السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني
السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني
প্রকাশক
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى ١٤٢٤هـ
প্রকাশনার বছর
٢٠٠٤م
জনগুলি
المقدمات
مقدمة
...
المقدمات:
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فلقد توقفت مع الكتاب الثاني في سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى عند بيعة العقبة الثانية، على أمل أن يبدأ الكتاب الثالث بالهجرة إلى المدينة المنورة لأنها البداية المنورة لأنها البداية العملية للعهد المدني.
لقد بدأ رسول الله ﷺ بعد الهجرة مباشرة في وضع أسس الدولة الإسلامية الشامخة في المدينة المنورة واستمر ﷺ يتلقى الوحي المناسب للمرحلة، فلم يعد الوحي قاصرًا على العقيدة فقط، بل تناولها مع الشريعة والأخلاق، ولم يستمر أمر الله لهم بـ: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ ١، وإنما تحول إلى أن أمرهم بالجهاد فقال سبحانه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ٢.
إن العقيدة الدينية أصبحت راسخة في قلوب المؤمنين رسوخًا ثابتًا لا يقبل الإزاحة أو التغيير، وهي في رسوخها وثباتها تجعل المسلم يعيش بها، ويعمل لها، ولا يقبل معها أي مخالفة، أو تقصير، أو إهمال.
إن العقيدة الإيمانية جعلت المهاجرين يتركون كل شيء في مكة، ويرحلون إلى المدينة ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ ٣، وجعلت المسلمين الأنصار أهل المدينة
_________
١ سورة النساء: ٧٧.
٢ سورة البقرة: ١٩٠.
٣ سورة الحشر: ٨.
1 / 7
يتركون حظوظ النفس والهوى، و﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ١.
لقد صنعت العقيدة الدينية الجماعة المسلمة صافية في توحيدها، وتوحدها، وتوجهها، وجعلت المؤمنين عبيدًا خاشعين لله، يرون في مكة قبل الهجرة سعادتهم في الطاعة، ويقصرون آمالهم في رضى الله، ويرجون سعادة حقيقية يعيشونها في الدنيا مع الناس، ويتمتعون بها في الآخرة عند الله.
فلما هاجروا إلى المدينة المنورة احتاجوا إلى الشريعة تنير لهم الطريق، وتعرفهم بمراد الله تعالى، وتطلعهم على أوامره ونواهيه، ليعيشوا في إطار المشروعية الدينية الصحيحة وليكون عملهم وخلقهم متوازنًا مع إيمانهم وعقيدتهم، وليكونوا سويًا مجتمع الحب، والتسامح، والتآلف.
لقد عاش الرسول ﷺ في المدينة المنورة بعد الهجرة والمسلمون معه الإسلام كله ولم ينتقل ﷺ إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ٢.
إن سيرة الرسول ﷺ في المدينة المنورة تختلف عن سيرته ﷺ في مكة من ناحية أحداثها، ووقائعها، وحركتها، وإن اتفقت في أنها جميعًا كانت في مجال الدعوة إلى الله تعالى.
في مكة عاش ﷺ بعيدًا عن الوحي حتى بلغ سن الأربعين! وكان الله معه، يرعاه ويصنعه للرسالة فهيأ له التربية الصحيحة، وأبعده من مزالق الهوى، وأحاطه بخوارق العادات في صورة إرهاصات، ومبشرات، وعلامات ... كما أنه ﷺ عاش بعد البعثة فترة الرسالة في مكة وسط قلة من المؤمنين مستضعفة أمام ظلم الكفرة وعدوانهم، وكثيرًا ما عانت، وتحملت، وصبرت، وتمسكت بدينها الذي آمنت به. أما في المدينة المنورة فقد عاش النبي ﷺ والمسلمون معه حياة القوة العادلة، وسط
_________
١ سورة الحشر: ٩.
٢ سورة المائدة: ٣.
1 / 8
كثرة من المؤمنين تمثل أمة الإسلام الوليدة بمزاياها ومحاسنها مع استمرار تتابع نزول الوحي لتوضيح الطريق، وتحديد معالم النجاح.
لقد احتاج المسلمون في مكة إلى عقيدة تربطهم بالله، وتؤملهم في الجنة، وتدفعهم إلى الصبر والتحمل وهذا يكفيهم، وقد تم لهم ذلك مع شيء من التوجيهات الخلقية التي لا بد منها للإنسان المسلم.
أما في المدينة المنورة فقد أصبح المسلمون في حاجة إلى الشريعة لتأكيد اعتقادهم الراسخ، وكان لا بد لهم من فقه أحكام الحياة، التي أخذت تتنزل عليهم تبعًا للأحداث، وكانوا رضوان الله عليهم يسألون رسول الله ﷺ؛ لأنهم يريدون أن تخضع جوارحهم لله مثل ما آمنت قلوبهم، ولذلك نراهم يرجعون لرسول الله ﷺ في كل ما لا حكم لله فيه يوضح القرآن الكريم ذلك في آيات عديدة حيث يقول الله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ ١.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ٢.
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ ٣.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ
_________
١ سورة البقرة: ٢١٩.
٢ سورة البقرة: ٢٢٠.
٣ سورة النساء: ١٢٧.
1 / 9
بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ١.
وهكذا كانت حياة المسلمين في المدينة.
ومعهم كانت حياة رسول الله ﷺ.
لقد كان الله رءوفًا بهؤلاء الصفوة، وكان معهم يمدهم بشريعته، ويفصل لهم أحكامها ويوضح مزاياها وفوائدها، ويركز على ضرورة التهيؤ للعمل بها، وربطها بسائر أركان الإسلام، لأنها جميعًا تنتج الدين بكماله، وتمامه٢.
لقد كان المسلمون في مكة يبحثون عن أمن ييسر لهم العبودية، ويرجون استقرارًا يمكنهم من العمل لله بين أهليهم وأقوامهم، لكن هذا الأمل لم يتحقق وهم في مكة فهاجروا إلى الحبشة، وبعدها كانت الهجرة إلى المدينة المنورة حتى أصبحوا آمنين في حياتهم، وعباداتهم، وتوجههم لله رب العالمين، فحملوا الأمانة مع رسول الله ﷺ وصاروا مسئولين عن نشر الإسلام، وتبليغه إلى كل مكان استطاعوا أن يصلوا إليه وإلى أي إنسان يمكنهم تبليغه ودعوته وفق منهج الله للوصول إلى الغايات المحددة بواسطة وحي الله تعالى.
وعاش رسول الله ﷺ متحركًا بالدعوة، ومبلغًا لدين الله تعالى، وأخذ الإسلام يظهر في قوله ﷺ بلاغًا ودعوة، وفي عمله سلوكًا وعملا، وفي قلبه صدقًا وانفعالا، وفي أخلاقه مودة ورحمة، ومع الناس حياة وحضارة وعزا.
وشارك المسلمون في المدينة رسول الله ﷺ في العمل بالإسلام وللإسلام حتى تم
_________
١ سورة الأنفال: ١.
٢ يظهر هذا الربط بين موضوع السؤال والإسلام حين ننظر في الآيات لنرى الأمر حين كان السؤال عن الأنفال كانت الإجابة بأنها لله والرسول، وبعدها أمرهم بتقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول في كل أمر ونهي لأن ذلك دلالة الإيمان.
وحين كان السؤال عن اليتامى كانت الإجابة في أن الإصلاح لهم هو الخير المطلوب، ثم أرشدهم إلى ضرورة مخالطتهم للتعليم والتأسي، وضرورة معاملتهم بالصلاح حتى لا يؤاخذهم الله على تقصيرهم معهم ...
وهكذا سائر التساؤلات حيث نرى فيها الإجابة المطلوبة، ومعها إرشادات وتوجيهات تؤكد شمول النظرة الإسلامية لكافة جوانب الحياة.
1 / 10
النصر ودخل الناس في دين الله تعالى.
ومن هنا:
اختلط الجانب الشخصي لرسول الله ﷺ في المدينة المنورة مع حركته بالدعوة اختلاطًا بينًا، حتى أصبح الفصل بينهما أمرًا شاقًا؛ لأن كل جزئية في حياة رسول الله صارت دليلا شرعيًا يبحث عنه المسلمون ويتأسون به، ولا يمكن استثناء شيء من حياته ﷺ إلا ما ذكره ﷺ ونبه عليه، وأعلم أصحابه بأنه من خصوصياته ﷺ.
وحيث أن حبي لرسول الله ﷺ يجعلني أعيش مع سيرته ﷺ في إطارها الذاتي كما فعلت معه في العهد المكي، فإني أجد نفسي مع هذا المنهج أكتب أولا عن سيرة رسول الله ﷺ في المدينة، وبعد ذلك أكتب عن حركة الرسول بالدعوة، لأنتهي بعد ذلك إلى الكتابة عن أهم ركائز الدعوة المستفادة من العهد المدني.
إني على يقين من أن السيرة النبوية في العهد المدني، الذي يبدأ بالهجرة ويستمر حتى وفاة رسول الله ﷺ اختلطت اختلاطًا كاملا بحياة المسلمين العامة وعاشت حركة في نشاط الجماعة المؤمنة؛ لأن الرسول لم يعش لنفسه، وإنما عاش لله بكل مشاعره وعناصره كما أمره الله تعالى، وكما عرفه ﷺ لأصحابه ﵃ بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ١.
ولذلك أجد نفسي أمام تصور لدراسة العهد المدني، تتضمن السيرة النبوية والدعوة، مشتملة على ما يلي:
_________
١ سورة الأنعام: ١٦١-١٦٤.
1 / 11
أولا: تمهيد يعرف بالمدينة المنورة، وبمن كان يسكنها وبأهم الأديان والاتجاهات الدينية بها قبيل الهجرة، وبمدى ملائمتها لإنطلاقة الدعوة إلى الله تعالى.
ثانيًا: فصل يقدم أحداث السيرة النبوية متتابعة، بدءًا من الهجرة حتى وفاة رسول الله ﷺ مع الاهتمام بالجانب الذاتي لرسول الله ﷺ بقدر الإمكان لشدة ارتباط سيرة الرسول ﷺ بحركته في تبليغ الدعوة.
ثالثًا: فصل يوضح حركة الرسول ﷺ بالدعوة، وهذه الحركة وإن كانت جزءًا من السيرة إلا أن تأثيرها في حركة الإسلام وانفعال المسلمين بها، وترسيخها لمبادئ الإسلام وقيمه، جعلتني أدرسها في إطار حركة الرسول بالدعوة.
وسيشتمل هذا الفصل على عدد من المباحث تتضمن تأسيس دولة الإسلام في المدينة وتعداد السرايا والغزوات، وبيان الرسائل والوفود، وتفصيل كل ما كان له دور في حركة تبليغ الإسلام حتى وفاة رسول الله ﷺ.
رابعًا: فصل أوضح فيه الركائز المستفادة من سيرة رسول الله ﷺ، وحركته بالدعوة، لتكون زادًا لكل مخلص يحب دينه، ويقدر أمانة الله، ويعمل على إبراز الإسلام نقيًا صافيًا، ويبلغه لغيره من الناس مستفيدًا بما تركه رسول الله ﷺ في مجال الدعوة إلى الله تعالى.
وبهذا التصور سيأتي الحديث عن العهد المدني مكونًا من تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، وبها تكمل الدراسة بإذن الله تعالى.
إن العهد المدني يتضمن حوادث الإسلام العظمى، التي هي أساس التشريح، ودعامة الحياة الإسلامية على طول الزمن إلى يوم القيامة، فلقد شرعت العبادات في العهد المدني، وتابع رسول الله ﷺ صحابته والمسلمين بالتوجيه وبيان الأحكام، وفيها كان خطاب الدعوة لكل فئات البشر على اختلاف أديانهم، وثقافتهم، وحضاراتهم.
وفي العهد المدني أذن الله بالجهاد، وأمر به، وفصل في أحكامه، وبين الآثار المترتبة عليه.
1 / 12
ونزلت أحكام سائر المعاملات، والأحوال الشخصية، وأحكام الميلاد، والموت، وكافة نظم الحياة.
وتحددت سمة المجتمع المسلم، وطريقته في التعامل مع أتباعهم، وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم، واتجاههم، ومواطنهم.
إن دراسة العهد المدني طويلة عميقة، وتحتاج إلى القراءة الواسعة والتأمل الواعي، والاستنباط القائم على العلم والفهم، وهذا ما سأحاوله معتمدًا على الله تعالى، مؤملا في توفيقه، وبخاصة أن مقصدي إبراز الإسلام جليًا، نقيًا، وإظهار المسلمين في مجتمعهم العظيم، الذي نباهي به الدنيا على الزمن كله، ونرجوه مرة أخرى ليعود المسلمون إلى مجدهم وعزهم في وقت كثرت فيه معاول النقد، وتعددت طرق الهجوم على الإسلام.
إن المجتمع الذي أقامه الرسول ﷺ في المدينة -مع مثاليته- يتهمه الحاقدون بالتخلف، والرجعية، والعدوانية، ويفضلون عليه مجتمع الاختلاط، والعري، وبروز الفوضى، والخلق الرديء، مع محاولة إلباسه أثوابًا لا تليق به، بدعوى التجديد، والتنوير، والنهضة بطرق ملتوية لا تبغي إلا الهدم والفساد.
والعقيدة التي عاشها المسلمون الأوائل كانت يقينًا يتحكم في عملهم، وشريعة تنظم سلوكهم وخلقًا يحمل جوانب الحياة.
هذه العقيدة التي صنعت الجماعة الأولى معرضة اليوم لفصلها عن حركة الحياة بدعوى أنها الدين، وليست هي الدنيا.
والشريعة الشاملة التي حكمت الحياة الإسلامية الأولى يعمل الأعداء على أن يُستبدل بها قانون البشر رغم تناقضه، وقصوره.
وها هي الأخلاق الإسلامية تغيب عن واقع الحياة حتى لا نراها إلا نادرًا بين الناس مع أن الحياة بها تكون جميلة، وسلسلة، وطيبة.
من كان يتصور أن عاقلا من الناس يرى البغاء حرية، وانتهاك الحرمات حضارة والإفساد في الأرض باسم التنوير، والحداثة تقدمًا، والتمتع المحرم أمورًا شخصية للإنسان أن يفعلها، ويعيش بها متى أراد.
1 / 13
ومن كان يتصور الزواج المثلي، والشذوذ الجنسي يبرز في العلن، بل ويحميه تشريع وقانون!!
ومن كان يتصور أن الاستعداد لرد الظلم، وحماية الحقوق يصير إرهابًا، وعدوانًا.
إن مجتمع المسلمين المعاصر بعُد كثيرًا عن طريق الله حتى أصبح الدين غريبًا فيه، غائبًا عنه، وتمكن أعداء الدين من تشويه بعض حقائقه، وإلحاق التهم الباطلة بالمتمسكين به، مستغلين غيبة تعاليم الله عن الناس.
ويتساءل المرء:
من الذي غيب الدين عن الناس؟
ومن الذي أبعدهم عن فهم حقائقه؟
ومن الذي أغرقهم في الماديات الباطلة؟
ويدرك الفاهم المدقق أن من فعل ذلك هو الذي يشوه ويتهم!!
إنه يرتكب الجريمة ... ويسأل عن فاعليها!! ويتهم غيره!!
إن الإسلام يحتاج إلى رجال، والدعوة تحتاج إلى من يقوم بها وفق منهجية عصرية، تفهم الدين، وتخاطب الناس، وتتعامل مع الواقع لتسمو به وترتقي.
إن أملي الذي أرجوه من دراسة السيرة والدعوة في العهد المدني التصدي لمحاولات الهدم، ونقض التشكيك، ورد كافة ألوان الزيف، مهما كان مصدرها، وأيًا كان قائلها راجيًا الوصول إلى ما يلي:
أولا: الإحاطة بالسيرة النبوية بصورتها الشاملة لمعرفة الجوانب الشخصية لرسول الله ﷺ كهجرته، ومسكنه، وزواجه، وعنايته بأولاده، وسفره، وإقامته، وأيضًا لمعرفة الجوانب الدعوية العامة التي باشر رسول الله ﷺ خلالها تعليم الناس، وتبليغهم دين الله تعالى.
ثانيًا: اكتشاف حياة المسلمين الأوائل، ومعرفة أنشطتهم، ومدى مساهمتهم في نصر دين الله تعالى بيانًا لمناط الأسوة، وإظهارًا لجوانب القدوة والريادة.
1 / 14
ثالثًا: بيان صور المواجهة التي تمت بين المسلمين وبين أعدائهم من المنافقين واليهود والكفار، لإظهار مدى ملازمة الدعوة للحسن في التوجيه، والصدق في الطلب، وتقدير الإنسان بصورة عامة، وتوضيح أن الجهاد الإسلامي هو نصير العدل والحق والكرامة.
رابعًا: توضيح حركة النبي ﷺ بالدعوة لبيان ما فيها من منهج شامل لكل جوانب الدعوة، وأركانها، واستنباط الفوائد التي يمكن الاستفادة بها في العصر الحديث.
وسوف اعتمد على المصادر الصحيحة لهذه المرحلة، وعلى رأسها القرآن الكريم الذي صور هذه المرحلة، وقدم تفصيلات عديدة للعهد المدني حتى قال بعضهم: إن القرآن الكريم هو الصحيفة اليومية المصورة للمسلمين في المدينة المنورة، تعيش حياتهم، وترشدهم للتي هي أقوم، وتعرفهم بخفايا النفوس، وتكشف طبائع الناس، وتحذرهم من مزالق الهوى، ومكائد الأعداء، من الجنة والناس، وتعرفهم بحكم الله كلما جد أمر أو وقع حدث، أو دعت الحاجة إليه.
لقد كان القرآن الكريم ينزل منجمًا حسب الوقائع والأحداث، ثم كان جمعه وسيلة بينه لتقويم الصورة الإسلامية بتمامها وكمالها، ومثاليتها، وواقعيتها، لتبقى أسوة للناس، وقدوة للعالمين.
ومع القرآن الكريم تكون السنة شارحه، ومبينة، ومصدرًا لهذه الحقبة الزمنية الرائدة.
ومن فضل الله تعالى أن مدة البعثة النبوية في مكة والمدينة نالت اهتمام أصحاب رسول الله ﷺ، والسلف الصالح من بعدهم، حيث وجد الرواة، والمحدثون، والمفسرون والفقهاء، وغيرهم يبذلون الجهد من أجل صيانة التراث الإسلامي كله، وبذلك كان حفظ أحداث مرحلة البعثة النبوية، وأحداث تاريخ الدعوة إلى الله تعالى.
إن معايشة مصادر هذه المرحلة تحتاج إلى العقل والفهم، والتحليل والاستنباط، وقوة الوعي وسرعة الإدراك، حتى لا يقع صاحب هذه المعايشة في الإسرائيليات، والأكاذيب التي وضعها أعداء الإسلام مع شروح المصادر الإسلامية.
1 / 15
إن كثيرًا من علماء العصر الحديث شغلوا أنفسهم بتنقية مرويات العصر النبوي من الدخيل فيه، وبذلك أسدوا للمسلمين معروفًا حسنًا يتمكنون به من الوقوف على الحق والحقيقة.
ولسوف أستعين بكل ما بذله المخلصون مع السيرة والدعوة -قدامى ومحدثين- لأسجل الحقيقة التي أرجوها، وأعيش الحق الذي أعمل له، وأضع أمام المسلم المعاصر المعالم الواضحة التي تحقق الأمن، والسلام، وتنشر السعادة، والرضى في الناس أجمعين، استنباطًا من عصر النبي الكريم ﷺ.
ومع كل ما أرجوه فإني أشير إلى العلم الذي أكتب فيه وأذكر به، وهو تاريخ الدعوة إلى الله تعالى في إطار مرحلة زمنية محددة، مع الاستفادة بكل دراسة جادة توصلني إلى ما أتمناه وأرجوه.
والأمل الكبير في أن يمدني الله بسداد الفكر، ودقة الترتيب، وتحقيق الهدف، وأن يفتح أمام هذه الدراسة القلوب والعقول، وأن يجعلها في طريقها المنشود مصدر هداية ورشاد، ووسيلة للدعوة، والبيان.
إن تعلقي برسول الله ﷺ حياة.
وخدمتي للإسلام غاية.
وتوجهي لهداية الناس أمنية.
والتزامي بالصدق، والأمانة، والموضوعية دين وعقيدة.
إن الله ﷾ هو مصدر الأمل والرجاء، وإليه قصدي وتوجهي، وله حياتي ومماتي، وعليه توكلي واعتمادي.
وهو حسبي، ونعم الوكيل.
المؤلف
أ. د/ أحمد أحمد غلوش
مدينة نصر في غرة جمادى الأولى عام ١٤٢٥هـ
١٩/ ٦/ ٢٠٠٤م
1 / 16
التمهيد: التعريف بالمدينة المنورة "دار الهجرة" وبيان أهميتها للدعوة
المدينة المنورة:
المدينة المنورة هي مهجر النبي ﷺ، ومأوى المسلمين، وكهف الإسلام، وأساس الدولة الإسلامية، ومنها انطلق الإسلام إلى العالم كله، وبوصول المهاجرين إليها بدأت الحركة بالإسلام تأخذ شكلا شموليًا لأركان الدين، ولسائر الناس في كل أرض الله تعالى معتمدة على جهود المهاجرين والأنصار بقيادة رسول الله ﷺ.
والتعريف بالمدينة يحتاج إلى بيان النقاط التالية:
١- أسماء المدينة المنورة وفضلها:
عرفت المدينة المنورة قبل الإسلام باسم "يثرب"، ويقال: إن الأرض التي أقيمت عليها المدينة هي المسماة بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم كل من سكنها١.
وحيث أن هذا الاسم يتضمن معنى سيئًا لأن يثرب مشتق من التثريب أو الثرب ومعنى كل منهما الإفساد، والتغيير، واللوم، والتعنيف، والعقوبة، والجزاء فقد تغير اسمها في الإسلام إلى ما يدل على الخير والبركة، والنور، والطهر، وصارت تسمى بأسماء كثيرة.
من هذه الأسماء المدينة المنورة بهجرة النبي ﷺ إليها.
ومن أسمائها المدينة، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ ٢.
ويقول سبحانه: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ ٣.
ومنها طابة، يقول النبي ﷺ حينما أشرف على المدينة عند عودته من تبوك: $"هذه طابة"٤.
_________
١ سبل الهدى والرشاد ج٣ ص٤١٤.
٢ التوبة: ١٠١.
٣ المنافقون: ٨.
٤ صحيح البخاري كتاب الحج باب المدينة طابة ج٣ ص٢٧٥ ط الأوقاف.
1 / 19
ومنها "طيبة" يقول النبي ﷺ: "إنها طيبة" ١.
ولها أسماء أخر أشهرها الإيمان، والجائرة، والمنورة، والمحبوبة، والقاصمة، والبارة، والحرم، والخيرة، وقد عد صاحب السيرة الشامية للمدينة خمسة وتسعين اسمًا٢.
وأسماء المدينة في الإسلام مشتقة من صفاتها، وخصائصها ونظرًا لانتفاء صفاتها الجاهلية فإنه يكره شرعًا تسميتها بما كان لها في الجاهلية من أسماء وعلى رأسها يثرب.
روى الإمام أحمد ومالك والشيخان عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" ٣. ويقول النبي ﷺ: "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة، هي طابة" ٤.
وقد التزم السلف أسماءها الجديدة وكرهوا تسميتها بيثرب، يقول ابن عباس ﵁:
"من قال يثرب فليستغفر الله ثلاث مرات"٥.
ويقول عيسى بن دينار: "من سمى المدينة يثرب كتب عليه خطيئة"٦.
وبهذا جزم العلامة كمال الدميري، ونظم رأيه شعرًا فقال:
ومن دعاها يثربًا يستغفر ... فقوله خطيئة لتنظر
وسبب الكراهة ما في كلمة يثرب من دلالة على السوء أيا كان اشتقاقها فإن كان اشتقاقها من الثرب فمعناها الفساد، وإن كان اشتقاقها من التثريب فمعناها العقوبة، والمؤاخذة بالذنب، وكلا المعنيين لا يليق بالمدينة، وكان ﷺ يحب الاسم الحسن دائمًا، ولذلك سماها طابة، وطيبة وأقر سائر أسمائها الحسنة.
_________
١ صحيح البخاري ج٣ ص٢٧٤ ط الأوقاف.
٢ انظر سبيل الهدى والرشاد ج٣ ص٤١٤-٤٢٧.
٣ صحيح البخاري كتاب الحج ج٣ ص٢٧٤.
٤ الكشف الإلهي للطرابلسي، وفي صحيح البخاري "هي طابة" ج١ ص٢٧٥.
٥ الفوائد المجموعة للشوكاني، الدرر ج٥ ص١٨٨.
٦ سبل الهدى والرشاد ج٣ ص٤٢٧.
1 / 20
وأما تسميتها في القرآن بيثرب، فهو حكاية قول المنافقين في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ ١.
وحكاية قول المنافقين تثبت الكراهة، ولا تفيد الإباحة لأنهم ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ ٢ فقول المنافق سوء كصاحبه.
وأما قوله ﷺ وهو يشير إلى أصحابه عن دار هجرتهم بعد ما رآها منامًا حين قال لهم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب المدينة" ٣، وقال لهم: "لا أراها إلا يثرب" ٤، فليس دليلا على عدم الكراهة؛ لأن النبي ﷺ قال ذلك تعريفًا بها لأصحابه وهم في مكة ولأنهم لم يعهدوا لها قبل الإسلام اسمًا غير "يثرب"، ولم يكن نزل نهي عن هذه التسمية بعد، فلما نزل النهي بينه النبي ﷺ لأصحابه ليتركوه فتركوه.
وكان النبي ﷺ يحب المدينة، ويحب أهلها، فعن أنس بن مالك ﵁: أن رسول الله ﷺ كان إذا قدم من سفر ينظر إلى جدر المدينة المنورة، ويطرح رداءه ويقول: "هذه أرواح طيبة" ٥ ويحث راحلته على سرعة السير نحوها حبًا وسرورًا بالمدينة، وأهلها، وكثيرًا ما كان ينادي ربه: "اللهم اجعل لنا بالمدينة قرارًا، ورزقًا حسنًا" ٦ ومن دعائه ﷺ للمدينة ما رواه أنس ﵁: أن رسول الله ﷺ كان يدعو ويقول: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة" ٧.
وعن عبد الله بن زيد ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا
_________
١ سورة الأحزاب: ١٣.
٢ سورة المنافقون: ٤.
٣ صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي ﷺ ج٦ ص٢٠٣، والوهل: الظن.
٤ سبل الهدى والرشاد ج٣ ص٤٣٤.
٥ صحيح البخاري كتاب الحج ج٣ ص٢٨٣.
٦ سبيل الهدى والرشاد ج٣ ص٤٣٠.
٧ صحيح البخاري كتاب الحج ج٣ ص٢٨٢.
1 / 21
إبراهيم لمكة" ١.
وعن عبد الله بن الفضل بن العباس ﵁ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "أدعوك لأهل المدينة بمثل مكة" ٢.
ويقول ﷺ: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاها، أو يقتل صيدها"، وقال ﷺ: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت شفيعًا أو شهيدًا له يوم القيامة" ٣.
ويروي أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها" ٤.
وعن علي بن أبي طالب ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعا لأهل مكة بالبركة وأنا محمد عبدك ورسولك، وأنا أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم، مثلما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين" ٥.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي
_________
١ صحيح مسلم بشرح النووي فضل المدينة ج٩ ص١٣٥.
٢ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج٩ ص١٤٦.
٣ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج ٩ ص١٣٦.
٤ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج ٩ ص١٤٧، ١٤٨، والمأزِم بكسر الزاي الجبل أو المضيق بين جبلين، والمراد به هنا الجبل.
٥ سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي باب فضل المدينة ج١٠ ص٢٨٤.
1 / 22
ﷺ فإذا أخذه رسول الله ﷺ قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ١.
وقد اتفق العلماء على تفضيل مكة والمدينة على سائر المدن والقرى، إلا أنهم اختلفوا في التفاضل بينهما، فذهب عمر بن الخطاب ﵁، وبعض الصحابة، وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وهو مذهب الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد مستدلين بما يلي:
١- يقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ ٢، والمخرج الصدق هو مكة، والمدخل الصدق هو المدينة، والسلطان النصير هم الأنصار، وقد بدأت الآية بالمدخل، وهو المدينة لأفضليتها يقول ابن عبد البر: "وفيه دليل واضح على تفضيل المدينة؛ لأن الله ابتدأ بها، وكان القياس أن يبتدئ بمكة؛ لأنه خرج منها قبل أن يدخل المدينة، وأيضًا قد جعل الله لرسوله ﷺ سلطانًا نصيرًا في المدينة ولم يجعله بمكة، ويأبى الله تعالى بكرمه إلا أن ينقل نبيه إلا إلى ما هو خير"٣.
٢- يقول النبي ﷺ: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ فأسكني أحب البلاد إليك" ٤، ففي هذا الحديث تصريح بأن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى، وذلك يدل على أفضليتها.
٣- ذهب العلماء إلى أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها.
فلقد مر النبي ﷺ على قبر فسأل: "قبر من هذا"؟.
قالوا: قبر فلان الحبشي يا رسول الله.
_________
١ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج٩ ص١٤٦.
٢ سورة الإسراء: ٨٠.
٣ الدرر في اختصار المغازي والسير ص٨٠.
٤ البداية والنهاية ج٣ ص٢٥ نقلا عن البيهقي.
1 / 23
قال ﷺ: "لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها" ١، وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه أن رسول الله ﷺ قال: "إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة"، قال الحكيم الترمذي: "إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة وقد قال الله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ ٢ قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ به"٣.
وقد دفن النبي ﷺ بالمدينة، وفي ذلك دلالة على أن ترتبها أفضل من غيرها.
٤- يقول النبي ﷺ داعيًا للمدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" ٤، وقد استجاب الله دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رأى المدينة، وهو عائد إليها ليسرع إليها من حبه لها، وفي حب النبي ﷺ للمدينة أكثر من حبه مكة دليل على أفضليتها عند الله تعالى؛ لأن حبه ﷺ تابع لحب ربه والمحبوب إلى الله ورسوله أكثر من غيره كيف لا يكون أفضل؟! إنه الأفضل.
٥- بيان حقيقة أن ما بين بيته وقبره ﷺ روضة من رياض الجنة، دليل على فضل المدينة، يقول النبي ﷺ: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" ٥؛ لأن رياض الجنة يفضل أرض الدنيا كلها.
٦- تفضيل المدينة يكون بسبب مجاورة ساكنيها والمقيمين بها لقبره ﷺ؛ لأن مجاورة أهل الخير خير، ولذلك كان جزاء الصالحين في الآخرة إلحاقهم بالصالحين، وقد حرمت الشريعة الإسلامية مس المحدث لجلد المصحف لمجاورة الجلد للمصحف نفسه، مع أنه ليس منه، وذلك لأن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة، والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟!!
_________
١ سبل الهدى والرشاد ج٣ ص٤٣٥.
٢ سورة طه: ٥٥.
٣ الدرر في اختصار المغازي والسير ص٨٠.
٤ صحيح البخاري كتاب الحج ج٣ ص٢٨٥ ط الأوقاف.
٥ صحيح البخاري كتاب الحج ج٣ ص٢٨٤.
1 / 24
وقد حرص عمر بن الخطاب ﵁ أن يدفن بجوار صاحبيه رسول الله ﷺ وأبي بكر الصديق ﵁ لينال من الجوار بعض الخير الذي لا يرجوه في غيره.
ومن المعلوم أن جمهرة من العلماء قالوا بأفضلية مكة المكرمة على المدينة المنورة نظرًا لمضاعفة ثواب العمل بمكة ووجود الكعبة بها من بدء الحياة البشرية من لدن آدم ﵇ ولضعف حديث أن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى إلا أن الجميع متفقون على أن البقعة التي تضم الأعضاء الشريفة لرسول الله ﷺ بعد دفنه أفضل من غيرها على الإطلاق، تليها في الأفضلية الكعبة ببنائها المعروف.
وقد حرم الله تعالى المدينة كما حرم مكة فلا يقطع شجرها، ولا يقتل صيدها يقول النبي ﷺ: "إني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها، ولا يقتل صيدها" ١.
ويقول ﷺ: "المدينة حرام، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمن أشار لها وعرفها، ولا يصلح لرجل أن يحمل السلاح فيها إلا لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف الرجل بعيره" ٢.
ويقول النبي ﷺ: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور" ٣.
ويقول النبي ﷺ: "أحد جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم ﵇ حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها أي المدينة" ٤.
وفي المدينة المنورة قامت دولة الإسلام الأولى، ومنها انطلق الدعاة إلى كل مكان وانتشر الإسلام في العالم كله، والمسلم في كل زمان ومكان له في نفسه حب يسوقه إلى المدينة؛ لأنه يساق إلى المدينة في زمن النبي ﷺ لحب رؤيته ﷺ والتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم والسلام على نبيهم، ومن بعد ذلك للصلاة في مسجده والسلام عليه ﷺ، والتبرك بمشاهدة آثاره، وآثار
_________
١ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج٩ ص١٣٧.
٢ صحيح مسلم باب فضل المدينة ج٩ ص١٤١.
٣ صحيح البخاري كتاب الحج، باب حرم المدينة ج٣ ص٢٧١.
٤ صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب أحد جبل يحبنا ج٤ ص٨٩.
1 / 25
أصحابه رضوان الله عليهم١.
ومن المعلوم أن شد الرحال إلى مسجد النبي ﷺ سنة مشروعة.
وكل من يزور المدينة المنورة، ويتشرف بزيارة مسجد الرسول ﷺ ويصلي على النبي ﷺ يعيش ذكريات الإسلام الأولى التي اكتمل خلالها الإيمان، وتمت النعمة، وأصبح للإسلام دولة وقوة فهي مأوى الإسلام وقوته، يقول النبي ﷺ: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" ٢.
والمدينة المنورة هي دار الإسلام الباقية على الزمن كله وآخر القرى خرابًا في آخر الزمان، يقول ﷺ: "آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة" ٣.
٢- جغرافية المدينة المنورة:
تقع المدينة المنورة شمال مكة المكرمة بثلاثمائة وخمسين ميلا تقريبًا، وهي أصغر مساحة، وأقل سكانًا من مكة، ويذهب بعض العلماء إلى أن المدينة كانت عند الهجرة نصف مكة مساحة وسكانًا، وتقع المدينة وسط جبال بركانية، وتلال صخرية، وأراضي حجرية فهي بذلك تمثل واحة خضراء، بها زراعات ونخيل وسط الصخر والحجر.
وهي قرية صغيرة تقع بين جبلي عير وثور، لقوله ﷺ: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" ٤.
وقد حققت مجلة الأزهر في عددها الصادر في غرة صفر سنة ١٣٧٥هـ وجود هذين الجبلين حول المدينة المنورة، بعدها شكك البعض في أن جبل ثور هو الموجود بمكة، ولا وجود له بالمدينة.
_________
١ السيرة النبوية ج٩ ص١٣٧.
٢ صحيح البخاري كتاب الحج باب الإيمان يأرز إلى المدينة ج٣ ص٢٧٧ط الأوقاف ومعنى يأرز ينضم ويجتمع.
٣ تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي ج١٠ ص٤١٨.
٤ صحيح البخاري، كتاب الحج، باب حرم المدينة ج٣. ص٢٧١، صحيح مسلم، كتاب الحج ج٢ ص٩٤٤.
1 / 26
ويقع جبل ثور١ خلف جبل أحد شمال المدينة، وبذلك يكون جبل أحد جزءًا من المدينة؛ لأن ثورًا يحدها شمالا.
ويقع جبل "عير"٢ في جنوب المدينة وهو حدها الجنوبي.
كما يحد المدينة من الشرق حرة "واقم".
ومن الغرب تقع حرة "الوبرة"٣.
وتتميز المدينة المنورة بأنها دار حق وصدق، لقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ ٤، يقول المفسرون: هما مكة التي خرج ﷺ منها والمدينة التي دخلها صلى الله عليه وسلم٥.
والمدينة أحب البلاد إلى الله تعالى؛ لأن النبي ﷺ قال عند خروجه من مكة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك" ٦، فأسكنه الله المدينة المنورة.
٣- أهمية موقع المدينة:
تتميز المدينة بموقعها الحصين، وخيرها الكثير فهي تقع في ملتقى طرق الجزيرة العربية الآتية من كل جهاتها، كما أنها محاطة بحواجز طبيعية تمنع وصول العدو إليها إن قصدها بسوء، وتعتبر المدينة جزيرة خضراء محاطة بحواجز صخرية، منيعة، إذ تقع حرة "واقم" في الشرق، وحرة "الوبرة" في الغرب، وجبل ثور وأحد في الشمال وجبل "عير" في الجنوب.
_________
١ جبل ثور بالمدينة جبل صغير مدور، يقع خلف جبل أحد، وهو غير جبل ثور الموجود بمكة، ولونه يميل إلى الحمرة.
٢ عير جبل عظيم شامخ يقع جنوب المدينة على مسافة ساعتين منها.
٣ الحرة: بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة، وواقم رجل من العماليق، والوبرة بفتح الباء أو بسكونها أرض حجرية لونها أسود كأنها أحرقت.
٤ سورة الإسراء: ٨٠.
٥ تفسير ابن كثير ج٣ ص٥٨، ٥٩ وهو أشهر الأقوال.
٦ البداية والنهاية ج٣ ص٢٠٥.
1 / 27
وكان بها الزرع والثمر والنخيل، واستقر بها بعض اليهود وأقام فيها الأوس والخزرج منذ القدم وأنشئوا بها الصناعات، وزرعوا الأرض، واستخرجوا الثمر ولذلك يقول عنها النبي ﷺ: "إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين" ١. فتميزها بالنخيل دليل الزراعة والثمر، وإحاطتها باللابتين دليل المنعة والتحصين.
وكان العرب وعلى رأسهم أهل مكة يقدرون لأهل المدينة هذا الموقع، ويعاملونهم بالتقدير والاحترام كسبًا لودهم، وأملا في حماية تجارتهم وهي تغدو وتروح عليهم، ولذلك رأينا القرشيين بعد بيعة العقبة الثانية يصبون جام غضبهم على من أسلم من أهل مكة، ويتجنبون مخالفة أهل المدينة.
جاء في صحيح البخاري أن سعد بن معاذ ﵁ كان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد معتمرًا فنزل على أمية بمكة كعادته فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من معك؟
فقال: هذا سعد.
فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا.
فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة.
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد الوادي.
فقال سعد: دعنا عنك يا أمية٢.
_________
١ سيرة النبي لابن هشام ج١ ص٤٦٨ واللابة هي الحرة بفتح الحاء.
٢ صحيح البخاري كتاب المغازي باب ذكر النبي من قتل ببدر ج٧ ص٢٨٢.
1 / 28