The Critique and Clarification in Dispelling the Illusions of Khuzayran
النقد والبيان في دفع أوهام خزيران
প্রকাশক
مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
প্রকাশনার স্থান
فلسطين
জনগুলি
النقد والبيان
في
دفع أوهام خزيران
فيه بُحوث عِلمِيَّة مُحَرَّرة عن البدعة وبعض مفرداتها، ومُقَدِّمة ضافية (*)
عن (السَّلفِيَّين وقَضِيَّة فلسطين)، و(حكم عَمَليَّات المُغامرة بالنفَّس)
تأليف
مُحَمَّد كامل القَصَّاب ... مُحَمَّد عزّ الدِّين القَسَّام
قدَّمَ لَهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ وَشَرَحَهُ
فضيلة الشيخ الهُمام
أبُو عبيدة مَشهُور بن حسن آل سَلمَان
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: انظر هذه المقدمة مستقلة في الشاملة، عنوانها (السلفيون وقضية فلسطين)، وفيها ترجمة للشيخين القصاب والقسام رحمهما الله تعالى
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عافانا مِمّا ابتلى به كثيرًا مِنْ خلقِه، وأَلْهَمَنا بفضله أن نُحافِظَ على دينه، ونُبَلّغَه للناس، كما أنزل على نبيه، لا مُبَدّلين، ولا مُغَيِّرين، حتى يأتينا اليقين. ونشهد أن لا إله إلا الله، الحميد المَجيد، الذي نادى عبادَه الصادقين بقوله في كتابه المكنون: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: ٢٠-٢١]، ونشهد أن سيّدنا محمدًا عبده ورسوله، نبيُّ الرحمة، وهادي الأمة، وكاشف الحيرة والغمّة، القائل: «من تمسك بسنّتي عند فساد أمتي، فله أجرُ [مئة] شهيد» (١)،
_________
(١) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٢/ ٧٣٩)، وابن بشران في «أماليه» (رقم ٥٠٣، ٧٠١) -ومن طريقه البيهقي في «الزهد» (رقم ٢٠٩) - من طريق الحسن بن قتيبة: أنا عبد الخالق بن المنذر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رفعه، ولفظة (مئة) من مصادر التخريج، وسقطت من الأصول.
وإسناده ضعيف جدًّا، الحسن بن قتيبة، قال الدارقطني: متروك الحديث، وقال الأزدي: واهي الحديث، وقال العقيلي: كثير الوهم، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وتعقبه الذهبي بقوله: «بل هو هالك» . انظر: «الجرح والتعديل» (٣/٣٣)، «الميزان» (١/٥١٨)، «لسان الميزان» (٢/٢٤٦) .
وعزاه المنذري في «الترغيب» (١/٤١) للبيهقي فقط، وهو في «ضعيفه» (رقم ٣٠)، وقال: «ضعيف جدًّا»، قال المنذري بعده:
«ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به، إلا أنه قال: «فله أجر شهيد» . ... =
= ... وتعقبه الحافظ الناجي في «عجالة الإملاء المتيَسّرة» (١/١٩٤ - ط. المعارف): «كذا رواه البيهقي في «المدخل» من حديث أبي هريرة، لكن أوله: «القائم بسنتي»، وآخره: «له أجر مئة شهيد»، ولعل لفظة (مئة) سقطت من الرواية المذكورة، والله أعلم» .
قلت: ومطبوع «المدخل» ناقص، وليس فيه هذا الحديث.
وأخرج حديث أبي هريرة: الطبراني في «الأوسط» (٥/٣١٥ رقم ٥٤١٤) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (٨/٢٠٠) - من طريق محمد بن صالح العدوي: ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي هريرة رفعه: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي، له أجر شهيد» .
قال الطبراني عقبه: «لا يروي هذا الحديث عن عطاء إلا عبد العزيز بن أبي رواد، تفرد به ابنه عبد المجيد» .
وقال الهيثمي في «المجمع» (١/١٧٢) بعد عزوه للطبراني في «الأوسط»: «وفيه محمد ابن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله ثقات» !
قلت: عبد العزيز هو ابن أبي رواد، قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير، فاستحق الترك. ووثقه ابن معين وأبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم، ولذا قال ابن حجر عنه: «صدوق»، وأفرط ابن حبان، فقال: «متروك»، وانظر: «التهذيب» (٦/٣٨١)، «الميزان» (٢/٦٤٨) .
وابنه عبد المجيد، صدوق يخطئ.
قال شيخنا الألباني ﵀ في «السلسلة الضعيفة» (٣٢٧) بعد كلام الهيثمي السابق: «ومنه تعلم قول المنذري: وإسناده لا بأس به، ليس كما ينبغي»، قال: «ويغني عنه حديث: «إنَّ من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم ...» الحديث، وهو مخرج في «الصحيحة» (٤٩٤)» .
قلت: وهذا التعقب يلحق الشيخ عبد الحق لما قال في «لمعات التنقيح» (١/٢٣٨): «إسناده حسن» !!
وضعّفه شيخنا الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب» (١/٣٦ رقم ٣١) و«المشكاة» (١٧٦) ... وفيه عزوه لـ «الشعب» للبيهقي، ولم يعزه في «كنز العمال» (رقم ١٠٧١) إلا للطبراني في «الأوسط»، ولأبي نعيم في «الحلية» .
1 / 2
والقائل: «إنّ الدين بدأ غريبًا، ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سُنَّتي» (١)،
_________
(١) الحديث دون ذكر «الذين يصلحون ...»: أخرجه مسلم في «الصحيح» (كتاب الإيمان): باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب (١/١٣٠ رقم ٤١٥) من حديث أبي هريرة وابن عمر ﵃.
وأخرجه مع تفسيرهم بـ «الذين يصلحون عند فساد الناس»: أبو عمرو الداني في «السنن الواردة في الفتن» (ق٢٥/أو رقم ٢٨٨ - المطبوع)، والآجري (رقم ١) من حديث ابن مسعود، بإسناد صحيح.
وأخرجه أحمد وابنه عبد الله في «المسند» (١/١٨٤)، وأبو يعلى في «المسند» (٢/٩٩ رقم ٧٥٦)، والبزار في «المسند» (رقم ٥٦ - مسند سعد) -دون زيادة-، والدورقي في «مسند سعد» (رقم ٨٧)، وابن منده في «الإيمان» (رقم ٤٢٤) بإسناد صحيح.
وأخرجه مع تفسيرهم بـ «الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله»، وفي لفظ: «الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي»: الترمذي في «الجامع» (رقم ٢٦٣٠)، والطبراني في «الكبير» (١٧ رقم ١١)، وابن عدي في «الكامل» (٦/٢٠٨٠)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (١/٣٥٠)، والبزَّار في «المسند» (رقم ٣٢٨٧ - زوائده)، والهروي في «ذم الكلام» (٥/١٦٨ رقم ١٤٧٩)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (رقم ١٠٥٢، ١٠٥٣)، والبيهقي في «الزهد» (رقم ٢٠٧)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص ٢٣)، وفي «الجامع» (١/١١٢)، وابن عبد البر في «الجامع» (٢/١٢٠)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/١٠)، وعياض في «الإلماع» (ص ١٨-١٩)؛ جميعهم من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده رفعه، وأوله عند الترمذي: «إنّ الدِّين ليأْرِزُ إلى الحجاز كما تأْزِرُ الحيَّةُ إلى جُحرها ...» .
وإسناده ضعيف جدًا، فيه كثير بن عبد الله، ضعيف جدًا، وقد اتّهم!
وأخرجه مع تفسيرهم بـ «النزاع من القبائل»: الترمذي في «العلل الكبير» (٢/٨٥٤)، وابن ماجه في «السنن» (٢/١٣٢٠ رقم ٣٩٨٨)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٣/٢٣٦) -ومن طريقه أحمد، وابنه عبد الله في «المسند» (١/٣٩٨) - وأبو يعلى في «المسند» (رقم ٤٩٧٥)، والآجري في «الغرباء» (رقم ٢)، وابن وضاح في «البدع» (ص ٦٥)، والخطابي في «غريب الحديث» (١/١٧٤-١٧٥)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص ٢٣)، والبغوي في «شرح السنة» (رقم ٦٤)، وابن حزم في «الإحكام» (٨/٣٧)، والطحاوي في= = «المشكل» (١/٢٩٨)، والبيهقي في «الزهد» (رقم ٢٠٨) .
وقال البخاري -نقله عنه الترمذي في «العلل» -: «وهو حديث حسن»، وصححه البغوي. وانظر «السلسلة الصحيحة» (رقم ١٢٧٣) .
1 / 3
صلى الله البر الرحيم على هذا الرسول الكريم، ذي الخلق العظيم، وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فقد اطَّلعنا على رسالة «فصل الخطاب في الرد على الزَّنكلوني والقسام والقصاب» (١) تأليف الفاضل الشيخ محمد صبحي خزيران الحنفي العكّي، رئيس كُتَّاب المحكمة الشرعية في ثغر عكاء، وقد ألّفها انتصارًا لأُستاذه الفاضل الشيخ عبد الله الجزار (٢) مفتي عكاء وقاضيها؛ إذ قد أفتى أحدُنا (٣) لما سُئل عن حكم الصياح في التّهليل والتكبير وغيرِهما، أَمام الجنائز، بأنه مكروه تحريمًا، وبدعةٌ قبيحةٌ، يجب على علماء المسلمين إنكارُها، وعلى كلِّ قادرٍ إزالَتُها، مستدلًاّ بآيةٍ قرآنيةٍ، وحديثٍ صحيحٍ، وأقوالِ الفقهاءِ. وسأل المستفتي عن السؤال نفسه من الفاضل الشيخ عبد الله الجزار، فأفتاه بالجواز، فاضْطُرَّ السَّائلُ إلى إرسال الجوابين إلى عالِمَين من كبار علماء الأزهر (الشيخ محمود محمد خطاب السُّبكي (٤)، والشيخ علي مسرور الزنكلوني)، فأَفْتيا بأنه بدعةٌ منكرةٌ، مؤيِّدَيْن فتوى أحدنا (٥)، وقد نشر العلامة الزنكلوني فتواه على صفحات جريدة «الشورى» التي تصدر في مصر، ولم يكتف ومؤلّفُ الرسالة برأيه
_________
(١) سبقت تراجم هؤلاء في المقدمة.
(٢) ستأتي ترجمته (ص ١٤٦، ١٤٩) .
(٣) هو القسَّام. انظر ما قدمناه (ص ٩٠) .
(٤) ستأتي ترجمته (ص ٢٤) .
(٥) الفتاوى الأربع ذيلنا بها آخر الرسالة (منهما) .
1 / 4
في المسألةِ المُتَنَازَعِ فيها فقط، بل شطَّ قلمُه، وأسند إلينا ما لم نقل به، ولم نعتقده، ورمانا -عفا الله عنه- بالزَّيغ والضلال، لاتّباعنا السنة الموروثة عن النبي ﷺ، في الأقوال والأفعال، وتكلّفَ في تفسير الآياتِ القرآنية والأحاديث النبوية، فأخرجها عن معانيها؛ ليوهم صحة ما ذهب إليه، ويُقرَّ العامةَ على ما هم عليه، وخاض لذلك في القواعد الأصولية خوض من لم يأخذ من العلم بقسط، وخرّج المسائل تخريجًا لا ينطبق على القواعد العلمية، فكانت استدلالاتُهُ دليلًا لنا، وحُجّةً عليه، وداعيةً للتمسكِ بما أرشدْنا النّاسَ إليه.
فرأينا من الواجب انتصارًا للدّين، وحفظًا لشريعة سيد المرسلين، أن نردَّ بهذه الرسالة ما أسند وفنّد، مصدِّرين رسالَتَنا بأقوال علماء المذاهب الأربعة في حكم المسألة المتنازَعِ فيها، ناقلين عباراتِه التي نريد الردَّ عليها بنصِّها وفصِّها، إلا ما تعذَّر نقلُه بالحرف؛ فإننا نشير إلى معناه، وما التوفيق إلا بالله، وهو حسبنا، ونِعمَ الوكيل.
1 / 5
أقوال علماء المذاهب الأربعة في حكم رفع الصوت بالتهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز
أقوال السادة الحنفية:
قال في «الدر المختار شرح تنوير الأبصار»: «وكره في الجنازة رفع الصوت بذكر أو قراءة (١) ا. هـ»، قال محشيه العلامة ابن عابدين: «وفي «البحر» عن «الغاية»: «وينبغي لمن تبع جنازة أن يطيل الصَّمت»، وفيه عن «الظهيرية»: «فإنْ أراد أن يذكرَ الله -تعالى- يذكرُه في نفسه؛ [لقوله -تعالى-: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين﴾ [الأعراف: ٥٥]؛ أي: الجاهرين بالدعاء]»، وعن إبراهيمَ أنه كان يكره أن يقول الرجل وهو يمشي معها: استغفروا له غفر الله لكم ا. هـ. قلت: «وإذا كان هذا في الدُّعاء والذِّكر، فما ظنُّك بالغناء الحادث في هذا الزمان» (٢)
_________
(١) (٢/٢٣٣ - حاشيته)، وفيه: «كما كره فيها رفع صوت بذكر أو قراءة فتح» .
(٢) «حاشية ابن عابدين» (٢/٢٣٣)، وما بين المعقوفتين منه، وإبراهيم هو النخعي، وعلقه البيهقي في «سننه الكبرى» (٤/٧٤) عنه وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير.
وانظر كراهة ابن جبير في «زهد وكيع» (٢/٤٦٣ رقم ٢١٢)، وانظر في المسألة: «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص ٥٧)، «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص ٢٧٠-٢٧١ - بتحقيقي)، «الحوادث والبدع» (١٦٢)، «الأمر بالاتباع» (٢٥٣-٢٥٤ - بتحقيقي)، «المدخل» (٢/٢٢١)، «الطريقة المحمدية» (١/١٣١ - شرح عبد الغني النابلسي)، «البحر الرائق» (٢/٢٠٧ - ط. دار الكتاب الإسلامي أو ٢/٢٣٦ - ط. دار الكتب العلمية)، «الإبداع في مضار الابتداع» (ص ١١٠، ٢٢٥)، «أحكام الجنائز وبدعها» (ص ٧١، ٩٢، ٢٥٠)، «تلخيص الجنائز» (٣٩-٤٠)، «صلاة التراويح» (٢٤)، «معلمة الفقه المالكي» (١٩٧) .
ولقاضي الرباط محمد بن أحمد بن عبد الله، المتوفى بمكة (عام ١٣٨٣-١٩٦٣م): «الصارم المسلول على مخالف سنن الرسول في الرد على من استحسن بدعة الذكر جهرًا في تشييع الجنازة»، انظر: «من أعلام الفكر المعاصر» (٢/٩٢)، «معلمة الفقه المالكي» (١٦٠) .
1 / 6
ا. هـ كلام ابن عابدين، وفي «الفتاوى الهندية»: «وعلى متبعي (١) الجنازة الصمت، ويكره لهم [-يعني: تحريمًا-] رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن، كذا في «شرح الطحاوي»، فإن أراد أن يذكر الله يذكره في نفسه، كذا في «فتاوي قاضي خان»» (٢)، وقال في «الكنز» و«شرحه» «وحواشيه»: «ويكره رفعُ الصوتِ بالذكرِ والقرآنِ، وعليهم -يعني: السائرين مع الجنازة- الصمتَ (٣) . وقولِهِم: (كل حي سيموت) ونحو ذلك، من الأذكار المتعارفة خلف الجنازة بدعة قبيحة» . وقال العلامة الشُّرُنْبلالي في «نور الإيضاح» و«شرحه»: «ويكره رفعُ الصوتِ بالذكرِ والقرآنِ، وعليهم الصمتَ، وقولُهم: (كل حي سيموت) ونحو ذلك خلف الجنازة بدعة» ا. هـ (٤) .
قال العلامة الطحطاوي في «حاشيته» على الكتاب المذكور نقلًا عن السراج: «ولا يرفع صوتَه بالقراءةِ ولا بالذكرِ، ولا يغتر بكثرة من يفعل ذلك، وأما ما يفعله الجهّالُ في القراءة على الجنازة؛ من رفع الصوت، والتمطيط فيه، فلا يجوز بالإجماع، ولا يسع أحدًا يقدر على إنكاره أن يسكت عنه ولا ينكر عليه» (٥) .
_________
(١) في الأصل: «متبع»، والتصويب من «الفتاوى الهندية» .
(٢) «الفتاوى الهندية» (١/١٦٢)، وما بين المعقوفتين زيادة من المصنف.
وأما كلام قاضي خان فهو في «فتاويه» (١/١٩٠ - هامش الفتاوى الهندية) .
(٣) «البحر الرائق» (٢/٢٠٧ - دار الكتاب الإسلامي) أو (٢/٣٣٦ - ط. دار الكتب العلمية) .
(٤) «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح» (ص ١٠١ - ط. المطبعة العلمية) أو (٣٣٢- مع «حاشية الطحطاوي») .
(٥) «حاشية الطحطاوي» (٣٣٢) .
1 / 7
أقوال السادة الشافعية:
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في «مجموعه» (١) و«أذكاره» (٢): «والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفَعُ صَوتٌ بقراءةٍ ولا ذكرٍ ولا غيرِهما؛ لأنه أَسكنُ للخاطر، وأَجمعُ للفكر فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق ولا تغتر بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض: «الزم طرقَ الهدى ولا يغرَّكَ قلَّة السالكين، وإياك وطرقَ الضلالةِ ولا تغترّ بكثرة الهالكين» (٣)، وقد رَوَيْنا (٤)
_________
(١) «المجموع» (٥/٢٩٠-٢٩١)، وسينقل كلامه الرملي في «حواشي المنهاج»، وسيأتي ذكره قريبًا عند المصنف، وانظر ما علقته، والله الموفق.
(٢) «الأذكار» (ص ١٤٥)، والمزبور بحروفه منه.
(٣) ذكره الشاطبي في «الاعتصام» (١/١٣٥ - بتحقيقي)، وفيه: «اتبع طرق ... ولا يضرك قلة ...»، وعزاه النووي في «الأذكار» (٥٨ - ط. دار ابن كثير) إلى الحاكم.
(٤) قال عز الدين بن جماعة في «شرح الأربعين النووية» (ق٥/ب): ... =
= ... «الأكثر يقولون: رَوَيْنا -بفتح الراء مخففة-، مِن روى: إذا نقل عن غيره؛ مثل: ... رمى يرمي، والأجود بضم الراء وكسر الواو مشددة؛ أي: روانا مشايخنا؛ أي: نقلوا لنا فسمعنا» .
وقال ابن المعز الحجازي: إنّ المشهور، هو: رَوَيْنا -بفتح الراء والواو مخففة-. وفي الوجهين يقول الناظم:
وقل رَوَيْنا أو رُوِّينا ضما ... وجهان فيهما فكن مهتما
وهناك في ضبطها قول ثالث ذكر ابن علان عن الكازروني؛ وهو: بضم الراء مبنيًا للمفعول مخففة؛ أي: روى لنا إسماعًا أو إقراء أو إجازة أو غيرها. انظر: «الفتوحات الربانية» (١/٢٩) .
وقد أفرد عبد الغني النابلسي (١١٤٣هـ) ضبط هذه الكلمة في رسالة مفردة، اسمها: «إيضاح ما لدينا في قول المحدثين: روينا»، وهي مِن محفوظات المكتبة الأحمدية بحلب، وهي تقع في خمس ورقات، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نَبِيَّ بعده وعلى آله وأصحابه، وأخص بالزيادة أتْبَاعه وأنصاره وجُنده، أمَّا بَعْدُ: فيقول (أ) شيخنا الإمام العلامة العمدة الهُمَام الفَهَّامة جَنَاب الشيخ عبد الغني الشهير نسبه الكريم بابن النابلسي الدمشقي الحنفي -عامله الله تعالى بلطفه الخفي-:
سألني الكامل الفاضل جامع الفضائل والفواضل محمد أفندي الرومي نائب الشرع الشريف في محروسته دمشق الشام، يوم الخميس، تاسع شهر ربيع الثاني من شهور سنة خمس وعشرين ومئة وألف، حين ورد بالنيابة واجتمعنا به -أحسن الله تعالى قدومه وإيابه، وأجزل ثوابه-: عن معنى قول الإمام العالم العلامة القدوة الكامل الفهامة محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي -رحم الله روحه، ونَوَّر ضريحه- في كتابه «الأربعين»، المشتمل على أحاديث سَيِّد المرسلين ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين، في آخر الحديث (السابع والعشرين) من كتابه المذكور، بعد إيراد لفظ الحديث عن وابصة بن معبد ﵁، قال النووي: «حديث صحيح -وفي نسخة: حسن-، رويناه في ... «مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» بإسناد جيد -وفي نسخة: حسن-، وصورة السؤال: أنّ قوله: «رويناه» في «مسند الإمامين» يقتضي أنّ الإمام النووي مَذْكور في=
-------------------------
(أ) القائل هنا؛ هو: محمد بن إبراهيم الدكدكجي.
= «المسند» الذي للإمامين، مع أنَّ الإمام النووي متأخر عنهما بيقين، والإمامان متقدمان ولم يجتمع بهما ولا بأحدهما، فإنَّ الإمام أحمد بن حنبل وُلد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة، ومات في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين عن سبع وسبعين سنة، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارِمي التميمي السَّمَرْقَنْدي الحافظ من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، ولد سنة إحدى وثمانين ومئة، ومات يوم التروية سنة خمس وخمسين ومئتين.
وأمَّا الإمام النووي، فإنه ولد في محرم سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وتوفي في رجب سنة ست وسبعين وست مئة عن خمس وأربعين سنة، فقلت في الجواب عن ذلك -بعون القدير المالك-: أما قوله: رويناه في «مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» مثل قوله في أول كتابه «الأربعين» قبل الشروع فيه: «فقد روينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري ﵃»، وهم صحابة متقدمون، وهو متأخر عنهم جدًا؛ فإنه على معنى روت لنا مشايخنا؛ أي: نقلوا لنا فسمعنا؛ كما صرح بهذا شارح «الأربعين» الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر المكي الهَيْتَمي، وذكر الشارح -أيضًا- في شرح قوله: «رويناه في «مسند الإمامين»» يعني: رويناه بسندنا المتصل حالة كونه في «مسند الإمامين»، وقال الشارح -أيضًا-: «وقوله رَوَيناه بفتح أوله مع تخفيف الواو عند الأكثر، من رَوَى إذا نقل عن غيره. وقال جمع: الأجود ضم الراء وكسر الواو المشددة؛ أي: روت لنا مشايخنا، فسمعنا عن علي بن أبي طالب ...» إلى آخره.
وذكر الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الهمداني الفَيُّومي ثم الحموي المشهور بابن خطيب الدهشة في كتابه «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، وهو شرح «الوجيز»، تصنيف الإمام الغزَّالي في فقه الشافعية، وشرحه للإمام الرافعي -رحمهم الله تعالى-، قال: «رَوَى البعير الماء، يَرْويه مِن باب: رَمَى فهو رَاوِيَة، الهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت الرَّاوِيَة على كل دابَّة يُسْتَقى الماء عليها، ومنه قيل: رَوَيْتُ الحديث: إذا حَمَلْتَه ونقلتَه، ويُعَدَّى بالتضعيف، فيقال: رَوَّيْت زيدًا الحديث، ويُبْنى للمفعول، فيقال: رُوِّينَا الحديث» . انتهى كلامه.
وعلى هذا؛ فإذا حمل قول النووي -رحمه الله تعالى-: فقد روينا عن علي بن أبي طالب ... إلى آخره، بتشديد الواو مبنيًا للمفعول؛ يعني: رَوَّانا مشايخنا ذلك -بتشديد الواو-= =بأن كان الشيخ الأول رَوَّى -بتشديد الواو- مَنْ بَعْده، والذي بعده رَوَّى -بتشديد الواو- مَنْ بعده إلى آخر شيخ هو روَّانا -بتشديد الواو-، فعلى هذا؛ يُقْرأ قوله: فقد رُوِّينَا بضم الراء وتشديد الواو مكسورة وضم الهاء مبنيًا للمفعول، ولا يختلف رسم الكتابة في ذلك.
وأمّا قوله: بإسناد جيد أو حسن، بعد قوله: رويناه في «مسند الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي» فالجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال من الهاء في قوله: رويناه، كما أنّ قوله: في «مسند الإمامين»، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف حال -أيضًا- من الهاء في قوله: رويناه، كما أشار إليه الشارح فيما قدمناه، فيكون الحالان من الهاء الضمير المنصوب بالمفعولية الثانية لرَوَّى -مشدد الواو-، والمفعول الأول: نا، التي هي ضمير المُعَظِّم نفسه بشرف الرواية، أو هو ومعه غيره من أصحابه، وهذه الحال متداخلة، وتقدير ذلك: رُوِّيناه حال كونه في «مسند الإمامين»، وحال كونه وهو من «مسند الإمامين» حاصلًا بإسناد جيد. ويصح أن يكون الجار والمجرور الثاني وهو قوله: «بإسناد جيد» متعلقًا بقوله: حديث صحيح، إمَّا بحديث، وإما بصحيح، وليس هذا الجار والمجرور الأول متعلقًا برويناه؛ لأنّ إسناده هو لم يُرِد الإخبار عنه بأنه جيد، ولم يرد ذكره، وإنما أراد بالإسناد الجيد: إسناد الإمام أحمد والدارمي، يدل عليه قول الشارح المذكور: فإنْ قلتَ: ما حِكْمة قول المصنف أولًا: حديث صحيح، وقوله هنا: بإسناد جيد؟ قلت: حكمته: أنه لا يلزم من كون الحديث في «المسندين» المذكورين أن يكون صحيحًا، فبين أولًا بأنه صحيح، وثانيًا: أنّ سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين الذين أخرجاه صحيح أيضًا، وله حكمة أخرى حديثية؛ وهي: ما صرحوا به أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، فقد يصح فيه السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن؛ لشذوذ فيه أو علة، فنص المصنف أولًا: على صحة المتن بقوله: «هذا حديث صحيح»، وثانيًا: على صحة السند بقوله: «بإسناد جيد» إلى آخر ما بسطه من الكلام في هذا المقام.
والحاصل: أنّ قول الإمام النووي ﵀ هنا: روَيناه -بفتح الواو وتخفيفها- مبنيًا للفاعل؛ يعني: روينا عن مشايخنا أو بإسنادنا هذا الحديث الكائن في «مسند الإمامين» المذكور ثمة بإسناد جيد، أو معناه: رُوِّيناه -بتشديد الواو- مبنيًا للمفعول؛ أي: رَوَّى -بتشديد الواو- هذا الحديث لنا مشايخنا الكائن ذلك الحديث في «مسند الإمامين»، كما أن قوله: فقد رَوَيْنا -بتخفيف الواو مفتوحة- والبناء للفاعل؛ أي: روت لنا مشايخنا بإسناد متصل عن علي بن أبي طالب ... إلى آخره، أو معناه: رُوِّينا -بتشديد الواو مكسورة- مبنيًا= =للمفعول؛ أي: رَوَّتْنا -بتشديد الواو مفتوحة- مشايخنا عن علي بن أبي طالب ... إلى آخره، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة في الخامس عشر من ربيع الثاني سنة خمس وعشرين ومئة وألف على يد العبد الفقير محمد بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن الدكدكجي الدمشقي الحنفي -لطف الله به والمسلمين-، وذلك في مجلس واحد، ونقلتها مِن خط مؤلفها شيخنا الإمام الهمام العلامة -نفعنا الله تعالى والمسلمين ببركاته، وأمدنا بصالح دعواته-.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين» .
قال أبو عبيدة: انتهت الرسالة النافعة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
1 / 8
في «سنن البيهقي» (١)
_________
(١) يشير إلى ما أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم ٢١١) -وعنه ابن أبي شيبة (٤/٩٩)، ومن طريق وكيع: البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٧٤)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨/٩١) - وابن المنذر في «الأوسط» (٥/٣٨٩ رقم ٣٠٥٦) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، كلاهما قال: حدثنا هشام صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد، قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يكرهون رفع الصوت عند الجنائز، وعند القتال، وعند الذكر.
وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (٨٣ رقم ٢٤٧)، وأبو نعيم في «الحلية» (٩/٥٨) من طريق هشام، به. ومن طريقه عند أبي داود (٣/١١٤)، والحاكم (٢/١١٦) مختصرًا مقتصرًا على ذكر القتال، ورجاله ثقات، وهذا أصح ما ورد في الباب.
ومما جاء في ألفاظ حديث البراء الطويل: «خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة، فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا، كأنَّ على رؤوسنا الطير» أخرجه ابن ماجه (١٥٤٩) بسند حسن، وتتمة تخريجه في غير هذا الموطن، وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على «التذكرة» للقرطبي، يسر الله إتمامه وإخراجه.
وفي الباب عن ابن عباس، قال: «إن رسول الله ﷺ كان إذا شهد جنازة رُئِيَتْ عليه كآبة، وأكثر حديث النفس» أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١/١٠٦ رقم ١١١٨٩)، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، كما في «المجمع» (٣/٢٩) .
= ... وفي الباب عن عبد العزيز بن أبي رواد رفعه، عند ابن المبارك في «الزهد» (رقم ٢٤٤)، وعن عمران بن الحصين، قال: كان رسول الله ﷺ إذا شيع جنازة علاه كرب، وأقلّ الكلام، وأكثر حديث النفس. أخرجه الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (١/٢٠٣)، وتفرد به المعلى ابن تُركة، وليس بالقوي، أفاده الدارقطني.
وعن زيد بن أرقم رفعه: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث: ... وعند الجنازة» . أخرجه الطبراني في «الكبير» (٥/٢١٣ رقم ٥١٣٠)، وفي إسناده رجل لم يسم، قاله الهيثمي في «المجمع» (٣/٢٩) .
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٢٦ - بتحقيقي) من طريق أبي النضر، وأبو داود في «المراسيل» (ص ٣٠٨) من طريق مسكين بن بكير، كلاهما عن المسعودي، عن عون بن عبد الله، قال: كان رسول الله ﷺ إذا اتبع جنازة، عَلَتْهُ كآبة، وأكثر حديث النفس، وأقلّ الكلام.
إسناده ضعيف؛ لإرساله. ورجاله ثقات، أبو النضر هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي، ثقة فقيه، لقبه قيصر، وسماعه وسماع مسكين من المسعودي بعد اختلاطه، والمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، ترجمته في «تهذيب الكمال» (١٧/٢١٩)، وعون بن عبد الله هو ابن عتبة بن مسعود الهُذلي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة عابد، تابعي، مات قبل سنة عشرين ومئة.
وأخرجه وكيع في «الزهد» (رقم ٢٠٦)، وعنه ابن أبي شيبة (٤/٩٨)، وعبد الرزاق (٣/٤٥٣ رقم ٦٢٨٢)، كلاهما في «المصنف» عن ابن جريج، قال: حُدِّثت أن النبي ﷺ كان إذا تبع الجنازة أكثر السُّكات، وأكثر حديث نفسه. لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: «أكثر السكوت، وحدث نفسه» .
وهذا معضل.
ووصله أبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (١/١٦٦) من طريق الثوري وابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «كان النبي ﷺ إذا تبع جنازة، أكثر السكات، والتفكر حتى يعرف ذلك فيه»، ورجاله ثقات، إلا أن فيه أبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، مدلس، وقد عنعن.
1 / 9
ما يقتضي
ما قلتُه، وأما ما يفعله الجهلةُ من القراءة بالتَّمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام بإجماع العلماء، وقد أوضحتُ قُبحَه، وغِلَظَ تحريمه، وفسقَ من تمكن من إنكاره فلم ينكرْه في كتابي «آداب القراء» (١)
_________
(١) يريد كتابه «التبيان في آداب حملة القرآن»، ويشير إلى ما جاء فيه (ص ٥٦ - ط. دار ابن كثير)، وسيأتي الكلام برمته (ص ١١٠-١١١) .
ونقله شيخنا الألباني في «أحكام الجنائز» (ص ٩٢)، وقال قبله مؤكدًا بدعة رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة: «ولأنَّ فيه تشبُّهًا بالنصارى، فإنَّهم يَرْفَعُون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين.
وأقبح من ذلك تشييعُها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفًا حزينًا، كما يُفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليدًا للكفار، والله المستعان» .
1 / 10
ا. هـ»، ونحوه لشيخ الإسلام في «شرح الروض» (١)، وقال الرملي وغيره في «حواشي المنهاج» (٢): «المختار والصواب (٣) ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير [مع الجنازة] (٤)، فلا يُرفعُ صوتٌ بقراءة، ولا ذكر، ولا غيرهما، بل يُشتَغَلُ بالتفكر في الموت وما بعده، وفَناءِ الدنيا وأن هذا آخرُها، ومن أراد الاشتغال بالقراءة والذكر فليكن سرًّا (٥)، وما يفعله جهلةُ القرَّاء من القراءة بالتمطيط، وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام، يجب إنكارُه (٦) والمنعُ منه، ومن تمكَّن من منعه، ولم يمنعه فسق»، وقال ابن حجر في «شرح المنهاج» (٧): «ويكره اللغط -وهو: رفع الصوت- ولو بالذكر أو القراءة في المشي مع الجنازة؛ لأنّ الصحابة ﵃ كرهوه حينئذ، رواه البيهقي (٨)،
_________
(١) نقل الشيخ زكريا الأنصاري في «شرح روض الطالب» (١/٣١٢) كلام النووي السابق إلى قوله: «وهو المطلوب في هذا الحال» .
(٢) (٣/٢٣) من «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج»، وفي المطبوع: «حواشي المنهج» ! وللرملي «حواشٍ» على مطبوع «شرح روض الطالب» ! والكلام المذكور ليس فيه، وإنما هو في «النهاية» .
(٣) بعدها في «النهاية»: «كما في «المجموع»» .
(٤) لا وجود لها في «نهاية المحتاج» .
(٥) في «نهاية المحتاج»: «ويسنّ الاشتغال ... سرًا» .
(٦) أي: وليس ذلك خاصًا بكونه عند الميت، بل هو حرام مطلقًا؛ أي: عند غسله وتكفينه ووضعه في النعش، وبعد الوصول إلى المقبرة إلى دفنه، ومنه ما جرت به العادة الآن من قراءة الرؤساء ونحوهم، أفاده الشبراملسي في «حاشيته على نهاية المحتاج» (٣/٢٣)، = =وعبد الحميد الشرواني وأحمد بن القاسم العبادي في «حاشيتيهما على تحفة المحتاج» (٣/١٨٧، ١٨٨) .
(٧) (٣/١٨٧-١٨٨ - مع «حواشي الشرواني والعبادي») .
(٨) يشير إلى ما خرجناه بالتفصيل قريبًا من قول قيس بن عُباد، فانظره -غير مأمور- (ص ١١) ..
1 / 11
وكره الحسن وغيره: استغفروا لأخيكم (١)،
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣/٢٧٤) .
ونقل مذهب الحسن: البيهقي في «سننه» (٤/٧٤)، وابن قدامة في «المغني» (٢/٤٧٦)، وابن المنذر في «الأوسط» (٥/٣٨٩)، والنووي في «المجموع» (٥/٢٩١)، وشيخه أبو شامة المقدسي في «الباعث» (ص ٢٧٥)، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (ص ٢٥٤) .
وانظر «موسوعة فقه الحسن البصري» (٢/٨٥٨-٨٥٩) .
وأسند البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٧٤) و«الشعب» (رقم ٩٢٧٧) إلى الأسود ابن شيبان، قال: كان الحسن في جنازة النضر بن أنس، فقال الأشعث بن سليم العجلي: يا أبا سعيد! إنه ليعجبني أن لا أسمع في الجنازة صوتًا، فقال: إن للخير أهلين.
وأخرج عبد الرزاق (٣/٤٣٩ رقم ٦٢٤١، ٦٢٤٢) وابن أبي شيبة (٣/٢٧٤) في «مصنفيهما»، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٥/١٤١) بسندٍ صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه قال في مرضه: «إياك وحاديهم، هذا الذي يحدو لهم، يقول: استغفروا الله، غفر لكم» .
وذكره عنه: البيهقي في «سننه» (٤/٧٤)، والذهبي في «السير» (٤/٢٤٤)، وأبو شامة في «الباعث» (٢٧٥)، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (٢٥٣) .
وقال ابن المنذر في «الأوسط» (٥/٣٨٩-٣٩٠): «وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له، = =قال عطاء: محدثة، وقال الأوزاعي: بدعة، وقال النخعي: كانوا إذا شهدوا جنازة، عرف ذلك فيهم ثلاثًا» .
وقال (٥/٣٩٠): «ونحن نكره من ذلك ما كرهوا» .
ولذا اقتصر في كتابه القيم «الإقناع» (١/١٧٥) على قوله: «ويكره رفع الصوت عند حمل الجنائز»، وقال النووي في «المجموع» (٥/٢٩٠): «وقد أفرد ابن المنذر في «الإشراف» ... بابًا في هذه المسألة» . قلت: لا توجد في القسم المطبوع منه، وهو ناقص، ولا قوة إلا بالله.
وأما الكراهية عن سعيد بن جبير، فقد أخرج وكيع في «الزهد» (٢/٤٦٣ رقم ٢١٢)، وعبد الرزاق (٣/٤٣٩-٤٤٠ رقم ٦٢٤٣)، وابن أبي شيبة (٤/٩٧) عن سعيد بن جبير، أنه كره رفع الصوت عند الجنازة. وإسناده صحيح. وذكرها البيهقي في «سننه» (٤/٧٤) .
وأما كراهة الحسن وابن المسيب، فقد تقدم تخريجها عنهما.
وأما كراهة النخعي، فقد أخرجها ابن أبي شيبة (٣/٢٧٣)، وذكرها البيهقي (٤/٧٤) .
وأما قوله: «كانوا إذا شهدوا جنازة ...» فقد أخرجها وكيع في «الزهد» (رقم ٢٠٧) -ومن طريقه أحمد في «الزهد» -أيضًا- (٣٦٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٤/٢٢٧-٢٢٨) - وابن أبي شيبة (٧/٢٠٨)، وعبد الرزاق (٣/٤٥٣ رقم ٦٢٨٣) في «مصنفيهما»، وابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣٠ - بتحقيقي)، وابن المبارك (رقم ٢٤٦)، وأحمد (٣٦٥)، كلاهما في «الزهد»، وأبو نعيم في «الحلية» (٤/٢٢٨)، وهو صحيح عنه.
وحكاه أبو شامة في «الباعث» (٢٥٣)، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (٢٧٥) نحوه عن الفضيل بن عياض قوله.
وأخرج ابن أبي شيبة (٣/٢٧٣) عن عطاء، أنه كره أن يقول: استغفروا له، غفر الله لكم، وذكر مذهبه: النووي في «المجموع» (٥/٢٩١)، وابن قدامة في «المغني» (٢/٤٧٩)، وذكر كراهية إسحاق: أبو شامة في «الباعث» (٢٧٥)، وتلميذه النووي في «المجموع» (٥/٢٩١)، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (٢٥٤) .
وأما كراهية أحمد، فستأتي -قريبًا- عند المصنِّفَيْن، تحت عنوان: (أقوال السادة الحنابلة) .
وأما مذهب الأوزاعي، ففي «المجموع» (٥/٢٩١)، و«المغني» (٢/٤٧٩)، و«فقه= =الإمام الأوزاعي» (١/٣٢٠) .
وأخرج البيهقي في «الشعب» (٧/١١-١٢ رقم ٩٢٧٦) بسنده أن ابن عيينة سئل: ما بال الناس يؤمرون في الجنازة بالسكوت؟ قال: لأنه حشر. ووجدته -بعد- مطولًا عند ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٥٨ - بتحقيقي) .
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٥٧) عن الأعمش، قال: «أدركت الناس إذا كانت فيهم جنازة، جاؤوا فجلسوا صموتًا لا يتكلمون، فإذا وضعت نظرتُ إلى كل رجل واضعًا حبوته على صدره، كأنه أبوه أو أخوه أو ابنه» .
وأسند -أيضًا- برقم (٥٦) عن أبي قلابة، قال: كانوا يعظّمون الموت بالسكينة.
وأسند برقم (٣٩) إلى سلام بن أبي مطيع، قال: شهدتُ قتادة في جنازة، فلم يتكلم حتى انصرف، وشهدت الجريري في جنازة، فلم يزل يبكي حتى تفرّق القوم، وشهدت محمد ابن واسع في جنازة، فلم يزل واضعًا أصبعه السبابة على نابه، مقنَّع الرأس، مطرقًا ما يلتفت يمينًا ولا شمالًا حتى انصرف الناس، وما يشعر بهم.
وأسند برقم (٤٠) -أيضًا- إلى قتادة، قال: شهدتُ خليدًا العصري في جنازة، مقنَّع رأسه، لم يتكلم حتى دفن الميت، ورجع إلى أهله.
1 / 12
ومن ثَمَّ قال ابن عمر ﵄ لقائله: «لا غفر الله لك» (١): بل يسكت متفكرًا في الموت وما يتعلق به وفناءِ الدنيا، ذاكرًا بلسانه سرًا لا جهرًا؛ لأنه بدعة قبيحة» .
وفي «المجموع» (٢) عن جمع من الصحابة (٣)،
_________
(١) ذكره أبو شامة في «الباعث» (٢٧٦ - بتحقيقي) عن ابن عمر، وعلق عليه بقوله: «وإنما كره ذلك: لما فيه من التشويش على المشيّعين، الموَفَّقين المفَكِّرين في أحوالهم ومعادهم» .
قال أبو عبيدة: فإباية ابن عمر وإنكارُه عليه ليس من جهة أصل الدعاء، ولكن من جهة أخرى؛ وهي التشويش والجهر، أو أن يُعتقد أنه سنة تُلزم، أو تجري في الناس في مجرى السنن اللازمة، أو أن يُعتقد في الداعين أمر زائد، أو أنه وسيلة إلى أن يُعتقد فيهم أنهم مجابوا الدعوة، ولذا أنكر جمع من السلف من الصحابة ومَنْ بعدهم على من طلب وألح في الدعاء لهم، كما تراه في «الاعتصام» للشاطبي (٢/٣١٥-٣١٩)، و«تالي التلخيص» للخطيب (رقم ١١٥)، و«المجالسة» (٤/٧١-٧٢) وتعليقي عليها، وانظر: «تفسير القرطبي» (٩/٢٨٧) (الرعد: ٨)، «الحكم الجديرة بالإذاعة» (ص ٥٤-٥٥) لابن رجب، «قاعدة جليلة» (ص ٧١ - ط. الشيخ ربيع)، «إعلام الموقعين» (٥/٨ - بتحقيقي) «معجم المناهي اللفظية» = = (ص ٣٨ - ط. الأولى) و«تصحيح الدعاء» (٢٢٦) كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.
وأما أثر ابن عمر، فسيأتي معزوًا لـ «سنن سعيد بن منصور»، وهو ليس في القسم المطبوع منه، إذ هو ناقص.
(٢) (٥/٢٩١)، والمذكور عند المصنف بفحواه ومعناه، دون نصِّه ومبناه.
(٣) أورد النووي أثر قيس بن عُباد، المتقدم ذكره وتخريجه (ص ١١) .
وأثر الحسن البصري: قال: «وذكر الحسن البصري عن أصحاب رسول الله S أنهم يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند قراءة القرآن، وعند القتال» .
قلت: أخرجه عبد الرزاق (٣/٤٥٣ رقم ٦٢٨١) -ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (٥/٣٨٩ رقم ٣٠٥٧) - عن معمر، عن الحسن بنحوه. وفي رواية عند ابن أبي شيبة (٣/٢٧٢) من طريق علي بن زيد -وهو ضعيف- عن الحسن مرسلًا، وإسناده ضعيف.
ومما يساعد عليه: ما أخرجه ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣١ - بتحقيقي)، والبيهقي في «الشعب» (٧/١١ رقم ٢٩٧٣) عن ثابت البناني، قال: إن كنا لنتبع الجنازة، فما نرى إلا متقنعًا باكيًا، أو متقنعًا مفكرًا. وثابت أدرك أنسًا وغيره.
ويشوش على هذا: ما أخرجه عبد الرزاق (٣/٤٤٠ رقم ٦٢٤٤) -ومن طريقه ابن المنذر (٥/٣٩٠ رقم ٣٠٥٨) - بسنده إلى عكرمة مولى ابن عباس، قال: توفي ابن لأبي بكر، كان يشرب الشراب، قال أبو هريرة: استغفروا له، فإنما يستغفر لمسيء عمله.
والجواب عليه من وجهين:
الأول: في سنده الحكم بن أبان فيه كلام، وهو من رجال «الميزان» (١/٥٦٩) .
والثاني: قال ابن المنذر: «قد يجوز أن يكون معنى قول أبي هريرة صياحهم: استغفروا له، فيما بينكم وبين أنفسكم، خلاف البدعة التي أحدثها الناس من رفع الصوت بالاستغفار» !
1 / 13
أنهم كرهوا رفع الصوت عند الجنازة، حتى باستغفروا الله، بل قال ابن عمر لمن سمعه يقوله: لا غفر الله لك. رواه سعيد بن منصور في «سننه» (١) .
أقوال السادة المالكية:
قال العلامة ابن الحاج في كتاب «المدخل» (٢)
_________
(١) انظر ما قدمناه قريبًا.
(٢) (٣/٢٥٠-٢٥١)، والكتاب لأبي عبد الله محمد بن محمد بن العبدري الفاسي (ت ٧٣٧هـ)، واسمه: «المدخل إلى تتمة الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها»، مدحه ابن حجر في «الفتح» (١٠/٣٤٠، ٣٤٣) بقوله: «وهو كتاب كثير الفوائد، كشف فيه عن معايب وبدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها، وأكثرها مما ينكر، وبعضها مما يحتمل» .
قال أبو عبيدة: والكتاب احتوى أحاديث موضوعة، وحكايات مكذوبة، وشطحات منكرة، وشركيات وبدع، وانظر عنه -لزامًا-: «السراج لكشف ظلمات الشرك في مدخل ابن الحاج» لعبد الكريم الحميد، و«الحاوي للفتاوي» للغماري (٣/٧-٨)، و«أحكام الجنائز» (ص ٣٣٦) لشيخنا الألباني، وكتابي «كتب حذر منها العلماء» (١/٣١١-٣١٢) .
وكلام ابن الحاج تصرف فيه المؤلفان كثيرًا، فاقتضى التنويه.
1 / 14
ما ملخصه: العجب من أصحاب الميت، حيث يأتون بجماعة يذكرون أمام الجنازة، وهو من الحدث في الدين، ومخالف لسنَّة سيد المرسلين، وأصحابه والسَّلف الصَّالحين، يجب على من له قدرة على منعهم أن يمنعهم مع الزجر والأدب؛ لمخالفتهم للشريعة المطهرة، ولأنه ضد ما كانت عليه جنائز السلف الماضين؛ لأنّ جنائزهم كانت على التزام الأدب والسكون والخشوع، حتى إن صاحب المصيبة كان لا يعرف من بينهم؛ لكثرة حزن الجميع (١)، وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكرة فيما هم إليه صائرون، وعليه قادمون (٢)،
_________
(١) أخرج وكيع في «الزهد» (٢/٤٦٠ رقم ٢٠٨) وعنه ابن أبي شيبة في «المصنف»، وأحمد في «الزهد» (٣٦٥)، وابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣٢ - بتحقيقي)، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/٥٠) بإسناد صحيح عن الأعمش، قال: إن كنا لنتبع الجنازة، فما ندري مَن نعزّي من حزن القوم. وانظر «الباعث» (ص ٢٧٧ - بتحقيقي) لأبي شامة المقدسي.
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٢٣) عن حوشب بن مسلم، قال: لقد= =أدركت الميت يموت في الحي، فما يعرف حميمه من غيره من شدّة جزعهم، وكثرةِ البكاء عليه، قال: ثم بقيت، حتى فقدتُ عامّة ذلك.
وحوشب بن مسلم الثقفي، مولى الحجاج، كان من العُبّاد، ممن يقص، له ترجمة في «التاريخ الكبير» (٣/١٠٠)، و«ثقات ابن حبان» (٦/٢٤٣) .
(٢) أخرج وكيع (٢/٤٦٠ رقم ٢٠٨) وأحمد (٣٦٥) كلاهما في «الزهد»، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/٥٠) بسند صحيح، أن أسيد بن حضير كان يقول: ما شهدتُ جنازةً، فحدثت نفسي بشيء سوى ما هو مفعول بها، وما هي صائر إليه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣٦) بسنده إلى صالح المري، قال: أدركت بالبصرة شبابًا وشيوخًا يشهدون الجنائز، يرجعون منها كأنهم نُشِروا من قبورهم، فيُعرف فيهم -والله- الزيادة بعد ذلك.
وأخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣٤، ٥٩ - بتحقيقي) عن عامر بن يساف، قال: كان يحيى بن أبي كثير إذا حضر جنازة، لم يتعشّ تلك الليلة، ولم يقدر أحد من أهله يكلمه من شدّة حزنه. وإسناده لا بأس به. وذكره ابن حبان في «ثقاته» (٧/٥٩٢)، وعنه الذهبي في «السير» (٦/٢٨)، وانظر أثر حوشب في الهامش السابق.
1 / 15
حتى لقد كان بعضهم يريد أن يلقى صاحبه لضرورات تقع عنده، فيلقاه في الجنازة، فلا يزيد على السلام الشرعي شيئًا (١)؛ لشغل كل منهما بما تقدم ذكره، وبعضهم لا يقدر أن يأخذ الغِذَاء تلك الليلة لشدة ما أصابه من الجزع (٢)، كما قال الحسن البصري ﵁: «ميت غد يشيِّع ميتَ اليوم» (٣)،
_________
(١) أخرج ابن المبارك في «الزهد» (رقم ٢٤٥) بسنده إلى بديل، قال: كان مطرّف يلقى الرجل من خاصة إخوانه في الجنازة، فعسى أن يكون غائبًا، فما يزيد على التسليم، ثم يعرض اشتغالًا بما هو فيه.
وذكره أبو شامة في «الباعث» (٢٧٧)، والسيوطي في «الأمر بالاتباع» (٢٥٥) .
(٢) أخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٣٨ - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٥٦/١٧٠) - بسند لا بأس به، عن محمد بن واسع، أنه حضر جنازة، فلما رجع إلى أهله، أُتي بغدائه، فبكى، وقال: هذا يوم منغَّص علينا نهاره، وأبى أن يَطْعَم. وانظر أثر يحيى بن أبي كثير في الهامش قبل السابق.
(٣) ظفرتُ بنحوه عن أبي الدرداء.
أخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم ٢٨ - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٧/١٩٣ - ط. دار الفكر) - من طريق يحيى بن جابر، قال: خرج أبو الدرداء إلى جنازة، وأتى أهل الميت يبكون عليه، فقال: مساكين، موتى غدٍ يبكون على ميت اليوم.
وإسناده ضعيف، يحيى بن جابر لم يدرك أبا الدرداء.
وأما أثر الحسن، فقد ورد بمعناه.
أخرج ابن أبي الدنيا في «القبور» -أيضًا- (رقم ٣٥) عن مالك بن دينار، قال: كنا مع الحسن في جنازة، فسمع رجلًا يقول لآخر: من هذا الميت؟ فقال الحسن: هذا أنا وأنت رحمك الله، أنتم محبوسون على آخرنا، حتى يلحق آخرنا بأوّلنا. وهو في «الموت» لابن أبي الدنيا -أيضًا- (رقم ٥٥٨ - بتجميعي)، وانظر نحوه عنه في «القبور» (رقم ١٩٨ - الملحق)، وهو عند ابن رجب في «أهوال القبور» (رقم ٥٤٤) .
1 / 16
وانظر -رحمنا الله تعالى وإياك- إلى قول عبد الله بن مسعود ﵁ لمن قال في الجنازة: استغفروا لأخيكم؛ يعني: الميت، فقال له: لا غفر الله لك (١) . فإن كان هذا حالهم في تحفظهم من رفع الصوت بمثل هذا اللفظ الدال على طلب الدعاء من الحاضرين للميت، فما بالك بما يفعله أهل هذا الزمان من رفع الأصوات بنحو قراءة القرآن أو البردة (٢)،
_________
(١) المأثور في ذلك عن ابن عمر لا ابن مسعود، وهو معزو لـ «سنن سعيد بن منصور»، وهو غير موجود في القسم المطبوع منه.
(٢) قصيدة مشهورة جدًا، ألفها محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري (ت ٦٨٤هـ)، وتسمى «قصيدة الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، اعتنى العلماء بتشطيرها ومعارضتها، والتعليق عليها، وأفردها غير واحدٍ بنقدٍ خاص، ولا سيما في الأمور التي تخص العقيدة، انظر أبياتًا منتقدة منها في «القول المفيد على كتاب التوحيد» (١/٨١-٨٢، ١٨٤-١٨٥، ٤٧٦)، و«مظاهر الانحرافات العقدية» (١/٤٢٨-٤٣٠)، وممن انتقدها بكتاب مفرد: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، له «هذا بيان المحجة في الرد= =على صاحب اللجة» مطبوع ضمن «مجموعة التوحيد» (الرسالة الثالثة عشرة، ص ٤٣٥-٥٤٢)، والشيخ عبد البديع صقر، وشيخنا محمد نسيب الرفاعي ﵀، ولأبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري «نقد قصيدة البردة» مطبوع آخر «رفع الإشكال عن مسألة المحال» . وانظر عن هذه القصيدة: «المدائح النبوية» لزكي مبارك (ص ١٩٧-١٩٨)، «المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة» لمحمد بن سعد بن حسين (ص ٥٤-٧٤)، «كشف الظنون» (٢/١٣٣١-١٣٤٩)، «هدية العارفين» (٢/١٣٨) .
وانظر عن نقدها -مجملًا- مقالة أخينا الشيخ السلفي محمد المغراوي المنشورة في مجلتنا «الأصالة» (العدد الخامس عشر/١٥/ذي القعدة/سنة ١٤١٥هـ) (ص ٧٥-٨٨) بعنوان (حول قصيدة البردة)، وكتابنا «شعر خالف الشرع»، يسر الله إتمامه بخير وعافية.
وانظر عنها «الأدب في التراث الصوفي» لمحمد عبد المنعم خفاجي (ص ٢٥٣-٢٥٨) . وانظر عن بدعية التزام (البردة) و(الشقراطسية) أمام الجنائز، وفي حلق الذكر في: «عدة المريد الصادق» (ص ٥٥١) للشيخ زروق، وكتابنا «شعر خالف الشرع» .
1 / 17
فأين الحال من الحال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فيجب على من له عقل أن لا ينظر إلى أفعال أكثر أهل الوقت، ولا لعوائدهم، فالسعيد من نبذ هذه العوائد المبتدعة، وشد يده على أتباع السلف؛ فهم القوم لا يشقى من اتبعهم، ولا من أحبهم، (إن المحب لمن يحب مطيع)، ولقد أطال ﵀ في التشنيع على ما يقع من بعض الناس، من رفع الصوت بالذكر ونحوه أمام الجنائز ا. هـ» (١) .
أقوال السادة الحنابلة:
قال في «دليل الطالب» (٢) و«شرحه» (٣): «ويكره رفع الصوت، والصيحة معها، وعند رفعها [-يعني: الجنازة-] (٤)، ولو بالذِّكر والقرآن، [بل يسنُّ الذِّكر والقرآن سرًا] (٥)، ويسنُّ لمتَّبعها أن يكون متخشِّعًا متفكِّرًا في مآله، متَّعظًا بالموت وبما يصير إليه الميت، وقول القائل مع الجنازة: (استغفروا [الله] (٦) له) ونحوه، بدعة عند الإمام أحمد، وكرهه وحرمه أبو حفص، ويحرم أن يتبعها مع منكر وهو عاجز عن إزالته» ا. هـ.
_________
(١) وممن نص على كراهية ذلك -أيضًا-: الشيخ الدردير في «الشرح الكبير» (٤/٤٢٣)، فذكر من المخالفات: «وقول -أي: متبعي الجنازة-: استغفروا لها»، قال الدسوقي: «وذلك كما يقع بمصر، يمشي رجل قدام الجنازة، ويقول: هذه جنازة فلان استغفروا له»، وفي «تقريرات عليش» تعليل لذلك، فقال: «لمخالفة السلف» .
(٢) (ص ٦٢ - ط. الأولى عن المكتب الإسلامي) وعليه «حاشية العلامة الشيخ محمد بن مانع» .
(٣) المسمى «نيل المآرب» (١/٢٢٩-٢٣٠) .
(٤) ما بين المعقوفتين زيادة توضيحية من المصنِّفَيْن.
(٥) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وأثبته من «نيل المآرب» .
(٦) ما بين المعقوفتين زيادة من المصنِّفَيْن.
1 / 18
وقال في «الإقناع» (١) و«شرحه» (٢) للشيخ منصور الحنبلي: (ويكره رفع الصوت والضجة عند رفعها)؛ لأنه محدث، (وكذا) رفع الصوت (معها) -أي: مع الجنازة- (ولو بقراءة أو ذكر)؛ لنهي (٣) النبي ﷺ أن تتبع الجنازة بصوت أو نار. رواه أبو داود (٤)، (بل يسنُّ) القراءة والذِّكر (سرًّا)، وإلا الصمت. ا. هـ.
_________
(١) (١/٤٠٥) (منهما) .
(٢) المسمى «كشاف القناع» (٢/١٣٠) .
(٣) في المطبوع: «لقول»، والمثبت من «كشاف القناع» .
(٤) أخرجه أبو داود (٣١٧١)، وأحمد (٢/٤٢٧، ٥٢٨، ٥٣٢)، والبيهقي (٣/٣٩٤-٣٩٥)، وابن الجوزي في «الواهيات» (١٥٠٤) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تُتْبع الجنازة بنار ولا صوت» . وإسناده ضعيف. والحديث حسن لغيره؛ لشواهده. وصح ذلك موقوفًا، وهذا البيان:
أخرج مالك (١/٢٢٦) بسند صحيح عن أبي هريرة، أنه نهى أن يُتْبع بعد موته بنار.
وأخرج مسلم (١٢١) عن عبد الله بن عمرو قوله: «فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار» .
وفي الباب عن جابر عن النبي ﷺ أنه نهى أن يتبع الميت صوتٌ أو نارٌ.
أخرجه أبو يعلى (٢٦٢٧) . وفيه عبد الله بن المحرّر، منكر الحديث، وتحرف اسمه= =على الهيثمي في «المجمع» (٣/٢٩) فلم يعرفه!!
وفي الباب عن ابن عمر، أخرج أحمد (٢/٩٢)، وابن ماجه (١٥٨٣)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/٤٨٤)، والطبراني (١٣٤٨٤، ١٣٤٩٨) عنه، قال: نهى رسول الله ﷺ أن تُتْبع جنازة معها رَنَّة. وإسناده ضعيف.
قال السندي: «(رَنَّة) بفتح راء وتشديد نون: صوت مع بكاء، فيه ترجيع، كالقلقلة واللقلقة» .
وورد بلفظ: «فيها صارخة» عند ابن حبان في «المجروحين» (١/٢٥٤)، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/٢٢٥) . ونحوه في «الحلية» (٦/٦٦) من طريق آخر عنه، ولكن الأسانيد الواردة في ذلك ضعيفة جدًا.
1 / 19
وقال في «المنتهى» (١) و«شرحه» (٢): (و) كره (رفع الصوت معها) -أي: الجنازة- (ولو بقراءة) أو تهليل؛ لأنه بدعة، وقول القائل مع الجنازة: استغفروا له ونحوه بدعة. وروى سعيد بن عمر (٣) وسعيد بن جبير، قالا لقائل ذلك: لا غفر الله لك (٤) ا. هـ.
هذا ما أردنا نقله باختصار من كتب المذاهب الأربعة.
وقد اطّلعنا على رسالة «تحفة الأبصار والبصائر في بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر»، و«رسالة فتاوى أئمة المسلمين بقطع لسان المبتدعين» الموافقتين لما أتينا به في هذا الموضوع، مِن منع رفع الصوت مع الجنائز، لمؤلِّفهما العلامة المفضال الشيخ محمود محمد خطاب السُّبكي (٥)
_________
(١) (١/٤٢٢ - على هامش «شرح الإقناع») (منهما) .
قلت: وانظره (١/١٦٤ - تحقيق عبد الغني عبد الخالق) .
(٢) انظر: «إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى» (١/٣٦٦)، «غاية المنتهى» (١/٢٦٤)، «حاشية ابن قائد على المنتهى» (١/٤٢١) .
وانظر عن (شروح «المنتهى»): «المدخل المفصل» (٢/٧٨٠-٧٨٤) للشيخ العلاّمة بكر أبو زيد -حفظه الله وعافاه-.
(٣) كذا في المطبوع! وصوابه: «ابن منصور» .
(٤) مضى تخريجه في التعليق على (ص ١٤، ١٥، ١٦) .
(٥) ولد في (سبك الأحد) من قرى (أشمون)، بالمنوفية، وتعلّم بالأزهر، كبيرًا، ودرّس فيه، وأسس الجمعيّة الشرعية، وترأسها من سنة (١٣٣١هـ) إلى (١٣٥٢هـ)، وتوفي بالقاهرة، له كتب عديدة؛ أشهرها: «الدين الخالص» ويسمى «إرشاد الخلق إلى دين الحق»، «أعذب المسالك المحمودية»، «هداية الأمة المحمودية» (خطب منبرية)، «المنهل العذب المورود» .
انظر ترجمته في: «الأعلام الشرقية» (١/٤٠٦-٤٠٨ ترجمة ٥٠٤)، «مجلة الفتح» (٢٠/ربيع الأول/سنة ١٣٥٢هـ)، «مجلة الإسلام» العدد (١٢)، السنة الثانية، «الأعلام» (٧/١٨٦)، «الدين الخالص» (٧/٤٣٤-٤٣٩) له، «معجم المطبوعات العربية» (١٠٠٥) .
1 / 20