The Hereafter - Omar Abdelkafy
الدار الآخرة - عمر عبد الكافي
জনগুলি
سلسلة الدار الآخرة_مقدمة عن الآخرة
الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، فينبغي للعبد أن يستشعر ذلك دائمًا، حتى يسارع إلى التوبة، ويقلع عن المعاصي، ويسارع إلى فعل الطاعات، وهناك مقدمات وعلامات توحي بقرب الآخرة، أولها: بعثة الرسول ﷺ.
1 / 1
ثمرات ذكر الموت ومساوئ عدم ذكر الموت
أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمدًا يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بمشيئة الله ﷿ هي الحلقة الأولى من سلسلة الحديث عن حلقات الدار الآخرة، وتأتي حلقات الدار الآخرة بعد إلحاح شديد من كثير من الإخوة والأخوات، وأنا أعتبر حلقات الدار الآخرة من الأشياء القريبة إلى قلبي كثيرًا بعد تفسير كتاب الله ﷿، وبعد الحديث النبوي الشريف عن سيدنا رسول الله ﷺ.
تأتي حلقات الدار الآخرة لتجمع للمؤمن خيري الدنيا والآخرة، وفي هذه الحلقات بركات كثيرة ونفحات طيبة أتت ثمارها على مدى ما قلناه في المرتين السابقتين، وهذه ثالث مرة نعيد فيها حلقات الدار الآخرة تقريبًا، قلناها في سنة (١٩٧٤م) أو (١٩٧٦م)، وعدناها في سنة (١٩٨٦م) أو (١٩٨٧م)، وهذه إن شاء الله ثالث مرة، فنسأل الله ﷾ أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا يوم القيامة.
قال عطاء بن أبي رباح ﵁: ذكر الموت يعطيك أشياء ثلاثة: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مشاحنة أهل الدنيا في دنياهم فيطمئن، ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨].
وعدم ذكر الموت يأتي بثلاثة أشياء: التسويف بالتوبة، وهذا هو الذي جعل الناس بعيدين عن التوبة، فما زال المرتشي يرتشي، وما زال النصاب ينصب، وما زال الجشع المحتكر يحتكر، وما زال المغتاب يغتاب، وما زال المرء ينظر إلى الحرام، وما زال الذي يمد يديه للحرام وما زال وما زال؛ لأن الموت غائب عن ذهنه وفكره وخياله.
لكن لو وضع الموت نصب عينيه، كما قال الحبيب المصطفى ﷺ: (إن الموت أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) لعجل بالتوبة.
كذلك عدم ذكر الموت يؤدي إلى عدم الرضا بما قسم الله، ومهما أعطي المرء فإنه كشارب البحر لا يزيده شربه منه إلا عطشًا، فمحب الدنيا لا يشبع.
وكما ورد في الحديث الصحيح: (من أحب الدنيا وكره الآخرة التاط قلبه بأمور ثلاثة) يعني: لصق قلبه بثلاثة أمور.
وكلنا يا إخوة من محبي الدنيا، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين للآخرة، وإن شاء الله حلقات الدار الآخرة ستذكرك بالموت، وكلنا ندعي محبة الله، وكلنا ندعي محبة دخول الجنة، والحاجز الذي بينك وبين دخول الجنة هو الموت، فإذا كنت تحب ربنا وتحب دخول الجنة فتذكر الموت واستعد له؛ لأن الموت سيقربك من لقاء الله ومن لقاء الحبيب ﷺ.
وكما قيل: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وإذا ما انتبهوا ندموا، ولن ينفع الندم بعد العذاب.
من يحب الدنيا يلتصق قلبه بثلاثة أشياء: أولًا: شغل لا يفرغ منه أبدًا، ومشاغل الدنيا لا تنتهي، فإذا جلست مع أي واحد الآن فإنه لا يكلمك إلا في الشغل فقط، فالمهم عنده أن رمضان ولى وانقضى: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ إذًا: شغل لا يفرغ منه أبدًا، أي: الشغل بالدنيا، والدنيا تأخذ الإنسان في دوامتها وتجعله دائمًا مثل العجلة، أو مثل الثور الذي يدور بالساقية.
الأمر الثاني: هم لا يزول عنه أبدًا.
فالدنيا كلها دار هموم، وأول سؤال ستسأله في القبر: أتريد أن تعود إلى دار الدنيا يا عبد الله؟! فيقول إن كان مؤمنًا: ألدار الهموم والأحزان تريدان أن تعيداني؟ قدماني إلى ربي.
تريدان أن ترجعاني إلى ظلم الزوجة، وإلى عقوق الأولاد، وإلى أذى الجار، أو إلى ظلم المدير، وإلى نصب العمال على بعض، وإلى سرقة المهمات بالجيش، هذه المهمات أو الأمانات عهدة عندك، فتجد من يريد أن يأخذ فتوى من الشيخ بأن السرقة حلال.
كذلك الطالب الفاشل يريد فتوى في جواز الغش، نقول: جاء في الحديث: (من غشنا فليس منا).
كذلك المدرس يريد أن يأخذ فتوى بأن الأموال التي يبتزها من الآباء والأمهات حلال.
والطبيب الجشع الذي يأخذ في العملية خمسة آلاف أو ستة آلاف يريد أن يأخذ فتوى بأن هذه الأموال حلال.
والمهندس النصاب الذي يضع أي خرسانة مغشوشة يريد أن يأخذ فتوى، فالكل يريد أن يأخذ الفتوى، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف:١٣٨] يعني: أرادوا من الكليم النبي أن يعطيهم فتوى بالشرك.
إذًا: (من أحب الدنيا وكره الآخرة التاط قلبه بأمور ثلاثة: شغل لا يفرغ منه أبدًا، وهم لا يزول عنه أبدًا، وعدم رضا لا يزيله أبدًا) يعيش في عدم الرضا دائمًا، فالذي معه ألف يريد خمسة، والذي معه خمسة يريد عشرين، والذي معه عشرون يريد مائة، والذي معه مائة يريد مليونًا، والذي معه مليون يريد ثلاثين مليونًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب فقط.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك:٢]، فقدم الله ﷿ ذكر الموت على ذكر الحياة، وقد جاء في الأثر: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
إذًا: الموت يقظة، كما قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق:٢٢] يعني: رأيت الحقيقة المرة ورأيت الحق.
ولذلك كثير من الصالحين بعد موتهم يأتون أولادهم الصالحين في الرؤيا ويقولون لهم: انتبهوا، الأمر صعب غير سهل، الأمر يريد توبة ويريد استقامة، لا تغركم الدنيا انتبهوا وأسرعوا وعجلوا بالتوبة، وأعيدوا الحقوق لأصحابها، هكذا ينادي موتانا علينا كل يوم، لكن نحن لا نسمع، يقولون: يا أهلنا يا أحبابنا يا من سكنتم ديارنا وأخذتم أموالنا، لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتنا، واعلموا أنما الأموال لكم والحساب عليكم.
كذلك القبور تنادينا أيضًا: يا من تسيرون علينا اعلموا أنكم عن قريب سوف تصلون إلينا.
ومن فضل الله ﷿ عليك أن أرسل إليك قبل ملك الموت نذرًا ورسلًا، أولهم سيدنا الحبيب ﷺ، قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين؛ وجعل السبابة بجانب الوسطى) يعني: هو والساعة مع بعض، لكنه جاء قبلها بقليل، فهو أول نذير بأمر الآخرة.
وكذلك لما تنظر إلى المرآة ترى شعرات بيضاء في لحيتك، كذلك لما كانت صحتك جيدة وكنت تضرب بيدك في الحجر فتفلقه، والآن صرت مستندًا على واحد هذا نذير.
كذلك لما تكون في حالة من الصحة ويأتي لك مرض هذا نذير، كذلك لما تقرأ القرآن عن مصارع السابقين وعن الحياة الدنيا: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:٦٤] أي: الحياة الحقيقية في دار الآخرة لا في الدنيا، ونحن في الدنيا في مرحلة اختبار.
1 / 2
المراحل التي يمر بها الإنسان في الحياة الدنيا
الحياة الدنيا التي نعيش فيها هي مرحلة تسبقها مرحلتان وتتلوها مرحلتان، لكن المصيبة أننا غافلون عن المرحلة التي في النصف؛ لأن قبل المرحلة التي نحن فيها مرحلتين، وبعد المرحلة التي نحن فيها مرحلتين، فيبقى عندنا خمس مراحل: مرحلتان سابقتان للدنيا أولهما: عندما كنا أرواحًا في ظهور آبائنا، والله تعالى جمع هذه الأرواح كلها وأشهدهم على أنفسهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف:١٧٢] قالت الأرواح كلها: بلى يا ربنا أنت ربنا.
فهذه شهادة في عالم الأرواح، وجاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: (إنما الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، ويشرح ويبين هذا الحديث ما رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة: (لو أن مؤمنًا دخل إلى مجلس فيه مائة منافق ليس بينهم إلا مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه)، مثلًا: لو أنك مسافر وفي جيبك قطعة معدنية أو سلاح، فتأتي وأنت داخل المطار وقبل صعود الطائرة يكشف عليك فتجد جهاز الإنذار يصفر عن بعد، والقلوب لها أيضًا استشعار عن بعد، ثم قال: (ولو أن منافقًا دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن لجلس بجوار المنافق وهو لا يعرفه) إذًا: الأرواح جنود مجندة، وأنت نفسك لما ينعم الله عليك بنعمة الاستقامة وجاءك واحد وكلمك عن الكرة وعن الدنيا وعن الأفلام والفيديو ستضيق منه، وتريد أن تنتهي الجلسة معه بسرعة، مع أنك قبل الاستقامة كنت تستريح لمثل هذا الكلام، فمن دلائل قبول الله توبتك أن تتحول حلاوة المعصية إلى مرارة، وتتحول مرارة الطاعة إلى حلاوة.
اللهم حبب إلينا الطاعة يا رب، وزين الإيمان في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين يا رب العالمين.
إذًا: فأول مرحلة كنا فيها: هي عالم الأرواح.
المرحلة الثانية: ساعة التقاء ماء الرجل مع ماء المرأة وحصول الإخصاب، قال الله تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:٢١].
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر يعني: أنت تظن نفسك شيئًا صغيرًا وأنت فيك الكون كله، وكل ذرة فيك توحد الله رب العالمين، لكنك لا تشعر بذلك وتغفل عنه.
فمثلًا: الطفل الصغير عندما ينزل من بطن أمه يؤذن أبوه في أذنه اليمنى، ويقيم في اليسرى كما أمرنا الحبيب المصطفى ﷺ، عند ذلك ترى الطفل قد مدّ السبابة موحدًا لله وهو صغير، فالأذان يلفت انتباه الطفل، وكذلك عندما يكون عمر الطفل شهرين أو ثلاثة يبتدئ يبحث على مصدر الصوت بالتوحيد، وأي صوت آخر لا يشغل باله؛ لأنه مفطور على التوحيد، ولأن أباه تزوج أمًا صالحة، وعندما كان يعاشرها كان يقول: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فالشيطان يكون بعيدًا عن المولود من أول يوم يطلع فيه الولد الصالح بن الصالحين، ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف:٨٢].
ولذلك ثبت علميًا أن من يتعاطى المخدرات أو الخمر أو المسكرات أو المفترات أو المنشطات سواء الأب أو الأم قبل المعاشرة الزوجية، أن الولد يأتي وعنده خبل عقلي، إن لم يظهر فيه وهو صغير يظهر فيه وهو كبير، وربنا حرم المسكرات والمفترات، وحرم كل ما يضر، وربنا ﷾ أعطاك مادة موجودة في جسمك مشابهة تمامًا للمورفين، وهذه المادة تجعلك تتحمل الألم أثناء الحمى أو الصداع أو وقت العملية أو حين يحصل في رجلك كسر ويقوم الدكتور بتجصيصها.
فمن يتعاطى المخدرات أو يدخن ويدمن على التدخين فإن إفراز مادة المورفين هذه يتعطل، ولا تقوم بدورها في حماية الجسم، ويبدأ المدمن يحس بالألم إحساسًا شديدًا جدًا.
إذًا: فأنت لا تتدخل في إفساد ما خلقه الله رب العالمين، قال تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:١٤]، وقال سبحانه: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان:١١]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار:٦ - ٨]، ركبك تركيبًا سويًا، ركبك وجعلك من عناصر الأرض المختلفة، وهي ستة عشر عنصرًا أو سبعة عشر أو تسعة عشر عنصرًا، وجسد ابن آدم يرجع إلى عناصر التربة التي جاء منها، كما قال الله ﷿: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون:١٢].
وقد قام علماء التشريح وحللوا الجسد الإنساني فوجدوا فيه من الحديد ما يصنع منه قدر مسمار (٥٠سم)، ووجدوا فيه من الدهون ما يصنع منه قدر أربع قطع صابون من الحجم المتوسط، ووجدوا فيه قليلًا من الفسفور ما يصنع منه قدر رأس ستين عود كبريت، ووجدوا في ابن آدم قليلًا من الكالسيوم، وعشرة جالونات من ماء، وهذا الكلام كان في مؤتمر الكيمياء العضوية في فيينا سنة (٦٨م)، فأنت لو باعوك كلحم في السوق لا تساوي ثلاثين جنيهًا، أي: قيمه اثنين كيلو لحمة جاموس أو بقر، هذه قيمتك كجسد، لكن أنت كروح كما قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر:٢٩].
قعد بعض الشباب مع بعض فقال ابن أبي جعفر المنصور: أنا ابن أمير المؤمنين، وقال الثاني: أنا ابن كبير الشرطة، وقال الثالث: وأنا ابن الوزير، وقال الرابع: وأنا رجل فقير، لكن أنا ابن الرجل الذي أمر الله الملائكة أن تسجد له، يعني: إذا كنت أنت ابن أمير المؤمنين، وأنت ابن الوزير فأنا ابن آدم.
وكان الرسول ﷺ يقول لـ علي بن أبي طالب: (يا أبا تراب) وإليه نعود، قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه:٥٥].
فأنت أيها الإنسان في عالم الأجنة وعالم الظلمات لا تسمع ولا تأكل ولا تهضم، وإنما تأخذ دمًا طازجًا جاهزًا من الأم، فأنت محاط بظلمات ثلاث: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة البطن.
وبعد تسعة أشهر يأتي الأمر الإلهي بالاستعداد للهبوط، وبعد هبوطه وخروجه من بطن أمه تنتهي العلاقة بينه وبين أمه داخليًا.
وأنت في بطن أمك لا تتنفس؛ لأن الرئتين مسدودتان، فعندما تقوم الممرضة أو القابلة بقطع الحبل السري يذهب الهواء مندفعًا إلى الرئتين، فإذا دخل الهواء الرئتين انتفخنا فيتألم الطفل ويبكي، ومن حوله يفرحون بولادته.
وهذا الطفل لما يكبر قد يفتري وينصب ويكذب عليك، وقد يكون حاكمًا ظالمًا، أو طبيبًا جشعًا أو غشاشًا في معاملته.
ومن رحمة الله بالطفل أنه وضع له الرحمة في قلب الأم، سواء ولدته ولادة طبيعية أو قيصرية، فتجدها أول ما يبكي تقوم وتحمله وتسكته وتضمه إلى صدرها، فإذا أخذته جدته أو عمته أو خالته لا يسكت؛ لأن له تسعة شهور في بطن أمه وهو متعود عليها، فأول ما تحمله تعود النغمة الأساسية ويسكت الولد بأمر الله رب العالمين، رحمة بعدها رحمة.
كذلك بعد الولادة يبتدئ اللبن يأتي، وكان قبل ذلك قد أوقفه الله سبحانه، فسبحان الذي أجراه، وهو معقم طبيعي لا يحتاج إلى تسخين، بخلاف اللبن الصناعي.
ولبن الأم يتغير حسب نمو الطفل، فتركيب اللبن في الأسبوع الأول غير تركيبه في الأسبوع الثاني، وغير تركيبه في الشهر الثاني، وغير تركيبه بعد سنة؛ لكي يواكب النمو عند الطفل، فسبحان الله العظيم.
أما الأب خلال الأسابيع الأولى من ولادة طفله، فإنه لا يلتفت إليه ولا يهتم به، ثم بعد ذلك تراه يحمله ويفرح به.
والولد بعد هذا المجهود كله فإنه بعدما يكبر تراه يرفع صوته على أبيه وأمه ويشتمهما إلا من رحم الله.
1 / 3
مرحلة التكليف
إن مرحلة الدنيا هي مرحلة التكليف وحمل الأمانة، وهي أصعب المراحل، والله ﷿ لما أهبطنا إلى الدنيا من رحم الأم ونزلنا إلى سعتها وإلى نورها، بدأت مرحلة الطفولة وهذه ليس فيها حساب، والرسول قد أرشدك إلى أن تلاعب ابنك سبع سنين، أي: لا تنكد على الولد سبع سنين، بل لاعبه سبع سنين، لكن لا تدلله حتى تفسد أخلاقه، وإنما تربيه التربية الحسنة، وتلاعبه بشيء من الحنان، وتحمل ابنك في حضنك.
وقد اكتشف العلماء أن لحظة إرضاع الأم لابنها يخرج نوع من الإشعاع من قلب الأم يحس به الولد.
أما الأولاد الذين يرضعون الحليب الصناعي نتيجة الفطام المبكر بسبب شغل الأم، فقد جاء في إحصائية في الاتحاد السوفيتي: أن الحضانات الجماعية التي يتربى فيها الأولاد بعيدين عن أمهاتهم، وبعيدين عن لبن الأم الطبيعي يكبرون وعندهم جفاء وعقوق، والولد الذي يرضع من أمه يصير بارًا بأمه؛ ولذلك قال ربنا: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة:٢٣٣]، قال علماء اللغة: (يرضعن) هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، أي: والوالدات يجب أن يرضعن أولادهن حولين كاملين، يعني: أن الله يأمر الوالدات بإرضاع الولد أو البنت سنتين إن لم يكن هناك مانع صحي.
قال ربنا ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج:١ - ٢]، والمرضعة تطلق على الأم لحظة الإرضاع؛ لأن أكبر قدر من الحنان والرحمة يكون موجودًا حال الإرضاع، ولذلك جاء في الحديث: (كل مصة يمصها الولد منها يكتب لها حسنة، وتحط عنها سيئة، وترفع بها عند الله درجة) فالله ﷿ أكرم الأم؛ بسبب اهتمامها بالطفل وإرضاعها له.
وقد قام جماعة من العلماء الفرنسيين بتجربة في مزارع جماعية للوز، فوجدوا أن الوز الذي يخرج من البيض عن طريق آلات التفريخ الحديثة ليس عنده انتماء لأحد، وليس له قائد ولا رئيس، فجاءوا قبل فقس البيض بأيام بصوت موسيقي معين، فبعد ما فقس البيض وخرج الوز أول ما كانت هذه الموسيقى تضرب يجتمع الوز كله، ثم أتوا بأمهات حقيقيات من الوز وجعلوها ترقد على البيض، فنظروا في هذه المزرعة التي تحوي آلاف الأمهات بعد ما فقس البيض، وكل عشرين أو ثلاثين واحدة من الوز الجدد اللاتي من أم واحدة تجدها أول ما يأتي وقت المغرب تذهب عند أمها، فقال الفرنسيون: الحل الوحيد لمسألة التضخم في فرنسا أن تعود المرأة إلى البيت مرة أخرى، لكن هذا القول لم يوافق هوى المرأة المديرة والدكتورة والوزيرة وغيرهن.
نعود إلى المرحلة الثالثة التي نحن فيها، فالذي يموت الآن قبل قيام الساعة ينتقل إلى القبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، لكن الذي مات في الجو أو احترقت به الطائرة، أو غرقت به السفينة فأكلته الأسماك، أو مات مفقودًا محترقًا في سيارة أو في أي شيء، فيا ترى أين قبره؟ وكيف يكون حسابه؟ ثم بعد ذلك هل يشعر الميت بنا؟ وهل هو في حاجة إلى ذكرى سنوية أو أربعينية أو غير ذلك؟ ثم بعد ذلك هل كل الناس يموتون بطريقة واحدة؟ كل سنجيب عنه.
قال بعض الصالحين عن بعضهم ممن كتب الله لهم سوء الخاتمة: كان هناك شخص يحتضر فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: ثلاثة ونصف، أربعة ونصف، خمسة ونصف.
ورجل آخر كان مغرمًا بلعب الطاولة، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: (كش ملك)، وهي أداة من أدوات الشطرنج والعياذ بالله.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأمتنا على خير حال يا رب العالمين، ونعوذ بك يا رب من سوء الخاتمة، وأحسن لنا خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها يا رب العالمين.
1 / 4
مقدمة عن الموت والنهي عن تمنيه لحصول الضر
إن الكارثة أن يموت الإنسان فجأة، فلو حصلت مشاكل وابتلاءات للعبد فقد نهي أن يدعو على نفسه بالموت، ولكن يدعو بما قال النبي ﷺ: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرًا لي، وأمتني إن كان الموت خيرًا لي، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر)، هكذا يدعو الإنسان؛ لأن ربنا إذا أحب شخصًا أطال عمره وأحسن له عمله، وإذا أبغض شخصًا أطال عمره وأساء عمله.
وربنا يحب ثلاثة وحبه لثلاثة أشد، ويكره ثلاثة وكرهه لثلاثة أشد: يحب التوابين أو الطائعين، ومحبته للشاب الطائع أشد، ويحب الصابرين، وحبه للفقير الصابر أشد، ويحب المتصدقين، وحبه للغني المتصدق أشد، ويكره العاصين، وكرهه للشيخ العاصي أشد، ويكره المتكبرين، وكرهه للفقير المتكبر أشد.
إذًا: العبد لا يتمنى الموت لضر قد نزل به، ولكن إن كان ولا بد فليدع الله ﷿ أن يحييه إن كانت الحياة خيرًا له، أو يميته إن كان الموت خيرًا له؛ لأن العلماء يقولون: إن الذي يستعجل الموت واحد من ثلاثة: إما رجل جاهل بما بعد الموت، أي: ليس عارفًا بالأهوال التي ستقابله.
والحبيب المصطفى ﷺ كان مرة جالسًا مع الصحابة فسمعوا وجبة شديدة، وقلوب الصحابة لم تكن مثل قلوبنا معتمة كانت مضيئة منيرة بكلام الله، منشرحة لذكر الله ﷿، فلما سمعوا الوجبة خافوا وقالوا: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: أو سمعتم؟ قالوا: نعم يا رسول الله سمعنا، قال: هذا حجر ألقي في جهنم منذ سبعين سنة، وصل قعرها الآن)، انظر كيف كانت قلوب الصحابة حين سمعت وجبة الحجر في قعر جهنم.
وكان سيدنا الحبيب ﷺ يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ولما هنأت لكم حياة) يعني: لو نعلم الذي كان يعلمه الحبيب ﷺ لما هنأت لنا الحياة؛ لأن الحبيب ﷺ لما كان يسير في الأرض كانت الشجر تسلم عليه، والحصى تسلم عليه، وكان يسمع تسبيح الماء، وتسبيح الطيور، وتسبيح الرمال، وتسبيح الكائنات من حوله، فكان يعيش مع الله في كل لحظة وفي كل حين.
ونحن بسبب أننا لا نعلم ما بعد الموت تجد الواحد منا عندما يغضب من امرأته أو من أولاده يدعو ويقول: اللهم لا تردني إليهم.
نقول: لو أمنت الملائكة على دعائك لاستجيب لك، ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء:١١]، فينبغي للمسلم ألا يدعو على نفسه بالموت؛ لأن المستعجل بالموت إما جاهل لا يدري ما بعد الموت، وإما رجل غير راضٍ بما قضى الله في الدنيا، فهو يائس قانط متضايق، وإما رجل اشتاق لما عند الله ﷿.
يعني: عندما يمرض الإنسان يصير ذليلًا مستكينًا ضعيفًا خاضعًا بين يدي الله سبحانه، لكن كم من مريض وسقيم بقي دهرًا: فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر إذًا: الموت لا يختص بعمر معين، وإنما يختص بالوقت الذي يريده الله.
1 / 5
آداب زيارة الإخوان
هناك آداب لزيارة السليم: أولًا: اطرق الباب برفق، وأبعد عن الباب، وأجعل ظهري للباب؛ لأن سيدنا الحبيب ﷺ كان يدق الباب ويقف عن يمينه، لكن بعض الناس يطرق الباب بشدة ويضع أذنه على الباب، فهذا الحبيب ﷺ (اطلع عليه أعرابي من ثقب الباب، فقام إليه ليفقأ عينه بعود في يده، فما قام إلا وقد مضى، فقال: أما إنك لو ثبت لفقأت عينك).
إذًا: البيوت لها عورات وحرمات فلا تدخل حتى تستأذن؛ لأجل أن تعطي فرصة لأهل البيت، فالعريانة تتغطى، والقاعدة تقوم وتدخل غرفتها، والرجل يستر نفسه، فالبيوت لها حرمات، وصاحب البيت له الحق أن يقول لك بعد أن يفتح الباب: أنا لا أستطيع أن أتحدث معك الآن، ولكن للأسف الشديد لو عملها معك، لقلت: والله ما أنا بداخل بيته إلى أن أموت مع أن الإسلام أعطى صاحب البيت هذا الحق، قال تعالى: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور:٢٨]، كذلك لو أن أهل البيت قالوا لك: إن صاحب البيت غير موجود فينبغي أن تصدق أهل البيت، وإن كانوا كاذبين فربنا سيحاسبهم.
إذًا: إذا استأذنت فاطرق الباب ثلاثًا وأعط ظهرك للباب، وإذا كان صاحب البيت غير موجود فلا تدخل ولا تنتظر، حتى ولو كانت المرأة ابنة عمه، فلا ابن عمها ولا أخو زوجها ولا زوج أختها يصح أن يدخل عليها وصاحب البيت غير موجود، هذا قانون الإسلام، الإسلام يعطينا إطارًا للحياة الطيبة ويحمي الحرمات، فأولادك الذين في البيت أعطاهم الله ثلاثة مواعيد، لما يريد الولد أن يدخل عليك غرفة نومك فينبغي عليه أن يدق عليك من قبل صلاة الفجر فلا يفتح الباب ويدخل، كذلك في الظهيرة وقت القيلولة، ومن بعد صلاة العشاء، فمن حقك ألا تفتح بابك بعد الساعة الثامنة والنصف مساء، ولله مخلوقات تسير ليلًا فأقلوا السير بالليل، ومع ذلك تجد المرأة في الليل الساعة واحدة تمشي لوحدها، من أين يا أختي؟ قالت: أنا كنت عند أختي في الله، وأختك هذه ما تزار في النهار؟ أين زوجك؟ قالت: مسافر ربنا يوصله بالسلامة سبحان الله، يا أختي إن خروجك بعد المغرب خطأ إلا للضرورة القصوى، كحضور درس العلم بعد المغرب؛ لكن ينبغي للنساء أن يأتين مع أزواجهن أو مع محارمهن، أو مع صحبة ورفقة آمنة من الأخوات، ويرجعن مبكرات.
إذًا: الإسلام أمرك أن تطرق الباب ثلاثًا ثم لا تدخل إلا بعد أن تستأذن، والضيف أسير في بيت صاحب البيت، فلا يتصرف إلا بإذن صاحب البيت، فلو كنت شخص آخر فاحتملت وصرت جنبًا فلا تقل لصاحب البيت: أنا أريد أن أغتسل، بل تتوضأ وتتيمم وتصلي مع صاحب البيت؛ حتى لا تساور صاحب البيت الشكوك والأوهام.
1 / 6
آداب زيارة المريض وثوابها
هناك آداب لزيارة المريض وعيادته، وتجد أن أغلب زياراتنا فيها غيبة ونميمة ونقل لأسرار البيوت، وكلام النساء مع بعض، والرجال مع بعض، وهذه من الأمور المحرمة، فأيما رجل حدث أصدقاءه بما يحدث بينه وبين زوجته، أو العكس: الزوجة تكلم صديقاتها بما يحدث بينها وبين زوجها، فكأنما شيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق، والرسول ﷺ نهى المرأة المسلمة أن تنعت صاحبتها لزوجها، يعني: تذهب المرأة وتقول لزوجها: هذه فلانة شعرها ناعم وجميل، فهذا حرام حرام حرام.
فإذا مرض المسلم صار قريبًا من الله؛ لأن المرض يرقق القلب ويجعله قريبًا من الله، وأما العبد المفتري العاصي الصحيح القوي فتراه يتكبر، لكن انظر إليه عندما يصير كبيرًا في السن ويمشي على عكاز فتجده كثير الذكر لله متواضعًا متخلقًا مع الناس، وكان من ثلاثين سنة يشتم هذا ويضرب هذا ويسجن هذا ويؤذي هذا! نعود إلى موضوعنا: إذا زرتم المريض فنفسوا عنه، وذلك بأن تقول له: إن شاء الله تنجح العملية وتشفى سريعًا وترجع لأولادك، وهذا لا يرد من قضاء الله شيئًا، ولكنه يطيب نفس المريض، فلو أن طبيبًا مسلمًا دخل على مريض ورأى أن حالته ميئوس منها، وأهل المريض ينظرون إلى هذا الطبيب ماذا يقول، فقال الطبيب المسلم وهو مبتسم: إن شاء الله المريض في خير، نحن مجرد وسيلة وسبب، والشافي المعافي هو الله ﷾، ويطيب نفس المريض بكلمتين طيبتين، لكن لو أن الطبيب يريد أن يعظم الأمر ويضخمه لأتى بمصائب الدنيا كلها، وقد ذكرت لكم في حلقات الدار الآخرة أن ضابطًا قال لصحابه: ما بك؟ قال له: يحصل لي ضيق في صدري حتى ما أقدر أن آخذ نفسي، فقال له صاحبه: هذا نفس المرض الذي مات بسببه أبي في الشهر الماضي، سبحان الله! فمثل هذا يعطي اكتئابًا لصاحبه.
إذًا: إذا زرتم المريض فنفسوا عنه مصيبته، فأنت عندما تذهب إلى المريض تقعد عنده دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث دقائق وخمس دقائق فقط؛ بخلاف السليم فإنه حين يزار تطول الجلسة معه ولا حرج في ذلك، أما المريض فلا، وإنما تبقى عنده دقيقتين أو ثلاثًا أو خمس دقائق تدعو فيها للمريض بالشفاء، وترقيه الرقية الشرعية وتخرج.
وأما ثواب الزيارة فقد ورد فيها عدة أحاديث منها: (من زار مريضًا فاضت الرحمة من مفرق شعره إلى أخمص قدميه، وصلى عليه سبعون ألف ملك حتى يعود) ومن زار المريض وجد الله عنده، ودعاء المريض مستجاب، والدعاء عند المريض مستجاب، وربنا من رحمته فإنه يسمع الملائكة أنين المريض، فإذا قال: آه آه سمعوه يقول: الله الله، فكتبوا ذلك، وهذا من رحمة الله ﷾.
والمريض الذي كان مواظبًا على حضور دروس العلم وصلاة الجماعة فإنه يكتب له كل ذلك؛ لأن الذي حبسه هو المرض، وإذا شفاه الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ ولذلك كان الصحابة يحبون المرض، قال سيدنا أبو ذر: أحب الجوع، وأحب المرض، وأحب الموت، إذا جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي.
هكذا حال العبد الصالح.
أما الرقية الشرعية فيحرم أن تعلق آية الكرسي أو آية معينة في رقبتك، أو الزوجة؛ لأنه جاء في الحديث: (من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له)، والتميمة والودعة من الشرك.
كذلك تعليق خرزة زرقاء مكتوب عليها آيات؛ من أجل دفع الحسد، كل هذا حرام.
وكذلك جعل المصحف تحت رأس الولد لا يجوز، بل يحرم أن نضع فوق المصحف أي شيء أبدًا؛ لأن المصحف يعلو ولا يعلى عليه، ولا تضع في المصحف ورقة مكتوب فيها، وإنما تضع فيه ورقة بيضاء وليس هناك حرج؛ لكي تعلم أين وصلت في القراءة، أو تضع خيطًا نظيفًا.
أيضًا لا تكتب اسمك على المصحف؛ لأن اسمك لو كتبته عليه لصار فوق اسم الله ﷾، فتكون كمن اتخذ المصحف وراءه ظهريًا، أي: كأنك ألقيت كتاب الله خلف ظهرك.
كذلك عندما تضع المصحف معك في السيارة ولا تقرأ فيه أبدًا، وإنما وضعته حرزًا للسيارة فهذا لا يجوز؛ لأن المصحف للقراءة والعمل.
وكذلك بعض الناس يضعون في حجر الأساس سواء لمصنع أو شركة أو محل أو مبنى أو دار أو سينما يضعون من هذا المصحف، وهذا لا يجوز، ولو كان بيدي الأمر لقطعت يده، كيف يضع المصحف وسط طوب وأسمنت والناس تمشي من فوقه! وبعضهم يضعون في عتبة البيت ووسط الخرسانة مصاحف، هذا استهزأ بكتاب الله! والمصحف يعلو ولا يعلى عليه.
إذًا: نزور المريض وندعو له بالشفاء، ولا نطيل الجلوس عنده؛ حتى نخفف عنه.
وهناك أدعية تقال عند المريض، منها: أن تضع السبابة في فمك ثم تضعها على الأرض ثم تضعها على جسد المريض الذي فيه الوجع، وترقيه، والرجل يرقي الرجل، والمرأة ترقي المرأة، ويجوز للرجل أن يرقي زوجته وابنته وعمته وخالته وجدته وغيرهن من محارمه، وكذلك يجوز للمرأة أن ترقي أختها وبنت أختها وابن أختها وابن أخيها وأخاها وعمها وخالها وجدها؛ لأن هؤلاء محارم لها، لكن المرأة لا ترقي أخا زوجها؛ لأنه أجنبي عنها.
إذًا: تضع السبابة على فمك وعلى الأرض وعلى الجزء المريض وتقول أربع كلمات: باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا.
أو تدعو للمريض وتقول: اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا.
أو تقول: كما أن رحمتك في السماء فأنزل رحمتك إلى الأرض، أنزل على هذا المريض رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك.
جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 7
سلسلة الدار الآخرة_فضل الروح وماذا في القبور؟
إن الموت حق، وهو القضية العظمى التي أسهرت العباد، وأقضت مضاجع الزهاد، ونغصت على العقلاء حياتهم، وكدرت على المتقين معاشهم.
ويشرع بعد موت المسلم أن يغمض، ويغسل، ويكفن، ثم يدفن في القبر، فالدفن مكرمة للميت.
وقبل ذلك يجب على الإنسان أن يوصي خصوصًا إذا كان عليه حقوق للناس، ويجب على أوليائه أن ينفذوا تلك الوصية كما هي بلا تحريف ولا تغيير.
2 / 1
الاستعداد ليوم الرحيل
2 / 2
الموت سيعم الكل
الحمد لله حمدًا يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاةً وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه هي الحلقة الثانية في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وحديثنا اليوم بمشيئة الله ﷿ عن قبض الروح، وعن القبر وما فيه، وعن الوصية التي يجب أن يكتبها المسلم.
أولًا: بإيجاز سريع قلنا في الحلقات السابقة في المقدمة: إنك عندما تذكر الموت وتجعله نصب عينيك ليل نهار فإنه يعطيك ثلاثًا من الفوائد: الفائدة الأولى: التعجيل بالتوبة.
فعندما أذكر الموت فإني أسرع بالتوبة وأترك الذنوب التي كنت أعملها.
اللهم تب علينا جميعًا يا رب العالمين! الفائدة الثانية: النشاط في العبادة.
فعندما يبقى الموت نصب عينيّ فإني أكون نشيطًا في العبادة، وآتي إلى دروس العلم مسرعًا، ولا تقل: إنك معطل وقتك وتارك شغلك، كلا فهذا هو الغذاء الذي تغذي به قلبك، حتى إذا عرضت لك عوارض الدنيا استطعت بفضل الله ﷿ أن تقهرها.
إن لله عبادًا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا يعني: أنهم نظروا للدنيا فرأوها على حقيقتها كاللجة، أي: مثل البحر الزخار بالأمواج، فأصبح المؤمن فيها ينظر كيف ينجو في هذا البحر، ولا ينجو إلا بصالح الأعمال.
إذًا فصالح الأعمال هي السفن التي يستطيع أن يرسو بها على بر السلامة.
اللهم أوصلنا جميعًا والمسلمين إلى بر الأمان يا رب العالمين! إذًا إن جعلت الموت أمامك فإنك ستسرع بالتوبة، وهناك نقطة أهم وهي أنك إذا كنت كذلك فلن تعمل ذنوبًا جديدة؛ لأنك ترى الموت أمامك، فتقول لنفسك: ما دام الموت ينتظرني، وما دام أن العلماء علمونا أن أمورًا أربعة وهي: أن الموت يعمنا، وأن القبر يضمنا، وأن القيامة تجمعنا، وأن الله يفصل بيننا، إذًا فلن أعمل الذنوب والمعاصي.
إذًا فالموت سيعم الكل، لذلك قلنا: إنه من إساءة الأدب مع الله تعالى أن يقول مسلم من المسلمين: إن ربنا افتكر فلانًا؛ لأن الله لا ينسى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم:٦٤].
فالموت حق، والساعة حق، ومحمد حق، والقرآن حق، والجنة حق، والنار حق، وأن الله هو الحق المبين.
2 / 3
القبر سيضم الكل
والقبر يضم الغني والفقير، والرئيس والمرءوس، قال الشاعر: ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابر هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر فنظرت فإذا الدود عبْث في المحاجر ثم قالت: أيها السائر إني لست أدري انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان وتساوى العبد مع رب الصولجان والتقى العاشق والقالي فما يفترقان ثم قالت: أيها السائل إني لست أدري فقد استوى الكل: الشاكي والمشكو في حقه، والظالم والمظلوم، والرئيس والمرءوس.
2 / 4
القيامة تجمع الكل
والقيامة تجمعنا، فهي تجمع الناس من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كلهم يقف أمام من بيده الأمر كله، وليس هناك محامٍ ولا استئناف ولا واسطة، وكان سيدنا أبو بكر يقول: يا رب! لا وزير لك فيؤتى، ولا حاجب لك فيرشى، وليس لنا ملجأً إلا إليك.
2 / 5
الله يفصل بيننا يوم القيامة
والله يفصل بيننا، قال رسول الله: (يا أبا ذر! قال: نعم يا رسول الله! قال له: أتدري فيم ينتطحان -أي: عنزة تنطح عنزة أخرى- قال: لا، قال: ولكن الله يدري، وسيفصل بينهما يوم القيامة).
والعلماء توقفوا عند هذا الحديث الذي يخوف، لأن البهائم ليست مكلفة، وإنما كلف الإنس والجن، وهؤلاء هم الذي سيحاسبون يوم القيامة، إذًا فهذا الحديث كناية عن إقامة الحق يوم القيامة، فالملك يومئذ لله ﷾، فالدنيا فيها ظلم، لكن يوم القيامة يقول ربنا: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر:١٧]، ولذلك جاء في الحديث: (ولو بغى جبل على جبل لدك الله الباغي، ولو نطحت شاة قرناء شاةً جلحاء) أي: لو شاة بقرنين نطحت شاة من غير قرون، (لاقتص الله من هذه لتلك، ثم قال لها: كوني ترابًا، فيقول الكافر يومها: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [النبأ:٤٠]) أي: أنه يقول: يا ليتني كنت بهيمة، يا ليتني كنت معزة، يا ليت كنت حمارًا؛ حتى ينجو من عذاب الله ﷿.
اللهم أنجنا من عذابك، وأبعدنا عن نار جهنم، وأدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، فنحن ضعفاء يا مولانا وقوي يا رب في رضاك ضعفنا، فأحسن عاقبتنا في الأمور كلها يا أكرم الأكرمين، إنك يا مولانا على كل شيء قدير.
فالله يفصل بيننا، وذلك يكون بالحسنات والسيئات، فكل التعاملات يوم القيامة تكون بالحسنات والسيئات، فهو تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:١٩]، و(خائنة الأعين) مثل الذي ينظر خفية ولا أحد يراه، لكن الله يراه، ولذا فـ حاتم الأصم قال له ابن أخته: علمني الذي يرضى به عني، فقال له: يا بني هي ثلاث كلمات، قل دائمًا: الله ناظر إلي، الله شاهد علي، الله مطلع علي، فالله تعالى يقول: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:٥٩].
ولذلك: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ [ق:٤] أي: أن الأرض تأخذ منك اللحم ويبقى العظم، وبعد عشرات السنين تأخذ العظم أيضًا ويبقى عجب الذنب، وعجب الذنب هو آخر فقرة في العصعص.
وهذا الحديث لما عرضناه على علماء الأحياء (البيولوجيا) أسلم سبعة منهم بفضل الله في أحد المؤتمرات، وقال بعضهم: هل قال رسولكم: يفنى من ابن آدم كل جسده إلا عجب الذنب؟ قلنا: نعم، فهذا الحديث موجود في صحيح مسلم، وهو صحيح رواه أبو هريرة.
فعملوا التحاليل والتجارب فوجدوا كل جسم الإنسان يفنى إلا بعض ذرات من آخر فقرة في العمود الفقري، فهي التي يعرف الإنسان بها، فإذا شاء الله أن يُنفخ في الصور مرة أخرى: ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر:٦٨].
يقول مولانا جل في علاه: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير:٧] أي: إذا عادت الأرواح إلى أبدانها، فلا تذهب روح محمود إلى عبد اللطيف، ولا روح سمير إلى عبد الله أبدًا، فكل روح تروح للجسد المخصص لها، فربنا يقول: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ [ق:٤] من الذي علم؟ إنه العليم الخبير، فلا تخفى عليه خافية.
والله يفصل بيننا، فلما أرى الموت أمامي فإني أعجل بالتوبة ولا أعمل ذنوبًا؛ لأن الله سبحانه يراني، يا رب إن رأيتني أغادر مجالس الذاكرين إلى مجالس الغافلين فاكسر لي رجلي، فإنها نعمة تنعم بها علي، هكذا دعوة الصالحين، اللهم جنبنا المعاصي، يا من يحول بين المرء وقلبه حل بيننا وبين معاصيك، وتب على كل عاص يا رب، واهد كل ضال، واهدنا معهم يا رب العالمين.
ولذلك فإن عليًا كان يخاطب ربنا ويقول: ما أوحش الطريق على من لم تكن دليله! وما أضيق الطريق على من لم تكن أنيسه! وهي من الأنس وهو الظهور، أي: ظهرت لنا، فتخيل أن الله آنسك، أي: ظهر لك، فترى الله في كل حركة، فإذا أردت أن تعمل الحرام تذكرت أن الله يراك فتقلع.
إذًا فالمؤمن يكون وقافًا عند حدود الله ﷿، فما أوحش الطريق على من لم تكن رفيقه، فما دام ربنا ليس دليلًا لك فمن سيكون دليلك! قال الشاعر: ومن كان الغراب له دليلًا يمر به على جيف الكلابِ تخيل! واحدًا يجعل الغراب دليله فهل سيذهب به إلى مصنع العطور، أو سيأخذه إلى الرمم؟! وفي الحديث: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، فأكثروا من الأخلاء الصالحين؛ فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة، ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:٦٧]، اللهم احشرنا في زمرتهم يا رب! إذًا إذا كان الموت أمامي فإني أعجل بالتوبة ولا أعمل الذنوب، فالعبد المسلم ما دام أن الموت أمامه يبقى نشيطًا في العبادة، فما هو الذي يجعلك تذهب إلى الجامع وتقوم بالليل وتصلي وتقرأ جزءًا من القرآن، وتتقي الله وتغض البصر، وتسد آذانك عن الحرام، لماذا هذا كله؟ لأنك تعتقد أن ربنا قد يميتك فجأة، وما دام سيأخذك فجأة فعليك أن تكون مستعدًا للقاء الله.
وقال أهل العلم: لا راحة للمؤمن إلا بلقاء الله ﷿، أي: أن المؤمن لا يستريح إلا عندما يلقى الله، وهذه المدة قد تطول، فيمكن تلقى الله بعد عشرين سنة، أو بعد سنة، أو بعد أسبوع، أو بعد مائة سنة، فربنا من رحمته جعل لنا لقاءات متكررة؛ من أجل أن نلتقي بالله ونستريح، فلا راحة للمؤمن إلا بلقاء الله.
وربنا لقاؤه يكون غصبًا عنك، فمفروض عليك أن تلقاه خمس مرات في اليوم: في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه خمسة أوقات تلقى الله فيها، وتقف بين يدي الله فيها، فأنت تتكلم والله يسمع، وأنت تدعو والله يجيب، وأنت تقرأ والله يستمع إليك، ولذلك قال لما يؤذن المؤذن: (يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أشعلتموها على أنفسكم بالذنوب وأطفئوها بالصلاة).
فأنت حين تعمل الذنوب فإنها توجب أنك تحترق، فإذا صليت أطفأت تلك النار التي كدت أن تحرق بها نفسك، اللهم أطفئ عنا نيران الدنيا ونيران الآخرة يا رب العالمين.
فإذا كان الموت أمامي فإن الله ﷾ سيجعلني نشيطًا في العبادة إلى أن ألقاه، فالجنة تحتاج إلى عبادة، فأنت عندما تأتي إلى الجامع في المغرب فإنك تأتي من أجل عبادة الله، وأن تعمر بيت الله، فتقعد مع الإخوة الصالحين، فتحيط بك الملائكة، وتنزل عليك السكينة، وتأخذ كلمة تهديك وتجعلك في عداد التائبين، والله ﷿ يفاخر بك ملائكته ويقول لك: (يا عبدي أنت عندي كبعض ملائكتي)، وهذه من كرم الله ﷿ عليك.
والمؤمن يكون عنده يقين في الله فلا يحزن، ولا تكتئب من طول الدنيا، ولا تقل: في الشهر القادم من أين سنأكل؟ لا تهم الغد فإنما الغد بيد الله، ومن رزقك اليوم فإنه قادر على أن يرزق غدًا.
وقد ضربت لك المثل بالرجل الذي كان يحب اللحمة، فالأطباء قالوا له: لو أكلت لحمة قد تؤدي بك إلى الموت؛ لأن نسبة الكلسترول عندك عالية، فلا تأكل أي نوع من اللحوم، فجاء الرجل وهو غضبان فقلت له: لماذا أنت غضبان؟ قال: أنا محروم من أكل اللحم، فقلت له: أولًا: أنت محروم من أكل اللحم من أجل ألا تنسى إخوانك الفقراء.
العلة الثانية: أنت لك في هذه الحياة تموين عند الله، وهذا التموين له قيمة، يعني: واحد مكتوب له أن يأكل في حياته طنًا من اللحم، فأكل تسعمائة وسبعين كيلو، فإنه يبقى له ثلاثون كيلو، ولا زال له في الحياة عشر سنين، فلو أكل على نفس الطريقة أو على نفس هذا المنهاج الذي يمشي عليه فسيأخذ أكثر من نصيبه، لكن لا يكون إلا ما قضى الله في سابق الأزل، فيأتي له مرض يمنعه من أكل اللحمة، هو يظن أن الدكتور هو الذي منعه، أو أن المرض هو الذي منعه، لكن هو لو يفكر لعرف أن تموينه من اللحمة قد انتهى من عند الله ﷿، فالمسلم يفكر بهذا المنطق، يكون كل تفكيره أنه سائر كما قضى الله له.
اللهم اقض لنا بخير يا رب العالمين، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا يا رب العالمين.
2 / 6
الابتلاء على قدر الإيمان
والآن سنتكلم على رقية المريض ووصية كل واحد فينا، فإذا مرضت فهذا خير لك، فربنا يبتلي المؤمن على قدر إيمانه، فلو كان إيمانك قويًا فابتلاؤك يكون شديدًا، وكلما قوي الإيمان ازداد البلاء، لذا نجد أكثر الناس بلاءً هو سيدنا رسول الله ﷺ وجميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فكل الأنبياء ابتلاؤهم قوي؛ لأنهم أقرب الناس إلى الله، وأخوف الناس من الله، وأشد الناس خشية من رب العباد ﷾، فتجد ابتلاءهم شديدًا قويًا، والسيدة عائشة تقول: وارأساه -أي: عندي صداع- فقال رسول الله: (وارأساه أنا أيضًا يا عائشة، فقالت: أتمرض أنت يا رسول الله؟!) أي: كانت حديثة عهد بالزواج، فتظن أنه لا يمرض؛ لأنه رسول الله، فقالت: وأنت أيضًا تمرض؟ فقال: (إني أوعك كما يوعك رجلان من أمتي) يعني: أنه يضاعف عليه الألم ﷺ؛ من أجل أن يضاعف له الأجر.
وقال الله عن نساء النبي: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب:٣٢]، ثم حذرهن من الإتيان بالفاحشة: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب:٣٠]؛ لأنهن زوجات رسول الله، فما بالك برسول الله ﷺ، فربنا يزيد عليه الابتلاء من أجل أن يزيد له الأجر عنده ﷿.
وموت الفجأة الذي يكون بدون مرض هو أحد حالتين: راحة للمؤمن، وحسرة على الفاجر.
اللهم اجعلنا من المؤمنين يا رب.
فخير العباد من طال عمره وحسن عمله، وشر العباد من طال عمره وساء عمله، ولما تأتي تميز أهل الحق وأهل الباطل يوم القيامة فإنك تجد أهل الحق قلة، مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة والتابعين وأبي حنيفة ومالك والإمام الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية والجنيد وطائفة من الكبار والعظماء.
وتجد طائفة كثيرة من الفسقة مثل: فرعون وهامان وقارون وأمية بن خلف وأبو جهل، فأين هؤلاء أين وأين هؤلاء، وأبو جهل كان ينظر إلى ابن مسعود ويعتبره راعي غنم، وكان يقول له: يا رويعي الغنم.
وكان أمية بن خلف ينظر إلى بلال بن رباح على أنه عبد حبشي، لكن هذا العبد بالإسلام يطأ الكعبة المشرفة بكعبه الأسود ليؤذن فوقها، فالإسلام يعز أناسًا ويذل آخرين.
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك يا رب العالمين.
لذلك قال ربنا لنا: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٣٩]، ولا تظن أن أمريكا أعلى أو أن أوروبا أعلى، أنا لا أرى الأمريكان إلا حيوانات سائمة، ولا أرى الأوروبيين إلا خنازير سائمة في الأرض، فهم متقدمون ونحن مقصرون، فهنا ربنا يحاسبنا على قلة أعمالنا الدنيوية التي تعود بالفائدة على المسلمين، لكن رغم ذلك لا أرى الأمريكي غير المؤمن بالله إلا إنسانًا نجسًا، والأوروبي نفس القضية، فتجد أحدهم طول الأسبوع وهو يجري على الرصيف، ويجري في المواصلات، ويجري إلى العمل وهو متعب، ويرجع في الليل فينام ويصبح في اليوم الثاني يعمل مثل اليوم السابق، فتراه يسابق الزمن ويطلع فوق الجبال ويتزحلق، ويلعب الرياضة العنيفة، وحياته منتهية على هذه الصورة، وكل آماله محددة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
وأما أنت فمسجون في الدنيا فتمنع نفسك من أشياء لا يحبها الله ولا رسوله، ويوم القيامة عند الله يكون الجزاء.
اللهم أحسن خاتمتنا يا رب على الإسلام.
فإذا مرض العبد فإنه يضاعف ثوابه، وتعال هنا نعيش مع رسول الله في اللحظات الأخيرة، ونرى الوصية التي أوصى بها، ونرى أبا بكر أيضًا، ثم نذكر الوصية التي نحب اليوم أن نتكلم فيها إن شاء الله، ونذكر بعد ذلك زيارة ملك الموت للمسلم وللمسلمة، عسى رب العباد أن يختم لنا ولكم بالإسلام.
2 / 7
مرض رسول الله ثم موته
لقد اشتد على سيدنا رسول الله ﷺ الألم في أواخر أيامه، ولم يستطع أن يخرج للصلاة بالمسلمين، حتى إنهم كانوا يسندونه فتخط قدماه على الأرض، وهذا دليل على أن رجليه تثقله ولا يقدر على رفعهما ﷺ، وهذا نوع من الألم.
وبعض الناس يقول لك: أنا مريض منذ خمس عشرة سنة، وأنا أقول يا رب وما زلت كما أنا، فنقول: هل أنت أشرف عند الله من رسول الله؟ ثم قال رسول الله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فقالت السيدة عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف)، أي: رقيق القلب، (فإن قام فلن يسمع الناس من كثرة البكاء، فقال رسول الله: مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فالسيدة عائشة أعادت نفس الكلام، (إن أبا بكر رجل أسيف)، فقال رسول الله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن أنتنَّ صواحب يوسف)، فالرسول إذا أمر بأمر فإننا نقول: سمعًا وطاعةً يا رسول الله! وهذا لا يعني أن الرجل لا يأخذ بمشورة زوجته إذا كانت صائبة، فالرسول لم يأخذ بكلام السيدة عائشة؛ لأنها لم تصب في كلامها، وأمْر الرسول غير أمرك أنت.
فامرأتك لو تحب أن تناقشك فناقشها، وأنزلها منزلتها، والمرأة في كثير من أمورها تقدم العاطفة على العقل، فطبيعتها وتركيبها هكذا، فتجدها تبكي من غير حاجة أحيانًا، إذًا فالحنان الذي عندها لابنها لما تقوم له في الساعة الثالثة في الليل جاء من العاطفة، وأنت يمكن تتضايق من الولد إذا بكى ثلاث دقائق فقط، وأما هي فربنا وضع فيها هذا الحنان، وسوف يجزل لها العطاء إن هي صبرت، ولذلك ذهبت إحدى النساء إلى الرسول فقالت: يا رسول الله لقد أخذ الرجال الثواب كله، يصلون معك، ويذهبون يحاربون، ويحجون معك، ونحن قاعدات في البيوت نربي العيال، وننظف البيوت، ونعمل الأكل، وتغسل اللبس، ألا لنا من خير؟ انظر المرأة الناصحة تبحث عما يقربها إلى الله.
فقال لها: (حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك كله) أي: طاعتها للزوج، وأدبها مع الزوج، وانخفاض صوتها مع الزوج، ورضاها بالزوج، كل هذا يعدل الحج والجهاد والخروج مع رسول الله.
قال: (وقليل منكن من تصنعه)، وصدق رسول الله، فطالما المرأة عرفت طريق المسجد فانتظر منها خيرًا، فلو أتيت بها إلى الجامع وتسمع له كلمتين فذلك خير لها ولك.
فذهب الرجل يبحث عن أبي بكر فلم يجده ووجد عمر، فقال: يا عمر! قال له: نعم، قال: صل بالناس، فسيدنا عمر رأى رجلًا خارجًا من غرفة الحبيب المصطفى ﷺ يقول له: صل بالناس، إذًا فالأمر هذا جاء من الداخل، فصلى بالناس صلاة المغرب وصوته عال، فقال رسول الله: (صوت من هذا؟ فقالوا: هذا عمر يا رسول الله، قال: يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، لا يقدم أحد على أبي بكر).
فسيدنا عمر سمع هذا الكلام بعد الصلاة فارتعب، فدخل على رسول الله وقال: هذا الرجل هو الذي قال لي، فقال الرجل: لم أجد أبا بكر، ولم أجد أولى بالصلاة بعد أبي بكر من عمر، وهكذا ترتيبهم فـ أبو بكر مكان سيدنا رسول الله يصلي بالناس، وعمر يصلي مكان أبي بكر، ويمشي هذا الترتيب حتى في العشرة المبشرين بالجنة، فـ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهؤلاء هم الخلفاء الأربعة الراشدون بنص الحديث.
فـ أبو بكر صلى بالناس سبعة عشر فرضًا، أي: صلى بهم ثلاثة أيام وفرضين، إذا فالرسول لم يصل بالناس الأيام الثلاثة الأخيرة، وفي يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول وهو اليوم الذي ولد فيه رسول الله ﷺ، صلى أبو بكر بالناس صلاة الصبح، وهذا كان الفرض السابع عشر، ودخل يعود رسول الله وهو مريض ﷺ، فوجد سيدنا أبو بكر الحبيب المصطفى صحته جيدة وهو قاعد، وقد كان لا يقدر على القعود، فـ أبو بكر استبشر خيرًا وفرح، وكان في صلاة العشاء التي قبلها قد نادى العباس والفضل بن العباس فاستند عليهما وخرج إلى المسجد فوجد المسجد مليئًا بالناس، فمن فرحته نسي الألم ﷺ وذهب يدخل في الصلاة، فصفق الناس لـ أبي بكر من أجل أن ينتبه لرسول الله، وأنت عندما تقعد في الروضة الشريفة أمام قبلة سيدنا الحبيب ﷺ ستجد القبر الشريف على شمالك، وقد كان المكان هذا عند الحاجز الألمنيوم الذي وضعوه، فقبله بمتر بالضبط هذا هو المتر الذي كان يطلع منه سيدنا الحبيب على القبلة، فكان سيدنا الحبيب يخرج وهو يمشي أمام المسلمين، يعني أمام أول صف فيخرج من الغرفة ويقعد في القبلة، فلما خرج رآه الصحابة، لأنه يمشي أمامهم، وأما أبو بكر فلم يره لأنه يصلي، فسيدنا أبو بكر أول ما حس أن هناك شيئًا التفت فلمح سيدنا رسول الله، فأراد أن يتأخر، فإذا بالرسول يقدمه مرة أخرى، والرسول صلى مأمومًا خلف اثنين: خلف جبريل، وخلف أبي بكر.
فقد صلى خلف جبريل عندما كان يعلمه مواقيت الصلاة، فلما فرضت الصلاة كان سيدنا جبريل ينزل ساعة أذان الفجر فيصلي به ركعتين، ويقول له: هذا الصبح، وقبل شروق الشمس بلحظات يصلي به ركعتين، ويقول له: هذا وقت الصبح.
وجاء في وقت الظهر فصلى به الظهر، وقال له: هذا وقت الظهر، فهذا أول الوقت وهذا آخر الوقت، ثم العصر وجميع الصلوات يصلي به، فقد كان يصلي بالرسول مرتين كل فرض حتى تعلم رسول الله الصلاة ﷺ، فصلى مأمومًا متعلمًا خلف جبريل، وصلى مأمومًا خلف أبي بكر؛ كي تظهر مكانة أبي بكر عند رسول الله وعند الله ﷿.
رضي الله عن أبي بكر، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين يوم القيامة يا رب العالمين.
2 / 8
وصية رسول الله لأبي بكر
فسيدنا أبو بكر لما دخل وجد سيدنا رسول الله صحته جيدة، وكان قاعدًا يتكلم مع من حوله، فقال له: يا رسول الله أنت اليوم صحتك جيدة، أتأذن لي أن أذهب إلى أسماء بنت عميس خارج المدينة؟ قال له: تفضل يا أبا بكر، واستأذن عمر فدخل، فقال: يا رسول الله ورائي تجارة أتأذن لي؟ قال: تفضل، ففرق رسول الله الصحابة لحكمة يعلمها الله، وذلك من أجل أن الله تعالى يخلي المكان من كل المحيطين برسول الله ليخلو المكان لملائكة الرحمن، وقال أبو بكر لرسول الله قبل أن يخرج: أتريد أن توصيني بشيء يا رسول الله؟ فقال له: (يا أبا بكر إذا أنا مت فليغسلني رجال من أهل بيتي، ثم ادفنوني في المكان الذي مت فيه، وكفنوني في الثوب الذي ألبسه؛ فإن الحي أولى بالجديد من الميت).
فانظر إلى تواضع سيدنا رسول الله، (الحي أولى بالجديد من الميت)، ثم قال: (يا أبا بكر إذا خرجت الروح فادخلوا علي زرافات ووحدانا)، لأن الكل لا يستطيعون أن يصلوا على رسول الله ﷺ صلاة الجنازة، فادخلوا مجموعات مجموعات أو فرادى فرادى، (ولا تطروني) لا تمدحوني، وهذا يدل على أن حفلات التأبين حرام، والله أعلم بمن اتقاه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل التقوى.
(لا تطروني ولا تعظموني، ثم خلوا بين دفني وبين صلاتكم ساعة) يعني: بعدما تصلون عليّ صلاة الجنازة اتركوني قبل الدفن قدر ساعة، والساعة هذه هي مدة من الزمن، وهي عند الصحابة قدر ذبح الجزور وتوزيع لحمها، فالسؤال الوحيد الذي سأله أبو بكر: لماذا يا رسول الله؟! فقال: (لأن الله وعدني أن يصلي علي هو بنفسه!).
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦].
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على النبي محمدِ فخرج سيدنا أبو بكر، وخرج سيدنا عمر، وخرج سيدنا عثمان، ومشى سيدنا علي بعد قليل، فقال رسول الله: (يا عائشة يا فاطمة اخرجا، فقالا: لماذا يا رسول الله؟ قال: إن ملك الموت يستأذن)، فتخيل أنت ملك الموت يستأذن على سيدنا الحبيب وعنده فاطمة وعائشة، ما هو شعور السيدة فاطمة والسيدة عائشة في ذلك الوقت؟!! ولذلك قال ﷺ: (من أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته فيّ) يعني: أننا أصبنا بمصيبة كبيرة جدًا بموت الرسول ﷺ.
وقد ترك لنا رسول الله ﷺ القرآن والسنة، وقد تكفل الله بحفظهما، فهذا القرآن أوامره وأحكامه باقية، فهو كتاب أنزله الله على قلب رسوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالله قد تكفل بحفظه وحفظ سنة حبيبه، فإذا تمسكنا بهما فلن نضل أبدًا.
اللهم اجعلنا من العاملين بهما يا رب العالمين.
فخرجت السيدة عائشة والسيدة فاطمة، ثم قال ملك الموت: يا رسول الله! والله ما استأذنت على أحد أبدًا إلا أن الله أمرني أن أستأذن عليك، قال: دعني حتى أكلم جبريل، فقال جبريل: نعم يا رسول الله، فقال له: (يا جبريل من لأمتي من بعدي؟).
فهذا أهم شيء كان يهم حبيب الله، حتى إنه قال: (لن يحن عليكم بعدي إلا الرحماء)، فلا أحد سيحن عليكم إلا من كان يعرف ربنا ويتخلق بأخلاق الله، اللهم اجعلنا من الرحماء.
فقال الله: (يا جبريل نبئ محمدًا أننا لن نسوءه في أمته أبدًا، وسوف نرضيه فيهم، فقال رسول الله: يسوؤني يا جبريل واحد منهم يعذب في النار، قال: بشر محمدًا أن كل من قال: لا إله إلا الله فلن يخلد في النار).
اللهم اجعلنا من أهل لا إله إلا الله، أحينا عليها، وأمتنا عليها، وابعثنا عليها آمنين مطمئنين يا رب العالمين.
وبعد لحظات نادى على فاطمة وعلى عائشة فرأى فاطمة في حالة ذهول وكرب شديد، فقالت: (واكرباه عليك اليوم يا أبتاه! قال: يا فاطمة لا كرب على أبيك بعد اليوم) أي: انتهى العناء والتعب، فقد قضى ثلاثًا وعشرين سنة وهو يدعو قومه، وقد وقف ذات يوم عند جبل أبي قيس وقال: (يا معشر قريش أولو أخبرتكم أن خيلًا خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، فما جربنا عليك كذبًا فأنت الصادق الأمين، فقال: فإني رسول الله إليكم جميعًا، والله لتموتن مثلما تنامون، ولتبعثن مثلما تستيقظون، وإن ربكم لواحد لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم).
فكذبوه وكانوا يضعوا أمامه القاذورات وعلى عتبته، وكانوا يضعون سلا الجزور على ظهره، وكانوا يذلون أصحابه ويجرونهم على الرمضاء ويعذبونهم، ثم جعلوه يترك مكة بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة، فذهب إلى المدينة وأصحابه هاجروا إلى الحبشة، ثم حاربوه وقاتلوه في غزوات متواصلة لم يسترح فيها قط.
قال لها: (لا كرب على أبيك بعد اليوم، لقد خيرني جبريل بين الخلود في الدنيا وجوار الرفيق الأعلى، فاخترت جوار الرفيق الأعلى، يا فاطمة الصلاة الصلاة، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى.
ثم همس في أذن فاطمة كلمة فبكت، ثم همس في أذنها كلمة فابتسمت)، فلما سئلت بعد كذا قال لها: إن ملك الموت سينزل الآن من أجل أن يقبض روحي فبكت، ثم قال لها: وأنت أول من سيلحق بي من أهلي فابتسمت، وبعد ستة أشهر كانت فاطمة مع أبيها في جنات عدن.
اللهم أوصلنا بهم، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.
2 / 9
صبر أبي بكر بعد موت النبي
وبعد موت رسول الله ﷺ حصلت ضجة في المدينة كلها، فانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، فبدأ الصحابة يتجمعون، فـ عمر بن الخطاب لم يتمالك نفسه فقال: لا، لقد ذهب ليلقى ربه، كما لقي موسى ربه وسوف يعود، ومن قال: إن محمدًا قد مات لأفصلن عنقه عن جسده.
وكان سيدنا عثمان بن عفان مثل التائه يؤخذ من يده فيجر ويؤخذ يمينًا وشمالًا، فقد حصل عنده ذهول، وقعد علي بن أبي طالب على الأرض ولم يستطع أن يقف على قدميه، فما تمالك من الصحابة إلا أبو بكر، وقد كان حب أبي بكر لرسول الله ﷺ شديدًا ورغم ذلك تمالك نفسه، وذلك لأن رصيد الإيمان الذي عند أبي بكر كان عظيمًا، فقام وخطب الناس وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤٤].
قال سيدنا عمر: وكأني أسمع هذه الآية لأول مرة، فهدأ أبو بكر الصحابة، ثم دخل على رسول الله ﷺ فكشف عن وجهه الشريف وقبل جبينه، وقال: طبت حيًا وميتًا يا رسول الله، وانقطع لموتك ما لم ينقطع بأحد من الرسل من قبلك.
يعني: أن الأنبياء والرسل كانوا إذا مات الواحد منهم كان جبريل ينزل مرة أخرى بعده إلى الأرض، وجبريل عندما دخل على سيدنا الحبيب في آخر حياته قال له: لن يسوؤك ربنا في أمتك، وبكى جبريل، فقال: لماذا تبكي يا جبريل؟! قال: هذه آخر مرة أنزل فيها إلى الأرض، على من أنزل بعدك يا رسول الله؟ فقد انقطع الوحي وتمت الرسالة، واكتمل الكتاب، وأكمل الله الدين، وأتم النعمة، وقضي الأمر.
فهذا معنى: وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من النبيين من قبلك.
وقال سيدنا علي: كنت أمشي ذات مرة بالليل في ثاني يوم انتقل فيه الرسول للرفيق الأعلى، فوجدت عمر قاعدًا إلى جنب القبر الشريف ويبكي ويقول: يا رسول الله! لو آكلت كفؤًا لك ما آكلتنا، ولو جالست كفؤًا لك ما جالستنا، ولو تزوجت كفؤًا لك ما تزوجت منا، ولكن تواضعًا منك جالستنا وآكلتنا وجلست معنا، والله ما أحد أشرف على الله ﷿ منك يا رسول الله! فانظر إلى حب الصحابة للرسول كان كيف؟ وانظر أيضًا إلى هذه الدرجة العظيمة للرسول ﷺ.
2 / 10
تغسيل رسول الله بعد موته
ولما جاءت ساعة الغسل قالوا: كيف نغسل الرسول؟ هل نخلع ثيابه أو نغسله من فوق ثيابه؟ فأقسمت عائشة أن الجالسين في الحجرة -وهي تنظر من الداخل- أصابهم النعاس فكانت لحاهم على صدورهم، وسمعوا صوتًا ولم يروا المتكلم: غسلوا الرسول من فوق ثيابه ولا تخلعوا ثيابه.
فغسلوه، وكانت رائحته مسك ﷺ من غير أن يضعوا له طيبًا، فمن السنة أن نطيب الميت.
2 / 11
دفن رسول الله
ثم قالوا: يا ترى هل نضعه في لحد أو نضعه في شق؟ فكان في المدينة جماعة يحفرون القبور، وكان فيهم واحد مختص باللحد وواحد مختص بالشق، وهذا تعود لطبيعة التربة، فسيدنا أبو بكر قال: الذي سيصل الأول هو الذي سندفن الرسول بالطريقة التي هو مختص فيها، فجاء أولًا الرجل الذي يلحد، فلحدوا له ووضعوه في اللحد ثم حثوا عليه التراب.
فمن السنة أنك عند الدفن تحثو على جسد الميت فوق الكفن ثلاث حثيات، والإنسان لو يفكر في حاله وفي مآله وفي مصيره فإنه لا يتكبر ولا يظلم ولا يفتري ولا يفسق ولا يذنب، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من أهل عليين، وأن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
فتحثو على الميت ثلاث حثيات، وتقول في أول حثية: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ [طه:٥٥]، وفي الثانية تقول: ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه:٥٥]، وفي الثالثة: ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه:٥٥].
فلما رجعوا دخل سيدنا أنس يطمئن على السيدة فاطمة فالسيدة فاطمة لاقت أنس بشيء من الألم والأسى، فقالت: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله؟! فقال: هكذا أمرنا يا أم الحسنين أي: هو الذي أمر بهذا وعلمنا السنة ﷺ، وجزاه الله عنا خير الجزاء وخير ما جازى نبي عن أمته.
اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة من حوض الكوثر لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا، اللهم أسكنا معه في الفردوس الأعلى يا رب العالمين، إنك يا مولانا على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
2 / 12
الرقية الشرعية
فالإنسان منا عندما يمرض يجب ألا يحزن وألا يضيق ذرعًا؛ لأن المسلم طالما أنه يحسن الظن بالله ﷿ فإنه يلقى الله ﷿ وهو عنه راض.
اللهم اجعلنا ممن يحسن الظن بك يا رب العالمين.
فالإنسان الذي يظن ظنًا حسنًا بالله ﷿ فإنه يبقى سعيدًا في الدنيا، وإذا كانت صحتك جيدة فقدم الخوف على الرجاء، ففي الدنيا تكون خائفًا أكثر، فلما تشعر أن السن قد كبرت، أو المرض قد اشتد، والمؤمن كلما ازداد إيمانه حط في ذهنه أنه على وشك أن يرحل، فهنا يزداد الرجاء على الخوف؛ من أجل أن تلقى الله وأنت حسن الظن به سبحانه.
قلنا: إن الرقية الشرعية لا تكون لا بحجاب، ولا بخرزة، ولا بحاجة تتعلق، ولا بمصحف تحت المخدة ولا هذا الكلام كله، وإنما تكون الرقية الشرعية بالأذكار والأدعية الشرعية، فتضع سبابتك على فمك ثم تضعها على الأرض، ثم ضعها على الجزء المريض في جسد المريض وتقول: (بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)، أو تقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا)، أو (اللهم كما رحمتك في السماء أنزل رحمتك على الأرض، وأنزل على هذا المريض رحمة من رحمتك وشفاءً من شفائك) أو تضع يدك أنت على الجزء الذي يؤلمك وتقول: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، والذي لا يحفظ هذا كله يضع يده على الجزء المريض ويقرأ فاتحة الكتاب بنية الشفاء، يشفى بإذن الله رب العالمين.
وجاءوا لي بطبيب الورى وروحي تنادي طبيب السماء طبيبان: ذاك ليعطي الدواء وذاك ليجعل فيه الشفاء فطبيب الدنيا يكتب لك الدواء فقط، وربنا الله ﷿ هو الشافي، وهذا سيدنا أبو بكر وهو يموت قيل له: أفلا نطلب لك الطبيب يا أبا بكر؟ فقال: قد طلبته وجاءني، قالوا: وماذا قال؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.
فانظر إلى ثقة أبي بكر بالله تعالى وصلته به.
2 / 13