375
الإخبار بالفتن التي ستقع للصحابة
وأشرف (^١) رسول الله ﷺ على أطم (^٢) من آطام المدينة، فقال: "هل ترون ما أرى؟ "، قالوا: لا. قال: " إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ". وقال:" اللهم بارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا"، فقال رجل: وفي عراقنا (وفي نجدنا) (وفي مشرقنا) يا رسول الله؟، فقال ﵊: "هناك الزلازل والفتن، ومن هنالك يطلع قرن الشيطان (^٣) ". لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين -منهم أربع نسوة- كلهم يزعم أنه رسول الله، يكذب على الله وعلى رسوله، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي. وبينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما وأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: العنسي صاحب صنعاء (^٤)، ومسيلمة صاحب اليمامة (^٥).
وصعد رسول الله ﷺ أُحُدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد أبي وقاص ﵃ فرجف بهم، فضربه رسول الله ﷺ برجله وقال: اثبت أُحُد، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال في خالد بن الوليد ﵁:"لَا تُؤْذُوا خَالِدًا، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ صَبَّهُ اللَّه عَلَى الكُفَّار" (^٦). وقال لعدي بن حاتم ﵁: "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (^٧) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز،

(^١) يعني: نظر من مكان مرتفع.
(^٢) الأطم: هو القصر والحصن، وجمعه آطام.
(^٣) قرن الشيطان وقرناه: أمته والمتبعون لرأيه، وانتشاره وتسليطه. وقيل: يحتمل أن يريد بالقرن: قوة الشيطان، وما يستعين به على الإضلال، وكان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر ﷺ أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع، نشأت من تلك الجهة حيث حدثت وقعة صفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق، وما ورائها من المشرق، وكانت الفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين: قتل عثمان ﵁.
وبعض المبتدعة المحاربين للسنة والمنحرفين عن التوحيد يطعنون في الإمام محمد بن عبد الوهاب مجدد دعوة التوحيد في الجزيرة العربية، ويحملون الحديث عليه باعتباره من بلاد (نجد) المعروفة اليوم بهذا الاسم، وجهلوا أو تجاهلوا أنها ليست هي المقصودة بهذا الحديث، وإنما هي (العراق) كما دل عليه أكثر طرق الحديث، وبذلك قال العلماء قديمًا، كالإمام الخطابي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم. وقد جهلوا أيضا أن كون الرجل من بعض البلاد المذمومة، لا يستلزم أنه هو مذموم أيضًا، إذا كان صالحًا في نفسه، والعكس بالعكس، فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر، وفي العراق من عالم وصالح، وما أحكم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء حينما دعاه أن يهاجر من العراق إلى الشام: " أما بعد، فإن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الإنسان عمله ".
(^٤) كانت فتنة خروج الأسود العنسي وادعائه النبوة قبل حجة الوداع في العام العاشر، ودامت أربعة أشهر، وكانت أول ردة في الإسلام، وقد أثار الأسود موضوع أخذ الزكاة من اليمن، وتمكن المسلمون من قتله في قصره، وإعلان العودة إلى الاسلام.
(^٥) وقد قال ﵊ لمسيلمة: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت، ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت).
والصحابة بعد وفاة الرسول ﷺ بايعوا أبا بكر الصديق على الخلافة عبر مجلس شورى من كبار الصحابة في سقيفة بني ساعدة. وظهرت ردة مسيلمة الكذاب وقبائل عديدة في خلافة أبي بكر الصديق ﵁، وامتنعت بعض القبائل عن دفع الزكاة، فأوضح الصديق للصحابة رضوان الله عليهم بقوله: "والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا- أي معزةً- كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها". ووافقه الصحابة، واعتمد أبو بكر ﵁ على أهل المدينة ومكة والطائف وما حولها من قبائل في تجهيز الجيوش للقضاء على المرتدين. ونصره الله عليهم وعادت تلك القبائل إلى الإسلام. وترجع عوامل الردة إلى عدم تغلغل الإيمان في القلوب لتأخر اسلامهم وبسبب قصر الزمن الذي تم فيه تبلغ الدعوة، وطبيعة الأعراب المتسمة بالجفاء مع ضعف المستوى الثقافي مما جر إلى ضعف فقه تعاليم الدين وخاصة بالنسبة للزكاة التي اعتبرها البعض ضريبة مهينة، واستثقلوا الصلاة والعبادات الأخرى، كما أن العصبية القبلية لا زالت عميقة في تلك البلاد النائية ووسط نجد حيث ترى القبائل أنها أضخم عددا وعُددا من قريش وبالتالي فهي أولى بالزعامة، وعلى الأقل لم تكن ترضى بالخضوع لحكم قريش. ولم يشرك الصديق ﵁ أحدًا من المرتدين في الفتوح الإسلامية في خلافته، بل جردهم من السلاح لأنه لم يأمنهم لحداثة عهدهم بالردة، وعقوبةً لهم بإظهار الاستغناء عنهم، ثم لأنه لم يشأ أن يكونوا طلائع الفتح الاسلامي فلا يقدمون لسكان المناطق المفتوحة المثال الصالح للجندي المسلم. وقد تم جمع القرآن في صحف بعد استشهاد كثير من قراء الصحابة في اليمامة.
(^٦) وفي عهد أبي بكر الصديق ﵁ تمت فتوح في العراق والمشرق وأجزاء من الشام أشهرها بقيادة خالد بن الوليد الذي لم يهزم في أي معركة، ولعل ذلك من الإعجاز النبوي في وصفه سيفًا من سيوف الله.
(^٧) الظعينة: المرأة المسافرة في الهودج على ظهر البعير، والظعينة في الأصل: اسم للهودج.

1 / 414