The Qibla and the Fulfillment of Needs - Part of 'Al-Mu'allami's Works'
القبلة وقضاء الحاجة - ضمن «آثار المعلمي»
তদারক
محمد عزير شمس
প্রকাশক
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣٤ هـ
জনগুলি
الرسالة الأولى
القِبلة وقضاء الحاجة
16 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القِبْلة وقضاء الحاجة
أحاديث النهي ثابتة في الصحيح:
١ - ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، فرواه البخاري (^١) عن آدم عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب مرفوعًا: "إذا أتى أحدُكم الغائطَ، فلا يستقبل القبلة، ولا يُولِّها ظهرَه، شرقوا أو غرِّبوا".
وعن ابن المديني عن ابن عيينة عن الزهري بسنده: "إذا أتيتم الغائطَ، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" (^٢).
ورواه مسلم (^٣) عن يحيى بن يحيى عن ابن عيينة بسنده مثله، إلا أنه قال: "ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن ... ".
وبمعناه رواه عن سفيان بن عيينة جماعة، منهم: أبو نعيم عند الدارمي (^٤)، ومُسَدَّد عند أبي داود (^٥)، ومحمد بن منصور عند النسائي (^٦)،
_________
(^١) رقم (١٤٤).
(^٢) البخاري (٣٩٤).
(^٣) رقم (٢٦٤).
(^٤) رقم (٦٧١).
(^٥) رقم (٩).
(^٦) (١/ ٢٢).
16 / 5
وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي عند الترمذي (^١).
ورواه الإمام الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم" (٧/ ٢٦٩) (^٢) عن ابن عيينة بسنده: "أن النبي ﵌ نهى أن تُستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
ورواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٤٢١) عن ابن عيينة بسنده: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
ورواه الزعفرانيُّ عن ابن عيينة بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها". وقال مرةً: يبلغُ به النبيَّ ﵌. "سنن البيهقي" (١/ ٩١).
وبالجملة؛ فالأكثر عن ابن عيينة إثبات قوله: "إذا أتيتم الغائط" أو معناها.
وقد تابعه ابن أبي ذئب كما مرَّ، ومعمر عند النسائي (^٣) وعند أحمد في "المسند" (٥/ ٤١٦ و٤١٧ و٤٢١)، وفي بعضها: "الخلاء" بدل "الغائط"، ويونس عند ابن ماجه (^٤)، ولفظه: نهى رسول الله ﵌ أن يستقبل الذي يذهب إلى الغائط القِبْلةَ، وقال: "شرِّقوا أو غرِّبوا".
_________
(^١) رقم (٨).
(^٢) (١٠/ ٢١٩) ط. دار الوفاء.
(^٣) (١/ ٢٣).
(^٤) رقم (٣١٨).
16 / 6
وكذلك رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن أبي أيوب، رواه عنه مالك في "الموطأ" (^١)، ولفظه: "إذا ذهب أحدكم الغائطَ أو البولَ، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها بفرجه". هكذا في "موطأ يحيى بن يحيى".
ورواه أحمد في "المسند" (٥/ ٤١٤) عن إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "إذا ذهبَ أحدُكم إلى الغائط أو البول، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها".
وبهذا اللفظ رواه ابن القاسم عن مالك عند النسائي (^٢).
ورواه أحمد (٥/ ٤١٥) عن عفان عن همام عن إسحاق بسنده، ولفظه: "نهانا رسول الله ﵌ أن نستقبل القبلتين ونستدبرهما" وقال همام: يعني الغائطَ والبولَ.
وأخرجه البيهقي (^٣) من طريق عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعًا: "لا تستقبلوا القبلةَ ولا تستدبروها بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
٢ - وفي "صحيح مسلم" (^٤) من طريق سُهَيل بن أبي صالح عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح [عن] أبي هريرة مرفوعًا: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلةَ ولا يستدبِرْها".
_________
(^١) (١/ ١٩٣).
(^٢) (١/ ٢٢، ٢٣).
(^٣) في السنن الكبرى (١/ ٩١) ولكن من طريق عطاء بن يزيد عن أبي أيوب.
(^٤) رقم (٢٦٥).
16 / 7
وقد رواه أبو داود (^١) من طريق ابن عجلان عن القعقاع بسنده، ولفظه: " ... فإذا أتى أحدكم الغائطَ فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها".
وهو عند النسائي (^٢) بلفظ: "إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".
وهو في "سنن البيهقي" (١/ ٩١) من طُرق عن ابن عجلان بلفظ: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط"، وفي رواية: "فإذا ذهب أحدكم الخلاءَ". وزاد في رواية: "لغائط ولا بول".
ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان بسنده: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا ببول" هامش "الأم" (١/ ١١) (^٣).
٣ - وفي "صحيح مسلم" (^٤) من حديث سلمان: "نهانا ــ يعني النبي ﵌ ــ أن يستنجي أحدُنا بيمينه أو يستقبل القبلة".
وأخرجه أبو داود والنسائي (^٥) وغيرهما بزيادة: "بغائط أو بول".
٤ - وفي "مسند أحمد" (٤/ ١٩٠ - ١٩١) من طرق، و"سنن ابن ماجه" (^٦) عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: أنا أول من سمع
_________
(^١) رقم (٨).
(^٢) (١/ ٢٢). وفيه "الغائط" بدل "الخلاء".
(^٣) (٢/ ٤٨) ط. دار الوفاء.
(^٤) رقم (٢٦٢).
(^٥) أبو داود (٧) والنسائي (١/ ٤٤).
(^٦) رقم (٣١٧).
16 / 8
النبي ﵌ يقول: "لا يبولن أحدكم مستقبلَ القبلة"، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك. وسنده [صحيح] على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان (^١)، لكن نقل بعضهم عن ابن يونس أنه معلول. والله أعلم.
٥ - وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه (^٢) وغيرهما من طريق أبي زيد مولى بني ثعلبة عن معقل بن أبي معقل الأسدي قال: "نهى رسول الله ﵌ أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط".
وأبو زيد لم يُوَثَّق، وقال ابن المديني: ليس بالمعروف.
٦ - وفي "سنن ابن ماجه" (^٣) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر حدثني أبو سعيد الخدري: "أنه شهد على رسول الله ﵌ أنه نهى أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول".
وابن لهيعة ضعيف.
[ص ٢] ٧ - وفي "مسند أحمد" (٣/ ٤٨٧): ثنا روح وعبد الرزاق قال (^٤) (كذا) أنا ابن جريج قال: حدثني عبد الكريم بن أبي المُخَارق أن الوليد بن مالك بن عبد القيس أخبره ــ وقال عبد الرزاق: من عبد القيس ــ أن
_________
(^١) رقم (١٤١٩).
(^٢) أبو داود (١٠) وابن ماجه (٣١٩). قال البوصيري: أبو زيد مجهول الحال، فالحديث ضعيف به.
(^٣) رقم (٣٢٠).
(^٤) في طبعة الرسالة (١٥٩٨٤): "قالا" على الصواب، فيزول استشكال المؤلف ﵀.
16 / 9
محمد بن قيس مولى سهل بن حُنَيف من بني ساعدة أخبره أن سهلًا أخبره أن النبي ﵌ بعثه، قال: "أنت رسولي إلى أهل مكة .... وإذا تخليتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها".
وأخرجه الدارمي (١/ ١٧٠) ثم قال: عبد الكريم شبه المتروك.
وفي الباب: عن أبي أمامة أشار إليه الترمذي، وعن سهل بن سعد، وأسامة بن زيد، وسراقة بن مالك ــ ورجح أبو حاتم وقْفَه ــ وعن أسامة بن زيد، وعن نافع عن رجل من الأنصار عن أبيه، وهو في "الموطأ" (^١). إلى غير ذلك، وتأتي في أحاديث الرخصة، وفيها دلالة على هذا في الجملة.
والذي علينا أن ننظر في قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية؟
فأقول: المتبادر من هذه العبارة أنها كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما ذكروا أن قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ [النساء: ٤٣] كناية عن الحَدَث، ومن شأن الكناية أن يكون النظر فيها إلى المعنى الكنائي، سواءً أوافق الحقيقة أم لا، كما ذكروه في: طويل النجاد، وكثير الرماد ونحوهما، كما إذا قيل: إن اللصوص نهبوا قافلة وذهبوا. فيقال: يد السلطان طويلة. أي: أن قدرته متمكنة من أخذهم، ولو بعدوا.
ويؤيد أن المعنى هو هذا أمور:
منها: أن الصحابي فهم العموم، كما في رواية عنه في الصحيحين (^٢)
_________
(^١) (١/ ١٩٣).
(^٢) البخاري (٣٩٤) ومسلم (٢٦٤).
16 / 10
وغيرهما، ذكر الحديث ثم قال: "فقدمنا الشامَ، فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيت قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله".
قال الشافعي: "وسمع أبو أيوب الأنصاري النهي من رسول الله ﵌، ولم يعلم ما علم ابن عمر من استقباله بيتَ المقدس لحاجته، فخاف المأثم في أن يجلس على مرحاضٍ مستقبلَ الكعبة، وتحرَّف لئلا يستقبل الكعبة، وهكذا يجب عليه إذا لم يعرف غيره". كتاب اختلاف الحديث بهامش "الأم" (٧/ ٢٧٠ - ٢٧١) (^١).
ومنها: أنه كذلك فهم الرواة، فأسقط بعضهم العبارة المذكورة: "إذا أتى أحدكم الغائط" كما مر في رواية أحمد والزعفراني عن ابن عيينة، وأسقط بعضهم قوله: "ببول أو غائط" كما مر عن صحيح البخاري.
فلو حملت تلك الرواية على الحقيقة لشملت من أتى مكانًا منخفضًا، فمشى فيه أو وقف أو جلس لغير قضاء الحاجة.
وتصرف بعضهم فيها، فقال بعضهم: "إذا أتى أحدكم الخلاء". وقال غيره: "إذا جلس أحدكم لحاجته". إلى غير ذلك، كما مر بعضه.
ومنها: أنه لا فرق في المعنى بين المكان المنخفض في الفضاء، وهو حقيقة الغائط لغة، وبين المكان المرتفع والمكان المستوي، بل ولا بين الفضاء والبيوت؛ لأننا إن قلنا بأن الانحراف يكفي، فواضح.
وإن قلنا: لا بد أن تجعل القبلة عن اليمين أو اليسار، وأن [هذا] قد يتعسَّر في المراحيض، فهذا لا يدفع أصل العموم؛ لأن أكثر العمومات مقيدة
_________
(^١) (١٠/ ٢٢١) ط. دار الوفاء.
16 / 11
بالاستطاعة، قال الله ﵎: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
بل يمكننا أن نقول: إن تبادر المعنى الكنائي من العبارة المذكورة يدل أنها صارت حقيقةً عرفيةً فيه.
فإن قيل: فما فائدة الإتيان بها مع "إذا"؟ فإنه لو اجتزئ عنها بقوله: "لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط" لصح المعنى.
قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر هذا الحكم قبل القعود، لأنه إذا لم يفعل قد يغفل عنه، وقد لا يتذكره إلا بعد الشروع، فيشق عليه التحرف.
والحاصل أنه لا حجة في العبارة المذكورة لمن يُخصِّص الحكم المذكور. والله أعلم.
16 / 12
أحاديث الرخصة
١ - حديث ابن عمر في الصحيحين (^١) وغيرهما، وهو من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع عن ابن عمر.
فأما رواية يحيى؛ ففي "الموطأ" (^٢) الرخصة في استقبال القبلة لبولٍ أو غائط، مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن عمه واسع بن حَبَّان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن أُناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله: لقد ارتقيتُ على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله ﵌ على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس لحاجته ... ". "الموطأ" بهامش شرح الباجي (١/ ٣٣٦).
وأخرجه الشافعي عن مالك. هامش "الأم" () (^٣).
وقال البخاري (^٤): باب من تبرز على لبنتين. حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى ... " فذكره، وكذلك رواه غيرهم عن مالك.
وكذلك أخرجه مسلم (^٥) عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
_________
(^١) البخاري (١٤٥، ١٤٨) ومسلم (٢٦٦).
(^٢) (١/ ١٩٣، ١٩٤).
(^٣) كذا في الأصل دون تقييد الصفحة. وهو في "الأم" (١٠/ ٢٢٠) ط. دار الوفاء.
(^٤) الصحيح مع الفتح (١/ ٢٤٦، ٢٤٧).
(^٥) رقم (٢٦٦).
16 / 13
وأخرجه الدارقطني (^١) من طريق هشيم عن يحيى عن محمد عن واسع: سمعت ابن عمر يقول: ظهرتُ على إجَّارٍ (^٢) على بيت حفصة في ساعة لم أظنَّ [أحدًا يخرج في] تلك الساعة، فاطلعت فإذا أنا برسول الله ﵌ على لبنتينِ مستقبلَ بيتِ المقدس".
وقال البخاري (^٣): باب التبرز في البيوت. قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يزيد (هو ابن هارون) قال أخبرنا يحيى (وهو ابن سعيد الأنصاري) .... فذكره بنحو لفظ "الموطأ".
وكذلك رواه عن يزيد أحمد في "المسند" (٢/ ٤١)، والدارمي في "مسنده" (١/ ١٧)، وأبو بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى عند ابن ماجه (^٤)، ولكن سقط منه قوله: "ولا بيت المقدس".
وأخرجه البيهقي في "السنن" (١/ ٩٢) عن الحاكم عن ابن الأخرم عن إبراهيم بن عبد الله عن يزيد بن هارون بسنده، وفيه: "على لبنتينِ لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة".
كذا قال! وإبراهيم بن عبد الله هو السعدي النيسابوري، قال الذهبي في "الميزان" (^٥): صدوق. قال الحاكم: كان يَستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجة.
_________
(^١) في السنن (١/ ٦١).
(^٢) الإجَّار: السطح بلغة أهل الشام والحجاز.
(^٣) الصحيح مع الفتح (١/ ٢٥٠).
(^٤) رقم (٣٢٢).
(^٥) (١/ ٤٤).
16 / 14
أقول: صنيعه في هذا الحديث مما يصلح حجة لمسلم، فإن الناس قالوا عن يزيد وعن غير يزيد عن يحيى: "مستقبلًا بيت المقدس"، وقال إبراهيم هذا: "مستقبل الشام مستدبر القبلة". انتقل ذهنه إلى رواية عبيد الله، كما يأتي.
وأما رواية عبيد الله ففي الصحيحين وغيرهما، وليس فيه قوله: "إن ناسًا يقولون"، وإنما هو من قوله: "ارتقيتُ على ظهر ... "، ولفظه في آخره عند مسلم: "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وعند البخاري: "مستدبر القبلة مستقبل الشام".
هكذا اختلف الرواة عن عبيد الله في تقديم إحدى الصفتين على الأخرى، وجاء في بعض الروايات "مستدبر الكعبة"، وفي أخرى "مستدبر البيت".
ولم يقل "مستقبلًا بيت المقدس"، لأن مَن بالمدينة إذا استقبل [ص ٣] بيت المقدس متحريًا، لم يكن مستدبرَ الكعبة، بل يكون متحرفًا عنها شرقًا، فعبر بقوله: "مستقبل الشام" لأن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة متحريًا، كان مستقبلًا مشارقَ الشام.
ولقائل أن يقول: فيما ذكرته نظر:
أولًا: لاحتمال أن يكون ابن عمر قال مرةً كما ذكر يحيى، ومرة كما ذكر عبيد الله، وحفظ واسعٌ اللفظينِ، وحدَّث بهذا تارة، وبذاك أخرى، وكذلك محمد بن يحيى، ثم سمع يحيى من محمدٍ أحدَ اللفظين، وعبيد الله الآخر.
فإذا سلمنا أن ابن عمر إنما قال أحد اللفظين كما تدل عليه رواية مسلم
16 / 15
وغيره عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى عن محمد عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مُسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة [فلما] قضيتُ صلاتي انصرفتُ إليه من شِقِّي، فقال عبد الله: يقول ناس .... "، فدل هذا على أن سماع واسعٍ من ابن عمر إنما كان في هذه الواقعة، ويبعد أن يجمع ابن عمر بين اللفظين، فقد يكون التصرف من واسع، عبَّر مرة بهذا، ومرة بهذا، أو من محمد، فحفظ عنه يحيى إحدى العبارتين، وحفظ عبيد الله الأخرى.
وأما ثانيًا: فإذا سلمنا أن واسعًا إنما أتى بإحدى العبارتين، وكذلك محمد، لأن الظاهر الرواية باللفظ، ولم يقم دليل على خلاف ذلك في حقِّ واسعٍ ولا محمدٍ، فغاية الأمر أن يرجح قول يحيى "مستقبلًا بيت المقدس" على قول عبيد الله "مستقبل الشام"؛ لأنه يبعد الإتيان باللفظين جميعًا، ولأن المعنى متقارب.
فأما قول عبيد الله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت"، فهي زيادة من ثقة ضابط فوجب قبولها، فعلى هذا يترجح أن يكون أصل لفظ ابن عمر "مستقبلًا بيتَ المقدس مستدبرَ القبلةِ"، ولَأن يُظَنَّ بيحيى أنه ترك هذه الزيادة "مستدبر القبلة" أقربُ من أن يُظَنَّ بعبيد الله أنه زادها بناءً على فهمه.
أقول: هذا متجه، ولكن قد بيّنَّا أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها شرقًا.
فإن قلت: قد يكون أراد ببيت المقدس الشام، فإن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا، كان مستقبلًا مشارق الشام، ويكون هذا هو الحامل لعبيد الله على تعبيره بقوله: "مستقبل الشام".
16 / 16
قلت: قد يعكس هذا فيقال: أراد بقوله: "مستدبر القبلة" أي مستدبرًا جهتها في الجملة، فإن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا كان مستدبرًا القبلة في الجملة، أي: أن البيت حينئذٍ ليس أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره، بل هو من خلفه مائلًا إلى يساره.
فإن قلت: يُرجِّح الأولَ قولُ ابن عمر: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة"، وإنما يكون للقصة علاقة بهذا إذا كان فيها استدبار القبلة تمامًا، فيقاس الاستقبال على الاستدبار.
قلت: ويُرجِّح الثانيَ قولُ ابن عمر: "ولا بيت المقدس"، وإنما يكون للقصة علاقةٌ باستقبال بيت المقدس إذا كان فيها استقباله تمامًا.
فإن قلت: فما الذي يتجه؟
قلت: كلام ابن عمر يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون قوله: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس" لم يقصد به إنكار كل من الأمرين، وإنما قصد به إنكار تسوية بيت المقدس بالقبلة، فيتحصل من هذا أنه إنما أنكر النهي عن استقبال بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت النهي عن استقبال القبلة فقط، وإلى هذا ذهب العيني (^١).
الوجه الثاني: أن يكون من رأي ابن عمر أن الاستقبال والاستدبار يكفي فيهما الجهة، ولا يقدح فيه التحرف عن العين، فمَن بالمدينة إذا استقبل بيت
_________
(^١) في "عمدة القاري" (٢/ ٢٨٢).
16 / 17
المقدس عينه، فقد استدبر جهة القبلة، وإن لم يكن مستدبرًا لعين الكعبة تمامًا، ويرى أنه إذا جاز مثل هذا جاز استدبار البيت عينه، وكذلك من بالمدينة إذا استدبر البيت تمامًا فقد استقبل جهة بيت المقدس، وإن لم يكن مستقبلًا لعين بيت المقدس، وإذا جاز هذا جاز استقبال عين بيت المقدس.
[ص ٤] وعلى كل حال، فقد ترجح في الرواية قوله: "مستقبلًا بيت المقدس مستدبرًا القبلة"، وظاهر قوله: "مستقبلًا بيت المقدس" استقباله تمامًا، وحينئذٍ فاستدبار القبلة ليس بمعنى استدبار البيت تمامًا، بل بالتحرف عنه إلى جهة الشرق.
[ص ٥] هذه الألفاظ الصحيحة صريحة في أن المدار على استقبال القبلة بالنجس حال خروجه من أحد الفرجين، وقد عورضت بحديثين:
الأول: حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: "إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: فلقد ارتقيتُ يومًا على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله ﵌ على لَبِنَتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته" لفظ البخاري (^١).
وفي رواية (^٢): "مستقبل الشام، مستدبر القبلة".
الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (^٣) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، بسند صحيح
_________
(^١) رقم (١٤٥).
(^٢) رقم (١٤٨).
(^٣) أحمد (٣/ ٣٦٠) وأبو داود (١٣) وابن خزيمة (٥٨) والحاكم (١/ ١٥٤).
16 / 18
إلى ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله ﵌ قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبل القبلة".
وحديث ثالث: اتفق البخاري وأبو حاتم وغيرهما على تعليله. انظره في ترجمة خالد بن أبي الصلت من التهذيب (^١).
فمن الناس من أخذ بهذين الحديثين، وقال: إنهما ناسخان للنهي، فإن الأول أباح الاستدبار، والثاني أباح الاستقبال.
وفرق جماعة ــ كمالك والشافعي وغيرهما ــ بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل في الحديثين على البناء.
ومن هؤلاء من زاد فقال: فالإباحة في الفضاء إذا كان بينه وبين القبلة ساتر، ويستدل لهذا بما رواه الحاكم في "المستدرك" (^٢) وغيره من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به".
قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان.
وللشافعية كلام طويل في تقرير المسألة وتفصيله، يقيسون فيه على
_________
(^١) (٣/ ٩٧). والحديث أخرجه ابن ماجه (٣٢٤) عن عائشة.
(^٢) (١/ ١٥٤).
16 / 19
سُترة المصلي في الجملة.
ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، وهو الحق إن شاء الله تعالى.
فأما حديث ابن عمر فليس بصريح في المخالفة؛ لاحتماله أن مقصود ابن عمر إنما هو الإنكار على من يُسوِّي بين الكعبة وبيت المقدس، وبيان أن استقبال بيت المقدس غير محظور، ويكون رأى النبي ﵌ قاعدًا يبول مستقبل بيت المقدس، ولا يلزم من ذلك إخلال في حق الكعبة؛ لأن استدبار البائل لها، ولاسيَّما إذا كان مستور الدبر، كما هو المعروف في عادة العرب؛ لأن غالب لباسهم الأزر، فأما من زعم أن مثل هذه الحال داخلة في النهي، فقد أبطل.
أما أولًا: فلأن الروايات الصحيحة التي قدمتُها لا تشمل هذه الحال، فإن جاء في بعض الروايات ما يظهر منه شمولها فهو من تصرف الرواة، فلا يُعبأ به، والواجب في ذلك حمل المطلق على المقيد.
وأما ثانيًا: فالمعقول أن هذه الحال أبلغ في احترام القبلة مِمَّا ثبت الإذن به، واتفق عليه الناس، وهو أن يشرق أو يغرب من كانت قبلته في الشمال أو الجنوب.
فإن قيل: إن فيه مواجهتها بالدُّبر.
قلت: مثله مباح إجماعًا في المشي والجلوس وغير ذلك، ونظيره المفروض من استقبالها في الصلاة، مع أن فيه مواجهتها بالقُبُل.
فإن قيل: فإن قول ابن عمر: "مستدبر القبلة" قد يُشعِر بخلاف ما ذكرتَ.
16 / 20
قلت: قال الحافظ في "الفتح" (^١): [ولم يقع في رواية يحيى]: "مستدبر القبلة" أي الكعبة، كما في رواية عبيد الله بن عمر؛ لأن ذلك من لازمِ مَن استقبل الشام [بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله] للتأكيد والتصريح به.
[ص ٦] وقد يورد على ما تقدم أمور:
الأول: أن الأئمة فهموا من رواية يحيى مثل ما يُفهَم من رواية عبيد الله ففي "الموطأ" (^٢): "الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط"، وذكر رواية يحيى.
وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (^٣) رواية يحيى، واحتج بها على الرخصة في البيوت، وقال البخاري في "الصحيح" (^٤): "باب من تبرَّز على لبنتين"، ثم ذكر رواية يحيى، ولفظ التبرز ظاهر في التغوط، ثم قال: "باب التبرز في البيوت"، وذكر القصة من الوجهين.
الأمر الثاني: ما ذكرته من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون متحرفًا عنها إلى جهة المشرق= صحيح في نفسه، ولكن قد يقال: لا أثر له، أما على القول بالتوسعة في القبلة، فأهل المدينة قبلتهم في الجنوب كله؛ لأن البيت جنوبهم، كما دل عليه
_________
(^١) (١/ ٢٥٠).
(^٢) (١/ ١٩٣).
(^٣) مع "الأم" (١٠/ ٢٢٠).
(^٤) مع "الفتح" (١/ ٢٤٦، ٢٥٠).
16 / 21
الحديث الذي صححه الترمذي (^١) وغيره: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
بل في حديث أبي أيوب في هذا الباب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
فدل على أن التحرف اليسير لا يكفي، بل لابد أن تكون القبلة عن يمين قاضي الحاجة أو يساره، والتحرف الحاصل لمن بالمدينة عند استقباله بيت المقدس ليس بهذا القدر، ولا قريب منه.
وأما على القول: بأن القبلة هي البيت نفسه، وأنه يضرُّ في الصلاة التحرف اليسير إذا عرف، فقد يقال: لا يلزم من القول بذلك في الصلاة أن يقال به في قضاء الحاجة، وقد ثبت في قضاء الحاجة قوله ﵌: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
وعلى تسليم اللزوم، فإنما ذلك عند ظن التحرف، ومثل ذاك التحرف ــ أعني تحرُّفَ مَن بالمدينة عن الكعبة إذا استقبل بيت المقدس ــ إنما يحصل به الظن لمن عرف الحساب ونحوه، وبنى عليه، وقد قال النبي ﵌: "نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب ... " الحديث. والظاهر عند عدم الحساب أن المدينة بين مكة والقدس، من استقبل أحدهما استدبر الآخر.
الأمر الثالث: أن تجويز أن يكون عبيد الله إنما سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، ولكنه تصرف فيها التصرف المذكور، يؤدي إلى سقوط الثقة بالأحاديث التي يحتمل أنها رُوِيتْ بالمعنى، وهي غالب السنة.
[ص ٧] قال عبد الرحمن:
أما الأمر الأول؛ فأرى أن الأئمة لاحظوا ما دلَّ عليه كلام ابن عمر من أن
_________
(^١) رقم (٣٤٤).
16 / 22
الموضع الذي رأى النبي ﵌ قاعدًا عليه كان معدًّا لقضاء الحاجة، وإذا كان كذلك ثبت وقوع الاستدبار عند التغوط، إن لم يكن في هذه الواقعة ففي غيرها؛ لأن الموضع كان معدًّا لذلك، وفي "الفتح" (^١): أنه جاء في رواية لابن خزيمة: "فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلَبِنٍ". قال: وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف".
وبهذا يندفع ما يتراءى أن من تقدم من أهل العلم أغفلوا الاحتجاجَ بما ذُكِر، واقتصروا على الاحتجاج بالواقعة التي ذكرها ابن عمر.
ثم يحتمل أن مالكًا لم يستحضر ما قدمناه من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى الشرق.
ويحتمل أن يكون استحضر ذلك، ولكنه بنى على رأيه في التوسعة في القبلة، ومثله البخاري، وأما الشافعي فيتعين في حقه الاحتمال الأول.
إذا تقرر هذا فالجواب عما يحتج به بأن ذلك الموضع كان معدًّا لقضاء الحاجة أنه يحتمل أنه يكون معدًّا للبول فقط، وعلى تسليم أنه كان معدًّا للأمرين، فالتوسعة في القبلة إنما هي إذا لم يحصل العلم أو الظن بالانحراف عن البيت، كما هو مقرر في مذهب مالك نفسه.
والحجة على ذلك واضحة؛ فإن من بالمسجد الحرام لا تصح صلاته إذا كان البيت عن يمينه أو يساره يقينًا أو ظنًّا، فكذلك من بَعُدَ، وإنما الرخصة في الصلاة والتشديد في قضاء الحاجة عند الاشتباه.
_________
(^١) (١/ ٢٤٧).
16 / 23