو إليه يوم خطبها والدك. وأنا أعرف كل ما يدور بنفسك، وأستطيع أن أنتظر بعض الوقت حتى تفكر وتجيبني، فلعلني اليوم أدهشتك. - أفكر؟ أنا لا أفكر إلا في هذا يا عمي منذ وقت طويل، كم كنت أتمنى أن أجد في نفسي الشجاعة على التقدم إليها، والله وحده يعلم كم أشقى بعجزي، ضميري لم يقبل، فكرت كثيرا يا عمي، أبقاك الله لنا دائما، فأنت أعظم إنسان عرفته، السلام عليكم.
وقبل أن يسمع شيئا اندفع إلى باب الحجرة والدموع تتواكب على عينيه، يكتم نشيجه ويحبسه ويسارع الخطى حتى ليكاد يجري. والتقى به محسن وحاول أن يستوقفه، ولكنه مال عنه إلى الباب في اندفاعة يائسة مجنونة مريرة، وعبر السلاملك ملقيا إليه نظره دون أن يحس، ثم نفذ كالسهم من الباب وراح يدفع خطاه كأنه العاصفة التي تدور في نفسه. حتى إذا ابتعد عن البيت أطلق الدموع والنشيج وراح يسير في الطرقات بلا هدف ولا غاية، إلا ظلاما يستر عليه دموعه الوالهة الحارقة.
الفصل السابع عشر
إنه ابن أبيه، كان لا بد لي أن أتوقع منه هذا. كنت أريد أن أجعل منه أخا لمحسن، وكنت آمل أن أعينه على العيش، فلا يحتاج إلى الوظيفة ويتفرغ للدرس، وكنت أؤدي واجبي نحو صديقي وابن عمي وأخي، وكنت أيضا أضحي بابنتي وألقي بها إلى بيت يقوم على مالها وحده، آملا - والأمل ضعيف - أن يكبر زوجها على الأيام، بل على السنين، والكثير الكثير من السنين. إنها تريده، وأعلم ذاك، ولكن منذ متى استطاعت فتاة في هذه السن الباكرة أن تتبين الطريق الأقوم لتسير فيه. إني أحب خيري وأقدره وما زال تقديري له يزداد منذ مات أبوه، ولكن حبي وتقديري لا يمنعان أن أرى الحقيقة واضحة جلية، إنه فقير بلا شهادة، وعليه لأسرته واجبات يصر على القيام به، وهو محق في إصراره. فإن كان خير وفية وحده هو ما أستهدفه فزواجها من جميل أجدى، ومستقبلها في ظله أثبت، وقد أديت واجبي وأدى خيري واجبه. وأنا بعد سأظل راعيا لهم لا أتركهم، ولعل إكباري لخيري يجعل مكانه مني مكان الصهر القريب. لقد جعلني موقفه أكثر اطمئنانا على مستقبل ابنتي، وهو لهذا جدير مني بالشكر، وسيكون شكري أن أجعل من نفسي أبا له.
مسكينة وفية، لا شك أنها ستتألم، ولكن ألم الشباب سريع الزوال. مسكينة! لقد شبت وهمس صويحباتها والسيدات من حولها لا يني يذكرها أنها عروس خيري. لقد كان فتى آمالها، عاشت ترى فيه زوج المستقبل، أعرف هذا وهي تدري أنني أعرفه. وقد حاولت، بل لقد بذلت في محاولتي ما لم يبذله أب آخر، لقد خطبت أنا لابنتي ورفضت خطبتي. لا أستطيع أن ألوم نفسي في يوم إذا رأيتها حزينة أن لم يتم زواجها من خيري.
وبعد، فما دامت لم تتزوج خيري فالكل عندها سواء، وجميل خير من يصلح لها، وهو في السلك السياسي، فهي لن تقيم في مصر وتستطيع البلاد التي تزورها أن تنسيها ما كان في مصر من آمال محترقة، لعلهما يسافران إلى أوروبا، فأجد بيتا حين أسافر هناك وأستغني عن الفنادق وما ألاقيه فيها من متاعب. نعم إن بيت ابنتي سيكلفني أجرا أغلى، ولكنه خير من الفنادق على أي حال؟ وعون ابنتي أمر لا بد منه، سواء أنزلت بفندق أم نزلت ببيتها. ونظمي باشا السيد من كبراء رجال الحزب، وأستطيع بهذا الزواج أن أضمه إلى جانبي كلما اقتضى الأمر عونا إلى جانبي. وها أنا ذا مرشح للوزارة في التعديل القادم القريب. لو كنت رفضت هذا الزواج، لعارض هو ترشيحي للوزارة. أما الآن فلا بد أن يؤيدني. عجيبة؟! لقد كنت ناسيا مسألة الوزارة هذه، أما كنت أقدر أن رفض جميل كان سيطيح بكرسي الوزارة؟ لا لم أكن ناسيا. لقد خطرت هذه الخاطرة بذهني، ولكن وفائي لهمام كان يحتم علي أن أفعل ما فعلت، أحمد الله أني لم أصغر أمام نفسي، وشاء الله الكريم وشاء خيري - حفظه الله - أن يرد إلي وفائي بالخير العميم.
لم يعد أمامي الآن مشكلة إلا إقناع وفية. ولكن ليست هذه مشكلتي، إنها مشكلة إجلال. مسكينة إجلال، مصيبتها في فايزة تكبر مع الأيام، فأنا أخرج وأعمل ولا أقيم في البيت إلا قليل وقت، أما هي فلا تبارحه ولا تبارح فايزة أو هي لا تكاد. لعل دولت ترفع عنها بعض العبء فهي تلاعب فايزة وتصاحبها أغلب الوقت. ولكن من للعبء الذي تحمله إجلال في نفسها! من لهذا العبء! ودولت إلى متى تقيم هنا! أرى محسن كثير النظر إليها، ترى هل بينهما شيء؟ لكم أخشى، ولكن إجلال يقظة، ولعل محسن يقدر الظروف التي جاءت بدولت فلا يعدو عليها ويكتفي بالنقود الكثيرة التي يصيبها مني، والتي يدعي أنه يأخذها للكتب، يا له من أبله؟ أيظنني لا أعرف أين ينفقها؟ لو شئت لكشفت حيله ولذكرت له الأمكنة التي يرودها، ولكن ما شأني أنا؟ إنه شاب فليعش كشاب ما دام ينجح آخر العام وما دام يحسب أنني أجهل أمره ويبذل كل جهده أن يظل أمره خافيا عني، فلأظل أمامه جاهلا لعل في جهلي ما يجعله رزينا في تصرفاته. لقد كنت مثله، وإن كانت النسوة اليوم أكثر تحررا وأقرب منالا، ولكن أيستطيع أن يتمتع مثلما تمتعت؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ المتعة مسألة نسبية، ولعله يحس بها أكثر مما كنت أحس، أحاول أن أطمئن نفسي أن متعتي أكبر من متعته. ماذا يهم أن تكون أكبر أو أصغر ما دمت أنا تمتعت وملأت المتعة نفسي في أيام الشباب؟ ما لي تركت هذه الأجواء جميعا منذ تزوجت؟ أما كان هذا طبيعيا؟ في الأمر نظر. بعضهم يراه طبيعيا وبعضهم لا يراه. نعم الناس يعرفونني، والشهرة تقيد العربدة. ولكن أكان لا بد لي من العربدة العلنية؟ إنني لم أكلف بها في يوم من الأيام. فيم أفكر؟ أريد أن أعيد الشباب. هيهات، لتكن متعتي اليوم في أولادي، ولكن، سبحانك يا رب، أمرك. نرضى بحكمك، فايزة صماء، ووفية أمامها أيام طويلة من مصارعة اليأس، ومحسن. اللهم احفظه من كل سوء يا رب. من يدري لعل وفية تسعد بزوجها. ومن يدري لعل أحدا يحب فايزة ويتزوجها، هيهات، ولكن ما البأس بالأمل؟ مصرعه مر، ولكنه على كل حال أمل لن يصرع في يوم وليلة، وإنما سيصرعه مر السنين الطوال، فلنأمل الخير في وجه الله، ولتمر الأيام والسنون، ولننتظر، وهل نملك في هذه الدنيا إلا أن ننتظر ونسعى حتى لا نشعر بثقل الانتظار؟
وقام عزت بك إلى زوجته إجلال يضع في عنقها هذه المهمة الجديدة من أخبار وفية، وسؤالها عن رأيها في جميل، وما زال طنين هذا التفكير يدور بذهنه أقرب إلى الارتياح لهذا الزواج، وإن كانت غصة لا تزال تراوحه وتغاديه من ذلك الحزن الذي يعلم أنه سيلم بابنته. •••
جلست إجلال هانم إلى ابنتها تحس الحرج فيما هي مقدمة عليه، ولا تجد عن الإقدام مناصا، فتجمع أمرها آخر الأمر وتقول: يا بنتي، أنا وأبوك كنا نريد أن تتزوجي من خيري، وقد استقدمه أبوك وعرض عليه الزواج بك.
وندت عن وفية صرخة عجب أطلقتها كالملسوع: ماذا؟! - ورفض.
وندت عنها صرخة أخرى: ماذا؟ - لماذا تعجبين؟ أنت تعرفين موقفه. فقد كان نبيلا.
وقالت وفية في نفسها: أيبلغ كبره هذا المدى؟
ولم تجد جوابا على تساؤلها، وإنما غرقت في دوامة حزن كبير، بينما راحت الأم تنفض لها بقية الخبر من خطبة جميل لها وموافقة أبيها وانتظاره لموافقتها، ووفية صامتة تسمع بعض ما تقول أمها ولا تسمع أكثره، حتى انتهت الأم من حديثها قائلة: وعلى كل حال يا بنتي جميل في السلك السياسي وستسافران، ولعلك في الخارج تنسين. تنسين كل شيء.
وسمعت وفية هذا الكلام الأخير فانتبهت إلى أمها تقول: نسافر إلى الخارج؟! - نعم. - إذن ...
وأطرقت لم تكمل الجملة تدور في نفسها عاصفة من الأفكار، ولم تتركها أمها لأفكارها وإنما قالت: هيه، ماذا قلت يا وفية؟
وفي حزم واهن حزين قالت: ما يراه بابا. - يعني موافقة؟ - أمركم. •••
لم يكن جميل جميلا، وإنما كان شديد العناية بملبسه ومظهره، يكسو قوامه النحيل الطويل بأفخر الثياب وأغلاها، وكان أبيض الوجه ناصعا في لون الملابس البيضاء بعد غسلها، وكان وجهه باهتا لا تعبير فيه. وكان معجبا بهذه الصفة في نفسه فهي تهيئ له المظهر السياسي الذي يصبو إليه. وكان أنفه معقوفا كبير الأذنين يحتفظ على فمه بابتسامة لا تحمل معنى، ابتسامة وجدت نفسها على فمه دون أن تدري لوجودها سببا، وكأن صاحبها وضعها ونسيها في مكانها. وكانت عيناه جامدتين، ولكنهما إن أنعمت فيهما النظر أدركت أنهما لا تخلوان من ذكاء. وكان جميل يكبر وفية بسنوات كثيرة، ولكنه فارق لا يعيب الزواج، فقد كان في الثلاثين من عمره ولم تكن هي قد أكملت العشرين. وهو طيب النفس سمح عذب في اختيار ألفاظه، عسير على من يعاشره أن يسيء إليه.
تمت الخطبة وجاء جميل ليرى عروسه ولتراه. أما هو فقد حمد الرؤية وفرح بها، وإن كان قد ضاق بعض الشيء بتلك الحمرة التي تشوب بياض عينها اليسرى، وفكر أن يباحث أطباء أوروبا في شأنها، ولكنه سرعان ما أدرك أن لا فائدة ترجى من هذه المباحثة. وخشي ما قد يعلق به زملاؤه على هذا الاحمرار، فزوجة الموظف في السلك السياسي لا يكفي أن تعجبه هو، بل لا بد لها أن تعجب الآخرين، فهي تقابل في الاحتفالات الرسمية، وهي عنصر مهم في حياة زوجها العامة، بل لعلها أكثر أهمية في هذه الحياة منها في حياة زوجها الخاصة.
فكر جميل كثيرا، ثم وجد المخرج أخيرا في كلمة فرنسية طالما أراحت نفوسا، وطالما أرضت كبرا، وطالما أشاعت في قلوب الكثيرين الثقة والاطمئنان، إنها تيب، تيب. إنها طابع مستقل بذاته لا يماثل الأخريات، من من الأخريات لها زاوية حمراء في ركن عينها اليسرى؟ من غير خطيبته، زوجته وفية؟ تيب، تيب لا شك. وارتاح إلى هذا الرأي بل فرح به وانقلبت خشيته سعادة لا يشوبها إلا تفكيره في إبلاغ هذه الكلمة، تيب، إلى أذهان زملائه ممن سيعملون معه في سفارة فرنسا. لو قيلت مرة واحدة فسيلقفها زميل عن زميل ولا يصبح في حاجة أن يعيدها مرة أخرى، مرة واحدة تقال ثم كفى، فأول حديث بين زملائه هو التعليق على زوجات بعضهم البعض، تعليق جاد وقور، ولكنه أيضا ناقد متبصر لا يترك عيبا إلا ذكره ولا حسنة إلا ناقشها، ولكنهم - كجميع الناس - يحبون اصطياد العيوب أكثر من حبهم لكشف المحاسن، تيب هي الكلمة. وإنه بعروسه راض فرح مسرور. هذا عن المظهر، أما عن المخبر فقد أدرك أنها تجيد الفرنسية، وهذا أيضا شيء يسره كل السرور. وأدرك أنها قليلة الكلام وإن يكن بعض الشك قد شاب إدراكه هذا، فليس من المعقول أن يتوقع منها كثرة الحديث أمام خطيبها الذي تراه لأول مرة. ولم يكن في حاجة إلى البحث عن مقومات أخلاقها الأخرى، فهي ابنة عزت بك الأزميرلي، وحسبه هذا اطمئنانا إلى أخلاقها، ذاكرا أيضا ما قاله أبوه أن عزت سيصبح وزيرا عن قريب، وبالتالي سيصبح باشا. إنه بعروسه راض فرح مسرور.
أما هي فلم يستطع خطيبها أن يرسل في نفسها شعورا من الرضا أو السخط، لاحظت عنايته بملبسه ولم تعجب، فهي صفة تكاد تكون مشتركة بين رجال السلك السياسي. ولاحظت أنه غير جميل ولكنها لم تره أيضا قبيحا، وقد كانت من ذلك النوع من النساء اللواتي لا يحفلن كثيرا بجمال الرجل. ولاحظت طول قامته ونحافتها ولم تعلق في نفسها على هذا. ولاحظت أدبه في الحديث ولم يدهشها ذلك، فهو أمر متوقع من ابن نظمي باشا ومتوقع أيضا من موظف بهذا السلك. ولاحظت أنه يتكلف بعض التكلف في إخراج ألفاظه وفي بعض حركاته وبعض جمله التي يقحم فيها أحيانا ألفاظا فرنسية. لاحظت هذا ولم تحفل به، فقد توقعته أيضا من شاب جاء يعرض نفسه على خطيبته ويقوم عمله على التمثيل، وإن يكن تمثيلا سياسيا. وعزمت في نفسها على تنبيهه إلى هذا التكلف في مستقبل أيامها. ولم يخف عليها فارق السن، ولكنها غفرته أيضا، فقد يجعله هذا يحتمل ما تعلم أنه سيلازمها من ألم. ألم كانت تقدر أنه لن يزايلها أبد الدهر.
كانت وفية خليقة أن تستقصي عيوب خطيبها جميعا، وكانت خليقة أن تزيد يأسها مرارة. ولكنها عزمت في نفسها أن تقبله، فقد كانت تعلم أنه إن لم يكن هو فغيره على الأبواب، ولن يكون غيره هذا خيري بحال من الأحوال. وكانت تعلم أيضا أن أباها راض عن جميل، وكان موقف أبيها من خيري يملأ نفسها إكبارا له. وقد أرادت أن ترضي أباها تعبيرا عن شكرها وإكبارها، فأسلمت نفسها، وحاولت ما وسعها الجهد أن تغضي عن عيوب جميل عينا كانت حرية بمعرفة هذه العيوب، وأن ترضي نفسا كانت حرية أن تثور وترفض، ولكنها قبلت، فما دام خيري ليس الزوج فالجميع سواء، فليكن جميل زوجها ما دام في هذا إرضاء لأبيها، وما دام في هذا إبعاد لها عن مصر.
وأعلن نظمي باشا أن ابنه سيسافر بعد شهرين، ورجا عزت بك أن يمكن ابنه من السفر بعروسه. •••
انتهز عزت الفرصة ودفع بزوجه إجلال إلى دوامة العرس، يرجو أن تنسى في غمارها ما تكابده من حزن على فايزة.
واندفعت إجلال وكادت تنسى، لولا ما يطالعها من ابنتها وفية من ضيق لا يبارحها وعدم مبالاة بما تشتري لها. ولكن ذلك لم يمنعها أن تنصرف بكليتها إلى الجهاز. لا تكف عن القول في نفسها إنه أول فرح يدخل قلبي، ولا تكف نفسها عن الإجابة وآخر فرح، ولا تتركها نفسها هذه المتشائمة قبل أن تهمس ثانية: أهو فرح حقا؟ أترين هذا الفرح في عيني ابنتك؟ ولكنها مع ذلك تزجر نفسها زجرا ولا تني تلح عليها أنه فرح.
وينتهي الشهران وتتزوج وفية من جميل، ويتركان مصر.
وتفكر وفية ومشارف الإسكندرية تغيب عن ناظريها، أأستطيع أن أترك مع هذا الشاطئ ما في نفسي من حسرة وحزن وألم و... وحب؟! هيهات.
الفصل الثامن عشر
كانت أنباء الزواج تبلغ بيت خيري من كل سبيل، فيسري ونادية لا يسكت لسانهما عن ذكر ما اشترته أبلتهم وفية، ودولت رائحة كل يوم غادية تبلغ خيري في خلوة قصيرة مختلسة أو تبلغه على مرأى من الجميع ما يتم في البيت الكبير من خطوات، وكأنما تريد بذلك أن تنسيه وفيه نسيانا تاما، مدركة أن هذا التذكير في أغلب أمره مجلبة للنسيان أو اليأس، وأي يأس بعد الخطبة وشراء الجهاز وتحديد موعد الزواج وما يعقب الزواج من سفر لشهر العسل. ولم تكن كلمة تلسع خيري قدر ما تلسعه كلمة العسل في هذا الموضع.
وقد كانت سميرة هانم سيدة كريمة كشأنها، فما إن علمت بالخطبة حتى قصدت إلى إجلال هانم فهنأتها في هدوء ووقار وإخلاص، وأدركت إجلال ما يدور في نفس صديقتها فتقبلت التهنئة في صمت. ثم حاولت سميرة هانم أن تقطع زياراتها بعد ذلك، ولكن إجلال أبت عليها هذا وراحت هي تزورها وترسل لها دولت بالسيارة أغلب أيام الأسبوع، فإذا التقتا فلا حديث عن الخطبة ولا حديث عن الجهاز.
كانتا كلتاهما تدركان الموقف كل الإدراك، فلم تحاول واحدة منهما أن تزيد الأمر حرجا.
ولما رأى خيري أن بيته أصبح ولا حديث به إلا الزواج، ولما رأى أمه تحاول جهدها ألا تتعرف شيئا من أنباء هذا الزواج على مرأى منه أو مسمع، رأى أن خير سبيل له هو أن يترك البيت أطول فترة ممكنة من اليوم. وحبب إليه نجيب هذا الرأي فقد التقى هناك بالغسالة، والتقى بزوجة صاحب البيت، وحمد اللقاءين وأصبح لا يكاد يترك بيت صديقه. وإن سألته أمه عن المذاكرة جمجم بعض الألفاظ لا يدرك لها معنى، وانتقل بها إلى موضوع آخر أو انتقل هو بنفسه إلى مكان آخر.
وقد كان خيري حريصا ألا يدور الحديث عن مذاكرته أمام يسري، فقد خشي ألا يصيب النجاح فيجعل من نفسه قدوة غير طيبة أمام أخيه. وقد كان في يومه هذا على موعد أن يذهب إلى نجيب في السادسة من بعد الظهر، فلقد أنبأه نجيب أنه لن يعود إلى البيت قبل هذا الميعاد، ولم يجد ما يفعله من الظهيرة حتى حلول الموعد إلا أن يستلقي على فراشه ويقرأ، وكانت ضجة إخوته تملأ البيت، ولكنه كان قد تعود ألا يضيق بها.
لم يطل انفراد خيري بنفسه فقد فتحت أمه الباب تسأله: أتريد شيئا يا خيري؟ - لا يا نينا شكرا، ما المناسبة؟ - أنا خارجة أنا ويسري ونادية. - إلى أين؟ - إلى بيت عمك عزت. مسكينة إجلال من يوم سفر وفية وحزنها حزنان، حزن على المقيمة معها التي لا تسمع، وحزن على الغائبة التي لا تعرف كيف تسير حياتها مع زوجها الغريب الذي لم يرها ولم تره إلا عند الزواج.
ولم يشأ خيري أن يعلق على هذا الحديث وإن ملأ نفسه حزنا، فقال في ألم كبير حازم: طيب يا نينا مع السلامة، أتأخذين معك بشير أغا؟ - نعم، وأنت لماذا لا تذهب إلى عمك عزت يا خيري؟ - والله يا نينا لا أدري، تقصير، مجرد تقصير. - لا، لا حق لك، إنه يا بني يستحق منك كل خير. - أنا لا أنسى فضله. - إنه دائم السؤال عنك. - سأذهب إليه. - لماذا لا تأتي معي؟ - لا ليس اليوم، أنا على موعد، قد أذهب غدا إن شاء الله. - طيب يا بني كما تحب، فتك بعافية. - الله يعافيك يا نينا.
وخرجت الأم وأقفلت الباب، ولم يعد خيري إلى القراءة وإنما نحى الكتاب جانبا وراح يفكر، والتذ التفكير، والتذ الألم، والتذ التضحية التي قام بها، الجراح تملأ نفسه، ولكنه كان حين يتحسسها يجد في قلبه راحة وهدوءا، ليس يدري أهو هدوء البركان الثائر من الحب أتت عليه الخطوب فاستقر ثائره وهدأ مضطربه وأصبح لا شيء إلا ذكرى؟ كان خيري إذا التقى بجراحه في خلوة بنفسه أحس في داخله أنه كبير، واطمأن خاطره أنه رجل أدى ما يحب أن يؤديه الرجل من أمانة نحو نفسه ونحو كبريائه ونحو أهله ونحو من يحب.
طال التفكير بخيري ولم يقف عنه إلا حين فوجئ بالباب يفتح. وبدولت تبدو منه هنيهة اطمأنت فيها أنه وحده. ثم أقفلت الباب وسعت إليه وهو نائم لا يزال دهشا لدخولها على غير توقع.
وقالت دولت: أين الحاجة زينب؟ - لا أدري، ألم تفتح لك باب الشقة؟ - أبدا، دققت الجرس مرات فلم يرد أحد، وكدت أعود، ولكني دفعت الباب فوجدته مفتوحا.
وتلعثم خيري وهو يقول: لعلها ذهبت تشتري شيئا وتعود.
ونظرت إليه دولت وأطالت النظر ثم قالت: لم نعد نراك.
وسكت خيري، وراح ينظر إليها، كم من الأحداث مرت به منذ التقيا في خلوة كامنة كهذه، وكم تعلم من أشياء منذ ذلك الحين، كم فقد وكم كسب، فقد أباه وفقد حبا وفقد مالا، وكسب خبرة وكسب جرأة. وجلست دولت. لم تجلس إلى الكرسي الكبير بجانب الشباك، ولم تجلس إلى الأريكة الفخمة التي تصر على البقاء تحت المكتبة وكأنها تعيرها بالفارق بينهما، أو هي في الواقع تعيرها بعدم التناسب بينهما، وأين مكتبة أقامتها يد بضة لم تمسك بغير القلم من أريكة صيغت بباريس بناء على تصميم خير المهندسين وأجملهم ذوقا؟! لم تجلس دولت إلى شيء من هذا، وإنما اختارت السرير ذاته الذي ينام عليه خيري، وحين حاول أن يجلس دفعته بيدها فنام ثانية، كأنما أحست دولت أن الفارق الذي كان بينهما قد زال، كان المال يفصل بينهما وها هي ذي تراه قد أصبح قريب الفقر منها، وكانت وفية تفصل بينهما، ووفية اليوم في أوروبا في أحضان زوجها، أي شيء يمنعها عنه؟ لماذا لا يتزوجها ذلك الشاب الفتى الجميل؟ ولم تكن دولت ترى وسيلة أفعل في التعجيل بالزواج من هذه الجلسة ومما توقعت أن يتولها.
واستقبل خيري الدفعة في رضى ونشوة. ولم يفكر في فوارق كانت بينهما وزالت، ولم يفكر في الزواج، وإنما فكر في أشياء أخرى لا يستطيع أن يفكر في غيرها.
وقالت دولت: لماذا تريد أن تقوم؟ أنا لم أقصد إزعاجك.
كانت دولت تعلم الحديث الذي تريد أن تلقيه، وكانت قد أعدته فأحسنت إعداده، وكانت تجد فيه خير وسيلة تصل بها إلى ما تريد. - عندي لك خبر يفرحك. - خير. - يسري. - ماله؟ - أصبح يغار علي منك، ويظل يقول لي لماذا تكلمين آبيه خيري وأنا لا؟!
ثم أطلقت ضحكة عربيدة، ولكن خيري قال: هيه، وماذا فعلت أنت؟ - وماذا يمكن أن أفعل؟ سكت طبعا، فهو لم يقل شيئا أستطيع أن ألومه عليه. - وهل يسري فقط من يغار؟ - من تقصد؟ - محسن! - آه!
وقلد خيري صوتها قائلا: آه! - لا، محسن طيب وابن حلال.
وقال خيري: أعلم أعلم، ولكن هل هذا يمنع؟
فقالت دولت محاولة أن تغير مجرى الحديث: أنا والله لا أكاد أراه، دائما في الخارج، ياه، ما للحجرة حارة هكذا؟
وكان فستانها ذا أزرار تمتد من أعلاه إلى أسفله، فما لبثت أن أعفت زرين من قيدهما فبان تحتهما قميص حريري وردي اللون تدور حول حافته قطعة من الدانتلا صنعتها يد لا بد أن تكون رقيقة حلوة، وأدرك خيري قيمة القميص، فقال وعينه لا تبارح ما انفرج من الفستان: حلو قميصك. - إنه من ...
ثم قطعت الجملة لم تكملها، وأدرك خيري أنه من وفية، وأدرك أنها لم ترد أن تذكر اسمها في لحظتهما تلك. وخافت هي أن يكون قد أدرك فأكملت بعد قليل وقالت: إنه من شيكوريل ، أيعجبك؟
ثم أمسكت بحافة القميص ومالت عليه، ولم ينظر إلى القميص وإنما نظر إلى ما بداخله.
ولم يدر خيري من أمر نفسه إلا ذراعين تحيطان بها، وشفتين تستقران على شفتيها، وغابت دولت في نشوة القبلة هنيهات، ولكنها ما لبثت أن اعتدلت وهي تقول: أخاف أن تأتي الحاجة زينب.
وانتبه خيري إلى هذه الخاطرة فخشي مغبتها هو أيضا، ثم ما لبث أن قال وقد أطلق يده: نعم أنت محقة، لقاؤنا هنا لا يجدي. - أين إذن؟ - اسمعي، متى تستطيعين الخروج؟ - وقتما أشاء، أنت تدري أنهم يطلقون لي الحرية، وأستطيع في أي وقت أن أطلب رؤية نينا وأخرج.
فقال خيري في نشوة: وتبيتين في الخارج؟! - وأبيت في الخارج! - إذن سأعطيك عنوانا ونلتقي هناك غدا في الساعة الثامنة.
الفصل التاسع عشر
اسمع يا بطل، أنت تبحث لك غدا عن مكان تبيت فيه. - ماذا؟ ماذا؟ نعم يا سي خيري. - نعم يا سي نجيب، أكثير هذا عليك؟ - لا يا حبيبي، شرط المرافقة الموافقة. - وما الذي يوافقك؟ - بالنصف يا حبيبي. - بعمرك. - لماذا؟ هل وقعت من قعر القفة؟ ألم أعرفك بالغسالة وبالست؟ وكنت غدا سأصحبك إلى جلسة لم تحلم بها في حياتك. - ولو. - أأنت جاد؟ - كل الجد. - ما المناسبة؟ - هذه شيء آخر. - وما الآخر فيها يا حبيب الروح؟ - أعرفها وأعرف أسرتها.
وكأنما تذكر خيري شيئا كان غائبا عنه، ولكنه ما لبث أن تناساه ثانية واستأنف حديثه: إنها لا تقبل، وإن أردت الحق، أنا أيضا لا أقبل. - طيب يا سي خيري، سأنام في مكان آخر، ولكن ستظل هذه الحكاية نقطة سوداء في تاريخ حياتك، لن أنساها العمر كله. - لا عليك، أعوضها لك. - تعوضها؟ ومن أين؟ أنت تظل هادئا كالباشا حتى يتقدم إليك خادمك الذي هو أنا برغباتك وحين استطعت مرة في العمر أن تصل إلى شيء وحدك تطردني من البيت، طيب يا سي خيري، نترك البيت، أمرك يا سلطان الزمان، سلطان طماع أناني. - اعقل يا نجيب، قلت لك هذه شيء آخر. - وطبعا ستصبح المسألة عادة، وأضطر أنا في كل ليلة أن أبحث عن صديق ينيمني عنده، وأصير مشردا وأنا صاحب البيت. - لا، لا تخف، غدا فقط، وبعد ذلك سأطردك مدة ساعات فقط وتعود. - عظيم، عظيم يا خيري بك. - أين ستبيت غدا؟ - وهل أعلم؟ - قل لي وحياة والدك أين ستبيت؟ أنا مستعد يا سيدي أن أدفع لك أجر اللوكاندة. - سميراميس. - تنيل. - أين تريدها إذن؟ في سيدنا الحسين؟! - ألا تستبدل بسميراميس إلا سيدنا الحسين؟ اسمع، هي عشرون قرشا وتصرف أنت. - لا يا سيدي، رد العشرين عفريتا على نفسك، ستنفعنا بعد غد في السهرة التي أحدثك عنها. - إذن فأين تبيت؟ - ما شأنك أنت؟ - عند خالتك. - وكيف عرفت؟ - وهل لك صدر حنون إلا هي؟ تذهب إليها وتدعي الزيارة، وتطفح العشاء وتنام وتطفح الفطور. - يا سيدي، هذه الإجراءات تتخذ عند الفقر فقط، أما الآن فأنا في أول الشهر والأشيا معدن والحمد لله. - وماذا تخسر؟ اعملها مرة وأنت غني، لعلك بهذا تخدع خالتك وتجعلها تظن أنك تزورها من أجل الزيارة لا من أجل الفقر. - أمرك يا سيدي، نعملها.
إنها تغنيني عن الغسالة والست والجميع، وأين هذه الأجسام القديمة التي تقلبت وأكثرت التقلب من هذا القوام الرائع. ثدياها، شعرها، كل شيء فيها جميل جديد طازج يصرخ منه الشباب ويثور، وهي لي وحدي بلا شريك، وهي تحبني وإني ... ماذا؟ هل أحبها؟ ألابد من الحب؟ لقد أخذت من الحب حظي، فكان حظا عاثرا، أكان عاثرا حقا؟ ألم أجعله أنا عاثرا؟ ألم أطلق على آمالي هذا الوحش الذي يكمن في ذاتي وأسميه ضميرا أو أسميه مثلا أو أسميه كبرياء؟ وهو وحش يلتهم الآمال ويحطم الحياة ويدمر الأحلام، ما لي أذكر هذا الآن؟ أسمع في نفسي من ذلك الوحش همسا، أله بي شأن الآن؟ ألم يتسلط علي بهذا الطنين حتى حرمت نفسي من حبي وسافرت وفية وبقيت؟ ماذا يريد مني الآن؟ ما هذه الخرافة التي يديرها في نفسي منذ الأمس؟ نعم أعلم أنها أخت حامد أفندي، وأعلم أن حامد أفندي قال إنه يعتبرني أخا له، ولكن ما لهذا وما نحن فيه الآن؟ دولت فتاة فائرة، إن لم أكن أنا فمصيرها إلى غيري. وهل يعتبرني حامد أخا له حقا، أم هو تعبير ألف الناس أن يقولوه في سهولة ويسر؟ وإذا صدقت كل من قال إنه أخي أو قال إنه أبي أو أمي لأصبح كل من أعرف يتصل بي بهذه الآصرة القوية.
وعزت باشا، ألم يقل إنه كأبي، فكيف كنت سأتزوج ابنته؟ ما أصدق الشاعر:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
أخاها ولم أطعم لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا
من الأمر ما لا يفعل الأخوان
هل أنا أخو دولت؟ نعم قال أخوها إنه يعتمد علي في رعاية أمرهم. ولكن أكان يقصد ما يقول أم هي عبارة يلقيها بعض الناس إلى بعض ليظهروا مقدار ثقتهم وحبهم لبعضهم البعض؟ نعم أعترف أنه يحبني، وما البأس في ذلك؟ وأخته أيضا تحبني، وأنا ... أعجب بها، ألا بد من الحب في هذا الذي أقدم عليه؟ ألا بد من تفكير كهذا الآن؟ إنها قادمة، بقوامها الحلوة، وقميصها الوردي، قميص وفية، أتلبسه اليوم؟ لا أدري، إن كانت عرفت أنني أدركت أنه قميص وفية، أتراها تلبسه؟ سنرى مقدار ذكائي. لا شك أن عيني أظهرت لها أنني أدركت، ترى أتلبسه اليوم؟ وماذا تلبسه غيره؟ وأين لها بغيره؟ من مرتبها الضئيل أم من أخيها حامد؟ رجعنا إلى حامد. أي شيطان يرسل به إلى ذهني كلما نسيته؟ هل نسيته؟ لا بد أن أنساه، ألا يستطيع جمال دولت الصارخ أن يطغى عليه؟ لا يستطيع فمها العذب؟ دولت ... دولت.
وطرق الباب في همس، وقام خيري إليه مسرعا، ودخلت دولت، وأسرعت تقفل الباب وترد رتاجه وتسأل لاهثة: متأكد أننا وحدنا؟
ولف ذراعه حول خصرها قائلا: طبعا، تعالي وانظري بنفسك. - لمن هذه الشقة؟ - لصديق لي طلبت إليه أن يتركها الليلة.
وكانت دولت قد بلغت حجرة النوم وهي تقول: صحيح؟ - ما هذا الفستان الأنيق؟
كان فستان دولت من الحرير الأخضر، ولو حكم خيري ذوقه لما رآه أنيقا بحال من الأحوال، فهو رخيص الصنع من هذا النوع الذي تلبسه متوسطات الحال في أيام العيد. وقد كانت دولت تستطيع أن تختار خيرا منه، ولكنها ما كانت لتفعل، فكل ما يفضله عندها من ملابس وفية، ولم تكن تحب أن تلبس شيئا لوفية في يومها هذا، وقدرت أنها غالبا ستستغني عن الفستان، وقدرت أيضا أن جمالها يغفر كل عيب فيما تلبس، أدركت دولت أنه يريد أن يبدأ حديثا ليس إلا، فهي تعلم أن الفستان ليس خليقا برضائه، قالت: أيعجبك؟ - طبعا.
وقالت في دلال وهي تجلس إلى الأريكة ذات المساند والوسائد: هو أم القميص؟ - كلاهما، أما ما يعجبني أكثر منهما فهو ...
ونظر إلى نهديها فقالت: هيه؟ - ما تحتهما. - لا أفهم. - أقصد هذا.
ولم تجعل يده سبيلا لها ألا تفهم، فقالت: على مهلك، انتظر.
ولم يتمهل أو ينتظر، وإنما راح يفك أزرار الفستان وهي تقول في دلال: ستقطع الزر، انتظر، اسمع، لا شأن لك بملابسي.
وفهم خيري ما تقصد، وما هي إلا لحظات حتى كان كلاهما عاريا!
وطالع خيري جسمها لأول مرة متألقا كالصباح الوليد، رائعا صافيا مترقرقا كماء الشباب، وعلى فمها ابتسامة حائرة بين النشوة والخجل. انسدل شعرها على كتفيها كاد يعدو على صدرها. فمد إليه خيري يدا مرتعشة فأزاحه إلى ظهرها كرسام يهيئ النموذج الذي سينقل عنه. وراح ينظر إليه ثانية مبهورا متلاحق الأنفاس جياش الخلجات معجبا حائرا مذهولا. قبلها خيري وقبلها، قبلها جميعا ثم طواها في أحضانه. حامد ... ما هذا؟! أي طنين هذا الذي يدور برأسه؟ أهمله وعاد يقبلها في جنون، في ثورة عارمة فيها من الاصطناع ما يحاول به أن يخفت هذا الطنين الذي لم يجد وقتا آخر إلا هذا ليلح على تفكيره. حامد، وما شأني به؟ وعاد يقبلها في جنون أشد وفي ثورة أكثر جموحا، ولكن، حامد، تطن في رأسه تعلو مع جنونه فتطغى على جنونه، وتصرخ مع ثورته فتتداعى لها ثورته، وحاول خيري ثانية وثالثة وعشرا، ولكن حامد تخذله في كل مرة، ودولت دهشة جاهلة ذاهلة، ماذا به؟ ما هذا الومض الذي يبرق في عينيه ؟ ما هذه الثورة التي يفتعلها؟ ماذا به؟
استلقى خيري على الأريكة وأدار وجهه إلى الحائط، وراح يضرب الوسادة بقبضته قائلا: حامد، حامد، حامد، حامد.
وأطرقت دولت ثم قامت إلى ثيابها، وحين استدار خيري ليواجه هزيمته كانت دولت تركت البيت جميعه.
أسرع خيري إلى ملابسه، فارتداها ونزل إلى الطريق، وحين مر بشقة صاحب البيت وجد الرجل العجوز يدلف إلى شقته، ووجد زوجته تستقبله، ورأى في عينيها شيئا لم يفهمه، ولكنه واثق أنه رآه. ولم يعر الأمر كثير تفكير، بل سارع إلى الطريق، وما وقع في ليلته لا يزال يسيطر على كيانه فيشعر بالعجز والأسى، من أدراني أن حامد هو السبب؟! لعله ستار تختفي من ورائه خيبتي وقلة حيلتي. إنها المرة الأولى التي ألتقي فيها بهذا الخذلان، ولعلي لا ألتقي بعد ذلك إلا بالخذلان، دولت التي تفتن العابد يمنعني عنها تفكيري في حامد، حامد، أي مصيبة.
كان يعرف طريقه، وقف بباب خالة نجيب وطرق الباب، وأجابت الخالة طرقه وكانت تعرفه، سألها في لهفة عن نجيب، وكان نجيب بمسمع فخرج إليه: خير يا خيري؟
وقال خيري في لهفته ما يزال: خير، استأذن من خالتك وتعال. - ماذا؟ - سنسهر معا الليلة. - ماذا حصل؟ - اذهب يا نجيب مع صاحبك ولا تكثر الأسئلة، وسأنتظرك حتى تعود.
وقال خيري: والله - إذا سمحت - اتركي نجيب يبيت معي الليلة.
وقال نجيب: تسمحين يا خالتي؟ - ما تراه يا ابني.
ودون أن يحيي واحدا منهما السيدة الطيبة هبطا السلم جريا، وما أن بلغا الشارع حتى حاولت كلمة استفهام أن تصدر عن نجيب، ولكن خيري لم يدع لها مجالا، فقد راح يقص على صديقه ما وقع له، ولم يعقب نجيب بشيء إلا: يا خيبتك! - المهم. - ماذا؟ - أتعرف طريق الغسالة؟ - الست أقرب. - البك زوجها في البيت. - إذن؟ - ألم تقل إنك كنت تريد أن تذهب بي إلى سهرة؟ - والله فكرة، معك فلوس؟ - كم تريد؟ - كم في جيبك؟ - جنيه تقريبا. - نعمة، هيا بنا. •••
في مصر الجديدة وفي بيت أنيق ولج نجيب يتبعه خيري، وحين هم نجيب بالصعود قال خيري: الله يخرب بيتك، إلى أين؟ - وأنت ما لك، اطلع، اسمع، لا تنطق أنت بشيء. - أمرك.
وعلى باب شقة في الدور الثاني وقف نجيب ودق الجرس، ووقف خيري من ورائه ذاهلا دهشا خائفا متشوقا مفكرا في كل شيء. وأجاب الجرس رجل مهيب الطلعة ذو شاربين أنيقين وخطهما الشيب وقامة مديدة وقوام ممشوق لم تعد عليه السن، وقال الرجل وهو يطل من ضلفة الباب: من؟
وأوشك خيري في سرعة خاطر أن يسأل عن اسم وهمي يعلل به مجيئهما ثم ينصرف، وكأنه أخطأ في العنوان، ولكن نجيب سارع يقول: أنا يا عمي. - أهلا، كيف أنت يا بني يا ...؟
وقال نجيب: نجيب، نجيب يا عمي، قد جئت في الأمس مع صلاح. - نعم، نعم، أذكرك يا بني تماما، ادخل يا نجيب.
وقال نجيب: الأستاذ خيري صديقي. - أهلا، تفضلا.
وتقدمهما الرجل الكبير إلى غرفة الجلوس، وهم خيري أن يقول شيئا، ولكن نجيب وضع سبابته أمام شفتيه وهو يقول: هس.
فدخل نجيب إلى البهو، وراعه أول ما راعه سيفان على الحائط يحيطان بصورة الرجل الذي لقيهما، وقد بدا في الصورة أعظم منظرا وأشد هيبة. ورأى تحت السيفين مسدسين قديمين كقوسين حول أسفل الصورة، ثم لم يجد سعة من الوقت ليرى شيئا آخر، فقد وجد نفسه مسحوبا إلى غرفة على شيء من الأناقة عرف أنها غرفة الجلوس.
وقعد الثلاثة ودار بينهم الحديث، ولكن قليلا ما دار، فقد قطعه نجيب: الهوانم هنا؟
وقال الرجل في وقار: أخواتك هنا.
ثم نادى: يا ليلى، يا يسرية.
وأقبلت فتاتان، إحداهما شقراء الشعر خضراء العينين ناصعة البشرة، وإن شاب بياضها قليل من النمش لا يعيب جمالها، والثانية سمراء ممشوقة القوام سوداء الشعر، وكان في كلتيهما عزة لا توحي برخص. وأقامت الفتاتان قليلا، وخرجتا بعد حديث قصير تناول الجو ومصر الجديدة والمواصلات. ولحق بهما العجوز، وقال خيري: ما هذا؟ - وما شأنك؟ أيهما تختار؟ - ممن؟ - ليلى أم يسرية؟ - أهما ...؟ - نعم. - كان يقول: أختاك! - كلام. - كلام؟! أليس أباهما؟! - نعم.
ويقول: أختاك! وتقول: يا عمي! - يا سيدي كلام، أنا لم أعرف العائلة إلا أمس، يا أخي لا تضع الوقت.
وفكر خيري في كلمة الأخوة التي قدسها، ورجع به ذهنه إلى دولت، ولكن نجيب سارع يقول: انطق.
وعاد بذهنه إلى ما هو فيه، لقد كان يريد الشقراء، فهو يحب الشقراوات، ولكن الآن، في هذه اللحظة يريد السمراء، إنها سمراء كدولت، كدولت في سمارها على الأقل.
قال دون أن يحس: السمراء. - تترك ثلاثين قرشا في الحجرة.
ودخل الرجل، العم، وجلس ثانية، وبدأ حديثا عن الجامع الذي يقوم بجمع المال له؛ لأن مصر الجديدة تكاد تخلو من الجوامع، وقال نجيب: هذا مشروع عظيم يا عمي، أتسمح أن أساهم فيه؟ - بكل سرور يا بني. - عشرة قروش تكفي؟ - عظيم، كله لله.
وسارع خيري يقول: تسمح لي أنا أيضا؟ - تشكر يا بني، أنت ابن حلال.
ونادى صوت من الخارج: نجيب، أريدك في كلمة.
وقام نجيب وهو يقول: عن إذنك يا عمي، تعال يا خيري لترى الشقة.
وقام خيري وهو يقول: تسمح لي يا ...
وكاد لسانه يقول عمي جريا على عادة البيت وزائريه، ولكنه وقف عنها ليقول في اللحظة الأخيرة: يا بك.
وقال البك: تفضل يا بني، شف فيما تريدك أختك.
وطنت أختك في أذن خيري، ولكنه ما لبث أن ضحك منها في نفسه ساخرا! •••
عاد خيري مطمئنا إلى بيت نجيب، فما كان يستطيع أن يعود إلى بيته بعد أن أخبر أمه في الصباح أنه سيبيت ليلته عند نجيب ليذاكر، كان إذ ذاك يفكر في ليلة مع دولت، فأصبحت ليلة مع يسرية، أهناك فرق؟ هذه أخته وهذه أخته، ترى لو عادت إليه دولت؟ لا، كلهن إلا دولت، إنه يعرف حامد وبينهما صلات قوية، الأخوة مع حامد مشفوعة بصداقة وبأستذة من حامد وبمعروف قدمه هو لحامد، وحامده هو من عرفه بأخته وهو من أوصاه بها، وإن تكن دولت سهلة المنال إلا أنها ليست مثل يسرية ولا ليلى تباع لكل من يشتري، نعم هناك فرق، إذن فهو الضمير، ملعون أبو الضمير ومن عرف الضمير، النهاية، سليمة، على كل حال هكذا أحسن، بلغ الصديقان البيت وأذان الفجر يعلو، فقال كل منهما في نفسه: إن الله غفور رحيم، ثم لم يعقب أحدهما على الآذان بكلمة، أطرق كل منهما في صمت وراحا يصعدان السلم، وبلغا شقة صاحب البيت فوجداه خارجا وقد التف بعباءة وراح يتمتم مسبحا في طريقه إلى صلاة الفجر في الجامع.
وقال نجيب: حرما مقدما يا عم عبد الباقي أفندي.
ولكن عبد الباقي أفندي قال في حزم: يا سي نجيب، أنا لا أقبل هذه الأمور في بيتي أبدا، أنا مضطر أن أطلب منك أن تترك الشقة. - ماذا؟ لماذا يا عم عبد الباقي أفندي؟ كفى الله الشر! - اسأل صديقك، اسأله عن البنت المايعة التي كانت عنده الليلة، لقد رأتها زوجتي.
وسارع خيري قائلا: من؟ أنا؟ رأت ...
وقبل أن يكمل الجملة سارع نجيب يقاطعه: أبدا، أبدا يا عم عبد الباقي أفندي، لا بد أن الست أخطأت النظر، لم يأت لصديقي إلا صديقنا صلاح، أحيانا يخرج من غير طربوش. - من غير طربوش؟ أهذا كلام يا بني! أيمكن أن تخطئ زوجتي بين رجل وامرأة؟ لا يا بني، أرجوك أن تبحث عن مكان من أول الشهر.
وأطرق نجيب متظاهرا بالأسف وقال: أمرك يا عم عبد الباقي أفندي.
وحاول خيري أن يتكلم، ولكن نجيب أمسك بيده خفية فسكت، ثم توجها إلى السلم يكملان صعوده، ولكنهما لم يكادا حتى أوقف نجيب خيري مرة أخرى ممسكا بذراعه دون أن يحادثه، ومال نجيب على الدرابزين ونظر إلى الباب الخارجي حتى إذا اطمئن إلى خروج عبد الباقي أفندي قال لخيري: تعال.
وفهم خيري ما يريده صديقه، فنزل وراءه وهو يقول: المقابلة الشريفة الوحيدة التي تتم في بيته يكون هذا جزاؤها.
وقال نجيب: اسكت، تعال.
ودخلا شقة عبد الباقي أفندي ولاقتهما الست.
لم يترك نجيب البيت أول الشهر، ولم يطلب إليه عبد الباقي أفندي إلا شيئا واحدا، هو أن يقبل اعتذاره، وقبله.
الفصل العشرون
لم يستطع خيري أن ينجح في عامه هذا، واستطاع نجيب.
ويئس خيري من المذاكرة يأسا تاما، ولم يحاول أن يعيد إلى ذهنه فكرة المذاكرة مرة أخرى، وطمأن نفسه أن مستقبله معلق بمستقبل يسري ونادية. ولم يخذل يسري أخاه، فقد كان يسير في تعليمه سيرا طيبا، فلم يرسب، وكانت نادية أيضا تسير في تعليمها سيرا مرضيا، ولم يخف عن سميرة هانم ولا على خيري ما جد على الطفلين من تغيير، فيسري قد أصبح ذا وجه اختفى صفاؤه تحت نثار من الحبوب الحمراء، يخرج صوته خشنا لا نعومة فيه ولا براءة، تتقلب عيناه عابرة الرجال مستقرة على النساء، أي نساء، ذاهلا أغلب الأحيان، حائرا عجلا إلى كل أمر، لا يستقر به من القلق حال.
ونادية أيضا لم يعفها الزمان من بوادر أنوثة، فوجهها يسارع إلى الاحمرار، وتتخفى عن أخويها إذا بدلت ملابسها، ولكنها لم تكن بعد قد وصلت إلى السن التي تشغلها فيها محاسنها، بوادر لا أكثر.
لم تنقطع الصلة بين خيري ونجيب، بل استمرت دون تظاهر بالمذاكرة، فعرفا الحانات معا، وعرفا الكثيرات من مثيلات ليلى ويسرية، وأصبحت هذه الأمور بالنسبة إليهما جزءا من حياتهما. ولم يفقدا من متعتهما الأولى إلا الدهشة التي كانت تداخلهما كلما التقيا بجديد، فقد أصبحا لا يلتقيان بالجديد إلا نادرا، يندر كلما مرت الأيام، وكان خيري يعمل في إصرار على ألا يشاركهما محسن في هذه الجولات، فما كان يجب أن ينفق أكثر مما يستطيع أن ينفق، وما كان يحب أن يصحبهما محسن في أمكنة قد لا يراها جديرة بغناه أو قد يرى نفسه متواضعا حين يرودها. فالتواضع صفة لا يرضى خيري أن يصطنعها له أحد. مكان واحد كان يرافقه إليه محسن، هو المسرح، فثمن التذكرة واحد بالنسبة لكليهما، وجميعهم يهوى المسرح ويرى فيه متعة روحية ينعم بها فترات من الوقت طويلة، تطول إلى ما بعد مشاهدة الرواية بأيام، وقد تصل إلى أسابيع، ثم تظل ذكرى الرواية ما وعت الذاكرة.
وهكذا أبقى صلته مع محسن مقصورة على الزيارات المنزلية، ولم تكن زياراته قليلة، ولا كانت زيارات محسن، وعلى زيارات المسرح، ولم تكن هي أيضا قليلة، فما كانوا يشاهدون الرواية مرة واحدة ولا اثنتين.
وظلت دولت تعمل في بيت عزت باشا، وظلت على رغم أنفها عفيفة، فمحسن يصدف عنها إكراما لمكانها في البيت، وهي لا تبذل في سبيل اجتذابه إليها أية محاولة، فقد كانت تدرك الفارق بينهما، وكان إدراكها هذا يمحو مطامعها، ويقضي عليها قبل أن تحاول الظهور.
وماتت أمها، فلم يبق لها إلا هذا البيت، وعدل عزت باشا نهائيا عن فكرة إبعادها، واطمأن لما كشف بعينه الواعية انعدام الصلة بينها وبين محسن. ولم يحضر حامد وفاة أمه، فقام عنه خيري ومحسن بكل الأعباء وأرسلا يعزيانه، واكتفى هو بخطاب أرسله إلى أخته، وبعض خطابات أخرى أرسلها إلى الباشا ومحسن وخيري، ولم ينس يسري، فقد كان دائما يقدر أنه هو صاح بالفضل الأول عليه، وأنه عن طريقه استطاع أن يصل إلى عزت بك الذي أصبح باشا، ثم إلى هذه البعثة وإلى ذلك المستقبل الذي ينتظر عودته.
وقد حصل حامد على الدكتوراه، ولكن وفاة أمه واطمئنانه على مكان دولت جعلاه يطلب مد البعثة لينال شهادات أخرى. وكان عزت باشا وزيرا فأجيب طلبه.
واستطاعت فايزة أن تنتفع بهذه المعلومات القليلة التي كانت قد تعلمتها قبل أن تصاب، فتمكنت أن تتغلب على البله بالقراءة، فقرأت ولم تكن تفعل شيئا إلا أن تقرأ، وهل يمكن أن تفعل شيئا؟ قراءة تستريح منها بالسينما، وتستعين هناك بالقراءة أيضا، كانت تقرأ ترجمة الحوار التي كانت تكتب إلى جانب الشاشة على شاشة أخرى صغيرة، وكان رأسها يظل رائحا غاديا بين الشاشتين، ولكنها كانت تستمتع بما تشاهد. ولم تفكر بطبيعة الحال كما لم يفكر أهلوها أن تذهب إلى أفلام مصرية ناطقة، فما كانت هناك شاشة صغيرة تستعين بها. فإن كان لا بد من فيلم مصري فصامت، كحياتها، كآذانها، واستطاعت مع كل هذا أن تجد في هذه الحياة جمالا واستطاعت أن تضحك من النكتة المكتوبة، واستطاعت أن تلقي إلى قلبها إشراقا بريئا صنعته لنفسها من ثقافتها ومن قلبها الغض ومن عطف المحيطين بها ومن حبهم. •••
وجرت الحياة شبه رخاء لعزت باشا، فاشترك في الوزارة عدة مرات، وحصلت مصر على المعاهدة، وكان من الذين يرون فيها خطوة إلى الاستقلال وليست الاستقلال جميعا. وحاول عزت باشا أن يصرف كثيرا من جهده ووقته لإسعاد زوجته، وتقبلت إجلال محاولاته في شكر وتقدير، فكان لا يني عن طمأنتها على وفية، فقد كانت الأنباء تصل إليه دائما عنها، وكانت أنباء يرتاح لها فؤاده وفؤاد زوجته. وكانا يكتبان هذه الأنباء لفايزة فتفرح وتظهر فرحها في براءة حبيبة. وكانت وفية تأتي إليهما في كل عام، بل كانت تأتي إليهما خلال العام مرات، فقد كان لها من كياسة زوجها وغناه ما يهيئ لها هذا المجيء كلما شاءت.
وكان خيري يحرص على أن يراها مرة عند مجيئها ومرة قبل ذهابها، وكان اللقاء يثير بعض ذكريات ما تلبث أن تصطدم بالواقع، فتذوب مع الزمان الماضي الذي انبعثت منه.
وكان محسن يسير في طريقه المرسوم عابثا جادا، ناجحا في دروسه ناجحا في مغامراته، وإن جد عليه شيء فهذا الاهتمام المفاجئ بأعمال أبيه السياسية، وبالحزب وبالصراع بينه وبين الأحزاب الأخرى. ولكن اهتمامه لم ينل من حق دراسته أو من الحقوق الأخرى التي يتيحها لشبابه، ولم يكن لهوه جميعا نساء وخمرا، بل كان كإخوانه يمتع نفسه بكل شيء، ومناحي المتعة عنده كثيرة، فهو يحب المسرح، ويحب الأدب، ويطرب للشعر ويسعى إلى مجالسه، وينتشي للغناء ويهفو للنكتة، ويفطن إليها مهما تكن خافية. الحياة جميعها رقيقة الأستار أمام عينيه بأعبائها ولهوها، بجدها وهزلها، بوقارها الذي تفرضه عليه، وبعربدته التي يفرضها هو عليها، يحب من حوله ويبذل جهده ليحبوه، ويحب الحياة ويبذل جهده أن تحبه الحياة. وحين أقبلت بوادر الحرب استقبلوها في اهتمام ساخر، فقد عرفوا أين يقضون لياليهم. ولم يمنعهم النور المحبوس داخل الحجرات أن ينعموا وإن حرموا بعض المتع، فقد استطاعت نفوسهم المرتاحة الهادئة أن تقبل الحرمان في نكتة أو ضحكة أو تعبيسة واهنة ما تلبث أن تزول في متعة أخرى - مهما تكن هذه المتعة - هي النقاش حول تطورات الموقف الحربي، وحول أفضلية الألمان على الإنجليز أو أفضلية الإنجليز على الألمان. على أن النقاش لم يكن في يوم عنيفا، فقد كان الساسة يكرهون الإنجليز، وكان كره المستعمر مغروسا في النفوس شب معها وكبر، فكان الرأي العام يكاد يتجه بكله إلى رجاء هزيمة الإنجليز لمجرد الانتقام منهم لا بفكرة أخرى، لا يقف رجاؤهم هذا عند حد إلا إذا ذكر أحدهم الآخر بأن الألمان قد يكونون شرا في استعمارهم من الإنجليز، وأننا قد نبدأ عهدا جديدا من استعمار جديد يحتاج إلى بدء مفاوضات أخرى كانت قد وصلت إلى معاهدة الشرف والاستقلال. وما كانت شيئا قليلا. وعندما تبدو هذه الحجج في أثناء النقاش تتجه رغبة الانتقام المنطلقة عن العاطفة إلى التفكير، بعض التفكير، وينتهي النقاش على غير هزيمة أو انتصار.
الفصل الحادي والعشرون
أوغلت الحرب فلم تعف أحدا، ولم يستطع أحد مهما يتح له من اطمئنان أن يباعد ما بينه وبينها.
فقد عادت وفية إلى مصر تحمل طفلها عزت جميل. ولعلك مدرك من تسميتها لابنها أنها أثيرة على زوجها مجابة الرجاء عنده يبذل غابة جهده لإرضائها، فهو يسمي ابنهما باسم أبيها ولا يسميه باسم أبيه. ولعلك مدرك أيضا أنها سعت مع الأيام، فلحبها القديم في نفسها آثار. وابنها، ابنها أرسلته إليها السماء الكبيرة فترى في ابتسامته ابتسامة الأيام، وترى في طلعته اعتذارا عن حب كبير لم تتحقق آمالها فيه. ولعلك مدرك من وجود هذا الابن أن الزواج أثمر، وأن قلبي الزوجين قد التقيا على ولدهما. وأني مطمئنك أيضا أنهما التقيا على تلك الصداقة الحبيبة التي ينشأ في ظلالها الحب الرقيق الناعم العميق، تزيده المعاشرة اطمئنانا وتزيده الأيام توثقا، ذلك الحب الذي يولد صغيرا كالطفل ويتغذى من الود والوفاق فينمو مع الأيام الطوال، ويستطيع مع هذه الأيام أن يمد جذوره في حياة الزوجين فيثبت قويا على الأعاصير والعواصف مهما يكن هبوبها من ماض جياش بالهوى، أو من جهل الزوجين كليهما بالآخر قبل الزواج. اطمأنت الحياة بالزوجين، وثبت فيها العطف المزدهر والود الوثيق. وحين عادت وفية إلى بيت أبيها كان خيري يلقاها وتتصافح منهما الأيدي وتثب إلى الذهن خيالات من الماضي فلا تجد في نفسيهما إلا حبا دارسا أصبح صداقة وطيدة يحفها الإكبار والإعجاب، والذكريات والأمنيات المفعمة برجاء السعادة والرغد والنجاح في الحياة.
وعاد الدكتور حامد عبد الكريم، وما هو إلا هين السعي حتى عين بكلية التجارة مدرسا للجغرافية الاقتصادية. ولم تعد دولت لتعيش مع أخيها فهو قد تعود الحياة فردا، وأحب هذه العادة التي اكتسبها من لندن، كما أحب العادات الأخرى التي يعود بها أغلب العائدين من هناك. ولم ينس الدكتور حامد عادة من تلك العادات، بل صحبها جميعا من بلادها إلى مصر، ودمجها بعادته التي نبتت معه في مصر، فهو لا يزال بطيء المشية عظيما، نبيل اللفتات متكبر السمات. وعلى الرغم من أن الفقر كان مصدر هذه العادات، وعلى الرغم من أنه ترك الفقر واطمأن إلى عدم عودته إليه، إلا أنه لم يترك من عاداته القديمة هذه شيئا. وكان من بين ما أحضر معه من عادات عادة الانفراد وعادة البخل، وكلتاهما تغنيه عن دولت أي غناء. واستطاع أن يبخل ويشتد بخله فلا يترك استغناءه عن دولت يمر دون أن يستغله أحسن استغلال. فأظهر لعزت باشا أنه يترك أخته إكراما لخاطره وخاطر فايزة التي أصبحت لا تستغني عنها، وأظهر أيضا أنه يقبل هذا عن طيب نفس مهما يكن في هذا الترك من متاعب ستلاقيه بها وحدته وانفراده. وكان شكر الباشا واضحا في سعيه الحثيث، وكانت الثمار دانية عن قريب في تعيين الدكتور بكلية التجارة.
لم ينس حامد وفاءه للبيت الذي حقق له هذه الآمال، وقد آلمه ما حاق به. ولكنه حين رأى الكارثة قديمة أخفى ألمه، وأبدى وفاءه في اهتمامه بيسري وإصراره أن يلحقه بكلية التجارة ما دام غير راغب في كلية بعينها. والتحق يسري بكلية التجارة، وظل حامد يرعى أمره رعاية مخلصة وفية.
أما خيري فقد واجه الحرب هادئا، لم يشغله إلا غلاء الحاجات، ولكنه اطمأن حين وجد محصولات أرضهم تغلو هي أيضا فتواجه الغلاء. وحين جاءت علاوات الحرب ازداد طمأنينة. وسار حياته كما كان يسيرها هادئا واثقا مرتاح النفس والضمير.
وأحس محسن من الحرب الظلام المفروض الذي حد من غزواته المسائية، وترك لأبيه جميع الأعباء الأخرى، وترك له أيضا - بطبيعة الحال - المكاسب الكبرى التي أغدقتها الحرب على أصحاب الأرض.
واجه الجميع الحرب مرغمين غير راضين، شأنهم في ذلك شأن العالم أجمع. واختلف تأثر كل منهم عن الآخر شأنهم في ذلك أيضا شأن سكان العالم أجمعين.
الفصل الثاني والعشرون
فرغت سميرة هانم من صلاة الظهر، ولم تقم عن السجادة بل ظلت في مكانها تسبح بعض الوقت، ثم نظرت إلى نادية التي كانت جالسة إلى جانب السجادة على الأريكة التي ظلت عمرها في حجرة سميرة هانم، وصحبتها من بيتهم القديم إلى شقتهم. وقالت سميرة هانم: لماذا لم تلبسي يا نادية؟ - سألبس حالا يا نينا. - قومي يا بنتي لنذهب ونعود قبل الليل والغارات. - حالا. آبيه خيري سيذهب معنا؟ - طبعا، ألم يلبس هو أيضا؟ - إنه لابس لم يخلع. - ويسري؟ - لا يريد الذهاب. - لماذا؟ - لا أدري. - ناديه، واذهبي أنت لتلبسي.
وخرجت نادية وعندما تركت الباب نادت: يسري.
وأجاب خيري ظانا أنه هو المطلوب: نعم. - نينا تريدك.
وقصدت نادية إلى حجرتها تبدل ملابسها، وقصد خيري إلى حجرة أمه يسألها: تريدينني يا نينا؟ - لا يا ابني ناد لي يسري. - أتريدينه في شيء؟ - ناده وابق معنا.
وحين جاء يسري بدأته أمه: ماذا يا يسري؟! - ماذا يا نينا؟! - ما معنى مقاطعتك لبيت عمك عزت؟ - لا شيء. - لا بد من شيء. يا ابني منذ مات أبوك لم نجد أحدا مثل عزت باشا، وقف إلى جانبنا في أيام الشدة، وما من طلب طلبناه منه إلا سارع ينفذه، فهل أقل من أن نزوره ونسأل عنه؟
وقال يسري في بوادر غضب: أنا لا أعرف لأحد فضلا علينا.
وضاق خيري بهذه الإجابة ولكنه كظم ضيقه، وقالت الأم: أبدا؟
وقال يسري في إصرار: أبدا.
وقال خيري: يا أخي لا تنس فضل الله على الأقل.
وقال يسري في ثورة: ولا الله.
وهبت الأم قائلة: ماذا؟ ماذا قلت؟
وقال خيري: لا تخافي يا نينا، لا تخافي، إنها موجة في هذه الأيام، ولكنها كلام لا يدل على ما في القلب.
وقالت الأم: إنه كافر يا خيري، كافر!
وسكت يسري مأخوذا من ثورتها، وقال خيري محاولا أن يهدئ أمه: أبدا يا نينا، أبدا، إنه لا يقصد.
واتجهت الأم إلى يسري قائلة: أتنسى فضل الله، الله الذي جعل لك هذا الأخ الذي قام بأمرك وحرم نفسه من التعليم لأجلك، تنسى فضله. إلى أي مصير كنت تلقى بغير أخيك؟ أليس له فضل عليك؟
واستأنف يسري صمته في تخاذل، وقال خيري محاولا أن يخرج أخاه مما أوقع نفسه فيه: يا أخي، ما لهذا جميعه ولذهابك إلى بيت عزت باشا؟
وكأنما أثار هذا الاسم ثائرا في نفس يسري كان قد أوشك أن يهدأ. - يا أخي لا أريد، أهو مفروض علي أن أذهب؟ هل أنا أسير عندكم؟ لا أريد، لا أريد.
وقالت الأم في حدة: ولد، ما هذه اللهجة التي تتكلم بها؟ أجننت؟
وقال خيري مصطنعا الهدوء لا يزال: أليس لإحجامك هذا سبب؟
وقالت الأم: عظمة، واحد عظيم ليس لأحد فضل عليه.
وقال يسري دون أن يلتفت إلى سخرية أمه مستأنفا ثورته موجها حديثه إلى أخيه: أتريد أن تعرف لماذا؟ أتريد أن تعرف؟
وأسندت الأم ذقنها إلى يدها ونظرت إلى ابنها الثائر نظرة ثابتة دهشة، وقال خيري: إن كان لا يضيرك أن تقول. - لا يا أخي لا يضيرني، لا يا سيدي، أقول لك لماذا لا أذهب، لا أريد أن أرى غناهم وفقري، لا أريد أن أرى السراية وأعود إلى الشقة، لا أريد أن أرى محسن يلبس أفخم قماش وأفخم كرافتة ويستبدل كل يوم حلة بأخرى وأعود لأجد حلتي الوحيدة في الصوان، واحدة في الصوان لا تزيد، إن خرجت فإلى جسمي، ولتحل التي ألبسها مكانها واحدة في الصوان وواحدة علي، لا أريد أن أذهب حتى لا أرى فايزة الصماء تلبس أفخم الملابس، بل إن دولت تلبس أفخم الملابس، ونادية وهي تستقبل الشباب في ملابس ... ملابس ...
وقاطعه خيري: على مهلك، على مهلك، نحن نعرف تماما إلى أي مدى هم أغنياء ونعرف أيضا مقدار ما نملكه، ولكننا متساوون في أشياء أخرى، نحن وهم شرفاء، ونحن وهم أولاد عم لم نمد أيديهم يدا تستجدي ولا هم أشعرونا بفارق المال بيننا، والمساواة بيننا في ...
وقاطع يسري أخاه في حدة: في المركز العائلي والشرف والكرامة. ها، ها، هذه النكت التي لا تعرف غيرها، لم تعد تساوي شيئا، لا أستطيع أن أشتري بها بيت عزت باشا، تعال معي إلى المذبح، تعال إلى سوق الخضر، تعال إلى تجار الدقيق واللبن ومتعهدي الجيوش، تعال انظر إلى المجد الذي بلغوه بلا شرف ولا عائلة ولا كرامة، بلا شيء إلا الذكاء وفهم الدنيا كما يجب أن تفهم، تعال انظر إليهم الآن، الأموال مكدسة تجري بين أيديهم كما تجري على لسانك ألفاظ الكرامة والشرف والمركز العائلي. ولكن الفلوس تجري فتأتي بفلوس، وكلامك يجري فلا يأتي إلا بالفقر الأصلي. نحن لم نصل إلى بائع الخضر ولا إلى الجزار، لا ولا إلى حتى بائع اللبن، ولكننا مع هذا نتشدق بالبيت الكبير الذي كان لنا، وبقرابتنا القريبة من عزت باشا. وتصر أمي وتصر حضرتك على أن أذهب لزيارتهم، وتغضب أمي وتغضب حضرتك إذا قلت إني لا أريد الذهاب، لا يا أخي، لن أذهب، لن أذهب إلا حين أحس أنني أصبحت في غنى عزت باشا أو في غنى قريب من غناه، أعرفت الآن لماذا لا أريد الذهاب؟ هل اقتنعت؟ لن أذهب، ولن أنتظر حتى لأسمع رأيك، فإني أعرفه.
وفي حركة سريعة اتجه يسري إلى الباب وعبره إلى باب الشقة الخارجي، وما هي إلا هنيهة حتى سمعت سميرة هانم وسمع خيري الباب ينصفق صفقة عنيفة، ولم تزد الأم عن أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال خيري: لا تخافي، شدة وتزول، لا تخافي، سوف يعرف قريبا أيهما أكثر قيمة: الكلام الذي يجري على لساني أم المال الذي يجري في يد الجزار وبائع الخضر.
الفصل الثالث والعشرون
غادر يسري البيت ساخطا، الثورة تمور في نفسه فكأنه ما أفرج عنها. وراح يسير الطريق يعلو صدره ويهبط لا يفعل ذهنه شيئا إلا أن يستعيد ما كان يقوله لأخيه، ولا تبدو على وجهه إلا بقايا ابتسامة ساخرة تطفر إلى فمه كلما دار بذهنه ما يفكر فيه أخوه من شرف وكرامة وأخلاق، وغير هذا من الأوهام التي يسبح فيها خيري، والتي لا تساوي عنده إلا هذه الابتسامة. وإنه اليوم يزيد ابتسامته تثبيتا وإن كانت قد بدأت تتخذ لونا آخر إلى جانب السخرية التي تتسم بها، فلقد راح يستعيد في ذهنه شكل أخيه وهو يسمع منه هذا الهجوم الذي شنه على العوالم التي يعيش في هيكلها.
نعم إن أخي ما كان يفكر يوما أنه سيسمع هذا الحديث، ولا شك أن دهشته زادت إن صدر هذا الحديث عني أنا، أخوه الذي عاش معه هذه السنوات الطوال لا يسمع منه حديثا إلا هذا الحديث عن ماضينا وبيتنا وأسرتنا وكرامتنا، كرامتنا؟! كلام، كلام، في أي عصر يعيش أخي خيري، إنه يغلف نفسه بستار سميك من سنوات الماضي وخرافاته، مع أنه شاب، شاب ودائر وقطع السمكة وذيلها. ولكنه من أفكاره في غرفة أقفل ما بينها وبين الحياة، فهي المعزل البعيد المطمور في خرافات الماضي وأوهام السنين، ألم ير إلى الحياة اليوم؟ لعله لا يعرف ما نعرفه نحن، نعم أظن أنه لم يتعمق الحياة كما أتعمقها أنا، طبعا ثقافته محدودة ولم يدخل إلى التعليم العالي، ويكتفي بقراءة هذه المكتبة التي ورثها عن المرحوم والدنا. ولكن ماذا تجدي هذه الكتب الأدبية في فهم الحياة على حقيقتها والوصول إلى جذورها؟ العالم يحترق أمامه وهو يقرأ في شعر المتنبي وشوقي وأيام طه حسين ومجدولين المنفلوطي وفلسفة العقاد ومساخر المازني. مصائب، إنه لا يريد أن ينزل إلى الحياة الحقيقية، إلى الواقع، كم دهش حين حدثه الدكتور حامد عن مبادئه، كم دهش حين رأى الدكتور حامد يقول إن كل العواطف ضعف، وإن الحياة لا تقبل إلا على الذين يلقونها بقلوب خالية من كل عاطفة إلا عاطفة المصلحة، وبعزم لا يعرف إلا بلوغ القصد بلا نظر إلى الوسيلة ولا مشاعر الغير، كم جزع أخي، كم جزع، لم يجد شيئا بقوله إلا أن العواطف لا تعرف وإنما تحس، وأنه لا يستطيع أن يناقش إنسانا هذا رأيه؛ لأنه لن يستطيع أن يقنعه، وقال شيئا آخر، قال في حدة: لولا العاطفة، عاطفة الصداقة والأخوة بينه وبين الدكتور ... ثم لم يكمل، وحين استحثه الدكتور حامد أن يكمل احمر وجهه وصمت ولم يكمل، ماذا كان يريد أن يقول؟ أتراه كان يريد أن يذكر الفضل الذي ناله الدكتور حامد عن طريقه؟ أم تراه يقصد إلى شيء آخر؟ لا أدري. أظن أن الدكتور حامد فهم هذا الفهم، أم تراه لم يفهمه فهو رجل حريص ألا يبدي وجهه شيئا مما يعتمل في نفسه، كم أعجب بالدكتور حامد، لقد استطاع أن يفهم الدنيا ويتعمق حقائقها، كيف استطاع ذلك؟ أترى سفره إلى الخارج أم تراها طبيعة؟ أم تراه مجرد ذكاء وهبه الله له؟ إنه يختلف كل الاختلاف عن أخي وصديقيه نجيب ومحسن، ولكن أي مقارنة تلك؟ إنه يسبقهم في السن ويختلف عنهم في الثقافة. لا شك أنه يملك مواهب وثقافة وصدفة في أيضا، فهو لا شك يسبق جيله فهو ثائر على جيله المقيد بالماضي والتقاليد. لا أنسى ما فعله معي في الامتحان.
أي أستاذ غيره يمكن أن يملي الإجابة على تلميذ في اللجنة؟ جرأة عجيبة، أظن إن كان أخي خيري مكانه لقتلني لو طلبت إليه هذا، أما الدكتور حامد فجريء، ألم يقل لي يومها: «أنت أحق بالنجاح من الأغنياء الذين يذاكرون ولا يفهمون شيئا، وإنما يحفظون ويرمون بما يحفظون على أوراق الإجابة.» رجل مقتنع أنني ذكي وأنني أستحق النجاح والتفوق.
كانت أقدام يسري قد بلغت به إلى موقف الترام، وما لبث أن رأى الترام الذي يبلغ به بيت الدكتور حامد قادما فركبه، فقد جعله هذا الحديث الذي دار بنفسه يشتاق إلى رؤيته، كما تذكر أنه يريد أن يسأله في بعض مواضع عرضت له أثناء المذاكرة. وقد تعود يسري أن يزور أستاذه في غير حرج، فقد قاربت الكلية بينهما كما قاربت بينهما روابط الماضي. ولم يكن ببيت حامد إلا خادم هرم قليل المئونة هين الأجر، فلم يكن يسري يرى حرجا في أن ينتظر أستاذه بالبيت حتى يعود إذا تصادف وذهب على غير موعد أو ذهب على موعد فلم يجد أستاذه بالبيت، فقد كانت الصلة بينهما تتيح للأستاذ ألا ينتظر تلميذه مكتفيا بترك ورقة يطلب إليه فيها أن يعود في موعد آخر أو يطلب أن ينتظره حتى يعود، كما كانت تتيح ليسري ألا يغضب.
وبلغ يسري البيت ودق الجرس، وفتح الباب عن دولت. أخذ يسري بعض الشيء وعاجلته هي قائلة: أهلا.
فيها ترحيب وفيها شوق. وقال يسري: أهلا بك. - أين أنت؟ من زمان لم نرك. - في الدنيا، خير ماذا جاء بك؟ - ماذا، غريبة؟ - نعم. - بيت أخي. - أعرف، ولكني أجيء إليه كل يوم تقريبا ولا أراك. - أنا أجيء إليه من حين لآخر، أرى ملابسه وأنظم بيته وأعود. - آه، أهو هنا؟ - لا، ادخل.
ودخل يسري وهو يقول: أين ذهب؟ - لا أعلم! جئت فلم أجده. - وأين عم إدريس؟ - لا أدري أيضا، فإنه ما كاد يراني حتى قال الحمد لله أنك جئت، انتظري أنت أخاك وسأنزل أنا أشرب فنجان شاي لأن عندي صداعا، وأريد أن أشم الهواء. ونزل السلم يجري كأنه ابن العشرين. - هيه، طيب. - اقعد، ما لك واقفا؟ ألا تنتظر أخي؟
ولم يتردد يسري إلا بكلمة عابرة أطلقها وهو يقتعد الأريكة في البهو: قد يغيب.
وقالت دولت في دلال: وماله؟ لنا زمان لم نرك.
هي دولت كما هي، لم تغير منها السنون، ولم تمر بها الحرب. عفيفة رغم أنفها، عاهرة لو استطاعت إلى ذلك سبيلا، الرجل يملأ تفكيرها وحسها، ولولا بعض حياء ما امتنعت على الخدم في بيت الباشا. ولكنها لم تستطع أن تنسى مكانها في البيت، وأخاها الذي أصبح أستاذا كبيرا، فعفت عن الخدم ولم تجد في حياتها غيرهم، فعاشت شريفة بواقع أمرها، غير شريفة بآمالها وتفكيرها وأحلامها وأمسياتها المنفردة الباردة.
لم تجد زوجا، فأخوها يأبى لها الجاهل ولا يجد لها المتعلم. وهي في وسط بعيد عن الرجال الذين قد يقبل أخوها أن يزوجها بأحدهم. وقد جعلتها إقامتها في بيت الباشا تقتنع برأي أخيها، فإنها لم تعد تطيق أن تنزل من هذا العز الذي رفلت في أطوائه إلى حياة جافة مع صانع أو مثيل له.
نظر يسري إلى دولت مليا، جمال أخاذ، إنه يعرف ذلك منذ زمن بعيد، ولكن كيف كان يمكن أن يصل إليها؟ لقد انقطع عن بيت عزت باشا في الوقت الذي كان يمكن أن يستغل فيه علمه بجمالها.
أحست دولت نظرته وعرفتها والتذتها، فأقامت مكانها ترنو إليه وتنتظر أن ينتهي من النظر بحديث. ولم يطل انتظارها. قال: ازددت جمالا يا دولت.
وضحكت دولت في تمايل وهي تقول: أما تزال تراني جميلة؟ - أجمل مما كنت أراك.
وازدادت ضحكا وقالت: أنت أيضا ازددت جمالا، فقد أصبحت تعتني بشعرك وتمشطه، وخلعت الطربوش الذي كان لا يفارقك على الرغم من خوصته الكسرة، وأصبحت تهتم بملابسك، وازدادت عيناك بريقا، ولو أن الخبث حل فيهما محل البراءة، وأصبحت ذا عينين جريئتين حتى لأستحي أن أقف أمامك، فإنه يخيل إلي أنك توشك أن تخلع عني ثيابي.
وقال يسري في لهو: يا ليت!
وضحكت دولت ضحكة عالية وهي تقول: لا، لقد أصبحت بلوى كبيرة.
وأمسك يسري بيدها وأجلسها إلى جانبه.
وتحققت أمنية دولت آخر الأمر، واستطاعت أن تجد رجلا، واستطاعت أيضا أن تترك عهد العذارى غير آسفة ولا قلقة، فقد كانت تحس أن لا أحد هناك سيأسف على ما فقدته، فهي لا أحد لها إلا أخوها، وأخوها لا يهمه من أمرها إلا أن تكفيه مئونتها ولا تطلب منه مالا، ثم هو مشغول بعد ذلك بالكلية وبالمجد الذي يمهده لنفسه في الحياة، فماذا تخشى؟
وهكذا وبهذا الاطمئنان المستقر في نفس دولت استطاع يسري أن يطمئن هو الآخر، فما دامت هي غير آسفة ولا قلقة ولا خائفة، فماذا يدعوه هو إلى الأسف أو القلق أو الخوف؟! لا شيء.
قالت له: أين نلتقي بعد ذلك؟
قال يسري: لا أدري! - لماذا لا تأتي إلى البيت؟ - وما الفائدة؟ - صحيح.
ثم قال وكأنما أشرقت في ذهنه فكرة رائعة: لماذا لا نلتقي هنا؟
ونظرت دولت إليه في دهشة: هنا؟! - نعم، لم لا؟ - وأخي؟ - سأعرف مواعيد خروجه وأخبرك بها بالتليفون.
وظلت دولت تحملق في وجهه بدهشة وهي تقول مرددة وراءه بلا تفكير: بالتليفون. - نعم، سأظل أطلب البيت ولا أجيب حتى أسمع صوتك، فإذا سمعته أخبرك بالميعاد ولا تجيبي أنت.
وبدا على دولت أنها اقتنعت، ولكنها ما لبثت أن قالت: وعم إدريس؟ - لا شأن لك به، سأسبقك وأجعله ينزل بأي حجة أو تسبقيني أنت، وهو ما أحب أن ينال إجازة بمجيئك. - نجرب. - ليس أصلح من هنا. - أترى ذلك؟ - لا شك.
وما هي إلا دقائق حتى كان يسري بالطريق يفكر فيما كان من أمره وأمر دولت، فرحا هادئ النفس، يسير على الأرض ولا يكاد يلمسها من مرح ونشوة، حتى إذا هفت إلى ذهنه فكرة أنها أخت أستاذه وصديقه الذي يحبه حبا يكاد يصل إلى حبه لأخيه خيري طمأن نفسه، إن حامد واسع الأفق ثائر على التقاليد ذكي، ما تلبث نفسه أن تطمئن ويعود إلى سيره يكاد لا يلمس الأرض من مرح ونشوة.
الفصل الرابع والعشرون
دامت الصلة بين يسري ودولت، ولكنه أنبأها في آخر لقاء بينهما أنه سينقطع عنها بعض الوقت لأن امتحان البكالوريوس أصبح على الأبواب.
وانقطع يسري للمذاكرة فعلا، وكانت مذاكرته في بيت صديق له هو عبد الوهاب النجدي، وكان يشاركهما في المذاكرة صبحي الملواني ويحيى المهدي. وكانوا جميعهم جادين في مذاكرتهم، وألحت عليهم الدروس وألحوا عليها وأصابهم هذا الدوار الذي يعرفه أبناء المدارس. حتى كانت ليلة انتبه يحيى إلى رفاقه الثلاثة، كان يشرح لهم، فوجدهم لا يعون من قوله شيئا، فأقفل الكتاب ونظر إليهم قائلا: أولاد.
فطالعته منهم همهمة تشبه الإجابة، فقال: أنتم لا تفهمون شيئا مما أقول.
فقال يسري : اشرح أنت ولا شأن لك. - لا شأن لي؟ كيف؟ أهو تعب قلب والسلام؟!
فقال صبحي: لا يا يسري! يحيى محق، مخنا مقفل.
وقال عبد الوهاب: ما رأيكم؟ نترك المذاكرة الليلة.
فقال يسري: وماذا نفعل؟
وقال يحيى: نذهب إلى السينما.
وسارع صبحي قائلا: أي سينما، هل جننت؟
وقال يحيى: مسرح.
فقال صبحي ساخرا في مرارة: يا بني اكبر، سينما، مسرح، هل نحن عيال؟
وقال يحيى: ألا يذهب إلى السينما والمسرح إلا العيال؟ طيب وماذا تريدون أن تفعلوا؟
قال عبد الوهاب: البار، بار سبيت فاير، عجيب يا بني، كأس الويسكي ...
فقاطعه يحيى: أنا لا أشرب.
قال عبد الوهاب: لا وعيت تشرب. انظر، ألا تنظر أيضا؟
فقال يحيى في بلاهة: وماذا أنظر؟
فأغرق الجميع في الضحك إلا يسري الذي ارتسمت على وجهه معالم دهشة كبيرة وقال: أتريد أن تفهمني أنك لم تذهب إلى بار في حياتك؟
وقال يحيى وعلائم البلاهة ما زالت بادية عليه: لا، لم أذهب.
وضحك يسري وأغرق في الضحك: لا، معذور تكون أول الدفعة. أبدا؟
فقال يحيى: أبدا، ألا بد أن نذهب إلى البار؟ أذهب أحدكم إلى الجامع في حياته؟
فقال يسري: ماذا؟ أنويت تخطب خطبة وعظ أيضا؟
فقال يحيى: لا، ولكن هناك أمكنة لم تذهبوا أنتم إليها أبدا وذهبت أنا إليها، وأمكنة لم أذهب أنا إليها ...
فقال يسري مقاطعا: نعم، وذهبنا نحن إليها، عظيم، اسمع، البار فيه نسوان تفتن العابد، وشراب يا حبيبي وعدك الله به في الجنة، ونحن نجده في الدنيا من غير جنة أو تعب جنة. تجيء معنا أم تنتظر أنت دورك مع الحور العين وشراب الكوثر؟
فقال يحيى في حزم: لا، أفضل أن أنتظر دوري.
فقال صبحي: يا بني، بار سبيت فاير أقرب.
وقال عبد الوهاب: وأسرع، وهو أيضا مؤكد.
فقال يحيى في لهجة تكاد تكون غاضبة: أتكفر بالله؟ الجنة أيضا مؤكدة.
فقال يسري: وهل قلنا إنها غير مؤكدة، كل ما في الأمر أننا شباب ونأخذ حظنا من الدنيا، ومسألة الجنة هذه نؤجلها إلى حين لا نستطيع المتعة، أؤكد لك يا يحيى أنني في سن الخمسين، لا، الستين، سأصلي وأمتنع عن شرب المسكر وأصوم وأعجبك، وسأقابلك بعد ذلك على أبواب الجنة عند عمك رضوان، يا عيني عليك يا يحيى ستحزن يوم ذلك حزنا عظيما، حرمت نفسك ومتعت نفسك، ثم التقينا على أبواب الجنة، يا عيني يا ابني.
فقال يحيى: كلام فارغ، لكل جزاؤه.
وقال عبد الوهاب بين ضحك رفاقه: اسمع يا عم، نحن ذاهبون إلى النار، أقصد إلى الجنة التي في الأرض، أتجيء معنا أم تذهب أنت إلى السينما؟ - لا، سأذهب أنا إلى السينما، واذهبوا حيث شئتم.
فقال يسري: اسمع، قبل أن تذهب، أعندك خادمة في البيت؟
وأدرك يحيى ما يرمي إليه السؤال، فقال: وما شأنك أنت؟
فقال يسري: لا شأن لي، وإنما أسأل فقط.
فقال يحيى: يظهر أنك سكرت قبل البار؟!
فقال يسري: لا والله، أنا مفيق جدا، المهم، متى تحضر غدا؟
فقال يحيى: في موعدي، وأرجو أن أجدكم قد أفقتم من سهرة الليلة.
فقال عبد الوهاب: لا يا أخي، لا تخش شيئا، نحن نشرب المحيط ولا يهمنا.
فقال يحيى: محيط يبلعكم جميعا، سلام عليكم.
فقال عبد الوهاب في جد ساخر: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وقد تقطعت تحيته بالضحكات العالية أو المكبوتة، وخرج يحيى وتركهم يتهيئون لسهرتهم، وقد طمأنهم عبد الوهاب أنه سيدفع عنهم النفقات جميعا.
أصر يسري على أن يمر ببيته ليلبس حلته الأخرى، ولم يستطع رفاقه أن يخالفوه. وحين سأله أخوه عما دعاه إلى ارتداء حلته النظيفة أنبأه في عجلة أنهم تعبوا من المذاكرة ويريدون أن يذهبوا إلى السينما. ولم يشأ خيري أن يسأله أي سينما. ولم يشأ أن يقول له إنه يريد أن يرافقهم مع أنه كان ينتوي أن يذهب إلى السينما هو الآخر، لم يشأ أن يقول شيئا، فقد كان يدرك أن وجوده معهم لا يروقهم، كما كان يدرك تمام الإدراك أن أخاه في أغلب الأمر يكذب وأن السينما لن تكون مقصده. أدرك هذا فسكت. ولم يدرك يسري أن أخاه عرف كذبته، وإنما هو يلقيها واثقا أن أخاه سيصدقها، فهو واثق من ذكاء نفسه، واثق أنه قادر على أن يجعل أخاه يصدق ما شاء له أن يصدق، وانفتل يسري إلى صديقيه اللذين كانا ينتظرانه أسفل البيت، وما هي إلا بعض دقيقة حتى كانوا يأخذون سمتهم سعيا على أقدامهم من المنيرة إلى بار سبيت فاير بميدان الأوبرا.
سار الرفاق، ووجدهم يسري يتابعون حديثا بدأوه حين كان هو يرتدي ملابسه، قال صبحي: ألم تقل لأبيك إنك لا تريدها؟
فقال يسري: ماذا؟ هل جد جديد في أمر زواجك يا عبد الوهاب؟ - لا، لا جديد، إلا أنني اقتربت منه.
فقال يسري: ولكني أراك في هذه الأيام غير غاضب كما كان شأنك يوم فرض عليك هذا الزواج.
فقال صبحي: والله إن أردت الحق يا أبا عبده، أنا أيضا أراك في هذه الأيام أقرب إلى الانبساط.
فقال عبد الوهاب: والله إنكما خبيثان.
فقال يسري في لهجة الفاهم: قل الحق يا أبا عبده.
فقال عبد الوهاب: والله أنا وجدت المسألة معقولة إلى حد كبير.
فقال صبحي: أهكذا؟!
فقال عبد الوهاب: البنت عندها مائتا فدان وحدها، سترثها من أبيها الذي أصبح رجلا في الدنيا وأخرى في جنة عمك يحيى!
فقال صبحي: معقول يا ابني، الغني يحب الغني.
فقال عبد الوهاب: الزواج شيء لا بد منه على كل حال، ومسألة الجمال هذه ليست مهمة، الجمال موجود في سبيت فاير وغيره من البارات، أما المائتا فدان فمسألة صعب وجودها.
فقال صبحي: رحم الله عمك أوسكار وايلد، كان يقول: إذا أطفئت الأنوار تساوت النساء.
فقال عبد الوهاب مسترسلا: فعلا، هي زوجة على أية حال للبيت والأولاد، وأما عن جمالها فأستطيع بمالها أن أجعل ألف جميلة تعوضني عن قبحها خير عوض.
فقال صبحي: والله وأصبحت فيلسوفا يا ابن الكلب.
فقال يسري في نوبة تفكير: والله كلامه معقول يا صبحي.
فقال صبحي: وهل قلت غير ذلك؟
وقال عبد الوهاب: ثم إن أبي سيرضى عن هذا الزواج لأنه وقع باختياره و...
وقاطعه يسري: وهل هذا المنطق الذي تسوقه منطق أبيك؟
فقال عبد الوهاب: لا أبدا، إنما البنت بنت أخيه، وهو معجب بأدبها وخلقها، ومسألة الجمال لا تهمه.
فقال يسري: وما الجمال؟ وما العيب أن تكون زوجتك غنية وغير جميلة؟ ما أكثر الجميلات اللواتي سيكن زوجاتك بأموالها. الفلوس يا حبيبي، الفلوس هي كل شيء، إذا كان معك فلوس فمعك الجمال الذي تريد والمجد والعز والأبهة، والله فلسفتك عميقة يا عبد الوهاب، تزوج يا بني على بركة الله.
وقال صبحي: العقبى لك يا يسري.
فقال يسري: ومن أين آتي بفرصة كفرصة سي عبده؟ إنه غني ويستطيع أن يتزوج الغنية.
وقال صبحي: فرصتك أنت أكبر، أقاربك جميعهم أغنياء، ما عليك إلا أن تضع يدك في وسطهم تخرج بواحدة غنية، وما دمت ترى أن الجمال لا أهمية له فالمسألة أصبحت غاية في السهولة.
وصمت يسري وفكر وأطال التفكير، وانشغل الصاحبان، وران عليهم صمت زاده عمقا الظلام المخيم على القاهرة، فالنور يخرج إلى الشارع متخفيا في حذر، تذوده ألوان زرقاء قاتمة طلي بها زجاج النوافذ والسيارات تمضي واهنة تتحسس طريقها بالعلم لا بالرؤية، فمصابيحها هي أيضا زرقاء داكنة تكاد لا تفيد شيئا إلا أن تنبه المارة أنها تمر. وكان الرفاق قد بلغوا ميدان الأوبرا وليس من دليل أنهم بلغوا إلا أنهم يعرفون أنه هو، فهو هادئ ساكن، شأنه شأن ضاحية في طرف من المدينة قصي، فلا لم يكن ميدان الأوبرا - قلب القاهرة النابض - نابضا في هذه الأيام، إنما هو متسع من الأرض يرين عليه ما يرين على العالم والنفوس من إظلام، وصمت مقبض، وخوف راعد، وجهل للمستقبل، وضيق بالحاضر، وشوق إلى الماضي.
كان بار سبيت فاير شأنه شأن الميدان أجمعه، فهو من الخارج صامت كالح، ينبعث منه بصيص من الضوء يتلصص طريقه إلى الخارج، ولكن ما إن دلف إليه الرفاق الثلاثة حتى وجدوا الحياة تمور في داخله عربيدة تنتقم من الصمت في الخارج، ووجدوا الضياء باهرا ينتقم من الظلام في العالم، والعقول غائبة والأجسام حاضرة تثبت وجودها في إصرار ، في كل نأمة منها، في كل إشارة يشير بها جندي من الجنود المحاربين أو تشير بها فتاة من فتيات البار. أجسام بلا عقول، وضحك بلا تفكير، وحديث بلا منطق إلا الرغبة، حديث أجسام تهتبل من إجازة الساعات فرصة لا يدري أصحابها إن كانت تعود أو لا تعود، أو متى تعود إن هي عادت؟ هم الجنود العائدون من القتل أذاقوه عدوهم ونجوا منه بأعاجيب، ولم تكن عودتهم لأهلهم وذويهم، بل إنهم يجهلون من أمر هؤلاء كل أمرهم، فمن زوج ترك زوجته الشابة، ومن ابن ترك أمه العجوز، لا يدري الزوج كيف تحيا زوجته، ولا يدري الابن أتحيا أمه أم هي فارقت الحياة. عادوا يريدون أن ينسوا الموت جميعه، سواء منه ما جرعوه لعدوهم أو ما تعرضوا هم له وأفلتوا لا يدرون كيف، ويرعبهم أنهم يعلمون أنهم ملاقوه ثانية وثالثة وعشرا. ثم يعجز تفكيرهم، كيف يفلتون من الموت القادم؟ كيف؟ إنهم يريدون أن يحجبوا تفكيرهم عن هذا الطريق، ويريدون أن ينسوا أوطانهم وما فيها، فينكبوا على الخمر، يريدون أن يسكروا ويريدون النساء اللواتي تعرض عليهم، ولا يهمهم في غمرة خوفهم من الماضي والمستقبل أنهم في أرض غير أرضهم، وبين قوم غير قومهم، فقد أصبحوا يرون كل مكان ينزلون فيه مكانهم هم أصحابه بقوتهم وبسلاحهم، وبالحق الذي يفرضونه لأنفسهم على غير المحاربين.
دخل الرفاق الثلاثة البار، ووقفوا بجانب الباب بعض الحين ينفضون المكان بأعينهم، متنقلين في دهشة وبعض خوف بين النساء واحدة بعد الأخرى، فإذا هن جميعا مشغولات عنهم. فراحوا ينقلون أبصارهم مرة أخرى بين المناضد عساهم يجدون واحدة خالية، حتى إذا يئسوا من هذه أيضا تقدمهم يسري في تؤدة وأدب جم إلى البار، واعتلى كرسيا ووقف صاحباه إلى جانبه، وقال عبد الوهاب: ثلاثة ويسكي.
وجاءهم الشراب، فراحوا يشربون وهم سكوت مفكرين خائفين، الصخب من حولهم منصب في قلوبهم رعبا.
وكان إلى جانب يسري من الناحية الأخرى جندي طويل القامة عريض المنكبين، له ذراعان مفتولتان، كل عرق فيهما يمور بالقوة العارمة، وكان أحمر الوجه احمرارا صارخا، لا عن خجل وإنما عن طبيعة زادتها الخمر وضوحا، فهو كالذبيحة بين يدي الجزار يكاد رائيه يظن أن الدماء لن تلبث أن تنبجس من خديه في عنف وانهمار. وكان الجندي يلف ذراعا له حول خصر فتاة لا تكاد تتماسك بين ذراعيه، حتى لخيل ليسري أنها تسيل وتسيل وتوشك أن تصبح مادة بلا قوام، تحتاج إلى وعاء يقيم من أودها أو يبقي على مادتها، وكانت ذراع الجندي الأخرى على البار تمسك بكأس ترفعها بين الحين والحين إلى فمه أو إلى فم فتاته، ولعله كان يخيل إليه من شدة السكر أنه يسقيها وهو يسقي نفسه، أو يخيل إليه أنه يسقي نفسه بينما هو يسقيها.
وظل الرفاق الثلاثة يشربون، وظل يسري ينظر إلى هذه الفتنة التي ترتكب بجانبه شاردا يفكر فيها حينا ويفكر في حديث صبحي حينا آخر، أو يفكر في دولت حينا ثالثا، أو تختلط الأفكار جميعا في رأسه امتزجت بحميا الخمر فهو في بحران.
مضى حين من الوقت لم يشعر البار بمضيه، وغمز صبحي ذراع يسري وأشار بذقنه إلى فتاة مالت على صدر جندي راح يعبث في جسمها ويقبلها في نهم. وأطال يسري النظر إلى الفتاة والجندي. ثم التفت فجأة إلى جواره يريد أن يرى أثر هذه المغازلة الصريحة على الأسترالي وصديقته، ولكنه وجد الأسترالي قد انصرف والفتاة تقف وحدها إلى البار. فظل ناظرا إليها، وتنبهت هي إلى نظرته فابتسمت له وابتسم، فدعاها إلى كأس فأجابت وإلى أخرى فقبلت. وأوشك أن يدعوها إلى الخروج لولا أن عاد الأسترالي، وكانت الفتاة قد تعتعتها الخمر كما تعتعت يسري، وكان الأسترالي كامل السكر غير محتاج إلى مزيد، وما هي إلا ثانية واحدة حتى كان يسري مقذوفا يحطم الزجاج المطلي باللون الأزرق خارجا هو والنور إلى الشارع، وقبل أن تمر الدقيقة التالية كان الصديقان يخترقان لوحين آخرين من الزجاج الأزرق غير مقذوفين إلا بالرعب المرفرف في قلبيهما، وما إن بلغت أقدامهما أرض الميدان حتى أطلقها الزمام للجري لا يلويان على صاحبهما.
أمسك يسري بأول قدم مرت به في مرقده خارج البار، وامتدت إليه يدان تحملانه كطفل، وسارع صاحب اليدين يترك المكان جميعه يتوخى الظلام الشديد، حتى إذا بلغ مكانا مطمئنا تركته اليدان، وطالعه صوت لم يختلط عليه: يظهر أن الفيلم كان دراما عنيفة يا أستاذ يسري.
الفصل الخامس والعشرون
أفاق يسري إفاقة تامة، وواجه أخاه الذي طالعه وجهه من ثنايا الظلام الأغبر مبتسما حانيا صافحا مدركا، وظل يسري صامتا مستخزيا.
وقال خيري: هل أصابك شيء؟ - لا، بسيطة. - أتستطيع المشي؟ - نعم، أظن ذلك. - اعتمد على ذراعي وامش. - أين تريد الذهاب؟ - إلى البيت. - خذني إلى مكان آخر. - تعال. - إلى أين؟ - تعال.
ومشى الأخوان يعتمد يسري على ذراع أخيه. تعثرت خطواته في أول الأمر بعض الحين، ثم ما لبث أن استقام به المسير. وبلغا شارع قصر العيني، ولم يمل أخوه إلى المنيرة، بل حاد يمنة إلى النيل، وحين بلغا الحجارة البيضاء المشرفة على النهر العريق جلس خيري وساعد أخاه فأجلسه إلى جانبه، ثم قال: هل فكرت يوما أن تجلس جلسة كهذه؟
وقال يسري في سخرية تتردد بين الظهور والاستخفاء: جلسة شاعرية تعني؟
فقال خيري مغضيا عن رنة السخرية في صوت أخيه: مثلا. - لا يا سيدي، أنا لست من غواة الشعر. - هل لا بد أن تكون من غواة الشعر حتى تتمتع بالطبيعة، يخيل لي يا يسري أنك لا تتمتع بالطبيعة أبدا. - هذه متعة لا أعرفها، إنما أعرف متعات أخرى. - حتى هذه المتعات تحتاج إلى شيء من الجمال في نفسك لتتغلغل إلى كيانك، تستطيع أن تسكب على حياتك لونا من الجمال، من الإحساس، من المشاعر. - إحساس! مشاعر! الشعر أتلف الدنيا معك.
وقال خيري في بساطة: قل لي يا يسري، ألم تحس في لحظة، في لحظة عابرة أنك تحب هذه الدنيا، الدنيا كلها بكل ما فيها ومن فيها؟ تحب الظلام والنور، تحب العدو والصديق، تحب الدنيا لأنك فيها، وتحب الله لأنه صنع لك هذه الدنيا، والدنيا كلها بجمالها، بل بقبحها وقسوتها. ألم تحس في لحظة - ولو لحظة - أن قلبك استطاع أن يحتوي العالم جميعه واستطاع أن يحنو عليه ويعطفه بما فيه من جمال، بل ما فيه أيضا من بؤس؟
قال يسري في نفس البساطة: لا. - أبدا؟ - أبدا، ولا أظن أنني سأفعل، أي دنيا هذه التي أحبها؟ هذه الدنيا التي جعلتنا فقراء وجعلتك تترك تعليمك لتعلمنا أنا وأختي، وجعلت خيرنا أغنياء لا يدرون ما يفعلون بمالهم؟ - أليس جميلا أن تجد في الحياة أخا مثلي ترك تعليمه لتعليمك أنت وأختك؟ أليست جميلة هذه الصلات القوية الرقيقة التي تصل الأخ بأخيه والصديق بصديقه؟ - ليست جميلة أبدا، ماذا كسبت؟ إنك تفلسف حياتك فتقبلها مع أنها حرمتك من العلم والطموح والغنى، أما أنا فلا أستطيع. - لقد حرمتني الحياة مما قلت، ولكنها وهبت لي الأصدقاء والحب والدفء والطمأنينة، وإني أرى في هذه الأشياء غنى عن الطموح والغنى. - ألم أقل إنك تفلسف حياتك وتقبلها؟ أنا لا أفلسفها، أنا أنظر إلى الواقع الملموس فيها، فأرانا فقراء وغيرنا أغنياء، لماذا؟ ماذا يفيد الدفء في حل هذه المعضلة؟ - طيب اسمع، أترضى أن تكون فردا من عائلة عزت باشا بدل أن تكون فردا من أسرتنا هذه؟ - أرضى! أرضى يا أخي، بل أتوق وأتمنى. - ترضى أن تكون أختك ... صماء؟
وأخذ يسري هنيهة وقال: صماء؟! - نعم. - لماذا ... ما معنى سؤالك؟ - معناه أن لكل أسرة متاعبها، أسرة عمك عزت باشا نعرف المصيبة التي تكمن ببيتها، أما الآخرون فلا نعرف مصائبهم. دع الخلق للخالق يا يسري، واحمد الله على الصحة.
فقال يسري ساخرا: الصحة، نحمده، أهذه كل ما نملك؟ - أهي قليلة؟ على أنك تملك أيضا الستر وإخوة يحبونك وأما ترعاك. - يا سلام على الأملاك، يا سيدي على الشفالك. - ليست الدنيا كلها أملاكا وشفالك يا يسري. - آه، صحيح، الدنيا ذكريات الماضي التي لا تزال تجترها حتى تتماوج الدموع في عينيك، والدنيا شعر وخيال والنيل الهادئ والأحلام، لا يا آبيه خيري، الدنيا تغيرت، تغيرت كثيرا عن هذا، أصبحت واقعا مجردا، أصبحت قيمتك تحدد بما تملك. إن كان ما تملكه يحويه جيبك فأنت لا تساوي أكثر من حجم الجيب الذي يحوي مالك، وإن كانت أملاكك في الأرض فقيمتك على قدر الأرض أو العمارة، وإن كانت في البنك فعلى ...
وقاطعه خيري: قدر رصيدي في البنك، أهذه هي الدنيا كما تراها؟ أترى أنها تغيرت فأصبحت كذلك؟ - لا شك. - بل إن هناك شكا، بل إن هناك يقينا أنها ليست كذلك، هذه غمرة حرب يا يسري ثم تنجلي وتعود الدنيا مرة أخرى إلى معان أخرى وقيم غير هذه القيم. - معان وقيم؟ لم تعد الدنيا تحتمل هذه الخرافات يا آبيه خيري. - بل هي الحقائق يا يسري وأنت لا تدري. الحياة كلها في الصلات الدقيقة غير المرئية التي تربط الإنسان إلى الإنسان، في الحب، في العطف، في الإحساس بالجمال، في الإشفاق على البائس، في إيثار الصديق على النفس، في هذه التيارات الهينة العنيفة التي تسري وتعصف في طوايا الإنسانية، دائما وفي كل جيل وفي كل زمن. العملات تتغير، والمذاهب الاقتصادية تتبدل، والعواطف ثابتة منذ عرفت حتى الآن، لم تتغير ولم تتبدل، وهي هي في جميع أنحاء العالم، وهي هي منذ الأزل وإلى الأبد، الناس تضحك إذا فرحت وتبكي إذا حزنت، وتحتقر الحقير وتعجب بالنبيل، لا يختلف في هذا قوم عن قوم ولا دين عن دين. هذا الإجماع العالمي هو الذي يرسي للعواطف والمعاني الكريمة خلودها، فهي خالدة باقية. - أين هي اليوم؟ - في النفوس، ظاهرة في بعضها خافية في البعض الآخر، ولكنها موجودة عميقة راسخة في الأغوار البعيدة من نفس الإنسانية، وستظل هناك وإن طغت عليها موجة عاتية من سعار الحرب ومادية الحياة، إلا أنها لا بد ستظهر. - ما أسعدك! تعيش في أحلامك سعيدا بها. - وما يمنعك يا أخي أن تخلق لنفسك أحلامها وتعيش فيها؟ - الحياة، واقع الحياة وأنا أبصره أكاد أمسك به، الحياة، الحقيقة؟! - ما أملك في الحياة؟! - الغنى. - عن أي طريق؟ - عن أي طريق! ألا ترجو الغنى أنت أيضا؟ - بل أرجوه، ولكن ليس عن أي طريق. - فعن أي طريق تريده؟ - أريد أن أجهد وأحصل على المال، لا أحب هذا المال الذي يجيء سهلا، لا أحب المال الذي يعجبك في يد الجزار الذي اغتصبه غصبا من الإنسانية منتهزا فرصة الحرب والقتل والدمار ليغنى ويثرى، ولا هذا الذي اغتصبه اللبان، لا، لا أحب هذا ولا أريده. - طيب، وما رأيك في مال يأتيك عن زوجة غنية؟
ووجم خيري وطالت وجمته بعض الحين، ثم قال: ألا تعرف رأيي؟ ألم تعرفه؟ - صحيح، هذا نوع من المال لم يعجبك.
وألحت الذكريات على خيري فظل صامتا، حتى قال أخوه أخيرا: هيا بنا.
وأفاق خيري من وجومه ليقول في ذهول: نعم، هيا بنا.
الفصل السادس والعشرون
نجح يسري في عامه هذا وحصل على شهادة البكالوريوس، وقد استقبل البيت الصغير النبأ في فرحة غامرة، فهي أول شهادة عالية يحصل عليها بيت همام. وقد أحس خيري أنه أدى واجبه، ورأى في شهادة أخيه ثمار سعيه، وكانت نادية فرحة بأخيها، فقد أصبحت ترى في كل نجاح تصيبه العائلة خطوة تدنو بها إلى الآمال المنضورة التي بدأ الشباب يهيئها لها.
ومرت أيام قليلة على نجاح يسري، ثم كان يوم اجتمعت فيه الأسرة حول مائدة الغداء يديرون الحديث بينهم رهوا فيه تكاسل السعادة وهدوء الأمن، ودق الجرس فشخصت إلى الباب الحاجة زينب، وانفرج الباب عن عزت باشا يحمل في يديه هو لا يدي السائق لفافة ضخمة، ودخل عزت باشا ومن ورائه إجلال هانم، ثم محسن يتبعهم السائق يحمل لفافة واحدة، وقد خلت يده الأخرى.
وقامت سميرة هانم من جلستها في فرح وشكر دون أن تطغى الفرحة أو يطغى الشكر على كبرياء طبعت به حركاتها ومخارج ألفاظها، وقالت: أنت يا باشا تحمل اللفافة، ألا تتركها للأسطى عبده يحملها عنك؟
وقال عزت باشا في فرح صادق عميق: إن لم أحمل تورتة نجاح يسري فماذا أحمل؟ جئنا نشارككم في الغداء فهل لنا متسع؟
وكان يسري وخيري ونادية قد خفوا إلى عمهم وأسرته، وقد أدهشتهم المفاجأة، والتقت في قلوبهم بخفقة شكر أحسها يسري نفسه الذي طالما كفر بالعواطف. كانت المائدة هي مائدة همام وهي مائدة تعودت أن تمتد ولا تضيق بوافد، فامتدت ووسعت القادمين ووسعت ما حملوه معهم من هدايا، وانتهى الطعام وقاموا إلى غرفة الجلوس، وقال عزت باشا في صفاء: مبروك ثانية يا يسري. - بارك الله فيك يا عمي. - أتظن أنني لم أعرف إلا اليوم؟ - أظن ذلك. - إني أعرف بنجاحك في نفس اليوم الذي عرفت فيه أنت، ولكنني تأخرت عامدا متعمدا.
وضحكت سميرة هانم وهي تقول: لماذا يا باشا كفى الله الشر؟!
وقال الباشا: لم أرد أن أقول مبروك واحدة، لا بد من مبروكين.
فقال خيري: فأما واحدة فنعرف أمرها، وأما الثانية ...
فقال عزت باشا: فأما الثانية فلأنني حصلت ليسري اليوم على وظيفة في وزارة المالية، ما رأيك يا أستاذ يسري؟
وأحس يسري دفء العطف ينهل عليه من هذا الرجل الكبير، وقال دون أن يفكر فيما يقول: أشكرك يا عمي، أشكرك غاية الشكر.
وقال عزت باشا: هذه كلمة لا أحب أن أسمعها منكم يا يسري يا ابني، أبوك كان أخي، وقد حاولت أن أؤدي واجبي نحوه فمنعني خيري، منعني مرتين. وأعجبت به في المرتين، وغضبت منه في المرتين، فأنا مهما أفعل الآن لا أحس أنني أديت واجبي نحوكم، أنتم أولادي.
وشاعت في الحجرة موجة صامتة، فيها شكر وفيها حنان وفيها مودة جمعت قلوبا على معان كريمة عميقة. وأحس خيري أنه لا يستطيع أن يقول شكرا، وأحس يسري أن آراءه ليست جميعها سديدة، وأن من الناس من يستطيع أن يكون ذا قلب كبير، وأحس أيضا أن شكره إن حاول أن يقدمه فسينزل في غير مكانه، وقد يقطع هذه الموجة الحنون التي أظلت القوم فتركوا نفوسهم تلتذها وتنغمر في أسلوبها.
الفصل السابع والعشرون
أصبح الصباح على يسري، وليس في ذهنه إلا خاطر واحد يشغل تفكيره، لا بد أن يذهب إلى بيت عزت باشا ليشكره، إذن فسأذهب ولا سبيل لي أن أنكص عن الذهاب، إذن فسأذهب دون أن أصل إلى غناه أو إلى غنى قريب من غناه، بل سأذهب لأقول شكرا، لقد غمرني الرجل بفضله وعطفه، أذهب إذن لأدفع ضريبة الفقر والعجز، فلو كنت غنيا ما احتجت إلى وظيفة، ولو كنت ذا سلطان ما احتجت إلى سعيه. ولكنني بلا مال ولا سلطان فلا بد أن أشكر وإلا أصبحت جاحد فضل، وإن كانت هذه الصفة لا تغضبني إن هي اتصلت بي. ولكنني إن امتنعت عن الذهاب ضاربا برأي أمي وأخي عرض الأفق، فإنني قد أغضب هذا الرجل ذا المال وذا السلطان، فيقف عني فضل رضاه، ولا أستطيع أن ألجأ إليه بعد ذلك إن احتاجت حياتي الجديدة في ظل الوظيفة أن ألجأ إليه. لا بد من الذهاب إذن، ذهابا خاضعا ذليلا أترضى به وأشكر فضلا سابقا وأرجو به أفضالا جديدة، فهاتي أيتها الدنيا الحقيرة هاتي، هاتي مصائبك، ما كان أغناني عن الذهاب لو كنت غنيا، أكنت أحتاج إلى وساطة أو كنت أحتاج إلى تقديم الشكر أو كنت أحتاج إلى عون أحد؟ المال، المال وحده يستطيع أن يكون عوني ووساطتي وكل شيء لي. ولكن أين هو لعن الله قلته، فلأذهب إذن. أي انتصار لأخي خيري. إن ذهابي سيجعله يوقن أن آراءه الحالمة صائبة وقد يجعله يظن أنني أصبحت حالما عاطفيا مثله، سيحس النصر ولكنه سيسكت مصطنعا نبل الكرام عند هزيمة أعدائهم، أعرف أنه لن يذكرني بهذا العهد الذي قطعته على نفسي ألا أذهب أو أصبح في غنى عزت. أعرف أنه لن يقول لي ساخرا ما أقوله أنا لنفسي الآن: «أأصبحت غنيا؟!» لن يقول بلسانه ولكن سيفرح في نفسه أنه انتصر علي، ما شأني بفرحته؟ إنها الحياة أمامي ولا بد أن أقتحمها بكل سلاح، وليفكر أخي بشأني ما شاء له التفكير. وليفرح بنصره ما حلا له الفرح، فأنا أنا لن يغيرني فضل عزت أو ظن أخي أنه انتصر.
كم يتوق أخي أن يسألني الآن في ابتسامته الحالمة: «أرأيت كيف تصل العواطف ما بين الناس؟ ورأيت كيف سعى لك عزت باشا دون أن ينتظر منك شكرا أو يطمع في عوض عن جميله.»
الجواب عندي ولكني لو قلته له لصرخ في وجهي وثار بي ولعنتني أمي ، الجواب عندي، أي عوض يطمح فيه عزت باشا أكثر من أن نظل نهارنا وليلنا نسبح بفضله وكرم أخلاقه ووفائه لصديقه المرحوم ولأسرته من بعده؟ أي عوض أعظم من أن نظل عمرنا أمامه صنيعة يديه وبعضا من فضله وقطعة من كرمه؟ أي عوض يرجوه أكثر من أن يتشدق الناس من حوله وحولنا بما صنعه لنا وما قدمه إلينا؟ ذلتنا أمام كبره وضعفنا أمام فضله وانحناؤنا أمام عطفه عوض له أي عوض، المال عنده فما البأس به أن يجمع إلى المال ثناء الناس لعطفه علينا. لقد نال العوض وافيا بل زائدا، ولكن لا بد مع ذلك من الشكر غاية الشكر ومن الذلة غاية الذلة، ولا بد على كل حال من الذهاب.
كانت هذه الأفكار تدور في رأس يسري وهو يرتدي ملابسه، وما زالت به حتى ارتداها، وما إن هم بمغادرة الحجرة حتى دق جرس الباب الخارجي ودخل إليه محسن ابن عمه عزت باشا، مشرقا كعهده مطمئنا فرحا. - صباح الخير يا أستاذ. - أهلا محسن، صباح الخير.
وأدار يسري عينيه في الحجرة خجلا، ثم ما لبث أن قال: تعال إلى الصالون. - أي صالون؟ وهل أنا غريب؟ أراك متأنقا، إلى أين تذهب؟ - والله كنت أنوي زيارتكم لأشكر عمي الباشا. - يا أخي عيب. أتظن أن عمك الباشا ينتظر شكرك؟ على كل حال لقد أرسلني لأدعوك اليوم للغداء معنا، وعندئذ أشكره ما طاب لك الشكر. - الغداء! - نعم، هل أنت على موعد؟ - أبدا، فقط. - فقط ماذا؟ هيا بنا الآن فقد أمرني أبي أن أترك عملي اليوم لأذهب معك إلى وزارة المالية وأقدمك إلى الوزير. - الباشا هو الذي أمرك بهذا؟ - نعم، وأي غرابة في ذلك؟ - لا، لا غرابة، ولكن لم أظن أنه سيذكر هذا جميعه. - هل أنت عبيط؟ ألا تعرف حبه لكم؟ هيا، هيا بنا.
عاد يسري ومحسن إلى بيت عزت باشا قبيل الغداء، وقبل أن يصعدا إلى الطابق الأعلى سمع محسن نفير سيارة أبيه، فانتظره هو ويسري في البهو، وأقبل عليهما عزت باشا وأشرق وجهه حين رأى يسري وسأله عما تم في وزارة المالية، فأنبأه أنه سيتسلم عمله بدءا من الغد. وحاول أن يشكر عمه، ولكن الشكر توقف على شفتيه مترددا بين الانطلاق والجمود حتى غلبه الحياء آخر الأمر، فقالها شكرا مستخذية غير مقتنعة ولا منطلقة، واكتفى الباشا بجملة عابرة: «يا أخي عيب.» ثم أخذ بذراع يسري وتقدم به إلى السلم يصعدانه معا وقد تبعهما محسن. وما إن بلغا أعلى السلم حتى نادى عزت باشا: يا إجلال، إجلال.
وجاء صوت إجلال: نعم يا عزت. - تعالي، تعالي رحبي بالبك.
وظهرت إجلال من باب إحدى الغرف وهي تقول: بالبك؟!
فقال الباشا: نعم البك الذي سيتسلم عمله غدا في وزارة المالية.
وقالت إجلال هانم وقد رأت يسري: أهلا، أنت محق يا عزت، إنه بك فعلا.
وسيطر الخجل على يسري فلم يجد ما يقوله إلا حمرة علت وجهه وهمهمة تشبه الحديث وما هي بحديث، أو تشبه الشكر وما هي بشكر، إنما هي لعثمة تتحرك بها شفتاه ولا يبين عنها صوته.
كان يسري قد غاب عن البيت سنوات، ولولا أن عزت باشا كان يراه كلما زارهم هو في منزلهم لتبين هذا الغياب. ولكن إجلال هانم كانت تبينت هذه القطيعة منه، ثم لم تجعل لها في نفسها شأنا مقدرة أنه شاب ذو أصدقاء قد يلهونه عن الزيارة كما تلهيه المذاكرة، دون أن يجنح بها الذهن إلى هذه الأفكار الثائرة التي تمور في ذهن يسري.
ودخلوا جميعهم إلى حجرة الجلوس اليومي، وما كاد الحديث يدور حتى أقبلت إلى الحجرة فايزة. إنها سنوات قلائل التي غابها يسري، أتستطيع هذه السنوات القلائل أن تفعل كل هذا؟ أصبحت ريانة العود، استوى نبتها واخضل، واكتملت أنوثتها وكادت تطغى، لولا هذه النظرة الحزينة ماثلة في عينيها الزرقاوين وفي وجهها الهادئ المستسلم، لا تمنع عنه غشاوة الحزن تلك البسمة التي ارتسمت على وجهها حين رأت يسري، ابتسامة طفلة كانت تلقاه بها حين كان يجيء ليلاعبها، هناك في هذه الأيام التي لم يكن يفكر فيها في ثرائهم وفقره، هي نفسها تلك الابتسامة البريئة لا تعرف الشباب ولا الأنوثة، لا ولا هي تستشعر السنوات مررن فجعلن من الطفلة فتاة ومن الطفل ثائرا. وخالط عينيها بعض العجب، لقد أصبح الطفل العربيد الذي كان يضع ملابسه على نفسه لا يعنى بموضعها أو مظهرها، والذي كان يصر على الطربوش أن يكون فوق رأسه ثم لا يحفل به مائلا أو معتدلا، منهارا أو مستويا، والذي كانت عيناه الغريرتان لا تومضان إلا إذا همست في ذهنه لعبة خطرة من لعب الطفولة تستهدف تسلقا أو قفزا، أو تستهدف معاكسة لخادم أو تقليدا لمشية كبير من كبار البيت. أصبح هذا الطفل أنيق الملبس يختار رباط العنق ملائما للحلة، وأصبح بلا طربوش إنما هو شعر كثيف يغطي رأسه وقد جرى فيه المشط فهو مستو مستقر المكان، وأصبح وهو ذو عينين عميقتين فيهما ذكاء وفيهما وقار وإن بدا مصطنعا، وأصبح وهو ذو وجه بارحته آثار الطفولة فهو صلب محدد المعالم. ولكن الأيام لم تستطع أن تغير لون عينيه السوداوين، ولا أن تغير تلك السمرة التي تشوب وجهه، ولا أن تغير شفتيه الغليظتين بعض الشيء، وإن كانت الأيام قد عدت على تلك البساطة التي كانت تتسم بها شفتاه فإذا هما اليوم شفتان فيهما عزم يؤيده ذلك البريق المصر الذي يشع من عينيه، عينين تعرفان طريقهما وترودانه في تشبث، وإن يكن تشبثا حائرا قلقا.
قالت فايزة بعد هنيهة: أهلا يسري.
ووقف يسري وفي وجهه بعض دهشة: أهلا فايزة.
ولم تسمع فايزة ما يقول وإن كانت فهمته، وقبل أن يعود الحديث إلى أفواههم أقبلت دولت تتبع فايزة، فقد تعودت أن تلازمها وأن تكتب لها ما يراد لها أن تسمعه. ووقف يسري يسلم على دولت لم تختلج يده ولا يدها ولا طرفت عينه ولا عينها، وإنما هي تحية طبيعية لا تنم عما كان بينهما في اللقاء القريب. ودار الحديث بعد ذلك شتى مناحيه، ولاحظ يسري ما تقوم به دولت من عون لفايزة ولكنه لم يظهر أنه لاحظ، وما لبثت خاطرة أن هفت إلى ذهن يسري، ماذا لو تزوج فايزة؟! إنها صماء؟ وهذا هو طريقه الوحيد إلى الزواج بها، أفكان يقبله عزت باشا لو لم تكن صماء، وما البأس بالصمم؟ أيريدها مراقبة في الإذاعة أم يريدها زوجة، ويريدها غنى وعزا؟! ماذا عليه لو تزوجها وعاش في هذا القصر وخلت حياته من الفقر وفرغ إلى الغنى والبلهنية؟ الوحيد الذي سيدرك الدوافع التي حدت به إلى هذا الزواج هو خيري، بل وقد تدركها أمه أيضا، ولكن ماذا عليه إن أدركا؟ ومنذ متى أقام لرأيهما أو إدراكهما وزنا؟ إنها حياته وإنها فرصته وما كان ليتركها. إن الأغنياء الذين ولدوا فقراء لم يصلوا إلى الغنى إلا بخطوة من هذه الخطوات الحاسمة في حياتهم، يقدمون على تجارة يظنها الناس بائرة فإذا هي رابحة، فما لي لا أتخذ هذه الخطوة في حياتي؟ إن أحدا لم يطلب فايزة لأنها صماء، جهل من الخطاب وحمق، أتترك هذه الثروة جميعا لأن العروس صماء، وكانت نظرته مثبتة على فايزة ودولت، فما لبثت دولت أن أوحت إليه بحجة أخرى، إنه سيتزوج كلتيهما، أما فايزة فعلى سنة الله ورسوله؛ لأن الثروة لا يمكن أن تأتيه إلا على سنة الله ورسوله، وأما دولت فعلى مألوف ما جرى بينهما ولن يحتاجا بعد ذلك إلى بيت أخيها، فسيكون بيت فايزة مكانا لهما يلتقيان فيه ما شاء لهما اللقاء، ويصخبان به أيضا فإنها لن تسمع.
إن للصمم فوائد كبرى فهو سيتيح لي هذه الزيجة التي ما كنت لأطمح إليها أو أصبو، وهو سيتيح لي أيضا أن أحادث دولت أمامها ما شئت من حديث، ومن يدري فقد يتيح لي بعد ذلك مكاسب أعظم وأضخم، أما لو تحقق هذا الأمل؟ إذن فوداعا للفقر، ووداعا للحلة الواحدة والشقة الضيقة.
وقبل أن يدعوهم الخادم للغداء أقبلت وفية في سمتها الرفيع الجميل، وقد أمسكت في يدها بابنها عزت، ورحبت بيسري ترحيبا بالغا وعاتبته على غيبته عتبا هينا لا مرارة فيه، ولم تجلس وفية، فقد دعي الجميع لتناول الغداء.
وعلى المائدة ظل يسري يحملق في فايزة ودولت، ولم يلحظ الأب ولم تلحظ الأم ولم يلحظ محسن، فقد شغلهم الحديث والطعام. وكانوا قد يئسوا أن ينظر أحد - أي أحد - إلى فايزة على أنها فتاة تصلح للزواج، اثنتان لحظتا هذا الإنعام الصامت الذي ينظر به يسري إلى فايزة، دولت ووفية، فأما دولت فقد ظنت أنه ينظر إليها ويصطنع النظر إلى فايزة حتى لا يفتضح أمره وفرحت بهذا الظن وارتاحت إليه مطمئنة واثقة.
وأما وفية فقد دهشت أول الأمر ثم تملكها الذعر. ماذا يريد هذا الفتى من أختي الصماء؟! ماذا يريد؟!
الفصل الثامن والعشرون
انفرد يسري بأخيه خيري وقد كسا وجهه جد واهتمام: آبيه خيري! إني أريد أن أتزوج.
ودهش خيري من هذا الحديث، ثم ما لبثت موجة من الفرح أن طغت على محياه. إذن فقد أدى الأمانة التي حملها وكبر أخوه الأصغر وتقدم يطلب الزواج. - ما أحب هذا إلي يا يسري، هل اخترت الزوجة أم هي فكرة عامة وتريد أن نبحث معا عمن تليق بك؟ - بل اخترت. - حقا؟! من هي! - فايزة.
وانتفض خيري كالملسوع صائحا في دهشة وخوف: من؟!
ولم يحفل يسري بانتفاضة أخيه ولا دهشته وخوفه، وإنما أعاد الاسم في هدوء ثابت واثق: فايزة.
وقال خيري كما لو كان قد أخطأ السمع: تقول فايزة يا يسري؟ - نعم يا آبيه خيري، وما البأس؟
وصمت خيري بعض الحين بعد أن وثق أنه لم يخطئ السمع، لقد كان يعرف أن يسري يحب الغنى، ولكنه لم يتصور أنه يحبه إلى هذا المدى. ولم يعد يفكر في يسري فهو يعلم أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء، ولكنه أصبح يفكر في فايزة وفي وفية وفي عمه عزت، في هذا البيت الذي لم يصيبوا منه إلا الخير كل الخير. وقد ملأت الخشية قلبه أن يرد لهم أخوه خيرهم جحودا ونكرانا، فهو يعلم أخاه. صمت مفكرا وأطال التفكير حتى قال أخوه: هيه، ما رأيك؟
وقال خيري يائسا: أيفيدك رأيي كثيرا؟ - إنك أخي الأكبر وأنت من ربيتني. - أتأخذ برأيي إذا قلته؟ - هذا يتوقف على رأيك. - إذن فلا قيمة له . - عفوا أنا لم أقل. - بل قلت، أنا أعرف أنك لن تعمل إلا برأي نفسك، أما إن شئت رأيي فأنا غير موافق. - ولماذا؟ - أنت تعرف لماذا. - لا، لا أعرف. - لأن فضل عزت باشا كبير علينا، ولا يجوز لك أن ترد فضله بأن تطمع في ثروة ابنته، فإنك لا تريدها إلا لثروتها. وحين تصبح هذه الثروة بين يديك ستذيقها ألوان العذاب، وإني أراك ظالما. - أهو ظلم أن أتقدم لفتاة لن يتزوجها أحد وأتزوجها؟ - إنك تتزوج مال أبيها وستظلمها وهي مسكينة عاجزة لا تستحق ما تدبره لها. - ولماذا تظن أني أدبر لها شيئا؟ - هل تحبها يا يسري؟ - يا سلام يا آبيه خيري؟ أتظن أن الزواج لا يقوم إلا على الحب؟ - لا، ولكني أعلم أنه لا يقوم على الطمع. - ألست أولى من الغريب؟ - بل لا، أنت تعرف أن أحدا لن يطلب فايزة، وإذا فكر أحد المحبين للغنى من أمثالك في التقدم لها، فإن ذكاء أبيها سيحول دون هذا الزواج لأنه يعلم أن من يتقدم لها إنما يطمع في مالها لا غير. - أتراه يظن بي هذا الظن؟ - لا، فإنك ابن همام صديقه، ولا يمكن أن يفكر فيك على أنك طامع في مال ابنته. - فما لك أنت تفكر هذا التفكير إذن؟ - لأني أعرفك يا يسري، لأني أعرفك، لقد توهمت لفترة أنك تكثر من الذهاب إلى بيتهم لتعبر عن شكرك، وإذا بي مخطئ، وإذا أنت أنت لم تتغير. المال بالنسبة إليك كقطب البوصلة لا تتجه إلا إليه. - وماذا يضيرك في هذا؟ - أخاف أن نسيء إلى هذا البيت. - لا تخف. - أتنتظر أن يزول خوفي لمجرد قولك لا تخف؟ لا، لا أستطيع القبول. - إذن فلن تخطبها لي. - أنا، موتي أهون. - إذن فلا تغضب أن أطلبها أنا. - أنت حر. - لا أظن مثاليتك ستجعلك تذهب إلى عزت باشا تخبره أني طامع في مال ابنته. - لا أستطيع فأنت أخي، ثم إني غير واثق أنك ستسيء إليها، فليس لي أن أسبق المستقبل. - هذا كل ما أطلبه منك. - إنه ليس هينا ما تطلب، كان الأجدر بي أن أنبه الرجل، ولكن ماذا أقول له، ماذا أقول؟
الفصل التاسع والعشرون
اعتنى يسري بهندامه أقصى ما تكون العناية، وكرر النظر إلى المرآة، وأطال التحديق في كل مرة حتى اطمأن أن ليس بعد عنايته زيادة لمستزيد، وترك غرفته إلى حجرة أمه فنظرت إليه مليا ثم قالت: إلى أين؟ - إلى بيت عمي عزت باشا. - أنويت، تفاتحه اليوم؟ - نعم ما دمت مصممة ألا تفاتحي أنت إجلال هانم. - أنا والله يا ابني أخجل أن أفعل. - هل في الزواج ما يخجل؟! - لو لم أكن أعرف حبك للمال وطمعك في العروس ما خجلت. - هل معنى ذلك أن تقاطعي الزيجة بأكملها؟ - بالطبع لا. - إذن فماذا ستفعلين؟ - إذا قبلوا فسأذهب وأقدم الشبكة وأفعل كما تفعل أم تفرح بأول زواج يتم في بيتها، وسأظل بعد ذلك أدعو الله أن يهديك ويسترك، ويكرمنا مع هذه العائلة التي لم نر منها إلا كل خير. - إن شاء الله كل خير، أمصممة أنت على عدم الذهاب؟ - طبعا. - إذن أستأذن أنا. - ربنا يوفقك.
وبهذا الدعاء الهين الفاتر ترك يسري أمه واستقبل الطريق يقطعه في عزم وإصرار، حتى إذا بلغ بيت عزت باشا وجد حجرة مكتبه منيرة ووجده بها منفردا يقرأ، فحياه في أدب وجلس إلى كرسي مقابل له، وعاد الباشا إلى القراءة لحظات، ثم ترك ما بيده وقال ليسري: لعلك مرتاح في عملك يا يسري. - مرتاح يا عمي كتر خيرك. - إن أردت أي شيء أنت تعلم طبعا أنني دائما مستعد لأدائه. - أعلم يا عمي.
وانقطع الحديث فترة، وران الصمت على الحجرة ثم قال يسري في بعض لعثمة: يا عمي إن لي عندك أمنية. - قلها. - لقد أصبحت بفضلك موظفا، وأنا أحمل شهادة عالية، وأملي كبير أن أرتفع في الوظيفة أو أشق طريقي في الشركات إن سنحت الفرصة. - هذه مقدمة طويلة، خير. - عمي، إنني أريد ...
وانقطع السيل المتدفق كما لو كان آلة أصابها العطب فجأة، وتلعثم يسري ووجد أن الأمر ليس باليسر الذي ظن.
وقال عزت باشا وقد خيل له أنه يعرف ما يريد: يسري قل، ماذا تريد؟
وعلت وجه يسري حمرة وازداد لسانه لعثمة ووقف به الحديث، فقد وقف عقله عن العمل أو كاد، وراح يردد في خجل: أريد ... أريد ...
وقال عزت باشا: شكلك يدل على أنك تريد الزواج.
وكأنما وجد يسري ضالته فقال في سرعة وفي صوت خفيض: نعم.
واستطرد عزت باشا: وتريد سلفة؟
وقال يسري في حزم: لا. - من العروس؟
وعادت اللعثمة إلى يسري مرة أخرى: إنها ... إنها ...
وقال عزت باشا وقد كاد يضيق: يا أخي قل، مم تخجل؟
وكانت هذه الجملة سريعة المفعول، فقد وجد يسري نفسه يقول في سرعة: أريد فايزة بنت معاليك.
ووجم عزت باشا، فما كان يظن أنه سيسمع أحدا يخطب فايزة أبدا، ولم يذهب به الظن أن هذه المقدمة الطويلة التي ساقها يسري كانت تمهيدا لهذه النهاية، واختلطت مشاعره بين فرح وقبول، وبين خوف وإشفاق، وبين حذر وريبة، ولم يجد شيئا آخر يقوله ليسري إلا: يا ابني، أنا لم يخطر لي هذا التفكير على بال. وعلى كل حال فايزة أختك، ولكن أتمانع أن تترك لي بعض الوقت لأسألها وأسأل أمها؟
وقال يسري: أنا تحت أمرك يا عمي. متى أجيء؟ - وهل تجيء إلي بمواعيد؟ تعال في أي وقت شئت، وسأجيبك حالا. - أشكرك يا عمي، أشكرك.
وقام يسري واستأذن وانصرف، لم يخالجه الشك أن عمه سيقبل.
ولماذا يرفض؟ وأين يجد مثلي لمثلها؟ قال أختك، أختي لأنها صماء، أتراها كانت تظل أختي لو لم يكن بها ما بها؟ أختي، مفهوم يا معالي الباشا مفهوم. أتريد فترة للتفكير؟ لك ما تشاء من فترات، فإنك ستقبل يا معالي الباشا، سيقول عنك الناس وخاصة أقاربنا إنك رجل عظيم، رعيت القرابة والصداقة القديمة، وأنت في نفس الوقت ستزوج ابنتك التي لم تطمع أن تزوجها في يوم من الأيام، فتجمع إلى زواج ابنتك ثناء الناس. فلك من فترات الزمن ما تشاء، ولكني أعلم أنك ستقبل.
مكث عزت باشا في مكانه يفكر في هذا الأمر الجديد، أتراه يحبها، أم تراه يطمع في مالها، أم تراه يطمع في مكانتي أن تظله، أم تراه يريد الزواج، مجرد الزواج، فوجد في فايزة المال والسلطان وتغاضى عما بها من مرض؟ ولكن كيف؟ إنها لا تسمع مطلقا، لعله يريد أن يشكرني على تعييني له، ولعله لم يجد ما يعبر به عن شكره إلا أن ينقذ ابنتي أن تكون عانسا؟ أما هذا فلا، إنني أقبل أن يتزوجها يسري بن همام حتى وإن كان طامعا في مالها، ولكنني لا أقبل أن يتزوجها أحد على الإطلاق لمجرد أنه يريد أن يقدم شكره لي، لا أرضى لابنتي هذا المكان، ولا أرضى ليسري أيضا أن يقدم حياته كلها لي لمجرد شعوره بالجميل نحوي، أما هذا فلا أقبله.
وقام عزت باشا متثاقلا يقلب الآراء جميعها في ذهنه حتى بلغ إجلال هانم وجلس إليها مفكرا ما يزال، وتركته هي لصمته بعض الحين ثم قالت: ما لك يا عزت؟
فقال دون ريث تفكير، فقد كان يريد أن يقول دون سؤال: يسري خطب فايزة.
وتمعنت إجلال هانم الخبر هنيهة، ثم أشرق وجهها بالفرح وقالت: صحيح؟! - ما رأيك؟ - وهل نجد لها خيرا منه؟ - ألا تخشين شيئا؟ - أن يكون طامعا في مالها؟! - لا، ليس هذا ما أخشاه. - إذن؟! - ألا تخشين أن يكون يسري يحاول أن يضحي بنفسه ليشكرنا؟ - يا أخي ما هذا الكلام؟ إنك لم تقدم له ما يجعله يضحي بنفسه من أجلك. إنك عينته وليست هذه بالخدمة التي يضحى من أجلها شاب في سن يسري بمستقبله كله، لو لم يكن يريدها ما طلبها، دع عنك هذا التفكير. - لعلك على حق، ولكنني على كل حال سأسأله. - أنت حر، ولكن ألا تسأل فايزة؟ - بالطبع، ولكن سأنتظر حتى أتأكد من رغبته، فإنني أخشى ألا يكون واثقا من شعوره أو يكون مندفعا في تيار التضحية، فتصدم البنت صدمة عنيفة. - ما ترى. •••
جاء يسري إلى البيت بعد يومين، وانفرد به عزت باشا وبدأه قائلا: يسري، هل أنت واثق أنك تريد فايزة؟
وقال يسري في جرأة، فقد أصبح الأمر ميسورا بعد الحديث الأول: بالطبع يا عمي، إنها أمنيتي. - يا ابني، أنا لم أفعل لك شيئا يذكر. وأني سعيت من أجلك لتعين أمر لا يستحق منك أن تبذل أي تضحية، فإن كان طلبك هذا مبعثه شكران أو إحساس بالمعروف، فأعف بنتي العاجزة أن تكون وسيلة لشكرانك، وأعف نفسك من مستقبل طويل في ظل زواج لا يقوم على أسس سليمة.
وأحس يسري وخزة ألم أن يظن به عمه هذه المثالية التي لم تخطر في ذهنه على بال، ولكن سرعان ما استجمع نفسه وهو يقول: إنك يا عمي قد قدمت لنا أفضالا كثيرة، وقد رعيتنا خير رعاية بعد وفاة المرحوم والدنا، وقد عينتني وعينت أخي خيري من قبل، لقد بذلت لنا الكثير، ولكن زواجي من فايزة أعتبره أنا إذا سمحت به أكبر فضل أضفيته علينا. - أنت واثق من شعورك هذا؟
وقال يسري في حزم: كل الثقة يا عمي. - إذن فأنا موافق على الزواج ومرحب به، وكذلك إجلال، ولكن لا بد أن أسأل فايزة، وقريبا ستسمع الجواب. •••
جلس عزت باشا وإجلال هانم في حجرة النوم، وطلبا فايزة أن تحضر إليهما. وما إن استقر بها مجلسها حتى لاحظت هذه الإشراقة على وجه أمها، وتلك الابتسامة المترددة بين الخوف والفرح على فم أبيها، فانتظرت حتى ترى ما يخفيان. وقدم إليها أبوها ورقة مكتوبا عليها: «يسري يريد أن يخطبك.» وامتقع وجهها في اندهاشة المبدوه الذي لا يتوقع، وسارع لسانها يقول في عجب: أنا؟!
وهز أبوها رأسه وهزت أمها رأسها أن نعم. وقالت الأم: «نعم.» وفهمت فايزة الإيماءة واستنتجت حركة الشفاه استنتاجا، ثم سكتت وما لبثت الدموع أن أشرقت من عينيها وهي تغالبها في حيرة وذهول، وقد انعدمت مشاعرها لا تدري أخير ذلك الذي يعرض عليها أم هو شر، فهي لم تقرر من أمر نفسها شيئا منذ أدركت الأشياء، وها هي ذي تواجه هذا الأمر، أهم ما يؤخذ فيه رأي فتاة، إنها حياتها، فكرت بعض الحين ثم قالت: وأترككما؟!
وأشار أبوها أن لا، وقالت الأم: لا، فقالت فايزة: ما رأيكما؟
وكتب لها أبوها أنهما موافقان، فقالت: لماذا يخطبني؟!
وكتب لها أبوها: «ابن عمك ويريدك، ما الغرابة في هذا؟»
وقالت: إنني صماء، كان يستطيع أن يجد خيرا مني.
وقالت الأم: «ليس في العالم خير منك.» فلم تسمع وكتب أبوها: «إنه يريدك ويلح.»
وقالت: ألا تخشى أن يكون وراء رغبته شيء آخر؟
وكتب لها أبوها: «لقد تأكدت من حقيقة شعوره.»
فأطرقت هنيهة وفاض دمعها وهي تقول: الأمر أمركما، افعلا ما تشاءان.
وخرجت فايزة من الحجرة ولجأت إلى حجرتها، ولحقت بها دولت، فطلبت إليها أن تتركها بعض الحين. وما إن غادرت دولت الحجرة حتى انخرطت فايزة في بكاء عنيف، أهكذا يا يسري؟ أتطمع في مالي وتنتهز فرصة مرضي حتى لا أستطيع الرفض؟ كيف أرفض؟ ماذا أقول لأبي وماذا أقول لأمي؟ إن الفتاة حين ترفض تكون واثقة من نفسها عالمة أن الكثيرين سيتقدمون إذا هي لم تتزوج ممن ترفض، أما أنا فماذا أنتظر؟ ومن يتقدم إلي إذا لم أقبل يسري؟ ولكن أيقبل هو هذا؟ أينتهز مرضي ليتزوج مني؟ كيف أقتل هذه الفرحة النشوانة في نفس أبي؟ وكيف أقسو عليه وأقضي على هذا الأمل الذي ظل زمنا طويلا يراوحه ويغاديه ضعيفا يائسا حتى أصبح حقيقة؟ كيف أقضي على هذا الأمل بعد أن تجسم أمامه واكتمل في شخص يسري؟ كيف أستطيع الرفض؟ هي حياتي اليائسة. آمالي آمال الآخرين، وقدري يخطه أبي وتخطه أمي والغريب عن الدار، ولا يد لي فيه، بماذا أقرر لنفسي مصيرها، بأذني التي تعزلني عن الناس، وتضعني في عالمي وحدي بلا شريك ولا أنيس؟ بأي حق أقول لا أو نعم؟ إنما أنا ما يريدان لي أكون لا أملك من أمر نفسي أمرا، فليفعلا ما يشاءان، وليس لهما مني إلا أن أطرق كما أطرقت وأسلم إليهما أمري كما أسلمت.
واشتد بكاؤها فدخلت إليها دولت وفي عينيها من السؤال ما يغني عن السؤال، وجلست دولت ولم يطل بها الجلوس، بل قالت فايزة تجيب السؤال المطل من عينيها: يسري يريد أن يخطبني.
ودقت دولت صدرها وهي تقول: من؟
ولم تسمع فايزة، وإنما ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة وهي تقول: يطلبني، ويلح في طلبي.
وازدادت نبرات صوتها سخرية وهي تقول: وأين يجد خيرا مني؟ أذنان تسمعان الهمس، وصحة مكتملة، إنه يريدني لذاتي لا لمالي، أليس كذلك؟ قولي إنه كذلك.
ولم تقل دولت شيئا إلا: ابن الكلب السافل.
ولم تسمع فايزة شيئا، بل استمرت في ثورتها المريرة الساخرة: بنت عمه، وماله لا يخطب بنت عمه؟ وماذا تستطيع أن تقول بنت عمه؟ هل عندها خطاب غيره؟ إنه الوحيد الذي وازن بين مالها وصممها فوجد المال أعظم فخطبها، أتستطيع أن ترفض؟ وماذا تقول إن رفضت؟ إنها ما زالت صغيرة، ومن سيخطبها حين تصبح كبيرة؟ إنها لا تريد الزواج، وماذا تصنع الفتيات إلا الزواج، إن الوقت متسع أمامها، ومن سيسأل عنها في هذا الوقت المتسع؟ لا بد أن تقبل بنت عمه، وإن كانت تعرف أنه يخطب مال أبيها، نعم وإن كانت تعرف، ولتقم الأفراح والليالي الملاح، فسيتزوج ابن العم من ابنة عمه الصماء، فوا فرحتاه.
وارتمت فايزة على السرير باكية في نشيج عال أليم حتى لم تستطع دولت إلا أن تنسى ما أصابها من هذا الخبر، فراحت تربت فايزة في إعزاز وحب وإشفاق، وأحست حينذاك أنهما كلتيهما طعينتان بسكين واحدة، هي يسري.
ودق جرس التليفون وظل يدق فترة حتى وافاه أحد الخدم، ثم لم تسمع دولت الخادم يتكلم، وإنما سمعته يضع السماعة مكانها، فعرفت أن يسري يطلبها، فعزمت ألا تجيبه في المرة التالية، ودق جرس التليفون ثانية، وترددت، وسارع الخادم، فكان حظه من الحديث كحظه في المرة الأولى، ودق الجرس ثالثة فقصدت هي إليه وسمعت يسري يقول ردا على صوتها: غدا في الساعة السادسة.
ووضعت السماعة وعادت إلى فايزة واحتوتها بين ذراعيها، وتفجرت دموعهما معا.
الفصل الثلاثون
أكنت أطمع في الزواج به؟! إذن فما لي قد غضبت هذا الغضب؟ شاب متعلم موظف ابن ناس، أكنت فكرت حين أسلمت نفسي له أنه سيتزوجني، لعل هذا التفكير راودني عن أخيه، أما عنه هو فلم أفكر في الزواج به على الإطلاق. لماذا لم أفكر؟ لست أدري، فما هذا الغضب الذي تولاني؟ ألعلي غاضبة لأنه لم ينبئني، أم لعلي غاضبة لأنه سيكون في أحضان غيري، بعلمي، أم لعلي مشفقة على فايزة، أم تراني غير غاضبة وإنما كنت مأخوذة بالنبأ حين سمعته؟ ماذا أقول له حين ألقاه؟ وماذا تراه يقول هو؟ إنني لا أستطيع عنه غناء، إنه الرجل الوحيد الذي عرفته، فكيف أغنى عنه؟ سأقبل عذره، أي عذر يلقيه.
ولكن أترى ألقاه كما عودته في بهجة أم أصطنع الغضب؟ لأترك هذا إلى ما تمليه علي نفسي عند اللقاء. وإلام يدوم بي هذا الحال؟ ألا من نهاية؟ لقد ضمنت الآن على أية حال أنني سألازم فايزة حتى بعد زواجها، وأين أجد زوجا مثل يسري؟ ولكن ماذا بعد؟ إنني أكبر مع الأيام وأخشاها، إنها رفيق غادر هذه الأيام، فماذا تخبئ لي؟ لو أن أخي بذل بعض الاهتمام بي، ولكن كيف؟ لقد قطعت رحلته ما كان بيننا من صلة هينة وازداد التباعد بيننا حين استقل ببيته وتركني في هذا البيت، أما كنت خليقة أن ألقى واحدا من زملائه في بيته فيطلبني؟ ولكن أأستطيع اليوم الوصول إلى زواج كهذا، وكيف؟ ألا يجدر بي أن أبحث هذا الأمر مع يسري؟ نعم، لا بد من ذلك، مبلغ يسير من المال أعود فتاة كما كنت، فإني أعرف الحاجة توحة، وهي ما زالت تقوم بهذه العمليات، سيستطيع بعد زواجه أن يدبر لي ما أريد، لا شك أنه سيستطيع.
بلغت دولت بيت أخيها وفتح لها عم إدريس الباب، وما هي إلا هنيهة حتى كان عم إدريس في طريقه إلى مقهاه وفي جيبه خمسة وعشرون قرشا.
ولم يتأخر يسري ووجد الباب مفتوحا، فدخل ووجدها جالسة في البهو على الأريكة التي شهدت أول الصلة بينهما. وكانت لا تزال تدير في رأسها هذه الأفكار عن مستقبلها وماضيها، وقد غشت وجهها سحابة من الحزن، لاقاها هو بابتسامة عريضة: لا، لا، لا أطيق هذا الوجوم، إنه لا يتفق وهذا الجمال.
ولم تستقبل الدعابة إلا بنظرة غير مبالية وهي تقول: أكنت تنتظر الزغاريد؟
وكان مدركا ما بها فقال: أنت غاضبة؟ - ذكي، عرفتها وحدك. - ما لك؟ - ولد، ألا تعرف ما لي؟ - لا والله. - يسري، أتراني ساذجة؟ - العفو، من قال ذا؟ - أنت، ألا تعرف ما لي؟ - أفهميني. - يسري، حط مخك في رأسك، ألا تعرف إلى من تتكلم؟ - ألأنني خطبت فايزة؟ - ها أنت ذا تعرف.
فقال يسري وابتسامة تعلو شفتيه: وماذا يغضبك في هذا؟ - ألا تعرف؟ ألا تعرف ماذا يغضبني في هذا؟ - اسمعي يا عبيطة، إنني حين أتزوج فايزة سأكون معك دائما. - وماذا كسبت أنا؟ - غدا تعرفين ماذا كسبت، هل أنت مجنونة؟ ألا تدرين الفوائد التي نجنيها من هذا الزواج؟ لقد طلبتك اليوم لتقنعيها بالزواج إن كانت غير راغبة. - وأنا يا يسري. - أنت في عيني، ألا تعرفين مكانتك عندي؟
فقالت ساخرة: أعرفها تماما. - لا والله، أنت لا تعرفين شيئا، غدا تعرفين، المهم الآن أن تقنعيها.
وصمتت دولت. لم تنبئه أن فايزة قد قبلت الزواج مرغمة. فقد أرادت أن تنتهز الفرصة لتظهر له أنها صاحبة الفضل في هذا الزواج عسى أن ينفعها هذا في أيامها القادمة. ولم يتركها يسري لصمتها، بل قال: هيه! ماذا قلت؟ - وماذا عساي أقول؟ - هل سأل الباشا فايزة عن رأيها في الزواج؟ - نعم. - وماذا قالت؟ - لم تقل شيئا. - كيف؟ - تركته وخرجت إلى حجرتها، وقد ظلت تبكي طول يومها أمس. - أهي التي أخبرتك بالخطبة، أم كنت معها حين أخبرها أبوها؟ - هي التي أخبرتني. - ولماذا تبكي؟ - ألا تعرف؟! - ألا تريد الزواج؟ - إنها تعتقد أنك تريدها لمالها. - وماذا قلت لها؟ - وماذا كنت تريدني أن أقول؟! - ماذا قلت؟ - أنا أعرف أنها ساذجة وضعيفة. - إذن فقد وافقت على زواجها بي. - أنت والله لا تستأهل هذا العطف مني. - أبقاك الله لي. - أبعد يدك. - أنت أعظم إنسانة في العالم، غدا ترين كيف أعوضك عن هذا. - كلام! - غدا ترين.
الفصل الحادي والثلاثون
وأقيم الفرح، فرحا متألقا، وجلست فايزة إلى جانب يسري يحف بهما الورد أكداسا، وكان يسري فرحا غاية الفرح، وكانت فايزة تعسة يملأ الخوف قلبها رعبا، تكاد تثق أن زوجها هذا لم يتزوجها لذاتها، وإنما لمالها، ومع ذلك لا يزال وامض من الأمل يراوحها ويغاديها تذوده عن نفسها باليأس القاتل المرير. حتى إذا بارحها هذا الوميض المتهافت وخلت إلى اليأس وحده خالصا عادت تسترجع وامض الأمل لتجد فيه راحة، ثم ما تلبث أن تجد في الشك عذابا يعدل عذاب اليأس أو يزيد، فتظل تتقلب بين نيران الأمل ولواذع اليأس يملأ الرعب قلبها على الحالين، ويسري بجوارها ينظر إلى الراقصة نظرات جريئة، وينظر إلى المستقبل نظرات مقتحمة، يطمئن نفسه أنه بلغ من الحياة ما يريد أن يبلغ. وتلتقي عيناه بعيني أمه فيجد فيهما الخوف فيشيخ عنها لينظر إلى الدكتور حامد، فيجده فرحا مطمئنا مقبلا، وإذا التقت عيناه بعيني دولت وجد فيهما تساؤلا ووجد في شفتيها ابتسامة المتفضل إلى المفضول، وابتسامة حامل السر يبديها لمن يحمل سره.
وبحث يسري عن أخيه خيري فلم يجده، فخطر في ذهنه أن يبحث عن وفية فلم يجدها أيضا، فقال في نفسه: «لعلهما التقيا ولعلهما الآن يتذكران الهوى القديم.» ثم يبتسم ساخرا من أفكار أخيه الخيالية ويعود إلى الراقصة ينعم النظر في جسمها اللدن يتأود أمامه فيرى فيها فرحة الدنيا التي يقبل عليها.
لم تكن وفية ولا كان خيري في البهو الذي أقيم فيه الفرح، فقد انتهزت وفية خلسة من الناس وأومأت إلى خيري أن يتبعها فتبعها، وصعدت إلى الطابق الأعلى وهو وراءها. حتى إذا اطمأنت إلى نجوة من العيون جلست وجلس، وقالت وفي عينيها خوف ولهفة: خيري، لقد أردت أن أراك منذ وقت طويل.
وقال خيري في هدوء: نعم أعرف. - لماذا لم تأت؟ - لأنني أعرف ما تريدينني فيه. - هل أخوك مثلك؟ - أترينه كذلك؟ - بل أرى فيه صنفا من الناس يختلف عنك كل الاختلاف. - إذن فقد أدركت. - لا شك. - أنا لا يد لي في الأمر. - وهذا أدهى. - وماذا تريدينني أن أفعل؟ - أما كان جديرا بك أن تحذر أبي؟
وأطرق خيري مليا وقد ران الصمت على الحجرة، فقالت: لماذا لا تجيب؟ - يا وفية قدري ظرفي، ماذا ترين كنت أقول؟ وكيف أعتمد على مجرد الاستنتاج لأطلب إليه أن يرفض يسري؟ لعله ... لعله - من يدري - يدرك الفضل الذي أسبغه أبوك فيحسن معاملتها! - أتضيع أختي من أجل لعله؟ لعله! أنت تعرفه، إن شخصا يتقدم ليتزوج من فايزة الصماء ... ماذا أقول ماذا أقول؟ لماذا يا خيري سكت، لماذا سكت؟ - كان الأمر أقوى مني يا وفية، إنه أخي. - أليست فايزة أختك؟ وهي عاجزة يا خيري، ماذا سيصنع بها؟ - نسأل الله اللطف. - إن اقتصر الأمر على المال هان، ولكن أخشى أن يعذبها. - لا تخشي. - أهو طيب؟ أهو شفوق؟ ألا يؤذيها؟ - إنه يطمع أن يساعده أبوك، فلا تخشي. - وهل سيعيش لها أبي دائما؟ - دعينا نؤمل الخير في حياته على الأقل، وبعد ذلك يتولاها الذي لا تغفل له عين. - كيف؟ - قد ينجبان، وقد يحب أولاده فيكرمها من أجلهم. - أكثر من زيارتنا يا خيري. - ألا أحرجك بكثرة الزيارة؟ ألا يعرف جميل ما كان بيننا؟ - إنه يعرف، ولكن السنين مضت. وهو يقدرك ولا يخشى جانبك، فزرنا لتطمئن على فايزة. إنها أختك، وهي وديعة بين يديك، إن فايزة لن تخبر أحدا منا بعذابها إذا تعذبت، ولكنها قد تخبرك أنت، فزرها وأكثر ولا تخف أن تحرجني، لقد سكت فتزوجها، فلا تتركها في هذه الأمواج من الطمع التي ألقيتها إليها. - أمرك يا وفية. - أنت أخونا يا خيري، أنت دائما أخونا. - أعرف يا وفية وسأظل دائما، دائما تحت أمرك.
وأمسكت وفية بيده في كلتا يديها وشدت عليها في إعزاز وإكبار وأمل: لا أمل لي إلا أنت يا خيري. - ربنا معنا، إن شاء الله خير. - أرجوك يا خيري، إنها أختك. - هي أختي، إن لم يكن من أجلها وأجل أبيها فمن أجلك أنت، فأنت دائما عندي وفية، وفية التي ...
وانهمرت الدموع من عينيه وعينيها، ثم هوى على يديها فقبلهما في حب وإعزاز. •••
انتهى الفرح وصعد العروسان إلى الحجرة التي خصصت لهما، وجلست فايزة مطرقة وجلس يسري بجانبها، وطال بينهما الصمت، فمد يسري يده وربت كتف زوجته وحاول أن يحتويها في ذراعه، فرفعت إليه عينين مخضلتين بالدموع وقالت: لماذا تزوجتني؟
كان السؤال نافذا مباشرا لا لف فيه ولا دوران، نوع من الكلام لم يتوقعه يسري وحار في الإجابة، وحاول أن يتكلم ليجيب، ثم تذكر أنها لن تسمع فحمد الصمم مرة أخرى، فإن الكتابة ستتيح له وقتا للتفكير. أمسك القلم وكتب على الورق الذي يظل دائما قريبا من فايزة، فهو أذناها، كتب: «لأني أحبك.» ونظرت إليه في ألم ويأس وقالت: إنني صماء، صماء، ألا تعرف؟
وكتب يسري: «أعرف، ولكن ما أهمية هذا؟» - أتشفق علي؟!
وكتب: «إن بنت عزت باشا الأزميرلي الوزير الغني لا تستحق الإشفاق.»
فقالت في ألم: أتتزوج عزت باشا الأزميرلي والوزارة والغنى؟
فكتب: «بل أتزوج فايزة، فايزة وحدها، بلا إشفاق وبلا تفكير في وزارة أبيها أو غناه.»
ونظرت إليه فايزة مليا وقد رفأت دموعها وأطالت التحديق ثم قالت: أنت لا تعرف مدى لهفتي إلى تصديقك.
فكتب: «فصدقيني.» - يا ليت!
فكتب: «ستجعلك الأيام تصدقينني.»
فقالت: لا تستهن بالأيام، فهي تأتي من قريب، وعن قريب أعرف مقدار صدقك، لا تجعل الأيام تؤيد خوفي وتزيل أملي، فأنا لا أستحق هذا، ولا أستحقه منك أنت بالذات، أنت أخ لنا، وأنا ... وأنا ... وأنا لقيت من الزمان ما يكفي.
وكتب: «ستعرفين مدى صدقي.»
فأطرقت فايزة وأطالت الإطراق، وعاد يسري يربت كتفها، وما لبثت أن قالت: يا رب، إن كان كاذبا فلا تجعلني أرى كذبه.
الفصل الثاني والثلاثون
نعم يسري بحياته الجديدة، واستطاع أن ينسي فايزة مخاوفها، فكان يقبل عليها مشرقا وينصرف عنها ملاطفا، واستكانت هي إلى هذه الحياة الجديدة مقبلة عليها في سعادة لم تعرفها منذ كانت طفلة لاهية، وأوشكت أن تنسى ما بها. وشهد أبوها وأمها وأختها هذا الإشراق الجديد الذي أصبح يشيع في أجوائها، وكان خيري لا يني عن الزيارة وكان يشهد هذه السعادة التي استطاع أخوه أن يهيئها لزوجته، وكان يرى آثارها على العائلة جميعها، ولكنه لم يطمئن كما اطمأنت عائلة عزت باشا، فقد كانت معرفته لأخيه أعمق ، ولم يشأ أن يكدر هذا الصفو فهو يظهر لهم فرحه، ويخفي خوفه، يخفيه عن وفيه التي ما تكاد تختلس خلوة به حتى تظهر رضاها غاية الرضا عن أخيه ومعاملته لزوجته، وكان خيري يلاقي فرحها بفرح يصطنعه متكلفا في اصطناعه غاية الجهد.
ومرت الأيام بيسري وهو بها هانئ، وكان عزت باشا لبقا كيسا، فاستطاع أن يمد عونه ليسري دون أن يجرح كبرياءه، فقد طلب إليه أن يشرف على حسابات الزراعة، وحدد له لقاء هذا أجرا كبيرا قبله يسري في صمت كحق مفروض له، وهكذا أصبح هذا الأجر وما يناله كمرتب من وزارة المالية مالا خالصا له هو غير مطالب منه بشيء إلا هدايا قليلة يقدمها لأخته نادية أو لأمه، وحين حاولت أمه الرفض غضب وكاد يقاطع البيت فقبلت مرغمة. وأراد يسري أن يقدم لأخيه خيري بعض هذه الهدايا فأقنعه خيري ألا يفعل، ولكن دون أن يغضب ودون أن يتيح له فرصة للغضب، مشيرا إليه أن واجبه يقضي عليه بأن يقدم الهدايا لزوجته، ففرح يسري بهذه الإشارة ونفذ مضمونها في إقبال وغدق.
ولم تطل أيام يسري الهانئة، فإن نفسه لم تعفه من الضيق.
ها هو ذا المال يجري بين يدي، وها أنا ذا لا أشتهي شيئا، فما لي ضيق النفس لا أستقر على حال من القلق والملل؟ إني أعمل ... ماذا أعمل؟ ألا أذهب كل يوم إلى الوزارة؟ وماذا أفعل بها؟ إنني هناك كما أنا في البيت زوج بنت عزت باشا ولا عمل، ألم يكن المال هو كل ما أشتهي؟ ألم أكن أحسد الجزار وبائع اللبن وعزت باشا على غناهم؟ وها أنا ذا أكثر غنى منهم، فإن المال يأتيني ثم أنا غير مطالب بشيء، دفتر حساباتي فيه الوارد وليس فيه الصادر، ربح خالص بلا رأس مال، وعزت باشا يشقى ويكدح طول عامه، يسافر إلى العزبة مرات في الأسبوع، ويتابع أمواله في كل مناحيها، وأنا ما علي إلا أن آكل من شقائه وأسعد ابنته، وإن إسعادها هين يسير. ولكني أرى عزت باشا سعيدا في سفره سعيدا في شراء الأسهم وبيعها ولا أرى نفسي سعيدا، يبدو لي أن السعادة ليست في المال ذاته، وإنما في بذل الجهد للحصول عليه، فأي جهد أستطيع أن أبذله؟ آه لو شهد أخي خيري هذا الضيق الذي يزحم نفسي لأحس الانتصار علي مرة أخرى، وكيف له أن يشهد؟! إنني لا أبدو أمامه إلا سعيدا هانئا فمن له بما يركد في نفسي من ضيق وملل؟ ولو أنني حكمت منطقي وحده لوجدت هذا الضيق سخفا خالصا، لقد طلبت الغنى فنلته، والسلطان فتحقق لي بفضل عزت باشا، فما هذا الضيق؟ وما حيلتي فيه وأنا أحسه يملأ كياني، ويهصر سعادتي، ويدمر أيامي تدميرا؟
حتى دولت لم أعد أجد بين أحضانها ما كنت أجد، حتى الويسكي لم يعد يمدني بهذه النشوة التي كنت أحسها منه حين كنت أشربه مع عبد الوهاب وصبحي، ترى أيحس عبد الوهاب ما أحسه أنا؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ ما لي أظن الناس جميعهم سعداء إلا أنا؟ فيم يختلف عني عبد الوهاب؟ حاله كحالي ولعله يظهر الرضى ويخفى الضيق الذي أخفيه، ألا يحس عبد الوهاب حاجة إلى السعي؟ ألا يحس بشوق عارم للعمل؟ ألا ينظر لما يدخل في جيبه من مال نظرة باردة لا حرارة فيها؟ ألم يفقد سروره بهذا المال؟ ألا تهدر في نفسه عواصف من رغبة العمل؟ ألا يريد أن يمسك مالا كسبه عن عمل لا عن وساطة؟ وبعد، ماذا لي من أمل في الحياة بعد هذا؟ إلى أي مدى أتشوف للمستقبل؟ ماذا أريد من هذا المستقبل؟ وما لذة اليوم الجديد؟ ماذا لي في طوايا الغيب؟ سكون راكد كالمستنقع. إن لي مالا، وإنني آمن من الفقر. ولكن ماذا بعد أن يزيد مالي؟ وماذا أفعل به؟ وما لذته وأنا لم أجهد للحصول عليه؟ ماذا أفعل بشبابي جميعه؟ طلبت الغنى فها أنا ذا أناله في أول خطواتي من الحياة، ثم ها هي ذي الحياة بكاملها تمتد أمام ناظري بيضاء باهتة بلا حياة فيها ولا أمل ولا عمل، ألمثل هذا كانت ثورتي؟ وا خيبتاه! لا حياة لي، لا حياة.
الفصل الثالث والثلاثون
كان الدكتور حامد عبد الكريم جالسا بين رهط من إخوانه الأساتذة في جروبي، وكان الحديث يدور بينهم هينا لا يمس إلا أمورا تكرر تناولهم لها مرات ومرات، ولكنهم لا يجدون غيرها ليديروها بينهم، وأقبل عليهم في جلستهم زميل لهم هو الدكتور أنيس عوض، وما إن حياهم وجلس حتى سأله صديقه الدكتور فهمي صدقي: خير يا أنيس؟ - خير إن شاء الله. - هل تمت المسألة؟ - أعتقد أنها ستتم قريبا.
وسأل حامد: ماذا يا أنيس؟
وقال الدكتور أنيس محاولا أن يغير موضوع الحديث: لا، لا شيء، مسألة بسيطة.
وقال حامد في ثقة مدركا ما هدف إليه صديقه من محاولة البعد عن هذه المسألة: هي سر إذن.
وقال الدكتور فهمي محاولا أن ينقذ صديقه مما أوقعه فيه: يا أخي ألا تترك شيئا إلا وتحاول معرفته؟ هل انتهيت من طبع كتابك؟
ولم يجب حامد، بل فكر قليلا محاولا أن يعرف ما يخفيه صديقه، ولكن فهمي لم يتركه يفرغ لتفكيره، بل أعاد سؤاله مرة أخرى في صوت أقوى، فانتبه حامد من سرحته ليقول: آه، ماذا؟ آه، نعم، كدت أنتهي من طبعه.
وضحك الزملاء من إجابة صديقهم المترددة، وعادوا إلى حديثهم الذي قطعه عليهم مجيء الدكتور أنيس. ولم تطل بهم الجلسة وبدءوا ينصرفون الواحد بعد الآخر، وكان حامد يعرف أن زميلهم الدكتور محمد وحيد صديق للدكتور فهمي صداقة وطيدة، فحرص أن يكون انصرافه في رفقة الدكتور محمد، فما كاد هذا يستأذن في الانصراف حتى استأذن حامد معه وخرجا إلى شارع المناخ معا. وسأله حامد: أذاهب إلى البيت؟ - نعم. - خذني معك، إني أريد أن أزور صديقا في جهتكم. - أهلا.
وهكذا أتاح حامد لنفسه فترة طويلة يحاول فيها أن يستخلص هذا السر الذي أخفاه عنه أنيس وفهمي. ولم يكن الوصول إلى هذا السر يحتاج إلى كثير مداورة ولا كبير عناء، فما أسرع ما عرفه، وما أعظم الفائدة التي توقعها لنفسه من معرفته.
قصد الدكتور حامد من فوره إلى بيت تلميذه السابق وصديقه الدائم يسري، وكان هو نفسه بيت عزت باشا. وكان يسري بالبيت فدعاه حامد أن يخرجا معا ليجلسا في سان سوسي، وما إن استقر بهما المكان حتى قال حامد: مسألة يا يسري لو تمت نلنا بها السعادة والغنى والجاه.
وكأنما كان حامد يعلم ما بنفسه من شوق إلى العمل، وما أسرع ما قال يسري في فرح: صحيح. - صحيح جدا، اسمع. المسألة تحتاج إلى عناية ومثابرة واهتمام، وأنا واثق أنها ستتم. - ماذا؟ - منصب عضو مجلس الإدارة المنتدب لشركة التأمين الوطنية. - ما له؟ - خال، ويريدون أن يعينوا فيه أستاذا جامعيا. - ما المناسبة؟ - المناسبة أنهم يريدون أن يضفوا ثقة على الشركة، أو أي سبب آخر، المهم أن زميلا لي مرشح وتجري معه مفاوضات. - من زميلك؟ - الدكتور أنيس عوض. - ولماذا اختاروه؟ - له قريب في مجلس الإدارة. - وماذا تريد مني؟ - لو أن الباشا كلم وزير المالية فرشحني لأصبحت أنت سكرتيرا عاما للشركة بمرتب تحدده أنت. - ولكن الباشا لو عرف أنني سأعمل بالشركة لاعتبر هذا رشوة. - ومن الذي سيخبره؟ - ألست سأعين؟ - بعد أن أعين أنا، وحينئذ لن يكون للباشا عندنا كلام. - معقول. - خدمة يقدمها لي الباشا كما تعود أن يقدم من خدمات. - توكل على الله. - وعليك. - إن شاء الله. •••
عاد يسري إلى البيت والأمل يداعب نفسه عن هذا المنصب الجديد. ووجد الباشا جالسا وحده في المكتب فألقى إليه رجاء الدكتور حامد في لهجة خلت مما يخالط نفسه من آماله يعلقها به، ووجد عند الباشا قبولا كشأنه دائما كلما سنحت له فرصة لخير يقدمه إلى حامد، واطمأن يسري وظل مع عمه يدور بينهما الحديث في شتى مناحيه. ثم قام العم لينام وصعد معه يسري.
وكان جناح يسري وفايزة مستقلا عن البيت لا يشركهما فيه إلا دولت في حجرة مقابلة لحجرتهما. وحين بلغ يسري جناحه وجد حجرة نومه مظلمة وبابها مقفلا، ووجد باب دولت منفرجا ورأى ضوءا خافتا ينبعث منه، فدلف من الباب المنفرج إلى الضوء الخافت.
الفصل الرابع والثلاثون
أصبح يسري بعد تعيين حامد بشهور قليلة سكرتيرا عاما للشركة، ورأى يسري نفسه وهو في بواكير الشباب الأولى ذا حجرة منفردة وذا نهي وأمر وسطوة وسلطان، وأدرك الباشا عند تعيين يسري أنه كان آلة في يد يسري يحركها إلى حيث يشتهي. وقد غضب لهذا الوضع الذي أراده له يسري، ولكنه لم يستطع أن يظهر غضبه واضحا، فقد كان يرى حب فايزة لزوجها، ولم يكن قلب الأب فيه ليتيح له أن يعنف بيسري العنف الذي يراه يستحق. ولكن لم يشأ أن يسكت، بل انتهز أول فرصة بعد تعيين يسري، وقال له: أظن يا يسري أن عملك في الشركة سيأخذ وقتك كله!
وقال يسري وقد أوجس: أظن ذلك يا عمي!
فقال الباشا في حزم: إذن فاترك حساباتي ليتفرغ لها شاب أقل من سكرتير عام الشركة الوطنية للتأمين.
وأطرق يسري خجلا وهو يقول: أمرك يا عمي.
وبهذه السخرية اللاذعة وبهذا الحزم القاطع استطاع الباشا أن يبدي ليسري أنه فهم اللعبة التي دبرها له هو وحامد، وأنه أيضا غير مرتاح لهذا التصرف، كما استطاع بهذه المحادثة القصيرة الحاسمة أن يقطع عن يسري المرتب الذي كان يعطيه إياه.
ولم يكن يسري في حاجة إلى المرتب، فقد كان مرتب الشركة ضخما، كما أنه أصبح إلى حين في غير حاجة إلى عون عمه، وطمأن نفسه «أنه رجل طيب وما أسرع ما أستطيع إرضاءه.» فاطمأنت نفسه إلى هذا الظن.
ولم يمر كثير وقت على تعيين يسري بالشركة حتى كان قد دبر هو والدكتور حامد أمرا، وارتاح إليه وقصد إلى أخيه خيري في البيت، فوجده في حجرته جالسا يقرأ في إنعام، فقال له: جئتك اليوم في أمر هام يا آبيه خيري.
وقال خيري في هدوء لا يزايله: خير؟
قال يسري: كم بلغ مرتبك في الوزارة؟
وقال خيري: ما المناسبة؟ - أليس لي الحق أن أعرف؟ - لا أرى مانعا أن تعرف، ولكني أيضا لا أرى موجبا لذلك، فقد بلغ مرتبي القدر الذي يكفيني ويجعلني أعيش المعيشة التي أرضاها لنفسي فلا أشكو ضيقا. - وحياتي عندك يا آبيه خيري أن تترك هذا الخيال، لكل إنسان طموح ولا يعقل ألا تكون أنت طموحا مثل كل الناس. - ومن قال لك إنني لست طموحا؟ إنني بغير طموحي هذا ما كنت أستطيع أن أواصل تعليمك وتعليم أختك والإبقاء على أسرتنا في ستر ورضا، ألم يكن هذا جميعه طموحا؟ - عظيم، عظيم، ولكن أليس لك طموح شخصي؟ أليس لك آمال تبنيها لنفسك؟ - أنت أمل من هذه الآمال، وأختك نادية أمل آخر لي، وثق أنني حين أزوج نادية سأنظر إلى نفسي وأتزوج، وقد أخرج من الوظيفة، وقد أحقق آمالا أخرى يعود نفعها علي وعليكم. - لم تحدثني أبدا عن هذه الآمال. - أحب أن أنفذها ولا أتحدث عنها. - ألا تتحدث عنها لي أنا أخوك؟ - أعلم أنك أخي، ولكن حديثي عن آمالي قد يجعلها أمام عينيك حقائق، بينما أنا لا أزال أراها آمالا، هي بعد في نفسي لم تكتمل عناصرها ومقوماتها، والحديث عنها قد يجعلها تبدو كاملة قائمة. - قل لي يا آبيه خيري وحياتي، ورحمة أبي إلا قلت؟ - المسألة لا تستأهل كل هذا الإلحاح، أريد أن أترك الحكومة وأذهب إلى البلد فأقيم في بيتنا هناك، وأستأجر أرضا من حولنا أربي ماشية وأنمي ثروتنا البسيطة.
وفكر يسري قليلا ثم قال: والله مشروع لا بأس به! وماذا يؤخرك عنه؟ - أنا الآن مطالب بالتزامات إزاء والدتنا وأختنا، ولا أستطيع أن أترك مرتبي الثابت المضمون لمشروعات لا أدري نتائجها.
وأطرق يسري هنيهة ثم قال: ما رأيك لو ارتفع مرتبك هذا إلى ضعفيه؟
وصمت خيري لحظة ثم قال: ماذا تتوقع أن أقول؟
وقال يسري على الفور: أن توافق طبعا. - طبعا، ولكن فقط أحب أن أعرف كيف يرتفع؟ - تترك الوزارة وتعمل معنا في الشركة.
فقال خيري في تؤدة: الشركة التي تعمل بها سكرتيرا عاما؟
وبهت يسري من الإجابة، وما لبث أن قال في لعثمة: نعم. - أترضى لي ذلك؟ - ماذا؟ - أن أكون مرءوسك. - وهل تعتقد أنني سأكون رئيسا حقا؟ - وهذا أدهى، سأجعلك بين أمرين لا أرضاهما، إما أن تكون رئيسا حقا وهذا لا أحبه لنفسي ، أو لا تكون رئيسا حقا، وهذا لا أحبه لك. - يا آبيه خيري إنها فرصة، وقد تستطيع أن توفر منها مبلغا ينفعك في مشروعك الذي تنتويه. - إن كان مشروعي سيجعلني أفعل ما لا أرضاه، فإني سأنصرف عنه. - يا آبيه خيري إنه مشروع عظيم. - ألم أقل لك إنك ستراه كاملا قائما بينما هو لا يزيد عن مجرد أمل في نفسي. - وهل الأمل شيء بسيط؟ أليست الآمال هي التي تحدد خطوط سيرنا في الحياة؟ - الآمال أهداف وأخلاقنا وتركيب نفوسنا هي التي توجهنا في الطريق. إن طريقا لا ترضاه أخلاقي طريق لا أسيره، وإن لم يكن غيره مؤديا إلى هدفي، هكذا أنا، هكذا ركبت نفسي منذ كنت صغيرا حتى الآن، لا أظن أنني قادر على تغيير نفسي. - كنت أظن يا آبيه خيري أن مثاليتك لا تستطيع الصمود أمام الحقيقة، نعم أعرف ما فعلته مع عزت باشا في أول حياتك، ولكنني خيل لي أنك مع مرور الأيام أسفت على ما كان منك، وخيل لي أنك قد تلين أمام المنفعة إذا كانت ماثلة أمامك بلا أوهام ولا خيالات، ولكن للأسف ما زلت تتحدث عن الأخلاق والمثالية، والتعفف والقناعة حتى أصبحت تطبقها في حياتك أيضا ولا تكتفي بها في أحاديثك. - عجيبة يا يسري، أكنت تظن أن آرائي مجرد كلام فقط؟ - كنت أظن أن الحياة علمتك أكثر مما فعلت.
وضحك خيري ضحكة صغيرة فيها بعض سخرية وقال: لا عليك يا يسري، أمرك إلى الله، ربنا بلاك بأخ عقله فارغ، تحمل.
وسارع يسري يقول وقد احمر وجهه خجلا: العفو، أنا لم أقل هذا. - لم تقله ولكنك تعتقده، لا عليك ولكن اسمع، أنا أشكرك، فإن وفاءك لي وحرصك الدائم على أن تقدم لي ما تظنه خيرا أمر أحبه فيك وأكبره، وهو أيضا يطمئنني أنك يوما ما ستعرف أن ما آخذ به نفسي ليس مثالية ولا أوهام تقاليد بالية، ويجعلني أيضا آمل أنك في يوم ما سترى الدنيا شيئا آخر غير المال يستحق أن نحيا له.
وأطرق يسري هنيهة وقد تأثر بحديث أخيه واختلج قلبه بعواطف الحب له، وإن كان عقله لم يعفه من الإلحاح عليه أن هذا اليوم لن يأتي، وأن اليوم الذي قد يأتي هو يوم يعلم أخوه القيمة الحقيقية التي يحتلها المال في الحياة.
الفصل الخامس والثلاثون
كان يسري جالسا بمكتبه بالشركة حين دلف إلى المكتب سكرتيره ينبئه أن بالخارج صديقه صبحي الملواني. وقال يسري في لهفة: دعه يدخل.
ثم سارع يقول في نفس اللهفة: بل اجعله ينتظر قليلا.
فقد ومض في ذهنه خاطر سريع لا يدري مأتاه، لقد أحب أن يشعر زميل دراسته بالفارق الذي أصبح بينهما، وخرج السكرتير لم يبد ملاحظة ولم يشغل ذهنه باللهفة التي أرسلت رئيسه سامحا في دخول الزائر، ثم اللهفة التي أتبعتها في أن يتريث به، لم يفكر فليس من عمله أن يفكر وإنما عليه أن يسمع فيطيع، وقد سمع وأطاع وخرج. ولبث يسري يتشاغل بالأوراق التي أمامه بعض الحين، ولم يطل به التشاغل، فقد دق التليفون المجاور له وإذا هي دولت تخبره أن جميلا ووفية سيصحبان فايزة إلى السينما، وأنهم يسألونه إن كان يريد أن يرافقهم ليشتروا له تذكرة، فيسألها: وأنت هل تذهبين؟ - لا. - إذن فأخبريهم أنني سأتأخر في الشركة ولا أستطيع صحبتهم. - ومتى تجيء؟ - في الساعة الرابعة.
وانتهت المكالمة، ولكن التليفون الآخر الذي يصل حجرات الشركة بعضها ببعض دق، فرفع يسري السماعة ليصله صوت حامد يطلب إليه أن يجيء إلى مكتبه.
وفكر يسري أن يمضي إلى حامد دون أن يلقى صديقه صبحي، ولكنه خشي أن تطول غيبته وينصرف صبحي ففضل أن يراه واقفا. لم يغب عن ذهنه ما في هذه المقابلة الواقفة من إظهار مدى مشاغله ومن أثر هذا في نفس زميل الدراسة.
ودق يسري الجرس وطلب إلى السكرتير أن يدخل صبحي ودخل صبحي، ونسى يسري ما أراد أن يأخذ به نفسه من وقار وعظمة وإظهار مشاغل وإثبات أهمية، ووجد نفسه حين رأى وجه صديقه يفتح ذراعيه ويحتضن صديقه، وكأنه يحتضن نفسه والأيام التي قضياها معا، ووجد نفسه يقول في سجية مواتية لا تكلف فيها: أين أنت يا ولد؟ أين طول هذه المدة؟
وأطرق صبحي قليلا ثم قال: أشكرك يا يسري، يا يسري بك.
وكأنما أفاق يسري من غفوة، أيقظته «بك» يسمعها من صبحي، وأوشك أن يقول «لا تقلها!» ولكنه التذها، أحس فيها بما وصل إليه من غنى وسلطان، فوجد نفسه يتجاهل «البك»، وكأنها أمر مفروض، وقال لصبحي: علام الشكر؟ - على هذا اللقاء.
وقال يسري في صوت يغاير مضمون كلامه: نحن أخوان.
قالها في عظمة متواضعة تستطيع أن تحمل في طواياها، أي معنى غير معنى الأخوة، ثم ما لبث أن قال: صبحي، عضو مجلس الإدارة يطلبني وأنا مضطر للذهاب إليه، هل هناك أي خدمة أستطيع أن أؤديها؟
وقال صبحي في ارتباك: أجيء في وقت آخر. - أهلا، ولكن ماذا تريد؟ - وظيفة.
وبهت يسري فهو لم يكن يتوقع هذا الطلب من صديقه، وطاف به الصمت هنيهة ثم قال: والله يا صبحي المسألة ليست سهلة، أتعطيني فرصة من الوقت؟ - طبعا، ولكن أرجو ألا يطول هذا الوقت. - كن على اتصال دائم بي. - سأجيء كثيرا. - وهو كذلك، اترك لي هذا الموضوع.
واستأذن صبحي وانصرف، وقصد يسري إلى مكتب الدكتور حامد، وحين دخل وجد في الحجرة رجلا أنيق الملبس قدمه إليه حامد قائلا: عبد السميع بك فتحي، مندوب شركة النقل بالسيارات.
وحيا عبد السميع بك يسري في أدب وافر، ولاحظ يسري عناية الرجل البالغة بحركاته جميعا وتحريه أن تكون كل حركة فائقة الأدب والجمال، وحرصه كل الحرص أن تظل ابتسامة على فمه ثابتة لا تزيد ولا تنقص إلا عند ضحك شديد إذا ما بدا في الجو مشروع نكتة وإن لم يكن المتحدث يقصد إليها، وطال الحديث بينهم في أمور عامة لا صلة لها بالعمل، ويسري يشارك في الحديث طورا ويرقب هذا الوافد الجديد طورا آخر، أو هو يرقب الأدب البالغ الذي يصطنعه الدكتور حامد أيضا في الحديث، أو يحاول أن يعرف هدف هذه الزيارة، أو على الأقل السبب الذي استدعاه من أجله الدكتور حامد، ولكن محاولاته لم تنته به إلى رأي يرتاح إليه. وبدا ليسري أن كلا من حامد وعبد السميع بك يتباريان أيهما أكثر صبرا وأشد مداورة من الآخر، فكل منهما يلوب في الحديث مبتعدا عما اجتمعا من أجله. وقد فاز حامد في هذه المباراة وهزم عبد السميع، فقد حرص حامد أن تشيع في الحجرة فترة من الصمت أعقبها بكلمة واحدة: - شرفت.
وقال عبد السميع: الله يحفظك، ترى أتخبر أنت يسري بك بالمسألة أم تفضل أن أقول أنا؟ - أظن من الأفضل أن تخبره أنت. - أمرك، لقد اتفقت يا يسري بك مع حامد بك على صفقة ستعود عليكم بخير عميم.
وقال يسري مشجعا: عظيم. - أنا رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة الأمانة للنقل، وأملك فيها أكثر من 60٪ من الأسهم.
وقال يسري: أهلا وسهلا. - لدى الشركة ما يقرب من الخمسين سيارة نقل، وحوالي ثماني سيارات خاصة للمديرين ولي. - عظيم. - نريد أن نؤمن تأمينا كاملا على هذه السيارات.
وبدا على يسري كأنه فهم ما يراد به، فقال في تفكير: تأمينا كاملا؟ - نعم. - السيارات جديدة طبعا؟
وأصاب السؤال مكانا دقيقا من الموضوع فوجم عبد السميع ووجم حامد. وسارع عبد السميع يتخلص من وجومه في سرعة حاذقة: طبعا، طبعا. - عظيم. - كل ما في الأمر أنها ليست حديثة.
وازداد يسري فهما للأمر فقال: كيف تكون جديدة وليست حديثة؟ - جديدة بمعنى أنها في حالة جيدة، وإن كانت ليست حديثة الشراء.
فقال يسري في مداورة: على كل حال هذا أمر يقوم به مهندسو الشركة.
فقال عبد السميع في سرعة: هذا ما أردناك فيه.
وقال حامد: عبد السميع بك لا يثق في مهندسي الشركة.
وقال يسري: أيهم؟ فسعادتك تعرف أنهم أربعة نتعامل معهم، نستطيع أن نستبعد الذي لا نثق به، وإن كانوا جميعا موضع ثقة الشركة.
وقال حامد: إنه لا يثق بأي واحد منهم.
وقال يسري في دهشة: الأربعة ذمتهم خربة؟!
فقال حامد في حزم: هذا رأيه.
فقال يسري: وما رأي سعادتك؟
فقال حامد موجها حديثه إلى عبد السميع: وعلى كل حال يا عبد السميع بك اعتبر المسألة منتهية. وتستطيع سعادتك أن تمر بالشركة بعد غد، وستجد الأوراق جاهزة.
فقال يسري محاولا إبداء رأيه: ولكن ...
فقال حامد في حزم الرئيس: انتهينا يا يسري.
فقال يسري في استخزاء داهش: أمرك.
واستأذن عبد السميع بك وانصرف يودعه حامد إلى باب الغرفة، وحين عاد من توديعه وجد يسري متجهما يأخذ طريقه إلى الباب، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ اقعد، أنت عبيط.
فقال يسري: أنا دهش. - فيم الدهشة؟ - يبدو أن المسألة ليست سليمة. - وما يهمك أنت، أتمانع أن تقبض أربعمائة جنيه دون أي تعب؟
وفهم يسري الأمر على تمام حقيقته. - لا أمانع أبدا، كيف؟ - تأتي لي بمهندس صديقك يأخذ في هذه العملية ضعفي ما يأخذ مهندسو الشركة ويعتبر السيارات جديدة، ونأخذ مقابل ذلك ألف جنيه، لي منها ستمائة ولك أربعمائة، ما عيبها؟
وقال يسري مفكرا: أما عن الأربعمائة جنيه فلا عيب بها، أما عن الطريقة ...؟
وقال حامد في سخرية: نعم يا سيدي، ما لها الطريقة؟ لا تجعلني أظن بك العبط كأخيك، أنا دائما أحترمك لأنك واقعي، ذهنك تخلص من المخلفات الراكدة للتقاليد والتفكير الضيق العقيم. - ولكن هذه المسألة يا حامد بك لا شأن لها بالتفكير العقيم ولا مخلفات الماضي، إنها ... إنها ... - هيه، قل سرقة، قل، قلة ذمة، كرر هذه الألفاظ الجوفاء التي سيطرت على الأجيال الماضية وكبلت التفكير فيها. - يا حامد بك أنا لا أرى صلة بين الأجيال الماضية وهذه المسألة أبدا.
فقال حامد في حزم: إذن فأنت لا تريد الاشتراك معي فيها؟ - والله إذا أعفيتني أكون شاكرا. - أنت حر، طبعا أنت اليوم غني ولم تصبح في حاجة إلى المال. أصبحت تختار نوع المال الذي يصل إليك، فهذا تقبله وهذا ترفضه، معلوم، لك حق، ولكنني يا سيدي لست كذلك. وإن لم أحصل على المال من حنك السبع فلن أجده، أنت حر. - الواقع يا حامد بك أنا خجلان أن أرفض لك أمرا، ولكن لا أستطيع. - أنت حر، أنت حر، ولكن فقط لا تعطل الورق.
وأصابت يسري بغتة أخرى : ماذا؟ هل سيمر بي هذا الورق؟ - طبعا.
وفكر يسري قليلا ثم قال: ألا يمكن أن يأتيك هذا الورق مباشرة؟ - بالطبع لا، أنت سكرتير عام الشركة، وحين يمر موضوع من غير تأشيرتك سيثير كثيرا من التساؤل والدهشة. وأنا لا أحب التساؤل أو الدهشة، أو التعطيل. - إذن ... - إذن فلا تعطل الورق. •••
وأطرق يسري وفكر، يمكن أن يقال لم ينتبه. وهذا خير من أن يقال لص، لعلهم سيقولون لص أيضا، لا يهم ما دمت أنا مقتنعا أنني لم أسرق، إن لم أوقع فسأرفت، فهو لا يحب التعطيل.
وقاطع حامد تفكيره قائلا في حزم ونغمة خالية من التهديد: هيه.
فقال يسري: حاضر، سأوقع.
وضحك حامد ساخرا وقال: تقبل أن يقال مغفل لا يفهم شغله، ولا تقبل أن تأخذ أربعمائة جنيه.
وحاول يسري أن يعتذر عن أمانته ثانية، ولكن حامد سارع يقول: لا، لا، لا ترغم نفسك على شيء، أنت حر، أنت دائما حر، تقبل ما تشاء ولا تقبل ما تشاء، أنت حر.
وأطرق يسري وهو يقول: أشكرك.
ثم خرج من الغرفة يفكر في هذه الحرية التي يتيحها له رئيسه.
الفصل السادس والثلاثون
نزلت فايزة ترافق أختها وفية وزوجها جميل إلى السينما في حفلة الساعة الثالثة، وكان جميل قد جاء في إجازة قصيرة سيعود بعدها إلى عمله بسفارة فرنسا. وقد كان يحرص في إجازاته أن يعوض زوجته عن غيابه بالإكثار من النزهة، وكان يحرص في أغلب الأوقات أن يصحب فايزة التي أصبح عمل زوجها الجديد يشغله عنها وقتا كبيرا.
كانت سيارة جميل التي يقودها بنفسه تسير بشارع فؤاد متخذة طريقها إلى السينما، وكانت وفية تجلس إلى جانبه وإلى جانبها تجلس فايزة. وكانت وفية تكتب لفايزة كلاما تمنعه السيارة أن يتضح، فلا تستطيع أن تقرأه، فلا تملك هي وأختها إلا أن تضحكا من هذه الأشكال العجيبة التي لا تستطيع أن تكون شيئا مفيدا. وأخيرا قالت فايزة: اسكتي حتى نصل ... ألا تتوقفين عن الكلام أبدا؟
وقبل أن تضحك الأختان انتابت فايزة حالة غثيان، وحملقت في وجه أختها ثم انثنت وقد وضعت يدها على وجهها وهي تتأوه في ألم، فقالت أختها في ارتباك: ما لك؟
وراحت فايزة في دوامة ولم تعن بأن تخبر أختها عما بها، وإنما راح عقلها يفكر أين تفرغ غثيانها في منجى عن عيون جميل بالذات، وفجأة فتحت حقيبة يدها وأفرغت ما بها دفعة واحدة في فستان وفية، ثم زادت من انثناء ظهرها وجعلت من الحقيبة وعاء.
أوقف جميل السيارة على جانب من الطريق، وقصد إلى مقهى وطلب كوب ماء، وعاد به إلى فايزة فتناولته في شكر.
وقالت وفية: جميل، ألا تعرف طبيبا نذهب إليه؟ - أعرف طبعا، ولكن الآن الساعة الثالثة والنصف. - ألا تعرف بيته؟ - سأكلمه بالتليفون.
وعاد جميل بالكوب الفارغ ليتكلم من تليفون المقهى، باحثا عن صديقه الطبيب.
وكتبت وفية لفايزة: «ما لك؟»
فقالت فايزة: لا أدري، أحسست فجأة بهذا الغثيان.
وقالت وفية وقد أشرق وجهها بالفرح: فايزة، أنت حامل؟
ظلت فايزة رانية إليها لم تفهم شيئا لأنها لم تسمع شيئا، فانتبهت وفية وكتبت لها: «أنت حامل؟»
وقالت فايزة: غالبا.
وقالت وفية في فرحة متوثبة: حقا؟
ثم انتبهت وكتبت: «مبروك.»
وقفزت من السيارة وثبا، وسارعت تقتحم المقهى الذي دخله جميل غير عابئة بالأنظار التي أحدقت بها بين عاجبة وبين معجبة وبين مستهجنة، وحين وجدت زوجها قالت له دون أن تترك له فرصة أن يذكرها بأنهما في مصر وليسا في باريس: جميل هل صديقك طبيب أمراض نساء؟
وقال جميل دهشا: لا. - إذن فابحث عن طبيب أمراض نساء.
وقلب جميل صفحات دفتر التليفون يبحث عن الطبيب المطلوب. •••
خرجت فايزة من عيادة الطبيب فرحة نشوانة، تشاركها في فرحتها أختها، وركبتا السيارة، وقبل أن يقودها جميل قال لوفية: اكتبي لها أنني أطالب بالحلاوة.
وكتبت لها ما أراد، فأخرجت فايزة قرش صاغ وأعطته إياه، فقال لوفية ضاحكا: اطلبي على الأقل ثمن تذاكر السينما التي ندخلها.
وكتبت وفية وغرق ثلاثتهم في ضحك سعيد هانئ، وسارت السيارة وخلت فايزة إلى نفسها، إلى عزلتها وقد أحست بهنائها، هنائها بكل شيء حتى بهذه العزلة، ففي ظلها وبسببها تستطيع أن تستمتع بفرحتها كاملة بلا صخب من الطريق ولا حديث من وفية أو جميل. كانت تحتمل صممها في صبر، ولكنها لم تر فيه نعمة إلا اليوم وفي هذه اللحظة، أحمدك يا رب، هل آن لي أن أسعد كما يسعد الآخرون؟ أأرى ابني فأسمع بأذنه وأفرح بفرحه وأبدأ به حياة جديدة من غير صمم ومن غير هذه الآلام التي أعانيها في حياتي القديمة؟ أحمدك يا رب، فإن أحدا في العالم لا يستطيع أن يقدر السعادة كما يقدرها من عرف الشقاء، وقد عرفته، ثم ها أنت ذا تهب لي حياة جديدة هي حياة ابني، فإذا أنا، وأنا وحدي أدري مدى هذه السعادة التي سكبتها علي بحياتي الجديدة فيه، فقد كانت حياتي يا رب شقاء، ولكنني الآن، الآن فقط أحمد هذا الشقاء الذي أحاط بي لأنني أستطيع به أن أدرك أي سعادة تحيط بي اليوم، ولا يستطيع الذين لم يروا شقائي أن يلتذوا السعادة كما ألتذها أنا الآن. فلك الشكر، سبحانك.
وكانت وفية تحذر جميلا طوال الطريق أن يسرع، وتحذره أن تهتز السيارة حتى قال جميل آخر الأمر: ما رأيك أوقف الآلة وأدفع أنا السيارة وتقودينها أنت، سنصل غدا ولكن لن نهتز. نعملها؟
وضحكت وفية ضحكة عالية حتى لقد طرحت رأسها إلى الخلف، ورأتها فايزة فأدركت أنها تضحك ضحكا عاليا، فقالت لها: ماذا بك؟
فكتبت لها وفية ما قاله زوجها، فغرقت في الضحك هي الأخرى.
وحين وصلت السيارة إلى باب البيت كتبت لها وفية: «انزلي أنت ولكن على مهلك، واصعدي السلم درجة درجة، واستريحي حتى نحضر لك الدواء ونعود.»
وابتسمت فايزة ودلفت إلى البيت. وحين بلغت الطابق الأعلى تذكرت أنها لن تجد أحدا إلا دولت، فقد كانت أمها مدعوة إلى الغداء خارج البيت مع أبيها، وكانت فايزة تعلم أن يسري بالشركة، ولكنها أصرت أن تخبره فورا، فقصدت إلى دولت لتجعلها تطلب يسري في الشركة ليأتي من توه.
بلغت فايزة حجرة دولت وفتحتها ثم جمدت لحظات، ثم أدركت أن الاثنين اللذين بالغرفة لم يرياها، فأقفلت الباب بهدوء محاذرة أن يند عنه صوت، وقصدت إلى حجرتها وألقت بنفسها إلى السرير وقد انطبق فكاها في إحكام، كأنها تمنع الصرخة التي تعربد في كيانها أن تنطلق، وتولاها حريق من العذاب، فعقلها لهيب ونفسها نيران وتفكيرها موقوف جامد وعيناها لا تريان إلا الصورة التي طالعتها من حجرة دولت، ورفعت فايزة يديها ووضعتهما على عينيها ثم تمتمت: أما زال هناك نوع من العذاب لم أعرفه يا رب؟
ثم وجدت نفسها تقول: لن يعرف أحد، لا، لن يعرف أحد، لن أجعل من نفسي سخرية ولا موضع شفقة بعد اليوم.
ثم صمتت حينا وعادت تقول: ولكن لا بد أن تترك هذا البيت، كيف؟ أأخبر وفية؟ وماذا ستفعل؟ إذا طلبت هي طردها عرف الجميع، لا بد أن تطلب هي الخروج، واحد فقط يستطيع أن يقول لها اطلبي ترك البيت، هو يسري، ولكن لن أخبره، ماذا أفعل؟ لمن أقول؟ نعم هناك حل.
وخرجت فايزة من الحجرة في خفة وسعت على أطراف أصابعها ونزلت إلى الطابق الأسفل ودخلت إلى مكتب أبيها، وجلست حتى ليظن من يراها أنها جاءت إلى هذا الحجرة من الخارج مباشرة، فكأنها ما صعدت، وكأنها ما رأت، وكأنها ما زالت تحيا في تلك الفرحة المنتشية التي صحبتها من عند الطبيب، والتي فقدتها عند دولت.
دقت فايزة الجرس وكتبت على ورقة كلاما، وحين جاء الخادم قالت له: خذ سيارة أجرة واذهب بها إلى بيت خيري بك، أعطه هذه الورقة وارجه أن يأتي معك في السيارة، وإذا لم تجده فانتظره حتى يعود، لا تعد من غيره.
وأومأ الخادم أن نعم، وخرج في طريقه إلى خيري، والتقى في فناء الدار بوفية وجميل. وكانت وفية تحث الخطى في سعادة متوثبة ضاحكة، استخفها الفرح حتى لم تملك نفسها أن تسأل الخادم: هل جاء الباشا والست؟
مع أنها تعلم أنهما لن يعودا قبل المساء. ولم تنتظر الإجابة، بل واصلت سيرها الحثيث حتى بلغت البهو الداخلي تريد أن تواصل سيرها إلى الطابق الأعلى حيث تتوقع أن تجد فايزة. ولكن مكتب أبيها ذا الباب المفتوح استرعى انتباهها فالتفتت فوجدت فايزة جالسة، فذهبت إليها ودون أن تلحظ ما بها كتبت لها: «هل أخبرت يسري؟»
فقالت فايزة في جفاء وإصرار وألم ومرارة: لم أره.
وأحست وفية ما في صوت أختها، فكتبت وهي تعجب في نفسها: «أن لم يأت؟»
وأجابت فايزة في نفس النغمة المريرة: لا أعرف.
وكتبت وفية: «ألم تصعدي إلى الطابق الأعلى؟»
وقالت فايزة في حزم وتماسك وقد أوشكت أن تنهار: لا.
ولم تملك وفية أن تكتم عجبها فكتبت: «ما بك؟»
ولم تجد فايزة شيئا تقوله إلا: - متعبة.
فكتبت: «فتعالي نصعد إلى أعلى.» - لا.
فكتبت: «لماذا؟ ماذا بك يا فايزة؟» - يا سلام يا أبلة وفية، متعبة، متعبة، اتركيني هنا، فإني هنا مرتاحة.
ولم تكتب وفية شيئا، وإنما قالت في صوت مسموع وفي نغمة الخبير الذي يعرف بواطن الأمور: هيه، لقد بدأ معك الوحم فقلب مزاجك، بسيطة، يا دولت، دولت.
وخرجت وفية من الحجرة تنادي حتى أجابها صوت دولت.
وكان جميل بالبهو لا يزال، وقد وضع ما حمله من دواء على إحدى المناضد، فقالت له: لماذا تجلس هنا؟ تعال.
فقال وهو يقوم من كرسيه: لا، سأذهب أنا إلى بيت أبي وأعود في المساء لآخذك. أم ستبيتين هنا؟ - سأبيت هنا مع فايزة، ولماذا لا تبيت أنت أيضا هنا؟ - كما تشائين.
وخرج وعادت إلى غرفة المكتب، وكانت فايزة قد أحست أنها قست على أختها وخشيت أن تكون غضبت، فقالت لها في صوت يحاول الرقة فيمنعه عنها ألم مرير يخالط كل كيانها: أين ذهبت؟
فكتبت لها: «أنادي دولت.»
وانتقضت فايزة دون أن تحس: لا.
وقالت وفية: ماذا؟ ما بك؟
ولكن فايزة لم تسمع واستطاعت في لحظة أن تملك أمر نفسها. فأقرت جسمها المحموم وأطبقت يديها على مقابض كرسيها في تمسك. كأنها تخشى أن يقذفها شيء من عليه، وكتبت لها وفية: ما بك؟
فقالت فايزة في تشنج: لا شيء.
ثم أقرت نفسها على الكرسي ثانية وثبتت من مقامها عليه، وقالت وكأنها تستعد لصراع كبير: ناديها، نادي دولت.
وقالت وفية: إنها آتية.
ولم تسمع فايزة شيئا ولم تكن في حاجة إلى أن تسمع، لقد دخلت دولت، وقبل أن تخبرها وفية بالنبأ السعيد وجدت فايزة نفسها مقذوفة على الكرسي، واقفة تسارع خطوها إلى مكان الحوض، وقد عاودها الغثيان بصورة أشد.
وبهتت دولت هنيهة، ثم نظرت إلى وفية فوجدتها ترنو إليها في نظرة من يحمل أخبارا فرحانة، ثم غمزت لها بعينها وقالت: اذهبي إليها ساعديها، ألم تدركي ما بها؟ إنها حامل.
وظهر الفرح على دولت وقالت في سرور مخلص: حقا؟
وقالت وفية في نغمتها السعيدة المرحة: اذهبي إليها، اذهبي.
وذهبت دولت إلى فايزة ولكنها وجدتها قد أوصدت من دونها الباب، وهمت أن تطرقه ثم تذكرت أن لا فائدة من طرقه، فعادت إلى وفية ثانية. وراحت وفية تعطي الأدوية لدولت واحدا بعد الآخر وتخبرها عن مواعيدها في دقة وتحذرها أن تنسى أو تهمل.
وعادت فايزة بعد قليل وقد استعادت جأشها أو كادت، ووجدت آثار النبأ الجديد على وجه دولت، وعجبت أن ترى منها هذا الفرح الخالص الصافي الصادق العميق، حتى لكادت تشك فيما رأت عيناها. ولكنها سرعان ما سخرت من نفسها وشكها: «قد أكون صماء، ولكنني على أية حال أرى، ولقد رأيت، رأيت بعيني.» وأوشكت أن تعود إلى ثورتها، ولكنها تماسكت وجلست إلى أقرب كرسي منها.
وقالت في لهجة توشك أن تكون بريئة: هل جاء يسري يا دولت؟
وارتج على دولت هنيهة، تستطيع العين البريئة ألا تلحظ ارتباكها، ولكن العين التي رأت ما رأت، عين فايزة لم تكن تستطيع ألا تلحظ. وتمالكت دولت نفسها وقالت: نعم.
ثم أتبعت الكلمة بإيماءة لتفهم فايزة، ولم تكن فايزة في حاجة إلى الإيماءة، بل خيل إليها أنها سمعت، فقد كانت تدري بماذا ستتحرك شفتا دولت، فقالت لها: أين هو؟
ومرة أخرى لم تكن في حاجة إلى الإجابة، ولكن دولت أشارت إليها أنه بالطابق الأعلى. وصاحت وفية: صحيح؟ أين هو؟
وخرجت تجري من الحجرة وهي تصيح: يسري، يسري.
وجاءها صوت يسري يجيب نداءها، وما لبث أن أشرف عليها من أعلى السلم: ماذا؟ هل جئتم؟ ألم تذهبوا إلى السينما؟
وقالت وفية في مرحها: أية سينما! تعال، انزل، أسرع.
وسارع يسري ينزل السلم وثبا وهو يقول في فرح بعثه إليه فرح وفية: ماذا؟ ماذا حصل؟
وقالت وفية: لا، لن أخبرك أنا، فإن هذا من حق زوجتك وحدها.
وكاد يسري يعرف، ولكنه قال في سرعة: أين هي؟ - في المكتب.
وسارع يسري إلى فايزة وهو يقول: فايزة، فايزة، ماذا؟
ورأت فايزة زوجها فعادت تمسك بكرسيها، وأنعمت فيه النظر ذاهلة، تمور في نفسها أعاصير من الغضب والألم، وخيل ليسري أنها ذاهلة لأنها لم تسمع، فلم يعن بالكتابة، فقد أدرك من الجو المحيط به أنها تحمل ابنه. ولكنه أراد أن يتأكد فنظر إلى دولت يسألها: قولي أنت، فلا وقت عندي للكتابة.
وقالت دولت في إشراق: اسألها، ألم تقل وفية هانم إن هذا من حق زوجتك وحدها؟
وانكب يسري على جبين فايزة يقبلها ويقول: أظنني أعرف، أظنني أعرف.
وما إن لامست شفتاه فايزة حتى عادها الغثيان، فانتفضت عن كرسيها وأسرعت الخطى تخرج من الحجرة.
وقالت وفية: ها قد أجابت، إنها في الوحم.
وقال يسري وقد اختلج قلبه في فرح عامر: حقا، فلماذا لم يرها الدكتور؟ لماذا لا تأخذ الدواء؟ لماذا تتركونها في هذا التعب؟
وقبل أن تجيب دخل خيري متوجسا، وما إن رأى ما هم فيه حتى اطمأن، فقد خيل إليه أن فايزة استدعته لتخبره بهذا النبأ السعيد، فراح يشارك الجميع في فرحهم. وحين عادت فايزة لم يحاول أن يسألها لماذا أرادته، فقد اطمأن إلى الظن الذي خامره. وطالت الجلسة بعض الحين، وأمسكت فايزة خلسة ورقة وراحت تكتب عليها كلاما. وحين رأت الأنظار متجهة إليها راحت ترسم على الورق أشكالا لا معنى لها، ثم تقطعه وتلقيه في السلة، حتى إذا اطمأنت أن الجالسين ظنوا أنها تتسلى قامت وهي تقول: إني متعبة، سأنتظركم بالدور الأعلى، أظنك لن تصعد يا آبيه خيري، أراك بخير.
وتقدمت منه ومدت إليه يدا مطبقة الأصابع، وما إن انفرجت يدها في يده حتى أحس ورقة صغيرة تنتقل إليه، فأدرك أنها تريده في أمر لا تحب أن يعرفه غيره. فأمسك بالورقة في خلسة وواراها عن الآخرين، وانتهز فرصة العيون التي تبعت فايزة في خروجها ووضع الورقة في جيبه.
وتبعت دولت فايزة، ولكن صوت فايزة سرعان ما بلغهم مناديا: أبلة وفية، تعالي، إني أريدك.
وخرجت وفية وبقي الأخوان معا، وقال خيري: مبروك يا يسري.
وقال يسري: مبروك أنت أيضا، إن ابني هو ابنك.
وقال خيري: الله يجازيك، أحس نفسي عجوزا، أحس كأنني جد.
وضحك يسري، ولكن خيري لم يكن خالص الفرحة، فقد أفسدت هذه الورقة المطوية فرحته. وأوشك أن يسأل أخاه إن كان قد أغضب فايزة، ولكنه خشي أن يفشي بهذا السؤال سرا لا تريد صاحبته له أن يذيع، فلن يجد شيئا يقوله إلا أن يستأذن وينصرف.
وحين بلغ خيري الشارع وقف عند أول عمود نور، وأخرج الورقة المطوية من جيبه وقرأ: «أريدك غدا في الصباح.»
الفصل السابع والثلاثون
حين بلغ خيري بيت عزت باشا وجد فايزة قد أعدت العدة لتنفرد به، وما إن خلت بهما الحجرة حتى أقفلت الباب بالمفتاح ووضعت الورق والقلم على منضدة جعلتها بينها وبين خيري. ثم راحت تقص على خيري ما رأته، باذلة أقصى جهد تطيقه إنسانة طعينة تحرص ألا يرى أحد الدماء النازفة أو الجرح الغائر، وقد زاد جهدها الدماء نزيفا والجراح غورا أمام عيني خيري الإنسان الكبير. رأى في وجهها العذاب نيرانا، ورأى في وجهها جهادها أن تخفي هذه النيران، ولم تبك ولكن خيري بكى. وما إن رأت دموعه حتى انهارت عزيمتها الصلبة فوجدت نفسها تميل على المنضدة بينهما، ثم وجدت نفسها تنطلق في نشيج يندلع من أقصى حبات قلبها، حتى لخيل لخيري أنه سيرى عن قريب قلبها يتسرب من عينيها. ولكنه لم يشأ أن يذكرها بوجوده، لم يربت كتفها ولا كتب لها أن اصبري، لم يفعل شيئا، فقد رأى أن خير ما تفعله هو أن تبكي وخير ما يفعله هو أن يسكت.
حتى إذا هدأ نشيجها ورفعت وجهها المخضب بالدموع نظر إليها خيري نظرة طويلة فيها حنان وفيها أخوة، وحرص ألا يبدو في نظرته عطف أو إشفاق، ثم كتب: «ماذا تريدين أن أفعل؟»
وقالت: لا أريد دولت، ولا أريد أن أطردها أنا.
وأومأ خيري أن نعم، إيماءة فيها حزم وفيها وعد لا شك في تنفيذه. ثم كتب: «هل تريدين شيئا آخر؟»
وقالت في حزم: لا، اترك الباقي لي، لا أريد يسري أن يعرف أنني رأيته.
وأومأ أنه لن يعرف. ثم كتب: «اطلبيني في أي وقت، وسأنفذ لك ما تشائين.» ثم قامت فقامت وأمسكت يده بكلتا يديها وراحت تربتها وهي تقول: أنت دائما أخونا، أنت عندنا مثل محسن، وأنت تعرف.
وأطرق خيري ولم يقل شيئا، وربت يدها بيده، ثم أخذ طريقه إلى الباب، فأدار فيه المفتاح ثم أخرج المنديل من جيبه ومسح دموعه ووقف هنيهة يتهيأ للقاء الناس، تنحنح وخرج يجاهد نفسه ألا يلتفت إلى فايزة. •••
قصد خيري من فوره إلى الشركة، وحين دخل حجرة السكرتير وجد بها شابا في سن يسري، إلا أنه كان مهمل الثياب، ووجد السكرتير ينظم أوراقا على مكتبه كأنه لا يجد شيئا يعمله. وقال خيري: البك موجود؟
فانتبه إليه السكرتير وحدق فيه هنيهة ثم قال: هل هناك موعد؟
فقال له خيري في هدوء: قل له أخوك يريدك.
وانتفض السكرتير يفتح باب يسري، ونظر الشاب الجالس إلى خيري وهم أن يقول شيئا. وانتظر خيري هنيهة أن يسمع ما يريد الشاب أن يقول، ولكنه رأى في عينيه أنه عدل عما يزمع قوله. فعبر خيري الباب إلى يسري.
ودهش يسري لحظة من قدوم أخيه، ثم ما لبث أن وثب إليه يرحب به مبالغا في الترحيب، فقد كان فرحا حقا بزيارة أخيه.
وقال خيري: استطعت أن أجد فرصة لترك المكتب، فقلت أزورك في شركتك التي لم أرها. - أهلا، أهلا، كم أنا فرح بزيارتك هذه يا آبيه خيري.
ولم يترك السكرتير لهما فرصة للحديث، فقد دخل يحمل دوسيه أوراق وعاجله قائلا: ألا تستطيع الانتظار؟
فقال السكرتير: إنها عملية عاجلة يا سعادة البك.
فقال خيري: لا تعطل عملك، انظر الدوسيه.
وتقدم السكرتير إلى يسري ووضع الدوسيه أمامه. وقرأ يسري عنوانه، إنها عملية شركة النقل. وأوشك أن يقول للسكرتير اتركه، ولكنه سرعان ما أدرك أن لا فائدة ترجى من تركه، وسرعان ما أدرك أنه سيوقع، وقال في نفسه: «خير البر عاجله.» ثم ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول في نفسه: «الأولى بي أن أقول خير الشر عاجله، ربنا يستر.» ثم نظر إلى أخيه وقال في نفسه: «ترى ماذا يفعل بي لو عرف أي عملية هذه التي أوقعها؟» وكان خيري متشاغلا بالنظر في أرجاء الغرفة الأنيقة، فلم ير ما مر بأخيه في هذه اللحظات من سخرية بنفسه ومن حيرة وقلق.
وأعاد يسري عينيه إلى الورق ثانية وهو يقول في نفسه: «الأمر لله.» ثم سخر من نفسه وهو يقول دون أن ينطق: «بل الأمر للشيطان.» ثم سمعه أخوه يقول: هيه!
ثم أجرى قلمه في سرعة على الورقة وكأنه يدفع بخنجر إلى جسم، وخيل ليسري أنه يطعن ضميره، ولكنه وقع ورفع الورق إلى السكرتير في سرعة يريد ألا يراه ثانية. وعاد إلى أخيه يرحب به.
ودار الحديث بينهما، حتى قال خيري فجأة: يسري، ما صلتك بدولت؟
وامتقع وجه يسري وجف ريقه، وتولاه ذهول طغى على تفكيره وظل شاخصا إلى أخيه باهتا لا يدري بماذا يجيب، حتى أكمل جملة جمع حروفها من شتى النواحي: ما المناسبة؟
وأدرك خيري ما يمر به أخوه من حيرة واضطراب. فقال وقد عزم أن يزيد من حيرته واضطرابه: لا، فقط أريد أن أعرف؟
وصمت يسري لحظات ثم قال: علاقة عادية.
وتوغل خيري في أخيه بعينيه وأطال التحديق، ثم قال: هيه، أهكذا؟
ثم صمت فصمتت الحجرة إلا من صوت واهن هو صوت يسري يحاول أن يعيد إلى لسانه ليونة فارقته، ولما طال الصمت قال يسري: هل هناك شيء؟
وقال خيري في حزم: والله نعم، هناك شيء.
واستجمع خيري نفسه ليقول: خير ؟
وقال خيري: لا والله، ليس خيرا. - ماذا؟ ماذا حدث؟ - ألا تعرف؟ - آبيه خيري، هل هناك شيء؟ أرجوك. لا تعذبني. - اسمع يا يسري! هل تصر أن تبقى دولت بالبيت؟
وأطرق يسري طويلا ثم قال: ماذا أفعل؟ - ألا تذهب إلى أخيها؟ - وما شأني أنا؟ إنه ليس بيتي. - يسري، أرجوك لا تلف علي. - أنا؟! - نعم أنت. - آبيه خيري، هل سمعت شيئا؟ هل قال لك أحد إن هناك شيئا؟ - يسري، إنني واثق أن بينك وبينها أشياء. - هل أخبرك أحد بذلك؟ - هل رآكما أحد حتى يخبرني؟
وأدرك يسري أن أخاه يريده أن يعترف. أدرك أنه لو قال «لا.» اعترف. فصمت هونا ثم قال: ليس بيننا ما نخفيه.
وصمت خيري ثم قال: إذن، فأقوم أنا.
واضطرب يسري وخشي أن يتركه أخوه هكذا معلقا دون أن يطلعه على حقيقة ما يعرفه، فتشبث ببقائه قائلا: لماذا؟ لماذا تقوم؟ - لأنك تصر على أن تدور علي وتلف. - ماذا تريد؟ - لا أريد دولت أن تبقى في البيت. - هل سمعت شيئا؟ - إني أعرف دولت وأعرفك.
وارتاح يسري بعض الشيء، واطمأن أن علم أخيه قائم على الاستنتاج، فاستقر مضطربه. وكان ترك دولت للبيت أمرا يفكر فيه هو، بل إن دولت أنبأته في الأمس أنها تريد خمسين جنيها لتعود فتاة عند الحاجة ... الحاجة ... قالت الحاجة من؟ لا يهم، فلماذا لا يعطيها ما طلبت، ويزوجها؟ والله فكرة، من يتزوج بها؟ إنها هي أيضا لا تريد البقاء وتريد أن تستقل ببيت، فلماذا لا ينفذ هذا؟ ولكن من يتزوج بها؟ من؟ من؟ وقبل أن يبدأ أخوه الحديث ثانية دخل السكرتير ليقول: الأستاذ صبحي، هل ينتظر؟
وانتفض يسري عن مقعده وهو يقول: هو، إنه هو.
وقال أخوه: ماذا، ما بك؟
فقال لأخيه وقد استعاد ثباته: لا، لا شيء.
ثم قال للسكرتير: اسأله أن ينتظر، فسأطلبه حالا.
وخرج السكرتير. وقال خيري: هيه، أأتركك لتفرغ لعملك، أم أنتظر دقيقة أخرى لأسمع منك كلاما مستقيما لا لف فيه ولا دوران؟
قال يسري وقد اطمأنت فكرة في ذهنه: ماذا تريد مني؟ - اطلب إلى دولت أن تخرج. - وما الحجة التي تقدمها لتخرج؟
وارتج على خيري هنيهة ثم قال: هذا شأنها وشأنك، لتقل إنها ستتزوج، أو لتقل إن أخاها يريدها، أو لتقل ما تشاء، المهم ألا تبقى في البيت. فإن نظرات الخدم أمس لم تعجبني، وأخشى أن تنتقل نظرات الخدم إلى السادة.
فقال يسري: سأطيعك يا آبيه خيري، وستسمع حالا أني أطعتك.
وقام خيري دون أن يشكره على هذا الأدب ولا على الترحيب الذي لاقاه به، فقد كان لقاؤه مع فايزة لا يزال مسيطرا عليه.
وهم خيري أن يخرج من الباب الذي دخل منه، ولكن يسري عاجل يسبقه قائلا: بل من هنا يا آبيه خيري، فهذا بابي الخاص، لا تزرني بعد اليوم إلا منه.
ولم يقل خيري شكرا، بل واصل طريقه إلى باب الشركة الخارجي ويسري من خلفه يتبعه حتى خرج إلى الطريق.
وعاد يسري إلى مكتبه مسرعا، واستقر على كرسيه وطلب أن يدخل إليه صبحي. ورحب يسري بصديقه ترحيبا بالغا، وراح يسأله عن زملائهما، وراح صبحي يجيب في لعثمة أول الأمر، ثم انطلق لسانه في ظلال الذكريات، ووجد نفسه دون أن يحس قد عاد مرة أخرى زميلا لهذا الجالس على الكرسي الأنيق لا يفصله عنه منصب كبير حين هو بلا منصب على الإطلاق، ولا يفصله عنه غنى وجاه حين هو بلا غنى ولا أمل في الجاه، تحادث الصديقان وجمحت بهما الأحاديث حتى لقد نسى يسري نفسه هو أيضا، وراحت الذكريات ترفرف عليهما بجناحين فيهما حنان ولها في القلب وجيب قوي الأخذ آسر. وكان يسري ينسى ما انتوى أن يقوله لصديقه، بل كاد صبحي نفسه ينسى ما جاء له وقد جاء لحياته. قليلا ما ترفرف هذه الأجنحة، وقليلا ما يدوم هذا الحنان في حجرة اجتمع فيها اثنان لكل منهما عند الآخر نشيدة ترتجى وأمل مرموق. غير أن يسري عجب من نفسه أن أحست هذا الدفء، وعجب من نفسه أن تسيطر عليه الذكريات فيلتذ أسلوبها. وسرعان ما أفاق إلى مجلسه ومنصبه فحرص أن يشيع في الغرفة صمت، وحرص ألا يفاتح صبحي فيما جاء له، فقد أراده أن يكون هو البادئ بالطلب. وسرعان ما استرد صبحي نفسه من الأيام الغابرة ليعيش في حاضره ويذكر ما نسيه من فوارق ومن فراغ ومن فقر وشظف عيش.
قال صبحي: ماذا عملت لي؟
واصطنع يسري النسيان، فقد كان يعلم كيف يصطنع النسيان: فيم؟ - في مسألتي. - آه، الوظيفة. - نعم.
وأطرق يسري ليقول: والله يا صبحي المسألة معقدة. - ألا أمل يرجى؟ - كل شيء ممكن، إلا أن المسألة صعبة جدا، فالوظائف معدومة والشركة تشكو كثرة الموظفين. وقد نبهنا مجلس الإدارة مرات إلى تضخم اعتماد الوظائف، حتى إننا نفكر في هذه الأيام في توفير بعض الموظفين.
وأطرق صبحي صامتا آسفا، يرى أمله يصرع بعد أن كان قد أنشأه في نفسه فكبر حتى كاد يصبح حقيقة، ولم يجد ما يقوله إلا: أي وظيفة يا يسري، يا يسري بك، لا يهمك أنني أحمل شهادة عالية، فقد أصبحت الشهادات اليوم عقبة أمامنا، وضاق بي أبي وأصبح في كل يوم يصبحني ويمسيني بقوله: «ها قد تعلمت، فهل جئت بالسبع من ذيله؟ لو تعلمت الصنعة مثلي لكنت اليوم تأتي بأكلك على الأقل.» وحياتي أصبحت لا تطاق حتى أمي أصبحت تضيق بي، اللقمة التي أتناولها في بيتي لا أستطيع أن أبتلعها، فإني أحس أنها حق إخوتي الذين يعملون مع أبي، أو حق أبي الذي يشقى نهاره وليله ليأتي بها، وإني أحس أنظار البيت جميعه تحدق باللقمة في طريقها إلى فمي فتمسك أنظارهم بها وأعيدها إلى الطبق وأقوم ... جوعان، أرى الأكل ولا أطيق أن آكله، تعافه نفسي وأحتاج إليه، أي عمل يا يسري، يا يسري بك.
وانهار صبحي باكيا في نشيج مكتم لا يعلو، ولم يملك يسري إلا أن يقول: الله! صبحي ما بك؟ تشجع إنك رجل!
فقال صبحي: لا رجولة مع الحاجة أبدا.
فقال يسري وقد قام يقف إلى جانب صبحي ويربت كتفه: تهون يا صبحي، تهون إن شاء الله، اسمع. - نعم. - هل أنت متزوج؟
وأفاق صبحي إلى صديقه إفاقة تامة: نعم، ماذا قلت؟ - هل أنت متزوج؟ - وهل أجد طعامي حتى أتزوج؟ إن كان أهلي لا يحتملونني وحدي، فهل يحتملون معي فما آخر؟! - ما رأيك لو تزوجت؟ - وهل هذه وظيفة؟ - نعم. - لا أفهم. - أخت عضو مجلس الإدارة المنتدب، تتزوجها اليوم تصبح غدا من كبار موظفي الشركة. - ولكن؟! - ماذا؟! - هل بها عيب؟ - أبدا. - إذن فلماذا تتزوجني؟ - تركها أخوها وسافر إلى أوروبا، وطال غيابه بها فلم تتزوج، وسنها اليوم كبيرة بعض الشيء، لكن الفارق بينكما لا يذكر. - أهي عجوز؟ - سأجعلك تراها! - ومن أين آتي بالمهر والملابس؟ - الملابس يسهل تدبيرها. - والمهر؟ - أسلفك. - ومن أين أسدد؟ - من مرتب الشركة. - إذن؟ - سأجعلك تراها غدا. - غدا؟! - غدا. - وهو كذلك.
وخرج صبحي على موعد في الغد، وكان الموعد بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان، يراها هناك مع يسري.
وما إن أقفل صبحي الباب من خلفه حتى أمسك يسري بسماعة التليفون وطلب بيته، وحين أجابت دولت قال لها: الآن في بيت أخيك.
وتأكد أن الدكتور حامد بالشركة ثم نزل. •••
وحين التقى يسري بدولت بادر فأعطاها ورقة بخمسين جنيها وهو يقول: غدا سيراك العريس بحديقة الشاي معي، ثم تذهبين من فورك إلى الحاجة ... الحاجة ...
فقالت دولت: توحة، الحاجة توحة ... ولكن من العريس؟ - شاب متعلم، سأعينه في الشركة بعد زواجك مباشرة. - أكبير في السن أم صغير؟ - في سني أنا، سترينه غدا، قومي الآن، فإني سأعود إلى الشركة.
ونظرت إليه مليا ثم قالت مفكرة: طيب، اذهب أنت.
الفصل الثامن والثلاثون
لم يكن فرح دولت كبيرا، فقد حرص الدكتور حامد أن يكون في أضيق الحدود الممكنة، وقد حضر عزت باشا الفرح وفاء منه لدولت كما شهدته وفية ومحسن ونادية وإجلال هانم وسميرة هانم، إلا أن فايزة استطاعت أن تجعل من حملها سببا قويا للاعتذار، فلم تحضر، كما استطاع خيري أن يجد عذرا فلم يشهده هو الآخر، فهو لا يعرف صبحي ولا يحب أن تقوم بينه وبين دولت صلة من بعد، ولم ينتبه أحد إلى غياب الاثنين غير يسري، إلا أنه سرعان ما نفض عن ذهنه أن زوجته تعرف شيئا، وكان العروسان قد استأجرا شقة صغيرة بالغة الصغر، فما إن انتهت الليلة حتى انتقلا إليها وانفض السامر الصغير في شقة الدكتور حامد الفاخرة. •••
كان يسري في مكتبه صبيحة الزواج حين اقتحم صبحي عليه الباب وهو يقول في غضب وسخرية: صباح الخير يا أستاذ.
ووقف يسري محاولا أن يتجاهل ما كان واضحا في الاقتحام والصوت من معان مخيفة: أهلا وسهلا، أهلا بالعريس.
وقال صبحي دون أن يهدأ غضبه أو تخف سخريته: أهلا بك، من العريس، أنا؟
وقصد يسري إلى الباب فأقفلته، والتفت إلى صبحي قائلا: ماذا بك يا صبحي؟ اجلس. - لن أجلس، أريد مقابلة عضو مجلس الإدارة المنتدب. - لماذا؟ خير؟ - خير طبعا، وأي خير، أخبره عن أخته وعن الحاجة توحة والعملية الفاشلة التي أراد لها الله أن تفشل حتى أفتح عيني ولا أصبح ما أردت لي أن أكون.
وأدرك يسري كل شيء، ولكنه سرعان ما تمالك أمر نفسه وقال: اجلس، اجلس أولا.
قال صبحي: ولماذا أجلس؟ أنا نسيب البك عضو مجلس الإدارة، أريد أن أقابله، أنا أقرب منك وهو أقرب إلي منك، أنا نسيب البك، لا بد أن أقابله.
وقال يسري في جرأة: اجلس يا أخي، ماذا تريد أن تقول له؟ - ماذا أريد أن أقول له، ألا تعرف؟ - وماذا تنتظر أن يفعل لك؟ أتظنه سيحتضنك ويشكرك ويقدم إليك الوظيفة التي تريدها؟!
وحين سمع صبحي لفظة الوظيفة جلس وصمت، وقال يسري: اهدأ هكذا ولنتفاهم، إن أمورا مثل هذه التفاهم فيها مهم ومفيد. - مفيد، مفيد؟! - نعم مفيد. - أهكذا، أرني يا سيدي كيف يكون التفاهم مفيدا، فمنك نستفيد. - نعم مني تستفيد، وما المانع؟ - تفضل قل. - المشكلة أنك وجدت عروسك ليست فتاة، أليس كذلك؟ - ها أنت ذا تعرف! - كيف يمكن أن تصبح فتاة؟ - حاولت الحاجة توحة فلم تفلح. - قد يفلح غيرها. - لا أفهم شيئا. - ألا تفهم؟ - أفصح. - ألا تستطيع أنت؟ - أنا، أنا. - نعم، من سيعلم بالحقيقة، هذه مسألة بينك وبين زوجتك لا يعرف بها غيركما. وأنت لم تتزوجها حبا فيها وإنما حبا في الوظيفة، والوظيفة مضمونة ما دام بينكما الزواج. - وأسكت؟! - فإذا أضفنا إلى الوظيفة مبلغا صغيرا من المال يكون رأس مال لكما ولأبنائكما، ألا يعوضك هذا عن زوجة فتاة؟
وسكت صبحي وأطرق، وانهلت من عينيه دمعتان، وكأنما تسربت فيهما سخريته التي صحبها، فأخرج المنديل الأنيق الذي أهداه إليه يسري وأزال دمعتيه، وأزال معهما البقية الباقية من غضبه وقال: لا بد أن يكون التعويض كبيرا. - سيكون مجزيا. - خمسمائة جنيه. - فإن كان مائتين. - اجعله ثلاثة. - مائتان، ولا ترد المائة جنيه التي اقترضتها مني.
وأطرق صبحي وصمت، وأخرج يسري دفتر الشيكات وكتب شيكا جعله لحامله وأعطاه صبحي الذي وضعه في جيبه وهو يقول: ومتى أتسلم الوظيفة؟ - ألا ترى أن تنتظر بضعة أسابيع حتى لا تحرج الدكتور حامد؟ - على ألا تصل إلى شهور. - توكل على الله، فترة أسبوعين أو ثلاثة وأكتب قرارا بتعيينك وأجعله يوقعه. - وهو كذلك.
وخرج صبحي غير غاضب ولا ثائر ولا حائر أيضا، فقد علمته أيام الشظف التي عاشها مع أبيه وأمه ألا يغالي في غضبه، كما علمته أن الطريق وعر على رواده، كما علمته النقود أن يكون هادئا ما وسعه الجهد.
وحين خلا يسري بنفسه راح يفكر في هذه الوظيفة التي وعد بها صبحي. لم تعد هينة المأخذ كما كان يظن حين وعده بها أول الأمر، فقد كثرت الصفقات المريبة التي عقدها الدكتور منذ ذلك الحين، وأصبح مجلس الإدارة كثير التشكك، وكثر التساؤل بين أعضاء المجلس، والدكتور حامد لا يريد أن يكف عن صفقاته، ولا يريد أن يستمع إلى تحذيره، بل هو ماض في سبيله لا يكترث بأحد ولا بشيء، فكيف يستطيع اليوم أن يعين زوج أخته، وكيف يوافق المجلس على هذا التعيين؟ •••
مرت شهور بعد الأسبوعين والثلاثة، وصبحي يقدم في كل حين يستنجز يسري وعده، ويسري يستمهله، ويلجأ إلى حامد فيستمهله أيضا مدركا ما يحيط به من حرج. وكان صبحي لا يستطيع أن يطلب مالا من حامد، وما كان ليعطيه لو هو طلب، فقد كان يجهل كل شيء، ولكن صبحي كان يلجأ إلى يسري فيعطيه عشرة ثم خمسة ثم جنيهين، ثم جاء يوما إليه وهو يقول: وبعدين يا يسري؟ - وبعد فيم؟ - الوظيفة؟ - نحن في موقف غاية في الدقة، وما إن نخرج منه حتى تعين على الفور! - وأنا ماذا أفعل؟ - وأنا ماذا أفعل؟ - لقد طال الوقت وطال. - ألا أعطيك ما تطلب؟ - أتمن علي بما تعطي؟ إنك مضطر لذلك. - وما يضطرني؟ - ألا تعرف؟ - آه! هذه الحكاية القديمة؟ - ماذا! أأصبحت قديمة؟ - ألم تعرف هذا؟ ألم يمر على زواجك شهور؟ أتريد بعد هذه الشهور أن تقول؟
وأدرك صبحي الموقف على حقيقته، وقال يسري: أتظن أنني مضطر لإعطائك، لا يا أخي، أنا أعطيك لله، لا لأني مرغم!
وأطرق صبحي، وقام صامتا وخرج.
الفصل التاسع والثلاثون
كان خيري جالسا في حجرة أمه، وهي تصلي جالسة على كرسي، جاعلة ركوعها وسجودها على نضد اتخذته أمامها، وكانت نادية تقرأ شعرا على أخيها وهي مأخوذة بجمال الشعر، فهي تلقيه في إعجاب وقد صعدت الدماء إلى وجهها فزادت براءتها جمالا وروعة، يتهدل شعر ذهبي على جبينها فترفعه في غير ما كلفة ولا اصطناع، وعيناها بريق أخضر أودعهما حب الفن شعاعا من نور، فهما تتألقان، وينساب الشعر من بين شفتيها موسيقى رخية النغمات عميقة فيخيل إليك أنه نبض قلب أو نبض شباب، وخيري ينظر إليها بإنعام مأخوذا بقوامها الأهيف وجمالها الطاغي الهادي البريء وصوتها الناغم الندي، ويجد في نفسه لهفة أن يضمها بين ذراعيه فيناديها إليه ويطويها في حنان أب بين أحضانه ويقبلها وهو يقول: أنت خير قصيدة رأيتها أو سمعتها.
وتقول في خجل: وبعد لك يا آبيه خيري، ألا تجعلني أكمل القصيدة؟ - كم أغار من ذلك الشاب الذي سيأتي يوما ليأخذك منا.
وقالت نادية وقد ازداد خجلها: آبيه خيري.
وتفرغ الأم من صلاتها وهي تقول: ستفسد البنية يا ولد بكثرة مديحك لها. - نادية لا تفسد أبدا، ربنا يحميها.
وضحكت الأم ونادية في جذل، ودق جرس الباب فقالت الأم: افتح الباب يا خيري، دادة زينب لم تعد قادرة على المشي في سهولة، يا ابني أين بنت عبد التواب التي قلت إنك ستحضرها من البلد؟
ولم يستطع خيري أن يجيب أمه، فقد شخص إلى الباب، وما إن فتحه حتى وجد نجيبا واقفا به، وكان قد غاب عنه فترة طويلة، فصاح به: أهلا، أين أنت يا ولد؟ - ألا تسأل أنت؟ النهاية، أريد فنجان قهوة.
وقاد خيري صديقه إلى غرفة الجلوس وأقفل الباب، وعاد إلى نادية يطلب إليها أن تصنع لهما قهوة.
وحين استقر المجلس بالصديقين راحا يديران بينهما الحديث، ونجيب يقص على خيري ما يعرض له في مهنة المحاماة التي احترفها، والتي أصبحت تدر عليه ربحا مرضيا، وبعد قليل وقت سمع خيري طرقا على الباب فقام يحضر القهوة من نادية، وقال نجيب وهو يشربها: أين تذهب اليوم؟ - أمرك. - عندي لك هدية. - خير؟ - بيت جديد عرفته. - كبيت مصر الجديدة! - وما له بيت مصر الجديدة! - والله عمك كان رجلا عظيما، ماذا فعل الله به؟! - مات وتزوجت الآنستان من شابين موظفين محترمين. - أتعرف العناوين؟ - يا حبيبي لذة العيش في التنقل، التنقل يا حبيبي التنقل، البيت الذي سنذهب إليه اليوم فيه امرأة لا تراها ولا على الشاشة الأمريكية. - وفيه لك عم أيضا؟! - لا، أخ، فزوجها رجل طيب، وابن حلال ويرضى بالقليل. - وما القليل؟ - جنيهان! - جنيهان؟! ألا تذكر القروش؟ - الحرب يا سيدي رفعت أسعار البضاعة، كانت أيام ومرت ولن تعود، ولكن الحق أن الجنيهين ثمن بخس بالنسبة للجمال الذي ستشاهده هناك. - سنرى. •••
نزل الصديقان في ميدان الدقي، وأخذ سمتهما إلى الشارع المفضي إلى الجامعة، ولم يطل بهما المسير، فقد أمسك نجيب بذراع خيري وحاد به إلى عمارة حديثة. وصعد بهما المصعد إلى الطابق الأعلى، فوجدا شقة لا تقابلها شقة أخرى، فدق نجيب الجرس وفتح الباب شاب أنيق الثياب جريء النظرة جبان النظرة، وحدق فيه خيري يريد أن يتذكر أين رآه، فقد كان واثقا أنه رآه، ولكن أين؟ لم يذكر.
وقاد الشاب الصديقين إلى حجرة للجلوس عبر ردهة صغيرة ضيقة، ولم يتكلم وإنما غاب عنهما لحظات وعاد فوجد على المنضدة أربعة جنيهات لم يكن في حاجة إلى عدها، فوضعها في جيبه، ثم ترك الغرفة وما لبث الصديقان أن سمعا صوت الباب الخارجي يفتح ثم يغلق، فقال نجيب لخيري: قم.
فقام خيري غير محتاج إلى دليل، فلم يكن بالبيت إلا حجرة أخرى، ففتحها ثم تولاه ذهول، وصاح: دولت؟!
ونظرت إليه دولت مشدوهة كأنما مسها صاعق، ثم سارعت تضع يديها كلتيهما على وجهها، وارتمت على الأريكة تبكي في خزي وألم.
وترك خيري الباب مفتوحا لم يقفله ولم يذهب إلى نجيب، وإنما قصد إلى الباب الخارجي وانصرف.
الفصل الأربعون
كان خيري جالسا في مكتبه بالوزارة منكبا على بعض أوراق حين أحس ظلا يلقى على الورق أمامه، فرفع رأسه ليرى وجها حاول أن يتذكر صاحبه، ولكن صاحب الوجه لم يمهله: خيري بك، أنا سكرتير يسري بك.
وقام خيري ليحيي ضيفه ويسأله: نعم، هل هناك خدمة؟
فنظر السكرتير إلى الموظفين الجالسين مع خيري في الحجرة ثم قال: تسمح، كلمة على انفراد.
ويخرج خيري من مكتبه إلى الردهة الخارجية ويريد أن يقف، ولكن السكرتير يمضي به تاركا الردهة ومبنى الوزارة جميعا، حتى إذا آنس من الطريق مكانا منعزلا وقف وقال لخيري: أرجوك أن تسمع ما سأقوله لك في هدوء، كما أرجو أن تتصرف بحكمة، فالوقت أشد ما يكون حاجة إلى الحكمة. - قل، ماذا هناك؟ - النيابة قبضت اليوم على يسري بك وقد أرسلني إليك. - ماذا؟ - مجلس الإدارة وجه إليهما التهمة بعد فصلهما من الشركة. - وهل عرف بيت يسري شيئا؟ - أمرني أن أجيء إليك. - وما رأيك؟! - لا علم لي بالعقود موضوع الاتهام، ولكني أعرف أن يسري بك لم يكن يقبل مليما حراما منذ دخل الشركة. وقد رفت السكرتير الذي كان يعمل معه قبلي لأنه قدم إليه عميلا يريد أن يرشوه. - أنت واثق؟! - من أمانته؟ نعم، ولكن الدكتور حامد دخل في صفقات كثيرة، وأخشى أن يكون قد أرغمه على الاشتراك فيها. - طيب، أشكرك.
وركب خيري سيارة أجرى إلى منزله وصعد إلى أمه وقال لها وقد اصطنع الهدوء: نينا! الدكتور حامد متهم في اختلاس، وقد قبض عليه!
وفغرت سميرة هانم فاها وقد أوشكت أن تستنج الخبر التالي: ماذا؟ - وبالطبع قبض على يسري معه.
ونظرت سميرة هانم إليه مليا وقالت: خيري، هل سرق يسري؟ - لا أظن! - وماذا تنوي أن تفعل؟ - أريد جزءا من حليك لأرهنه وأدفع أتعاب المحامي. - هاك المفتاح.
وقصد خيري إلى لطفي بك محمد أستاذ القانون الجنائي، واصطحبه إلى مقر النيابة، فوجد التحقيق جاريا مع حامد، ووجد يسري جالسا خارج غرفة التحقيق، وحين اقترب منه وجد في عينيه دمعات تبدو وتغيض، وقال يسري في حزم وإباء: أنا لم أسرق يا آبيه خيري.
وأنعم خيري فيه النظر ثم قال: نعم، أعرف.
وجلس المحامي إلى جانب يسري وراح يسأله عن الاتهام، وما هي إلا لحظات حتى رأى يسري زوجته فايزة قادمة يصحبها عزت باشا ووفية وعبد السلام بك هنداوي المحامي الكبير.
وتقدمت منه فايزة لم تسأله شيئا ولم تهتم بشيء إلا أن تقول: لا تخف يا يسري.
وانضم المحامي الكبير إلى زميله الذي جاء مع خيري، وراح ثلاثتهم يتحدثون، وابتعد عنهم رهط الأقارب. وكتب خيري لفايزة: «ما كان لك أن تأتي يا فايزة.»
وفهمت فايزة ما يعنيه، لكنها قالت: فمن يأتي؟ لماذا لم تقل لي؟
وكتب: «خشيت أن أتعبك.»
وقال عزت باشا وقد قرأ الورقة: لا تخش شيئا يا خيري، ولا تخجل من شيء، فقد أديت أنت واجبك كاملا وللشباب طيشه.
وقالت وفية: يسري لا يسرق.
وسكت أربعتهم، ولاحظت وفية أن خيري ينظر إليها نظرات فيها سؤال لا يريد أن يبوح به، فقالت: جميل مشغول مع الوزير، لم يستطع أن يجيء.
وفهم خيري أن جميل خشي على منصبه وهيبة السلك السياسي، فمهد له في نفسه العذر وانطوى على خجله وصمت.
لم يمض وقت طويل حتى استدعي يسري إلى التحقيق، وصحبه المحاميان الكبيران.
وبدأت أسئلة النيابة تنهمر على يسري وهو يجيبها في حذر، محاولا ما وسعه الجهد أن يحمي نفسه ويحمي الدكتور حامد ما أمكنته الوقائع من حمايته . وراح ممثل النيابة يستدرجه ويحيط به بما مرن عليه من مهارة وخبرة، حتى إذا وجده صلبا في دفاعه عن نفسه وفي دفاعه عن رئيسه فاجأه قائلا: وما قولك في التهمة التي يوجهها إليك عضو مجلس الإدارة المنتدب، من أنك وحدك المسئول عن كل العمليات محل الاتهام، ومن أنه لم يوقع ورقة واحدة منها إلا بعد توقيعك؟
وروع يسري وخيل إليه أن ممثل النيابة يحاول أن يوقع بينه وبين الدكتور حامد ليعترف كلاهما، ونظر يسري إلى حامد نظرات متسائلة أشاح عنها حامد غير عابئ، فقال يسري: هو قال ذلك؟!
وقال ممثل النيابة للكاتب دون أن ينظر إلى يسري: أعطه المحضر ليطلع عليه.
وقرأ الاتهام صريحا واضحا، بل قرأ سؤال النيابة للدكتور حامد: «هل تشك في ذمة سكرتير الشركة؟» وقرأ إجابته: «لم أكن أشك فيها ولكنني بعد أن تبينت الآن ما كان في هذه الصفقات من تلاعب أصبحت على يقين أن ذمته تقبل أي شيء.»
وأعاد يسري الأوراق للكاتب مفجوعا حريصا ألا ينظر إلى حامد ثانية، مجاهدا نفسه ألا تتحول عيناه إلى حيث يجلس. أطرق يسري وسكت، إذن فهذه هي الحياة التي يعرفها الدكتور حامد ولا يعرف غيرها، النجاح عن أي طريق، والكسب من أي سبيل، فإن اعترض طريقه عارض فيده إلى أقرب شخص تصل إليه يده ويضعه تحت قدميه ليعبر هو، وإن انهدم المعبر بعد ذلك، نعم وإن انهدم وانهار وأصبح لا شيء إلى ذرا من الغبار. تلك هي مثله، وتلك هي العقلية الناضجة المتحررة من تقاليد الماضي المتوثبة إلى آفاق المستقبل الثائرة على القيم والأخلاق وكل الخرافات التي يقول بها خيري، أهي خرافات؟ أم تراني أنا الذي كنت أعيش في خرافة يقودني ويقدم خطاي فارس من فرسان اللاأخلاق واللاقيم واللامثل واللاشيء على الإطلاق إلا اهتبال الفرص السانحة وتحطيم كل ما يعترضني ومن يعترضني لبلوغها؟ أم آن لخيري أن يسخر؟ وأحبب بسخريته إن فعل، ولكنه في نبله لن يسخر، بل ها هو ذا خارج الغرفة يصحب أكبر المحامين، وحده يعلم كيف دفع له أتعابه، ومعه الرجل الذي سكب علي فضله فلم ير مني إلا استغلال اسمه واستغلال منصبه، ومعهما الزوجة التي تزوجتها لمالها وخنتها، أتعلم بخيانتي لها؟ لا ما كانت لتجيء لو كانت تعلم، لا فلا يمكن أن تصل بها الملائكية إلى هذا المدى، فقد يكون بين الناس من وصلت أرضيتهم إلى ما وصلت إليه، ولكن ليس بين الناس من تصل بهم الملائكية إلى الحد الذي تصوره، لا يمكن أن تكون قد علمت بما كان بيني وبين دولت ثم تجيء، ولكن أليست رائعة في مجيئها إلي هي وأختها وأبوها؟ وأبوها من هو اسما وقدرا، وهي وأختها من هما شرفا، لم يقل الرجل ولم تقل واحدة منهما: بعيدا عن العفن، بعيدا عن المستنقع الذي تردى فيه هذا الذي غال حمانا، ودنس اسمنا، وهوى بما كافحنا في بنيانه من شرف ومجد ورفعة، لم يقل واحد من ثلاثتهم هذا، وإنما جاءوا ليقفوا إلى جانبي ولأراهم لي ركنا، في حين أرى من سعيت به إلى مكانته، أرى ذلك الذي أحاول أن أحميه، أرى ذلك المثل الذي جعلته أمامي وتتبعت خطاه يرمي بي إلى الوحل محاولا أن يدوسني ليمر هو وأموت أنا في الطين.
حرص يسري مرة أخرى ألا ينظر إلى حامد، فقد تمثل له شيطانا من ماضيه قائما أمامه، فهو يريد أن ينساه أو يعمى فلا يراه.
طال الصمت في غرفة التحقيق، وترك ممثل النيابة يسري لصمته لم يقطعه مقدرا ما أصابه من التهمة التي وجهها إليه حامد، يمنعه العطف أن يلح عليه بالأسئلة في غمرته هذه، مرتئيا أن التفكير الذي يتجه له الصمت قد يهديه إلى الاعتراف.
وقال ممثل النيابة آخر الأمر: ما أقوالك؟
وانتبه يسري إلى واقعه، وصمت هنيهات أخرى ثم قال: أرجو تأجيل التحقيق إذا كان ذلك ممكنا. - إذا تأجل التحقيق فسيستمر حبسك حتى نواصل التحقيق.
وقال الأستاذ عبد السلام: ألا تستطيع الإجابة الآن؟
وقال يسري في انهيار: أفضل أن يتأجل التحقيق، لا أستطيع الإجابة، حالتي لا تسمح.
وأصدر ممثل النيابة أمره بالقبض على يسري وحامد على ذمة التحقيق.
واقتيد يسري إلى الحبس وفايزة والهة لا تدري ماذا تم في أمره، لا تجد أحدا يكتب لها ما انتهى إليه التحقيق حتى سارع إليها خيري ينبئها، وانصرف الجميع تحيط بهم أشجان وحيرة.
وفي الصباح الباكر كان خيري وفايزة أول من حضر إلى دار النيابة وتبعهما المحاميان، وجيء بيسري وحامد من الحبوس. وحين حاول حامد أن يقول شيئا ليسري أشاح عنه بوجهه، فكأنه لم يعرفه يوما، أو كأنه يريد ألا يذكر أنه عرفه يوما.
كان يسري قد استقر على رأي، وحين ابتدأ التحقيق معه أصر على خطته من الدفاع عن نفسه وعن حامد معا، ولم تجد النيابة أدلة قوية تسمح لها أن تأمر باستمرار الحبس، فأفرجت عن المتهمين بكفالة قدرها خمسون جنيها لكل منهما، وخرجا، وأراد حامد أن يحادث يسري ثانية فلم يلتفت إليه، بل سارع إلى السيارة يريد ألا يلقاه، فكأنما يهرب من ماضيه كله ومن آرائه ومن الأيام التي عاشها في ظلال هذا الرجل.
وفي السيارة جلست فايزة وإلى جانبها يسري وإلى جانبه خيري، ولم يملك يسري أن يسكت، ولم يأبه بالسائق الذي يقود بل التفت إلى أخيه يسأله: آبيه خيري، هل تعلم فايزة شيئا عن ...
ثم نظر إلى السائق ومال على أذنه يسأله: عن دولت؟
ودهش خيري من السؤال، وعجب أن يكون هذا هو أول سؤال يلقيه عليه بعد هذه المحنة التي مرت به، فسأل: ما المناسبة؟ - أريد أن أعرف. - لست في حل أن أقول. - فهي إذن تعلم.
وصمت خيري فقال يسري: فهي التي أنبأتك.
ولم يجد خيري محيدا عن إفشاء السر فقال هامسا: لقد رأتك في حجرتها في اللحظة التي أرادت أن تنبئك فيها أنها تحمل لك ابنك.
وانهمرت الدموع من عيني يسري، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يمسك بيد فايزة ويرفعها إلى فمه يقبلها قبلة المعترف بالفضل. وأحست فايزة بغريزتها نوع القبلة، وإن كانت لم تسمع من الحديث شيئا، فأبعدت يدها عن فمه وربتت بها رأسه في حدب وقد انهمرت الدموع من عينيها. ورأى خيري دموع يسري ورأى قبلته ليد زوجته، فانتظر حتى عاد يسري يرفع رأسه، فأمسك بيده وشد عليها في ابتهاج وقد تماوجت الدموع في عينيه. وقال في فرح غامر: مبروك يا يسري. - نعم يا آبيه خيري، إنني الآن أستحق التهنئة.
نزل يسري من السيارة حين بلغت البيت، وأحاط زوجته بذراعه وعبر بها البهو إلى الطابق الأعلى ودخلا حجرتهما، وأقفل يسري الباب، وكانت فايزة قد جلست على الكرسي ترنو إليه في إعزاز، فتقدم منها وركع على الأرض وانكب على قدمها يقبلها فصاحت: لماذا يا يسري؟ لماذا؟
وكتب لها: «اغفري لي.»
وأدركت أن خيري قد أباح سرها فقالت: لقد غفرت.
وكتب: «كنت في ظلام.»
فقالت: ثم تشرق الشمس.
অজানা পৃষ্ঠা