أصول الدعوة - جامعة المدينة
أصول الدعوة - جامعة المدينة
প্রকাশক
جامعة المدينة العالمية
জনগুলি
-[أصول الدعوة]-
كود المادة: GDWH٥٠٧٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
অজানা পৃষ্ঠা
الدرس: ١ بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة)
العجلة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
إن حديثنا عن بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة، فيرجعون عن الطريق ويقعدون عن الدعوة، ويتخلفون عن المسير، ومن هذه الآفات العجلة وضعف اليقين والتقصير في عمل اليوم والليلة.
أما العجلة: فهي آفة خطيرة تُصيب الداعية؛ فتَحرمه الوصول إلى غايته وإصابة هدفه، رُوي: "أن نستور بعث صاحبَيْه إلى الملك يدعوانه إلى دين عيسى ﵇ وأمرهما أن يرفِقا به، وأن يدعواه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فخالف الصاحبان وصيّة مرسلهما؛ فدخلا على الملك فأغلظا له القول وعنّفاه، فأخذهما وحبساهما وآذاهما، فقال لهما نستور: ما مَثَلكما إلا كمثل امرأة لم تلد حتى كبرت سنها فولدت، فاستعجلت شباب ولدها؛ لتنتفع به، فأطعمته أكثر مما يطيق فقتلته، فلم تحقق هدفها".
ومن هنا قيل: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" وأصل هذا المثل في السنة النبوية المطهرة قول نبينا ﷺ: «لا يرث القاتل» فمن قتل مورثه استعجالًا للميراث؛ يُعاقب بنقيض قصده، فيحرم من الميراث؛ فالعجلة آفة مذمومة نهى الله تعالى عنها ورسوله ﷺ. عن أنس، عن النبي ﷺ قال: «التأنّي من الله، والعجلة من الشيطان».
1 / 9
قال ابن القيم: إنما كانت العجلة من الشيطان؛ لأنها خفَّة وطيش وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار، والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور، وهي متوّلدة بين خلقين مذمومين هما: التفريط والاستعجال قبل الوقت.
والذي يتتبع نصوص الوحيين يرى فيها الكثير والكثير من النهي عن العجلة فمنها النهي عن العجلة في طلب العلم قال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: ١٦ - ١٩) قال ابن كثير ﵀ في تفسير هذه الآيات: هذا تعليم من الله ﷿ لرسوله ﷺ في كيفية تلقي الوحي من الملك؛ فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته؛ فأمره الله ﷿ إذا جاء الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفّل الله تعالى له أن يجمعه -يعني: ما أوحيه ما في صدره- وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه.
فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ أي: بالقرآن كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: ١١٤)، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ في صدرك ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ أي: أن تقرأه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ أي: فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونفهمك معناه كما أردنا وشرعنا.
وقال السعدي ﵀: وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم ألا يبادر المُتعلم للعلم قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها؛ فإذا فرغ منها سأله عما
1 / 10
أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرّدّ أو الاستحسان ألا يبادر برده أو قبوله قبل الفراغ من ذلك الكلام؛ ليتبيّن ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهمًا يتمكّن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب.
ومن الاستعجال في العلم التصدّر للتعليم قبل التأهُّل له، والتصدّر للفتيا قبل التأهّل لها، والتسرع بالجواب قبل إدراك السؤال. ومنها: النهي عن العجلة في نقل الأخبار قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات: ٦) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر؛ كراهة أن تصيبوا قومًا بجهالة -أي: قومًا بُرآء مما قذفوا به- بغية أذيّتهم بجهالة لاستحقاقهم إياه، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، أي: فتندموا على إصابتكم إياهم بالخيانة التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخافه الندم في العواقب.
ولقد كان للعجلة في نقل الأخبار بلا تثبت أثرها السيئ في انتشار حديث الإفك الذي روّجه المنافقون ضدّ الطاهرة المبرأة النزيهة العفيفة أمنا عائشة ﵂ حتى قال الله في هذه العجلة: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور: ١٥) وهي سورة فيها الخفّة والاستهتار، وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة، ولا اهتمام؛ ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إمعان نظر؛ حتى لكأن القول لا يمرّ على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ﴾ بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم؛ إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقّاها العقول، ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
1 / 11
وبعد إنكار العجلة عليهم في نقل الأخبار يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الاستعجال؛ فيقول تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (النور: ١٧) فلا بد من التروّي ولا بد التأني، ولا بد من التثبت والتبين، ومنها النهي عن العجلة في الحكم على الناس قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ (النساء: ٩٤) أي: إذا سافرتم في الغزو فتبينوا؛ أي: فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ورويّة، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ (النساء: ٩٤) أي: لا تقولوا بغير تدبر لمن حياكم بتحية الإسلام أو من ألقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد لست مؤمنًا، وإنما أظهر ما أظهر متعوذًا؛ بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه.
عن ابن عباس ﵄ قال: "كان رجل في غُنيمة له؛ فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا بتلك الغنيمة؛ فأنزل الله في ذلك قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ (النساء: ٩٤) "، فلا يجوز التعجّل في الحكم على الناس بالكفر قبل البيان، بل لا يجوز للعامة أن يشغلوا أنفسهم بمسألة التكفير، فإن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا.
ومنها النهي عن العجلة في القضاء: عن علي ﵁ قال: "بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن قاضيًا فقلت: يا رسول الله، تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال ﷺ: «إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيّن لك القضاء» قال علي: فما زلت قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد".
1 / 12
ومنها النهي عن العجلة في الدعاء: قال الله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء: ١١) قال ابن كثير ﵀: يخبر الله تعالى عن عجلة الإنسان في دعائه في بعض الأحيان على نفسه، أو ولده، أو ماله بالشر، أي: بالموت أو الهلاك، أو الدمار، واللعنة، ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ (يونس: ١١)، وقال النبي ﷺ: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خَدَمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ﵎ ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم».
ومن العجلة في الدعاء: أن يستعجل الإنسان عقوبة ذنبه في الدنيا قبل الآخرة. عن أنس ﵁: أن رسول الله ﷺ عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله ﷺ: «هل كنت تدعوا بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة؛ فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». قال: فدعا الله له فشفاه.
ومن العجلة في الدعاء: أن يدعو الداعي قبل أن يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على رسوله ﷺ. عن فضالة بن عُبيد قال: "سمع رسول الله ﷺ رجلًا يدعو في صلاته لم يُمجّد الله ولم يصلّ على النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ: «عجلت أيها المصلي» ثم علَّمهم رسول الله ﷺ. وسمع رسول الله ﷺ رجلًا يُصلي؛ فمجد الله وحمده وصلى على النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ: «ادعُ تُجب، وسَلْ تُعْطَ» ".
1 / 13
ومن العجلة في الدعاء: استعجال الإجابة: عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
ومن الاستعجال المذموم: الحرص على تجميع الناس، وتكثير عددهم حول الداعية دون تمحيص ولا تربية، وإنما فقط لمجرَّد تكثير العدد، وهذا الاستعجال فيه من المضارّ والمخاطر ما فيه، ففي الاستعجال خطورة كبيرة تتمثَّل في عدة نقاط؛ منها: أن الاستعجال يجمع أعضاء بُسطاء الفكرة، ضعفاء التربية، تجربة قليلة، وطريق هذه الدعوة شاقّ يُشترط على السير فيه التزام التقوى، ولذلك يحصل التساقط في الطريق، وهذا خطر كبير.
ومنها: أن الدعوة في نشأتها وبدايتها تقوم على أكتاف الأقوياء؛ لتكوين القاعدة الصلبة، والاستعجال يُخالف ذلك.
ومنها: أن كثرة الضعفاء في هذه المرحلة داخلَ الصف الإسلامي تُؤدّي إلى تأخير ساعات النصر وإشغال المربِّين، وإضاعة طاقتهم في نوعية ساذجة تأخذ منهم أوقاتهم وجهودهم التي ينبغي عليهم أن يصرفوها في أعمال أخرى يرفعون فيها من مستوى الشباب في المجالات المختلفة، وينتج عن ذلك خطورة واضحة لا شكّ فيها.
ومنها: أن عملية الاستعجال سيكون من نتاجها بعد فترة تجميع فئة من الضعفاء تشغل المربّين في تصريفها في مجال يتناسوا معها، وبالتالي تنشأ قضية جديدة تأخذ منهم جهدًا فكريًّا وتنظيمًا هي في غنًى عنه الآن، وفي هذه المرحلة من العمل؛ لذلك ينبغي على الداعية المربي أن يتريَّث على إخوانه في المحاضر التربوية وغيرهم من الدعاة الجُدد في انتهاز الفرص في تربيتهم جميعًا، تربية مركزة قائمة على
1 / 14
المُكث لا على الاستعجال، وبذلك يكون قد وافق الأسلوب القرآني في التربية، فإن مما ذكره الله تعالى في القرآن قوله ﷿: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ (الفرقان: ٣٢) قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: نزلناه مفرقًا ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان: ٣٢)، وقال: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ (الإسراء: ١٠٦)، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدّث ومعلم وواعظ أن يتأمّل في توجيه ربه سبحانه، في تدبيره أمر الخلق وبعث الرسل إليهم، فكلما حدث موجب أو حصل موسم أتى بما يُناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمواعظ الموافقة لذلك.
فعلى الدُّعاة إلى الله ﷿ أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله ﷾، وعليهم ألا يستعجلوا جني ثمار ما بذلوه من الجهد في الدعوة إلى الله ﷿، فإن الله ﵎ أكثر على نبيه ﷺ من الأمر بالصبر، والنهي عن الاستعجال قال الله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ (الأحقاف: ٣٥)، فعليك أيها الداعية أن تغرس وتحرث، وأن تترك الإنبات لله ﷿: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: ٥٦).
ضعف اليقين
ومن الآفات التي تُصيب الداعية فتُقعده عن دعوته: ضعف اليقين واليأس من الناس، واليأس من النصر إذا تأخّر النصر؛ لذلك كثر في القرآن الكريم أمر النبي ﷺ بالصبر، وبيان أن العاقبة له كما كانت لإخوانه المرسلين من قبله قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (هود: ٤٩)، وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: ٣٥)، وقال: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
1 / 15
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ (الأنعام: ٣٤)، ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: ١١٠) وقال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ (هود: ١٢٠) وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥، ١٠٦) وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: ١٧١ - ١٧٣)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر: ٥١) وقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: ٣٣).
ولقد كان النبي ﷺ يحثّ أصحابه على الصبر ويبشّرهم بالنصر في أحلك الظروف وأصعبها حتى يستمروا في الثبات على الدين والانتشار به هاهنا وهاهنا، دون يأس يُقعدهم، ودون تشاؤم يصدهم عن تبليغ دعوة ربهم، عن خباب بن الأرت ﵁ قال: «شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، فقال ﷺ: قد كان من كان قبلكم يُؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، فيوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله» قسم يدل على الثقة المتناهية الثقة الكاملة في وعد الله ﷿ الذي أشارت إليه تلك الآيات التي صدّرنا بها الحديث: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
ويوم الخندق: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ (الأحزاب: ١٠، ١١) في هذا اليوم، وفي هذه الظروف، وفي هذه
1 / 16
الأثناء وهم يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة عجزوا عن كسرها، فشكوا إلى رسول الله ﷺ فقال: «إني نازلٌ، أنا قادم لأكسر هذه الصخرة التي عجزت عنها معاولكم؛ فجاء ﵊ وقد ربط على بطنه، ونزل فأتى هذه الصخرة ورفع المعول قائلًا: بسم الله فطار ثلثها، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثانية فطار الثلث الثاني من تلك الصخرة فقال: الله أكبر أعطيك مفاتيح فارس، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثالثة فصارت هباء منثورًا فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله لأني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا».
هكذا كان ﷺ يبَشِّرُ أصحابه بأن النصر قريب، وبأن المستقبل لهذا الدين مهما اشتدّت الأزمات، وعظمت الخطوب، ومهما حاول أعداء الدين أن يُطفئوا نور الله ﷿ فإنهم لن يصلوا إلى تلك الغاية كما أخبر الله ﷿: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (التوبة: ٣٢)، ولقد ظلّ ﷺ يُبشر أصحابه بالنصر والتمكين، وفتح بلاد المشركين، وأكثر عليهم في ذلك؛ تضمينًا لقلوبهم، ومن ذلك قوله ﷺ: «بَشّر هذه الأمة بالثناء والدين، والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض».
وقوله ﷺ: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها»، وقوله ﷺ: «إن الله استقبل بي الشام وولّى ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد، إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقًا، وما خلف ظهرك مددًا، ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله؛ حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورًا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم». وقوله ﷺ: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل
1 / 17
والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يُعز الله به الإسلام، وذلًّا يزل الله به الكفر». وهذه كلها بشارات عامة.
وقد بَشّر ﷺ بفتح بعض البلاد وسماها، ففتحت كما بشر ﷺ من هذه البلاد: أرض الكنانة، مصرنا الحبيبة؛ فقد قال ﷺ: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذمة ورحمًا»، ومنها: اليمن والشام والعراق، كما قال ﷺ: «تُفتح اليمن فيأتي قومٌ يبثّون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قومٌ يبثون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبثون فيحلمون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون». فبشر ﷺ أصحابه بفتح مصر واليمن والشام والعراق، وقد فُتحت تلك البلاد كما أخبر ﷺ.
وهناك بلاد بشر ﷺ بفتحها ولمَّا تفتح، من هذه البلاد: روما عاصمة إيطاليا، عند عبد الله بن عمر ﵄ قال: «بينما نحن حول رسول الله ﷺ ونحن نكتب؛ إذ سُئل ﷺ أي: المدينتين تُفتح أولًا القسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تُفتح أولًا» يعني: قسطنطينية، وقد فتحت قسطنطينية، ونحن في انتظار فتح رومية كما أخبر النبي ﷺ وهو الذي لا ينطق عن الهوى كما أخبر عن ربه ﷾.
وقال ﷺ: «عُصيِّبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى». بل إنه ﷺ أخبر عن رفع الخلافة، ثم أخبر عن عودتها، رفع الخلافة التي سقطت كما هو معلوم في العام الرابع والعشرين من الميلاد بعد التسعمائة والألف، سقطت الخلافة كما أخبر ﵊ وإخباره هذا ليس من عنده إنما هو من الله ﷿
1 / 18
القائل: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجن: ٢٦، ٢٧) أخبر ﷺ عن سقوط الخلافة، ثم أخبر عن عودتها وارتفاع رايتها؛ حتى لا ييأس الدعاة بعد سقوط الخلافة من عودتها، قال ﷺ: «تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًّا فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ﷺ).
فأخبر ﵊ أنه بعد النبوّة خلافة، وبعد الخلافة ملك عاضّ وملك جبري، وبعد الملك العاض والملك الجبري خلافة على منهاج النبوة تنتهي بها الدنيا كما بدأت بعد وفاة رسول الله ﷺ.
فيا أيّها الداعية هذه النصوص التي ذكّرتك بها تبعث في نفسك الأمل، وتجعلك لا تيأس ولا تفتر، بل امضِ قُدمًا في طريق دعوتك، وأنت متفائل، وأنت على يقين من أن المستقبل لهذا الدين، وتأمّل التاريخ على مداره بعد وفاة النبي ﷺ والأزمنة المتتابعة إلى اليوم، تأمّل وخُذ من التاريخ العبر والدروس حتى لا تيأس أبدًا، ولا يضعف يقينك أن المستقبل لهذا الدين مهما كانت العقبات، ومهما عظمت الخطوب، ومهما ازدادت الكروب، ومهما تقوَّى وتحصّن أعداء الدين ضد أهل الدين إلا أن الله لا بد أن يُظهر دينه كما وعد، والتاريخ أكبر شاهد.
وإليك هذه الوقائع الثلاث: من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد أن استلم أبو بكر ﵁ مقاليد الخلافة؛ ففي هذا الوقت من خلافة أبي بكر عظم الخطب، واشتدّ الحال، ونجم النفاق، وارتدّ من ارتد من أحياء العرب، وظهر مدعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، ولم يبقَ للجمعة مقام في بلد سوى مكة
1 / 19
والمدينة، وأصبح المسلمون كما يقول عروة بن الزبير ﵄: كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم؛ حتى وجد من المسلمين من قال لأبي بكر ﵁: يا خليفة رسول الله، أغلقك بابك، والزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين -يعني: الموت- ولكن أبا بكر ﵁ لم يعترِه اليأس، ولم يستحوذ عليه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث الجسام كلها بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم.
هو الذي قال للدنيا قولته الخالدة: "أينقص الدين وأنا حي".
وهو الذي قال لعمر ﵁ حين جاء يعاتبه على قتال مانعي الزكاة: "مه يا عمر، رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، أجبّار في الجاهلية وخوَّار في الإسلام، ماذا عسيت أن أتألَّفهم بسحر مفتعل، أم بشعر يُفترى هيات هيات، مضى رسول الله ﷺ وانقطع الوحي؛ فوالله لأجاهدنّهم ما استمسك السيف في يدي، فوالله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فوالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال؛ فعلمت أنه الحق".
وأبو بكر هو الذي أنفذ جيش أسامة ﵁ وقال لمعارضيه: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله ﷺ، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته ما كنت أحلّ عقدًا عقده رسول الله ﷺ بيديه. ولم يزل أبو بكر ﵁ يُخطّط ويجاهد ويرسل البعوث، ويسهر على مصالح الرعية؛ حتى استطاع أن يتغلَّب على الصعاب، وأن يقضي على الثورات والفتن، وأن ينتصر على المرتدّين ومدّعي النبوة، ومانعي الزكاة، ومبطلي
1 / 20
الصلاة، وأن يعيد للمسلمين عزتهم، ولليائسين تفاؤلهم، وللإسلام دولته، وللخلافة هيبتها.
من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لمّا استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يُقارب قرنًا من الزمان؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغير المسلمين ألَّا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألَّا رجاء في ردّ أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ومن كان يظن أن هذه البلاد ستتحرّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما خرَّب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكًا ذريعًا. من كان يظن أن بلاد الإسلام بعد هذا الذي حدث ستتحرر في يوم ما على يد البطل المقدام قطز في معركة عين جالوت الحاسمة، ويصبح للمسلمين من المجد والعظمة والرفعة.
أيها الداعية؛ إن هذه الكوارث الثلاث التي وقعت في عصور مختلفة، وانتفاضة الأمة الإسلامية بعدها، ونهوض العرب يلتقي على نقطة واحدة، وهي وجود قيادة مؤمنة راسخة العقيدة، قوية الإيمان بوعد الله ونصره، وبصلاح الإسلام، وبالقوة الكامنة فيه، شديدة التمسك بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، مجردة عن كل أنانية وعصبية جاهلية، ويلتقي هؤلاء القادة على أنهم كلهم كانوا يدعون إلى الإسلام، ويقاتلون بسيف محمد ﵊ واستحقوا بذلك نصر الله، وتأييده الخارق للعادة، وظهرت المعجزة وكان حزب الله هم المفلحون كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: ١٧٣).
1 / 21
إن الثقة بوعد الله، والتفاؤل بانتصار دين الله هو مقدمة الفوز والنصر، وإن القوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان، والله ﷾ مع المتقين المخلصين المجاهدين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥)، ووعد الله حق لن يتخلف ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: ١٣٩)، فلا يضعف يقينك، ولا تيأس أخي الداعية مهما أحاطت بك الخطوب، وعظمت بك وبالمسلمين الكروب، واعلم أن الله تعالى منجز وعده.
التقصير في عمل اليوم والليلة
ومن الآفات التي تصيب الداعية فتوهن قوته وتضعفه: تقصيره في عمل اليوم والليلة:
أعني: تقصير الداعية في القيام بوظيفة اليوم والليلة من العبادات النوافل المستحبة كالصلاة، والصيام، والأذكار، ونحوها مما هو مندوب من العبادات؛ فلا يعقل أن يقصر الداعية في الواجبات، ولكن التقصير قد يكون في نوافل العبادات، ومن الصلاة النوافل وقراءة القرآن والأذكار، مع أن ذكر الله ﷿ من أعظم أسباب قوة الداعية المعنوية والحسية، قال الله ﵎: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: ٢٨).
ولما ذهب علي ﵁ مع زوجه فاطمة ﵂ إلى النبي ﷺ يشكوان إليه ما لاقته فاطمة من التعب والنصب والعناء، من حملها ما تحتاج على رأسها، وطحنها
1 / 22
بيدها، وغير ذلك من وظيفة المرأة في بيتها جاءت إلى رسول الله تشكو ما أصابها من التعب والنصب، وتسأله خادمًا يعينها على واجباتها المنزلية، فما كان من النبي ﷺ إلا أن قال لعلي وفاطمة: «ألا أدلّكما على خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى فراشكما عند النوم تسبحان الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان ثلاثًا وثلاثين، وتكبران أربع وثلاثين؛ فذلكما خير لكما من خادم».
قال العلماء: في إرشاد النبي ﷺ عليًّا وفاطمة إلى ذكر الله ﷿ بدلًا من الخادم إشارة إلى أن ذكر الله ﷿ يُعين البدن كما يعين القلب، ولقد كان ﷺ إذا حزبه أمر يقول: «أرحنا بالصلاة يا بلال، أرحنا بالصلاة يا بلال»، والله تعالى قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: ١٤)، ولقد أمر الله ﷾ الدعاة بكثرة ذكره عند المواجهة، فقال لموسى ﵇ وقد كلفه بالذهاب إلى فرعون: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ (طه: ٤٢)، وقال الله تعالى للمؤمنين عند القتال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال: ٤٥).
وإذا كان الداعية يدعو الناس إلى التقرب إلى الله ﷿ بما يُحب من نوافل العبادات؛ فإن الداعية أولى وأحق بذلك أن يكون هو أكثر الناس لله ذكرًا؛ فعلى الداعية أن يُحافظ على الصلوات الخمس في الجماعة، وإن لم يرَ الجماعة واجبة؛ فليحافظ عليها لفضلها، وما يترتب عليها من الأجر والثواب، فصلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته سبعًا وعشرين ضعفًا، ثم إن تواجد الداعية في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة فرصة عظيمة للالتقاء بالناس ودعوتهم وتذكيرهم، واقتراب الداعية من الناس سببٌ لقربهم منه
1 / 23
ومحبتهم له، ولا سيما إن أجاب دعوتهم وقضى حاجتهم وأعطاهم من جاهه ووقته وماله.
وعلى الداعية أن يكون أحرص الناس على التبكير بالرواح إلى المسجد، والمحافظة على السنن الرواتب القبلية والبعدية، ولا سيما التي قال فيها النبي ﷺ: «من صلى لله تعالى ثنتي عشرة ركعة كل يوم بنى الله له بيتًا في الجنة»، وهي ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وعلى الداعية أن يحافظ على الأذكار المشروعة دُبر كل صلاة، وعليه أن يحافظ على أذكار الصباح، وأذكار المساء، وأذكار النوم، وأن يحافظ على الأذكار المطلقة والمقيدة، وأن يكون كما تعلّم من رسول الله ﷺ وقد قال له رجل: «يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فمرني بشيء أتشبّث به، فقال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله».
وعلى الداعية أن يأخذ حظه من صلاة الضحى، تلك الصلاة التي سماها النبي ﷺ "صلاة الأوَّابين" فقد خرج على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال ﵊: «صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال من الضحى».
وعلى الداعية أن يأخذ حظه من قيام الليل، تلك الصلاة التي جعلها الله تعالى دليل الإيمان، وعنوان الإحسان فقال ﷿: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: ١٥ - ١٧) وقال
1 / 24
تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات: ١٥ - ١٨)، ولقد فرّق الله ﵎ بين القائمين والنائمين فقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: ٩).
وعلى الداعية أن يكون شديد الصلة بمصدر دعوته الأول وهو القرآن الكريم فيُعنى به تلاوة وتدبرًا وفهمًا، وعلى الداعية أن يكون له ورد من القرآن كل يوم بحيث يختم كل ثلاثة أو كل أسبوع، ولا يزيد على ذلك ولا يتأخر عن ختم القرآن أكثر من أسبوع؛ فلأن جاز ذلك لعامة المسلمين فلا يجوز للدعاة خاصة، فإن القرآن الكريم هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والصراط المستقيم، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتبعه، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: ١)، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: ٤١، ٤٢)، تلاوته قربة يُتقرَّب بها إلى الله ﷾ وتجارة رابحة وصفها الله ﵎ بعدم البوار والكساد، فقال ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (فاطر: ٢٩، ٣٠).
والنبي ﷺ يقول: «من قرأ حرف من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»، وقال ﵊: «اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي القرآن شفيعًا لصاحبه».
1 / 25
وقال ﷺ: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشّفَعَان»، وقد قال ﵊: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين».
فهذه بعض وظائف اليوم والليلة التي قد يقع فيها تقصير من بعض الدعاة، والتقصير في هذه الوظائف يؤثّر على الداعية معنويًّا، وروحانيًّا، وإنما الداعية بقلبه وروحه لا ببدنه ولسانه، ولذلك كانت هذه الوظائف من أهم الوظائف التي أمر الله ﵎ بها رسوله ﷺ في أول ما كلّفه بالدعوة، اقرءوا إن شئتم سورة المزمل بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ (المزمل: ١ - ٩).
نسأل الله ﵎ أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بسلوكنا وعملنا قبل أن نكون دعاة بأقوالنا، فإن عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وحسبنا قول شعيب ﵇: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: ٨٨).
فهذه أيها الداعية بعض الآفات التي قد تعترضك في طريقك، فتقعدك عن دعوتك، وتجعلك تترك السير في ركاب الدعوة إلى الله ﷿ فكن منها على حذر، والله يحفظك ويعصمك من الزلل هو ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 26
الدرس: ٢ أصول العقيدة (١)
1 / 27