The Introduction to the Art of Journalistic Writing
المدخل في فن التحرير الصحفي
প্রকাশক
الهيئة المصرية العامة للكتاب
সংস্করণের সংখ্যা
الخامسة
জনগুলি
مقدمات:
تقديم:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ:
لعلك قد سمعت من جيلنا من يقول: "نحن جيل بلا أساتذة". فهل يستطيع الأديب أو الإعلامي أن ينمو دون أن يكون له أستاذ من التراث في القديم، وفي الإبداع المعاصر والحديث؟
قال الأستاذ لتلميذه الفتى:
"ليس هذا الذي نلاحظه في جيلك شيئًا جديدًا، إنه قديمٌ قِدَمَ الإنسان، بل إن من الجيل الأكبر من يظن أن ذكاء الناس يتضاءل أمام ذكائه، فيتعامل في عالم الأدب والفكر بناءً على تصوره هو، ضاربًا بذكاء الآخرين عرض الحائط.. أذكر لك هنا يا بني قول عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- لعامر بن مرو الزهري: "من أحمق الناس؟
فأجابه: "مَنْ ظن أنه أعقل الناس"!
فقال الإمام عليّ: "صدقت، فمن أعقل الناس؟ "
فأجابه: "مَنْ لم يتجاوز الصمت في عقوبة الجهل".
ومع ذلك يا بني، فالأدباء الإعلاميون الشيوخ، هم أسعد الناس حين ينبغ من الشباب أديبٌ أو إعلاميٌّ، ألا ترى أنهم كالآباء يفرحون لنبوغ الأبناء؟
لقد مر البحتريّ الشاعر بجماعة من الشعراء، فرأى بينهم صبيًّا، فقال له: أشاعر أنت؟ فقال الصبيّ: نعم. وإني لأشعر منك!
1 / 7
قال البحتريُّ: مرحى.. فهل تستطيع أن تجيز قولي:
ليت ما بين من أحب وبيني ... مثل ما بين ملتقى الخافقين
قال الطالب لأستاذه الشيخ:
ليت ما بين أجيال الأدباء والباحثين والمفكرين والإعلاميين والنقاد، ما بين الحاجب والعين، كما قال تلميذ البحتريّ!
تذكر "السندباء" هذه "الشوارد"، حين وُكِّلَ إليه تسجيل هذا الاستهلال في الطبعة الجديدة من السفر النفيس: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" الذي راد به مؤلفه دراسات الإعلام في اللغة العربية، ومهَّدَ الطرق لمن جاءوا بعده من الدارسين والباحثين، ولا يرى "السندباء أن من حقه أن يسمي هذا الاستهلال "بالتقديم" فإن أستاذه: الدكتور عبد اللطيف حمزة ﵀، مقدّم متقدّم، له من بحوثه ومؤلفاته وريادته، ومدرسته العلمية التي شيَّدَها، وأرسى دعائمها، له من ذلك كله، رسلٌ تتقدم به إلى كل مكان تصل إليه دراسات الإعلام في العصر الحديث.
وليس من حق "السندباء" أن يسمي استهلال هذا الكتاب بالتعريف، وهو يتمثل قول الفرزدق: "العرب تعرف من عرفت".. فلا حاجة بالأستاذ الدكتور عبد اللطيف حمزة إلى تعريف، ولكننا نحاول أن نقول عنه شيئًا جديدًا فيما يتصل بنا، من تمثل لنموذجٍ من أعظم نماذج التواصل بين الأجيال في العصر الحديث.
أستاذنا الجليل د. عبد اللطيف حمزة ﵀، أصح من عرفت بمصر فقهًا في علوم الإعلام، وأصدقهم رأيًا في الأدب، وأكثرهم درايةً بالنص الصحفيّ منذ نشأة الصحافة العربية في مصر، في أوائل القرن التاسع عشر، ومنذ تطورها في القرن العشرين، ودارسًا، حتى رحيله عن عالمنا، بداية الثلث الأخير من هذا القرن.
كان يدرس الصحافة في قسم الصحافة والتحرير والترجمة بكلية الآداب جامعة القاهرة منذ إنشاء هذا القسم، وقبله في معهد الصحافة والتحرير والترجمة بالجامعة نفسها.
1 / 8
بدأت أختلف إلى دروسه في كلية الآدابِ، فلزمته أربع سنين؛ لم أنقطع عن درسه في فن التحرير الصحفيّ، وتاريخ الصحافة المصرية، وعرفت فيه محبة الآباء لأبنائهم، ومبادلة الأبناء له محبةً بمحبةٍ تقترن بالإجلال والإكبار، وهي الصلة التي لخصها عميد الأدب العربيّ د. طه حسين في قوله، عن أثر العطف والحنان في نموذج الأستاذ، حين يتواصل مع تلاميذه، فيندفع الأستاذ والتلميذ على أن يتعصب كلاهما لصاحبه، ويناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة والآباء المشفقين.
سعدت بهذا الأستاذ قديمًا، وسأظل سعيدًا به طول الدهر؛ لأنه صادف القلب، في نضارة الشباب؛ ولأنه حبٌّ مصدره العلم، لم تفسد عنصره المادة، ولم تكدر جوهره مآثم هذه الحياة.. حب الأستاذ ودرسه قد أثَّرَا في نفسي تأثيرًا شديدًا، فصاغها على مثاله، وكوَّنَا لها في الأدب والنقد والصحافة والتحرير ذوقًا على مثال ذوقه، ومنهجًا على نحو منهجه.. إيثارٌ للتأصيل في الفكر والإبداع، وكَلَفٌ بمناحي التجديد في مدارس الإعلام والاتصال بالجماهير، وبغض شديد لما يعارض الضمير الصحفيّ، استجابةً لدعم الصلات بين المجتمع وصحافته، وما ينبغي أن تكون عليه هذه الصحافة.. كان دافعه لتأليف الكتاب إذ ذاك، كثرة ما نشر في نقد الصحافة، وقد انزلقت يومئذ إلى الإثارة والبعد عن النزاهة والاستقامة، والجنوح بالصحف إلى الأخبار الهشة، والموضوعات التافهة، والتسلية الرخيصة، والخوض أحيانًا في أعراض الناس بحقٍّ وبدون حقٍّ..
لذلك كانت قضية "التأهيل الصحفيّ" من أهم القضايا المحورية في عمله العلميّ بالجامعة، منذ انتقل إلى معهد الصحافة والتحرير في كلية الآداب، إلى أن عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بعد ذلك في كلية الآداب جامعة القاهرة عام ١٩٦٢.
تظهرنا السيرة الغيرية للدكتور عبد اللطيف حمزة، على أنه قد وُلِدَ في ٧ يوليو سنة ١٩٠٧ في طنا، بني سويف، ثم تخرج في كلية الآداب سنة ١٩٣١، ووفي سنة ١٩٢٣ حصل على دبلوم معهد التربية العالي، وعُيِّنَ مدرسًا بمعهد التربية، ثم حصل على
1 / 9
درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وعُيِّنَ مدرسًا بكلية الأداب جامعة القاهرة، أستاذًا بقسم اللغة العربية فيها، ثم في سنة ١٩٦٢ عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وفي ٩ نوفمبر سنة ١٩٦٤ انتدب للتدريس بجامعة بغداد؛ كرئيسٍ لقسم الصحافة بها، إلى أن رحل عن عالمنا في منتصف عام ١٩٧٠ ﵀، بعد رحلة جهادٍ علميٍّ كان من ثمارها أجيالٌ تخرجت على يديه، لتعمل في وسائل الإعلام على اختلافها، ولتواصل رحلة البحث العلميِّ في الدراسات الإعلامية، مؤكدةً المغزى الذي تلخصه سيرته في النموذج الإيجابيِّ للتواصل بين الأجيال.
وتظهرنا سيرته الذاتية، على صورة رائعة من صورة الجهاد في البحث العلميّ، وفي المهنة الجامعية نفسها، وهو يواجه مشقات الحياة والمهنة بقلبٍ مطمئنٍ، وضميرٍ نقيٍّ، لا يبالي بمشقة الحرمان.
عرفت أستاذي الدكتور عبد اللطيف حمزة ﵀، منذ نيف وأربعين سنة، أي: منذ جيل كامل في النهضة الإعلامية والعلمية الحديثة، تتلمذ على يديه، ورأى فيه نموذج المجاهد العالم، وهو يعلم الأبناء كيفية تحرير الشعوب من العبودية والجهل، كما يعلمهم كيف يحاربون الطغاة والمفسدين؛ ليحرروا الناس من الظلم والذل والحرمان! رأوا فيه نموذج العالم والأديب والمعلم؛ الذي يتمثل في صورة المستكشف، مساهمًا في تقدم المدنية، والمفكر الذي يُبَصِّرُ الناس بحقائق الحياة، والمبدع الذي يملأ حياة الناس بالحب والإبداع، متوسلًا بوسيلةٍ من أعمق وسائل الاتصال بالجماهير، هي وسيلة الاتصال الصحفيّ، وقد عَلَّمَ تلاميذه أن يتخذوا منها وسيلةً تغطي الجدران العارية، للحياة الكئيبة على حد تعبير "والترسكوت" بثمار عبقرياتهم البهيجة الجميلة! مقدمًا النموذج الذي لا يسعى وراء ثناء الناس ومديحهم، ولا وراء الشهرة والمظاهر الزائفة، وإنما وكده دائمًا: السعى وراء الحرية والحق، وإنارة الطريق الذي يؤدي بالناس إلى السعادة والأمن والاطمئنان.
1 / 10
من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه:
أولًا الكتب الأدبية:
١- تراث الإسلام ترجمة بالاشتراك مع لجنة الجامعيين لنشر العلم عام ١٩٣٦.
٢- ابن المقفع تأليف سنة ١٩٣٧.
٣ صلاح الدين تأليف سنة ١٩٤٤.
٤- حكم قراقوش تأليف سنة ١٩٤٥.
٥- الحركة الفكرية في مصر، في العصرين الأيوبيّ والمملوكيّ الأول. تأليف سنة ١٩٤٧.
٦- أدب الحروب الصليبية تأليف سنة ١٩٤٩.
٧- الفاشوش في حكم قراقوش تأليف سنة ١٩٥١.
٨- صلاح الدين بطل حطين تأليف سنة ١٩٥٨-١٩٥٩.
٩- الأدب المصريّ منذ قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية. تأليف سنة ١٩٦٠.
"حلقة من سلسلة ألف كتاب".
١٠- القلقشندي مؤلف صبح الأعشى
"حلقة من سلسلة أعلام العرب" تأليف سنة ١٩٦٢.
1 / 13
ثانيًا: الكتب الصحفية
١- أدب المقالة الصحفية جزء أول عام ١٩٥٠
٢- أدب المقالة الصحفية جزء ثانٍ عام ١٩٥٠
٣- أدب المقالة الصحفية جزء ثالث عام ١٩٥١
٤- أدب المقالة الصحفية جزء رابع عام ١٩٥١
٥- أدب المقالة الصحفية جزء خامس عام ١٩٥٢
٦- أدب المقالة الصحفية جزء سادس عام ١٩٥٤
٧-٠ أدب المقالة الصحفية جزء سابع عام ١٩٥٥
٨- أدب المقالة الصحفية جزء ثامن عام ١٩٦٣
٩- أدب المقالة الصحفية جزء تاسع، بالاشتراك مع د. عبد العزيز شرف، هيئة الكتاب ١٩٩٩
١٠- الأدب والصحافة في مصر عام ١٩٥٥
١١- المدخل في فن التحرير الصحفيّ عام ١٩٥٦
١٢- مستقبل الصحافة في مصر عام ١٩٥٧
١٣- الصحافة المصرية في مائة عام عام ١٩٥٧
١٤- أزمة الضمير الصحفيّ عام ١٩٦٠
١٥- أخبار الشرق الأوسط في الصحافة العالمية "ترجمة - اشتراك".
١٦- الصحافة والمجتمع عام ١٩٦٣
١٧- الإعلام "له تاريخه ومذاهبه" عام ١٩٦٥
١٨- قصة الصحافة العربية في مصر طبعة بغداد عام ١٩٦٧
١٩- الإعلام والدعاية عام ١٩٦٨
٢٠- الإعلام والجريمة "مقال طويل نشرته مجلة "الشرطة" ببغداد في عدد من أعدادها" عام ١٩٦٨
٢١- الدعاية الصهيونية، طبعة النادي العربيّ بالخرطوم عام ١٩٦٩
٢٢- الدعاية والإعلام في عهد الرسول، طبعة جامعة أم درمان بالسودان عام ١٩٥٩
٢٣- الإعلام في صدر الإسلام عام ١٩٧٠
1 / 14
ثالثًا: بحوث أدبية وصحفية نشرتها مجلات علمية
١- بعض بذور الشخصية المصرية في الأدبين القديم والوسيط، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، عدد ديسمبر ١٩٥٣.
٢- الحروب الصليبية وأثرها في العالم الإسلاميّ، مجلة العالم الإسلاميّ، عام ١٩٥٣.
٣- الجاحظ المعتزليّ "مجلة كلية الآداب". جامعة القاهرة، عدد ديسمبر ١٩٥٧.
٤ أسلوب القاضي الفاضل "مجلة الثقافة القديمة".
٥ أبو الحسين الجزار وشعره "مجلة الثقافة القديمة".
٦- أجواء فكرية وسياسية عاش فيها الأدب الحديث والصحافة المصرية "مجلة كلية الآداب" جامعة القاهرة، عدد ديسمبر ١٩٥٤.
٧- العقدة الشركسية عند مدرسة الشيخ محمد عبده، وأثرها في صحافة هذه المدرسة "مجلة كلية الآداب" جامعة القاهرة، عدد مايو ١٩٥٦.
٨- مستقبل التأهيل الصحفيّ، منشور رقم "١" من منشورات قسم الصحافة، جامعة القاهرة، عام ١٩٥٧.
٩- نشر الوعي الصحفيّ في المدرسة، المنشور رقم "٢" من منشورات قسم الصحافة، جامعة القاهرة، عام ١٩٥٨.
١٠- دور الصحافة العربية في تنمية الوعي القوميّ "صحيفة المجلة التي تصدرها وزارة الثقافة".
١١- الطور الصحافيّ من أطوار الحركة الوطنية، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، عدد مايو عام ١٩٥٨.
١٢- شخصية لا أنساها، وهي شخصية الشيخ على يوسف ومكانته من تاريخ الصحافة المصرية "مجلة الهلال عدد يولية ١٩٥٩".
1 / 15
رابعًا: بحوث في مجال التربية والتعليم
نشرت هذه البحوث في مجلة "الرائد" التي تصدرها نقابة المهن التعليمية، واتخذ لها عنوانًا ثابتًا في هذه الصفحة، وهو كما يلي: "الخالدون في ميدان التربية والتعليم"
وجاءت تباعًا على النحو التالي:
١- زعماؤنا الخالدون في ميدان التربية والتعليم "مجلة الرائد، عدد أكتوبر" عام ١٩٦٣.
٢ رفاعة الطهطاوي، أو المعلم الأول "مجلة الرائد، عدد نوفمبر" عام ١٩٦٣.
٣- محمد عبده، المعلم الثاني "مجلة الرائد، عدد ديسمبر" عام ١٩٦٣.
٤- محمد عبده، أو المعلم الثاني "مجلة الرائد، عدد مارس" عام ١٩٦٤.
٥- أحمد لطفي السيد، أو المعلم الثالث "مجلة الرائد، عدد مارس" ١٩٦٤.
٦- طه حسين، أو المعلم الرابع "مجلة الرائد، عدد أبريل" عام ١٩٦٤.
كما كتب بحوثًا أخرى بعنوان: "الخالدين في ميدان التربية والتعليم".
تتضمن الحديث مرةً أخرى عن الدكتور طه حسين، ثم الحديث، والمعلم الخامس، وهو المرحوم إسماعيل محمود القباني، الوزير السابق للتربية والتعليم، وواضح أنه من هذه البحوث الأخيرة سيتألف كتاب جديد بالعنوان المتقدم، وذلك بمشيئة الله تعالى.
وما زال قَسَمُ الصحفيّ الجامعيّ الذي لقنه لتلاميذه محفورًا في قلوبهم، وهو القَسَمُ الذي يقول:
قَسَمُ الصحفيّ الجامعيّ!!
أقسم بالله العظيم، أن أحترم مهنة الصحافة، وأن أعمل فيها بشرفٍ وذمةٍ وأمانةٍ، وصدقٍ، ونزاهةٍ، وأن أجعل مصلحة الوطن هي العليا، وأن أشارك ما استطعت في بناء الإنسانية الراقية "المتحضرة".
1 / 16
وكتابه: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" الذي تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب، في طبعته الجديدة، هو الكتاب "العمدة" في موضوعه، منذ صدور طبعته الأولى من نيفٍ وأربعين عامًا، ولقد صدرت بعده كتب ودراساتٌ في لغة العرب وغيرها من اللغات، وما تزال للكتاب جدة، وما تزال له جوانب تَمَيُّزٍ، انفرد بها بين المراجع الكبرى في هذا الفن.
ذلك أن أستاذنا د. حمزة، في رحلته العلمية، منذ اشتغاله بتدريس "الأدب المصريّ" وهو يستقري قوانين الإبداع في الأدب والنقد، وتغدو لديه بمثابة الأساس الراسخ لقوانين التحرير، هذا المنهج الاستقرائيّ أكسب كتابه التميز في موضوعه، وجعل له مكانة تصله بأسلافه من مؤلفي كتب "الصناعتين" في التراث العربيّ، صناعة الشعر وصناعة النثر، وكأنما كان يتفيأ تشييد صناعة ثالثة، هي صناعة "النثر الصحفيّ" الأمر الذي وجهه إلى دراسة "أدب المقالة الصحفية في مصر" كما عُنِيَ بدراسة التحرير، في كتابه: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ"، متضمنًا دراسة: فن الخبر والتقرير، والمقال، وفن تحرير المجلة، حتى لنذهب إلى أن هذا الكتاب في "الصناعة الثالثة" صناعة "النثر الصحفيّ" إنما يمثل البلاغة الجديدة، حين تنظر إلى الناس، كما يقول طه حسين: من حيث لا يصطنعون الشعر للإعراب عما يضطرب في نفوسهم من شئون الحياة اليومية، وهم لا يحررون الصحف شعرًا ولا يكتبون فيما يريدون أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا، وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر، كما اصطنعوه في جميع العصور، منذ تقدمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة".
والبلاغة الجديدة ترتبط بالمدرسة التجديدية في المقال الصحفيّ؛ فكتابها هم الذين طوروا الذوق العام في النصف الأول من القرن العشرين، وقد أعانهم على الوصول إلى مشارف هذه البلاغة العملية أنهم لم يكونوا يعيشون في البروج العاجية، ولا يعتزلون الحياة الشعبية، ولا ينأون بحالٍ من الأحوال عن آلام الناس وآمالهم، ولا يهملون قدرتهم وطاعتهم، وإنما كانوا يعيشون مع الشعب، بل يعيشون بالشعب
1 / 17
وللشعب، يعيشون لأنهم كانوا يعربون عن ذات نفسه، يصورون له آماله ليحرض عليها، ويَجِدَّ في تحقيقها، ويفتحون له آفاقًا جديدةً من الأمل ليسرع إليها، ويمعن فيها، ويصورون له آلامه ليبرأ منها، ويضع عن نفسه أثقالها.
وأيسر القراءة فيما كانوا يكتبون، وكما يظهر في سلسة: "أدب المقالة الصحفية" تبين ذلك في غير لبسٍ ولا غموض، فهم الذين صوروا له الاستقلال وزينوه في قلبه، وهم الذين بغضوا إليه الاحتلال، وأثاروه على الإنجليز، وهم الذين كَرَّهوا له الاستبداد، وأطمعوه في الحرية، وأغروه بالإلحاح في طلبها، وهم الذين أعدوه للثورة، وأسخطوه على حياةٍ سيئةٍ كان يحياها، وهيأوا ضميره ليسرع إلى الخير حين يدعى إليه، وينصرف عن الشر حين يُرَدُّ عنه، ويتقبل الإصلاح حين يُعْرَضُ عليه، وهم قاوموا الاستبداد، ولقوا في مقاومته ضروبًا من الأذى، وفنونًا من النكر، وهم قوّموا المعوجِّين من الحكام، وجَدُّوا في صرف الشعب عنهم، وتزهيده فيهم.
فعلوا كل هذا، وتَقَبَّلَ الشعب منهم ما فعلوا، واستجاب الشعب لهم حين يخطبون أو يتحدثون".
وفي دراسات د. حمَزة، التي ضمنها سلسلة: "أدب المقالة الصحفية" يتضح أن الصحفيين في المدرسة التجديدية، وقد جمعوا بين الثقافتين، استطاعوا بجهودهم أن يؤصلوا لغة الفن الصحفيّ العربيّ التي تقترب من لغة الأدب، وتمتاز بالسلالة والواقعية والتبسيط.
وهذا التقارب الذي تكشف عنه البلاغة الجديدة بين مستويات اللغة العلمية والأدبية والعملية، إنما يدل على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته وحيوية ثقافته، ومن ثَمَّ إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوعٌ من التألف بين هذه المستويات، هي غالبًا أزهى العصور وأرقاها.
يمتاز المقاليُّون التجديديون بأن ولاء مدرستهم يرتبط بالبيئة المتحضرة التي يعيش فيها الكاتب للجمهور وبالجمهور، تتبين هذه الميزة إذا نظرنا إلى المدرسة التقليدية من جهةٍ، وإلى العقاد والمازني وهيكل وطه حسين في المدرسة التجديدية من جهةٍ أخرى، فقد كان الكاتب التقليديّ لا يعيش لأدبه، وإنما يعيش بأدبه، في حاجة إلى حمايةٍ تكفل له ما يجب من العيش والمكانة، ولا بد له من "مسين" كما يقول الأوربيون، يحميه ويعطيه، ويحيطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب، أما الأربعة الآخرون، فثائرون على هذا النوع من الحياة والأدب، يكبرون
1 / 18
أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك، يعيشون أولًا ويعيشون أحرارًا.
وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم حسابًا لهذا أو ذاك، وقد فتحت هذه الحرية أمام المقاليّين المجددين أبوابًا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعًا للسادة والعظماء، فهم يؤثرون أنفسهم، ويؤثرون الفن، ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف هؤلاء المقاليون المجددون على الشعب؛ فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار.
ومن ثمار هذا الدرس جاءت البلاغة الجديدة؛ لتجعل من لغة الفن الصحفيّ لغة المغزى والمعنى والأهمية؛ إذ تقوم على الوظيفية الهادفة، والوضوح والإشراق، حتى لتكاد تكون فنًّا تطبيقيًّا قائمًا بذاته، فالفن الصحفيّ تعبيرٌ اجتماعيٌّ شاملٌ، لغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافيّ؛ من علمٍ وفنٍّ وموسيقي وفنٍّ تشكيليّ.. وغيرها من الفنون، إلى جانب السياسة والتجارة والموضوعات العامة.
ومن ذلك يتضح لنا أن فن التحرير الصحفيّ يرتبط بنوع الوسيلة التي تحمله إلى الجمهور، ثم بطبيعة مادته وصياغته، فكل الأنواع التي نعرفها أدبيةً وعلميةً وصحفيةً، يمكن أن تكون فنونًا صحفيةً متى توفرت لها الحالية والحيوية والاستجابة لاهتمامات الجمهور، والصياغة السهلة القريبة إليهم.
إذ أن فنون التحرير الصحفية هي الفنون التي تنشرها الجريدة لتواجه تساؤلات، أو اهتماماتٍ ذات صفةٍ حاليةٍ ترتبط بالأحداث الهامة، أو المشكلات التي تمس جمهور القراء، أو تلك التي يمكن أن تجري في حياتهم في المستقبل القريب، وهذا الفن يمتاز ببلاغته الصحفية، ويتخذ الصيغة المميزة لطابع الصحيفة التي تنشره، أو الصيغة للمدرسة أو المذهب الصحفيّ الذي ينتمي إليه كاتب المقال.
على أن البلاغة الجديدة كما تظهر في دراسات أستاذنا د. حمزة ﵀، تمتاز كما تقدَّم بأنها جاءت ثمرة للخصومة بين أنصار القديم والجديد في تراثنا الصحفيّ، ذلك أن الكثرة المطلقة من الذين يقرءون الصحف والكتب حريصةً كل الحرص على شيئين لا ترضي بدونهما:
الأول: أن يُقَدَّمَ إليها نثرٌ فصيحٌ مستقيمُ اللفظِ، نقيُّ الأسلوبِ، برئٌ من الابتذال، حُرٌّ من أغلال البيان والبديع.
1 / 19
الثاني: أن يكون هذا النثر، على كل ما قدمناه ملائمًا لذوقها الجديد وميولها الجديدة، قيِّمًا في معناه، كما هو قيِّمٌ في لفظه، حر في معناه كما هو حر في لفظه أيضًا، ومعنى هذا: أن الكثرة المطلقة من الذين يقرأون العربية الآن، تحرص في حياتها كلها على أمرين:
- نحرص على قديمها؛ لأنها لا تريد أن تمحو شخصيتها.
- وتحرص على الجديد؛ لأنها لا تريد أن تكون أقلَّ من الغرب علمًا ولا أدبًا ولا حضارةً، وهذا النثر وحده الذي تقدم وصفه هو الملائم لهذا الذوق الجديد وهذه الآمال الجديدة.
وفي أدب المقالة الصحفية في مصر يتأكد لنا أن طبيعة المقال تستلزم بيئةً مناسبةً للنمو والازدهار، ويظهرنا التطور المقاليّ على أن البيئة الأولى التي وُلِدَ فيها المقال على أيدي رفاعة الطهطاوي، وعبد الله أبو السعود، ومحمد أنسى، وغيرهم، كان قصاراها أن حاولت إنشاء ما يسمى: بـ "المقال الصحفيّ"، ذلك أنها كانت مقيدة في هذه المحاولة بقيود كثيرة، كان معظمها نتيجةً للظروف السياسية والاجتماعية والفكرية التي اكتنفت رجال تلك البيئة، وفرضت على المقال الناشئ صبغة علمية أدبية، أكثر منها سياسةً واجتماعيةً، من حيث الموضوع، أما من حيث الأسلوب، فقد كان كتَّاب البيئة الأولى مقيدين كذلك بقيود تقليدية، أورثت لغة المقال لونًا باهتًا من ألوان النثر العربيّ، لم يكن خليقًا أن يحتذى، ولا كان جديرًا بأن ينسج على منواله، ولكن البيئة الصحفية الثانيةلم تلبث أن سئمت هذا اللون الباهت، فنعم فيها المقال بقسط من الحرية في الموضوع، ومن الحرية في الأسلوب، نتيجةً لاتجاهها إلى لونٍ آخر من ألوان الجهاد القوميّ، فاتجهت إلى الإصلاح الاجتماعيّ والسياسيّ واللغويّ.
على أن المقال الصحفيّ في هذه البيئة لم يبرأ من عيوب المقال في البيئة الأول؛ حيث لم يستطع كتابه أن يرسموا في أذهانهم صورةً صحيحةً للمقال الصحفيّ، كما يفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها اليوم.
وإن كان هؤلاء الكتاب قد مهدوا لإدراك الفرق بين لغة الأدب ولغة الصحف، لظهور كتَّاب البيئة الصحفية الثالثة، التي ترتبط بظهور الصحافة اليومية، وهي
1 / 20
البيئة التي ولد فيها المقال الصحفيّ على يد السيد علي يوسف، صاحب "المؤيد" ولطفي السيد في "الجريدة" ومصطفى كامل في "اللواء" وفريد وجدي في "الدستور" وكانت هذه البيئة لنموِّ المقال الصحفيّ وازدهاره، لما اتصفت به من مقاومةٍ للاحتلال، ونشاط العقول والأقلام في هذه المقاومة، فامتاز المقال بالجِدَّةِ في الأسلوب السياسيّ، كما امتاز بالجدة في التفكير السياسيّ على حد تعبير د. حمزة ﵀.
وفي هذه البيئة الثالثة وجد الشبَّان من المجددين أساتذةً لهم، مهدوا للمفهوم المقاليّ الجديد، ووضعوا الثقافة العربية على بداية مرحلةٍ عنيفةٍ من صراع الأضداد، وذهب أبناء هذه المدرسة إلى تنمية الاتجاه العقلانيّ الذي أرساه الجيل السابق من كتّاب البيئة الصحفية الثالثة.
ونخلص من دراسات د. حمزة، إلى أن البيئة الصحفية الثالثة هي التي وضعت المقال الصحفيّ على بداية مرحلةٍ جديدةٍ من لقاء الأصالة والمعاصرة؛ حيث تمثلت التيارين: القديم برافديه المصريّ والعربيّ، والحديث الوافد من الغرب، ولعل صفة البقاء والاستمرار التي عرفها المؤرخون عن تطور التاريخ في مصر، والتي نسبها "أرنولد ينبي" إلى اقترانها بعملية التغيير والتجديد، هي في الحقيقة أكثر اقترانًا بعناصر الأصالة وعناصر التجديد، من خلال وحدة الشعور التي وسمت البيئة المصرية بالبقاء والاستمرار.
ولعل استقراء "لوبون" للحضارة المصرية، جاء أصدق استقراءٍ لحقيقة القوى الواقعة في البيئة المصرية؛ إذ يرى "مصر الفرعونية تعيش في مصر العربية باقيةً في مصرنا الحاضرة". وفي ذلك ما يُبَيِّنُ عمق العوامل النفسية التي وجَّهَت المقال المصريّ الحديث، حيث برهنت مصر طوال تاريخها على قدرةٍ فذةٍ على الاستجابة، وهذا هو السر في بقائها واستمرارها وتجددها، إلّا أنها في استجابتها، شأنها في ذلك شأن الأمم العريقة، لا تخلو من حوافز المقاومة المرنة، حتى لتضفي على الاستجابة تلك الحيوية التي تتمثل فيها الجديد، وتصهره في قديمها؛ ليكون النتاج: قوةً جديدةً تدفع بها إلى الإمام، ولعل في ذلك ما يفسر الصراع بين القديم والجديد، بين التقليديين والتجديديين في عصر النهضة الصحفية، كلونٍ من ألوان المقاومة المرتبطة بالاستجابة للجديد، الأمر الذي أكسب المقال والفنون الأخرى قوةً أبقى على الأيام.
1 / 21
ولذلك يرى د. حمزة -رحمة الله، أن من أسباب ظهور فن المقال الصحفيّ في مصر ملائمة البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لطبيعة فن المقال نفسه، وهي البيئة التي شهدت ظهور الرأي العام المصريّ وتكوّنه من خلال الصحافة والتعليم، والرغبة في التغيير السياسيّ والاجتماعيّ، وتلك هي العوامل التي هيأت لظهور فن المقال الصحفيّ؛ لأنه بطبيعته فنٌّ حضاريٌّ يزدهر في بيئة الفكر والعلم والنهضة والتعقيل.
ويلاحظ القاريء الكريم لكتاب: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" أن التحرير يشمل قسمين رئيسيين في الصحف هما: الأخبار من ناحية، وفنون المعالم Features من جهةٍ أخرى، وأن هذه الفنون الأخيرة تشمل: فن التقرير الصحفيّ، وفنون المقال.
أذكر لأستاذنا د. حمزة -رحمة الله، سلسلة مقالات في بداية الستينات، بعنوان: "دراسات وقراءات في النقد" منها مقالٌ خصَّصَه لدراسة نظرية "لسنج" في التفرقة بين الفنون، قال فيه:
عاش لسنج في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وحدَّثَ مرةً أن طلع على تمثل في الفاتيكان، وهو تمثال "اللاوكون" وكان موحيًا لكثير من الشعراء والأدباء الذين قالوا فيه الكثير من الشعر، وفي الوقت نفسه كان موحيًا للفنانيين الذين اشتغلوا بتقليده مرات عديدة.
وقصة هذا التمثال خلاصتها: أن راهبًا كان يتعبد في معبد أبو لون، ثم كفر به في آخر حياته، وذهب يعبد إله البحر، فما كان أبو لون إلّا أن أرسل عليه لينتقم منه، والتمثال للراهب وهو يصارع ليدفع أذاها عن نفسه وعن ولديه، وحين رأي لسنج التمثال رأى آثار الألم باديةً على وجه الراهب وعلى جسده، ولكنه لاحظ أن هذا الألم مكبوت، وكان لسنج قد سبق له أن قرأ ما كُتِبَ عن شعر اللاتيني فرجيل، وفي هذا الشعر كان الراهب يصرخ ويصيح ويملأ الدنيا بصراخه وعويله، فالتفت لسنج منذ هذه اللحظة إلى الفرق بين فن النحت وفنِّ الشعر.
فالقصة التي أوحت إلى النحات والشاعر واحدة، فأخذ لسنج يتساءل: ترى ما سبب هذا الفرق، وما كنهه؟ فالراهب في الشعر يصرخ، ويصف الشاعر ملابسه، ويذكر كثيرًا من التفاصيل التي تتصل بهذا
1 / 22
المنظر، الزاهب نفسه في الصخر، يكبت ألمًا وهو صامت صمتًا مخيفًا، ولا يقلُّ في روعته عن صراخ الشعر وعويله، أوحت هذا القصة للناقد إذن بالتفرقة بين الفنون؛ من حيث المواد الأولية التي يستعملها الفنانون؛ فرأي لسنج أن ذلك الفرق جاء من طبيعة كلٍّ من الصخر والشعر؛ إذ المادة الأولى التي يستعملها النحات وهي الصخر تختلف عن المادة التي يستعملها الشاعر وهي اللفظ.
رأى أن النحات لا يمكنه أن يصور الراهب مرتديًا ملابسه، وإلّا اختفت آلامه، ورأى الراهب يصرخ في الشعر، فهل من الممكن أن يصرخ في الصخر؟ لو حاول النحات ذلك لرسم الراهب فاتحًا فمه، فلا يرى الرائي إلّا فتحةً مظلمةً تنقص من جمال التمثال، والجمال ينبغي أن يتوخى في النحت؛ لأنه يعرض للنظارة ليعادوا النظر إليه مرةً بعد أخرى، ولو ظهرت هذه الهوة المظلمة لظهر التمثال بشعًا تشمئز منه النفوس، فلا نعود إلى النظر إليه، وعلى هذا الأساس أخذ لسنج يفرق بين المواد الأولية للفنون، فهناك النحت والرسم والشعر والموسيقي، وموادها: الصخر والألوان والكلمات والأنغام، وهذه المواد تختلف فيما بينها، وبسبب ذلك تختلف الفنون بعضها عن بعض.
والكلمة تمثِّل الحركة، فنحن إذ نصوغ صورةً من صور البشر، فإننا لا نصوغها دفعةً واحدةً، وإنما نصوغها كلمةً كلمةً، فهي متتالية في الزمن، وعلى خطٍّ مستقيمٍ، وعلى هذا، فلكلٍّ من الصخر والشعر ميدان يكون فيه أصلح من الآخر.
والصخر يضع أمامك التمثال فتراه دفعةً واحدةً، وتعاود النظر فيه، ولكن الشعر لا نراه دفعةً واحدةً، وإنما نراه متتاليًا في فترات زمنية متتالية أيضًا؛ فالصخر أقدر على تصوير العظمة، والشعر أقدر على تصوير الحركة.
والصخر يشبه الرسم، في أن كلًّا منهما يظهر دفعةً واحدةً، والرسم يعتمد على الألوان، فتمثال الصبيّ المرح أو صورته، تؤخذ له في وقتٍ معينٍ، وفي لحظةٍ معينةٍ، وفي وضعٍ معينٍ، وتُمَثِّلُ حالةً معينة، أما صورة الصبيّ المرح في الشعر، فتذكر لنا السبب الذي من أجله فرح هذا الصبيّ، والظروف التي جعلته يشعر بهذا الفرح.
ولو أن الشاعر أراد أن يصف التمثال والصورة الزمنية، وذكر تلك التفاصيل التي يستخدمها النحات أو الرسام، وأخذ يذكر أن طول الذراع كذا، وأن سعة العين كذا وأن
1 / 23
الظل على هيئة كذا، لخرج كلامه من دائرة الشعر، ثم إن الألوان في الرسم توحي بما لا توحي به الكلمات المقابلة لها في الشعر؛ فمثلًا كلمة "أحمر" لا توحي بما يوحى اللون الأحمر، وهكذا.
والشعر يعتمد على الموسيقى، فهو يُمَثِّلُ اللامحدود؛ إذ الموسيقى تتجه إلى العواطف المبهمة، وهي غير محدودة الفهم، فنحن إذا استمعنا لأيَّةِ قطعةٍ موسيقيةٍ لا نفهم ماذا تقول، وإنما تثير فينا هذه القطعة عواطف، وتسير بنا إلى عوالم اللامحدود.
ومع ذلك يفترق الشعر عن الموسيقى، وحين افترق عن بقية الفنون، فإنه يدل على معنًى؛ فالكلمة لها جانبان، جانب المعنى، وجانب الصوت؛ إذ لكل كلمةٍ جَرْسٌ، ومن هذا الجرس تتألف موسيقى الشعر، ومن أجل أن لكل كلمةٍ في الشعر معنًى، فإن الشعر يخالف هذه الفنون الأخرى.
و"الخلاصة": أن لكل فَنٍّ من الفنون ميدانًا خاصًّا به، وقد جاء هذا التقسيم على أساس المواد الأولية.
والتفرقة بين الفنون على هذه الطريقة عملٌ فنيٌّ ممتازٌ، ومع أن النقاد قبل لسنج فرقوا بين الفنون، كما لاحظنا ذلك عند أفلاطون الذي قارن الشعر بالرسم، فقال في نظريته هذه: إن الشعر كالرسم؛ إذ الرسم قريب من التقليد، والشعر مثله قريب من التقليد، ولاحظ أفلاطون أن هناك فنونًا جميلةً وفنونًا غير جميلة.
والتصوير يعتمد على حاسة النظر، والموسيقى والشعر يعتمد على حاسة السمع، وهكذا فرقوا بين الفنون كذلك على أساس الفنان نفسه، ولكن لم يفرق أحدٌ قبل لسنج بين الفنون على أساس المواد الأولية، وهو بهذه التفرقة أتى ببرهانٍ جديدٍ لفهم طبيعة الشعر، وهاجم القائلين بنظرية التقليد، قائلًا: إن قصة الراهب السابقة الذكر واحدة، ولكن الفنون التي تختلف في موادها الأولية اختلفت في تصويرها؛ فالصخر يصور الألم المكبوت.
ولم يكن هذا التصوير تقليدًا؛ لأن الفنان هنا صوَّر القصة، ولم ينقلها على حقيقتها، فالفنون إذن تختلف باختلاف المواد الأولية، رغم أن الصورة الموجودة في الطبيعة واحدة لم تتعدد.
1 / 24
ولو كان الشعر أو الفن تقليدًا لتشابهت هذه الصور في الفنون كلها، وكانت في ذلك مطابقة للواقع، ولكن هذا محال لاختلاف المواد الأولية لكل فنٍّ.
فالشعر لا يصور من الطبيعة إلّا ما يختص بمادته الأولية "وهو عالم الحركة" ولا يقوى الشعر على تصوير العظمة وتخليد الأبطال كما يقوى الصخر على ذلك، ولا ينقل الألوان ويؤثر بها كما يفعل الرسم، ولا يصور اللامحدود والعواطف المبهمة كالموسيقي، بل إن للشعر عالمًا خاصًّا، وميدانًا معينًا لا يتعداه، ولا يصح أن ننظر إلى الشعر في ميدانه هذا على إنه ضربٌ من ضروب التقليد، كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، بل هو تعبيرٌ ملائمٌ لطبيعته التي يخالف بها طبائع الفنون الأخرى.
وفي الفترة نفسها نُشِرَ في "الأهرام" مقالًا بعنوان: "وداعًا دولة الشعر" قال منه:
"بمناسبة البدء في بناء السد العالي، وبمناسبة تأميم قناة السويس قبل ذلك، وما جرى بين هاتين المناسبتين من أحداثٍ جسامٍ، تعرَّضَتْ في أثنائها القومية العربية لمحنة كبيرة، انتقل ذهني سريعًا إلى الحركة الوطنية منذ بدايتها على يد الزعيم الشاب مصطفى كامل، إلى المرحلة التي كان يقود فيها الحركة زعيمٌ آخر جليلٌ، هو المرحوم سعد زغلول، وبالموازنة السريعة بين الحركة الوطنية على يد هذين الزعيمين الكبيرين، والحركة القومية على يد الرئيس جمال عبد الناصر، ووقفت حائرًا في تفسير هذه الظاهرة، لماذا اقترنت الحركة الوطنية في جميع مراحلها بنهضة الشعر المصريّ والعربيّ، ولم تقترن الحركة القومية بنهضةٍ تماثل أو تزيد على الأول زيادةً تتفق وجلال الحركة الأخيرة؟
لقد اقترنت الحركة الأولى، وهي الحركة الوطنية، بظهور طائفةٍ من الشعراء الكبار، أمثال: شوقي وحافظ، وخليل مطران، وإسماعيل صبري، وعلى القاياتي، وأحمد محرم.. أبلى كل واحد منهم بلاء حسنًا في ميدان الحركة الوطنية، وكان لكلٍّ منهم أثرٌ بعيد المدى في نفوس الجماهير.
والعجيب في الموضوع أن الصحافة كانت صاحبة الفضل الأكبر في تلك النهضة الشعرية التي صحبت الحركة الوطنية، فقد كان على الشاعر أن ينشر قصيدته في صحيفةٍ سيارةٍ ليضمن أن تصل إلى الجماهير، كما كان على الشاعر أن يحسب في
1 / 25
قصيدته حسابًا كبيرًا لهذه الجماهير، وهكذا أصبحت القصيدة الشعرية صورةً من المقالة الصحفية في هدفها، والعجيب أيضًا أن القراء كانوا يتلهفون تلهفًا عظيمًا على قصيدةٍ لشوقي، أو لحافظ، أو لغيرهما من شعراء الوطنية، كما يتلهفون على مقال مصطفى كامل، أو على يوسف، أو سعد زغلول، أو أمين الرافعي، أو عبد القادر حمزة، أو عباس العقاد، وكانت القصيدة الشعرية تحتل مكان الصدارة من الصحيفة، فهي لا تنشر غالبًا إلّا في الصفحة الأولى، وفي مكانٍ بارزٍ من هذه الصفحة.
فأين هذا كله اليوم؟ ولم اختفت القصيدة من الشعر اختفاءً تامًّا من الصحف؟ ولِمَ قلت عناية الناس بقراءة القصيدة السياسية والقصيدة الاجتماعية، وأين من شعراء الشباب العربيّ من كان يجب أن يخلفوا الشعراء القدامى.
هل هي الصحافة التي أصبحت كما يقولون صحافة خبر، بعد أن كانت إلى عهد قريب صحافة رأيٍ ومقالٍ؟ وما دام المقال نفسه قد اختفى، أو كاد يختفي من الصحف، فأولى بذلك القصيدة التي قلنا إنها صورة من المقالة في هدفها.
هل المسئول عن هذه الحالة نوع من التطور الأدبيّ تخضع له النهضة في أيامنا هذه، وهو تطور من مظاهره أن أصبحت الأغنية، أو النشيد، يقومان مقام القصيدة، ويسدان مسدها "!
من هذين المقالين يتضح لنا أن فكرة "الصناعة الثالثة" في النقد الأدبيّ، تمثل محورًا رئيسيًّا في دراسات "التحرير الصحفيّ" عند أستاذنا د. حمزة ﵀، يريد من ورائها وَصْلَ اللاحق بالسابق، كما صنع نقاد أواخر القرن الثاني والقرون التالية؛ حين أثاروا في "صناعة الشعر" أفكارًا نقديةً بموهبة الشاعر، والإجراء الثنائي الذي يبذله، والملاءمة النوعية، وتثقيفه بقوانين فن الشعر، وضرورة مراعاة الزمن المناسب لإنشاء القصيدة، والعمل في ظل الدوافع النوعية!.
وفي دراساته الأدبية والنقدية، عُنِيَ بالجاحظ عناية دفعت به إلى أن يراه صحفيُّ عصره، ويشير إلى رسالة "بشر بن المعتمر" التي ضمنها "البيان والتبيين"، وما تشير إليه من إعدادٍ للنصِّ الأدبيِّ نثرًا وشعرًا، وهي الفكرة التي شغلت ابن المدبر ٢٧٠هـ؛ حين عُنِيَ باستقراء مقومات النص الأدبيّ في "الرسالة العذراء" وقد
1 / 26
خصها د. حمزة، بدراسته في مقدمات "أدب المقالة الصحفية في مصر" وكذلك ابن قتيبة الذي تناول من خلاله عملية بناء النص.
وحين يستقرئ النص الصحفيّ في العصر الحديث، يدرس أثر الصحافة في هذا النص، من حيث أصبحت موضوعية في اهتماماتها، أصبحت مقالاتها تُعْنَى بالاقتصاد والاجتماع والفن والأدب والرياضة والثقافة جميعًا، ذلك أن فن التحرير الصحفيّ يشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، ويشتق لغته كذلك من نفس تلك الحياة الواقعية، وينبغي أن يكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئتهم أو ثقافتهم، وهذه اللغة هي اللغة القومية في صورتها العملية، وليست صورتها العامية؛ لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القرَّاء والتقعر، أو الغرابة في الأسلوب، والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحالٍ ما.
في مواجهة هذه الوظيفة الاجتماعية العملية، اتخذ التحرير الصحفيُّ أشكالًا جديدةً منها: المقال الرئيسيُّ والعمود الصحفيُّ، ومقالات اليوميات، والتقرير بأشكاله المختلفة، وذهب الصحفيُّ بهذه الفنون يعالج السياسة والحياة اليومية، ويتعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منه كان يفرغ للأدب الخالص فراغًا تامًّا، وكان للصحافة المعارضة فضل ظهور فنّ المقال النزالي على الصعيد الأدبيّ أولًا، ثم على الصعيد السياسيّ فيما بعد.
فعلى صفحات "الجريدة" تناظر مصطفى صادق الرافعي عن الأدب القديم، وطه حسين عن الأدب الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى "السياسة الإسبوعية" ولعلها مستمرةٌ إلى يومنا هذا، وتناظر العقاد مدافعًا عن الأدب السكسوني ضد الأدب اللاتيني الذي دافع عنه طه حسين، وعلى الصعيد السياسيّ كانت الحملات قاسيةً، بل ضاريةً أحيانًا، وبعض هذه الحملات أنقذ البلاد من نير الظلم، ونعني: الحملة التي قادها على يوسف ضد اللورد كرومر باسم: "مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء" وعددها أربعة عشر مقالًا، واشتهر منها مقالات مصطفى كامل ضد كرومر أيضًا، وقد أطاحت به، وأبعدته عن الحكم في مصر. ويذهب الدكتور طه حسين في هذا الصدد إلى أن الخصومات السياسية قد يسَّرت اللغة، ومنحت العقول حدةً ونفاذًا رائعين، واستطاعت أن تشغل الجماهير، وتعلمهم العناية
1 / 27
بالإمور العامة، والاهتمام بها، والتفكير المتصل فيها، ويذهب إلى أن هذه الخصومات التي استحدثت فن المقال النزالي قد أحيت في النشر العربيّ فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ، وقصر فيه بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسيّ من أهم الألوان في أدبنا العربيّ الحديث؛ فيه الحدة والعنف، وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
ويذهب الدكتور طه حسين أيضًا إلى أن الخصومة السياسية قد دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس، فافتَنَّت فيما جعلت تنشر من الفصول أو المقالات؛ فاستعرض الكُتَّابُ الادب القديم يحيونه بالنقد والتحليل، كما استعرضوا الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول، حتى تصبح كتبًا تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولًا تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعضٍ فإذا هي أسفارٌ قيِّمَةٌ يجد فيها القاريء نفعًا ولذةً ومتاعًا.
وما دامت اللغة هي الرابطة الكبرى بين الصحافة والثقافة بالمفهوم الاجتماعيّ، فينبغي أن ننظر إليها نظرًا علميًّا صحيحًا، فاللغة ليست القواعد التي نحصلها ونسميها بالنحو المتواضع عليه، وهي لا يمكن أن تكون وسيلة إفادةٍ فحسب، بل لا يمكن أن تخضع لقواعد المنطق الصوريّ، أو المنطق الإستطاليسيّ الذي قسم الكلام إلى مخارج محدودة، جعلها أسماءً وأفعالًا وأدوات، اللغة ليست هذا كله، ذلك لأنها بمفهومها الاجتماعيّ سلوكٌ فرديٌّ وجماعيٌّ، وهي بهذا المفهوم ترتبط بالصحافة من حيث هي مرآة تنعكس عليها مشاعر الجماعة وآراؤها وخواطرها، ومن هنا، جاء تعريف أوتوجروت للصحافة بأنها تجسيد لروح الأمة.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن البلاغة الجديدة في الحضارة الصحفية تبعد به عن البلاغة الجمالية للمقال في حضارة التدوين؛ إذ تجعل من هذا الأخير فنًّا جماليًّا، في حين تنظر البلاغة الجديدة للتحرير الصحفيِّ على أنه فنٌّ تطبيقيٌّ، وكلاهما فنٌّ لا شك فيه، إلَّا أن البلاغة الجمالية تستعمل خامات اللون واللفظ للوصول إلى الجمال، أما البلاغة الجديدة في فنِّ التحرير الصحفيِّ فإنها تدخل في اعتبارها أمورًا عمليةً فنيةً اجتماعيةً. والتحرير الصحفيّ يجب أن يراعي مستوى القرَّاء وثقافتهم، وسياسة
1 / 28