نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان
نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان
জনগুলি
النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلامًا. وإذا ثبت أن للقمر أثرًا في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجَزرِه (١)، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرًا قمريّا دون غيره.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثباتُ الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العامّ لفروض الرحمة والإنسانية والبرّ.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عملُه في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يُدرّبُ الصائم على أن يمتنع باختياره من شهوَاته ولذّةِ حيوانيته، مُصِرًّا على الامتناع، مُتهَيئًا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر، مُزاولًا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسَخُ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراكُ هذه القوة من الإدراك العملية منزلةُ اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرةُ مارّة مُرورهَا، ولكنها في الإرادة تعرِض لتستقرّ وتتحقَّق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يومًا من كل سنة قد فُرِضت فرضًا لتربية إرادة الشعب ومزاولتِه فكرة نفسيّةً واحدةً بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعودَ جزءًا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مَرًا.
أليست هذه هي إتاحةَ الفرصة العملية التي جعلوها أساسًا في تكوين الإرادة؟
وهل تبلغ الإرادةُ فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذعنَة لفكرهِ، منقادة للوازع النفسي فيه، مُصَرفَة بالحس الديني المسيطِرِ على النفس ومشاعِرِها.
أما والله لو عم هذا الصومُ الإسلامي أهلَ الأرض جميعًا، لآل معناه أن يكون إجماعًا من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهرًا كاملًا في السنة، لتطهير العالم
(١) قال الجاحظ في (الحيوان): "ولزيادة القمر حتى يصير بدرًا، أثر بين في زيادة الدماء في الأدمغة وجميع الرطوبات".
1 / 176