The Biography of the Prophet: Methodology and Events Overview
السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها
প্রকাশক
دار ابن كثير
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٢٠ هـ
প্রকাশনার স্থান
دمشق
জনগুলি
[المدخل]
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: ٢١] .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: ٢٨- ٢٩]
1 / 4
الإهداء
هذا الكتاب أهديه إلى حضرة جناب المصطفى الحبيب رسول الله ﷺ، وأنا أرجو الله ﷿ القبول، إن شاء الله ﷾.
كانت كلمات الإهداء شعرا. وقد جرت قصيدته هذه على اللسان، سليقة وانسيابا متناغما، والشكر والحمد لله رب العالمين.
يا سيدي يا أسوتي ... هذا الكتاب هديتي
الله أنزل شرعه ... أكرم بها من شرعة
أوحى إليك مبلّغا ... أنت الأمين لأمّتي
بعثت للناس بها ... طول الزمان وهجرة
بعثت فيها منذرا ... ومبشّرا بالنّصرة
جاهدت فيها دائما ... لم تعتذر من هجعة
كلّ السنين حميتها ... وبذلت كلّ المهجة
وفي المسالك تلتقي ... في سوقهم ومجنّة
والصحب حولك جدّهم ... بادي الوفا وأصالة
أمحمد أنت الذي ... أنقذتنا من تيهة
كلّ الرسالة صنتها ... أدّيتها بأمانة
وحملتها في مهجة ... وحميتها بالمقلة
وبالنفيس فديتها ... أرخصتها سالفة
الله أرسل نعمة ... أنعم بها وهديّة
قرآنه ضرب الدّجى ... طاو له للظّلمة
والناس قد أحيوا بها ... فكانوا خير أمّة
لا يعرفون بدونها ... جاءتهم وبسمحة
1 / 5
كانوا شراذم قبلها ... وحربهم لقبيلة
لكنهم قاموا دعاة ... ولوحدة في دعوة
صاروا نجوما في الورى ... منذ اهتدوا بشريعة
أهل الحضارة والنّهى ... بالعدل فتح سريرة
ونحن جيل يقتدي ... برسولنا ووراثة
على خطاك سيرنا ... مهما بدا من قسوة
ونبتغي الله به ... أسعد بها تضحية
لنرضي فيه ربّنا ... وبسعدها بشرية
سعد الذين تجمعوا ... في منهج ووضيئة
فيه السعادة كلّها ... وهو أسّ حضارة
هذا النبيّ وصوته ... متجلجلا في آية
فأقبل تراه ماثلا ... متحركا في سيرة
فرح الزمان بسعده ... ليضيء كلّ مسيرة
بغداد المحروسة- العامرية المعمورة- المضيفة المشهورة
الخميس: ٦ رجب الخير ١٤١٨ هـ (٦/ ١١/ ١٩٩٧ م)
1 / 6
ملاحظات
تمثل النجمة (*) في الاستشهاد بالآيات الكريمة بداية الآية الكريمة ونهايتها. وإذا لم توضع هذه النجمة (*)، فذلك يعني أن الاستشهاد يشير إلى جزء من الآية الكريمة.
كانت طريقة الإشارة في المصادر والمراجع- بالنسبة للجزء والصفحة- عدم ذكر كلمة جزء أو صفحة، بل يوضع خط مائل بين رقم الجزء ورقم الصفحة. فمثلا (٣/ ٤) تعني الجزء الثالث الصفحة ٤.
وبالنسبة لكتب الحديث الشريف التي ترقم أحاديثها، كثيرا ما يذكر رقم الحديث الشريف وبعده خط مائل (/) ثم الجزء. مثلا (٤٩٦٤/ ٣) يشير الرقم الأول- قبل الخط المائل- إلى رقم الحديث الشريف والرقم (٣) - بعد الخط المائل- يشير إلى الجزء.
1 / 7
تقديم
سنوات كثيرة مرت تناهز أو تجاوز العقدين، وأنا أنادي بشعارات علمية لازمة، منها أن يعتبر التاريخ الإسلامي مادة شرعية تدرّس، واحدة من هذه المواد في أيّ موقع منها، لا سيما السّيرة النبوية الشّريفة، على صاحبها الصلاة والسلام. كما جرى النداء والعمل حثا، لاعتبار هذه السيرة المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام- مادة أثيرة في كافة المراكز العلمية والمؤسسات، لا سيما الجامعات؛ لتكون ليس فقط مادة مستقلة بل ومتطلبا جامعيا. ولعل ذلك يتحقق يوما ما بعون الله تعالى وفضله.
هذا مهمّ جدا، ومن المهمّ كذلك: أن تقدّم هذه السيرة المطهرة بثوبها الزاهي الجليل، وبالأسلوب البحثي الجميل، وبالعلم الكريم الدليل، فهي مبدأ تاريخنا، هذا التاريخ الإسلامي وشرفه وتاجه.
وها أنا اليوم أقدّم هذه الدراسة- باكورة مؤلفات في موضوعها، لما يتلوها من بحوث ودراسات ومؤلفات، إن شاء الله تعالى- صالحة لكل مستوى، ومهمة لكل دارس، وأساسية لكل متمرس. وأرى ذلك لزاما أبديه، وواجبا أقضيه، وعملا أتعبد الله تعالى به، راجيا منه القبول، وأن يجعل- سبحانه- موضعه الإقبال ونفعه عميما. وأقدّمه هنا في بحوث أو مؤلفات متتابعة- إن شاء الله تعالى- كل منها على نسق، حتى يتم كل جانب منها بما يؤهله، شمولا وسعة وعمقا، بعونه ومنّه، وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
1 / 9
تمهيد وتنجيد
السيرة النبوية الشّريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- هي التي أقامت مباني هذا الدين- الذي أنزله الله تعالى، وحيا أمينا صادقا على رسوله محمد بن عبد الله ﷺ وبه أتمّ نعمته على خلقه، على قواعده الإيمانية بالله تعالى ورسالته الخاتمة، عقيدة وعبادة وشريعة. ورسمت تعاليم الإسلام في الواقع: سلوكا وتعاملا، بذلا وتضحية، احتمالا وفداء.
وهي ثمرة بناء الإسلام- قرآنا وسنّة وسيرة- وأقامت الإنسان والحياة على قواعده المتينة الرصينة الأمينة. ذلك من أجل إقامة المجتمع الفاضل والحياة الإنسانية الكريمة، في واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، تبقى دليل الإنسانية ونهجها الميمون الفريد نحو الحياة المرجوة التي أرادها الله لعباده؛ لترسيخ معنى العبودية لله تعالى وحده، وإنجاز الفتوحات المتنوعة في آفاق النفس، وميادين الحياة، وإعمار المجتمع، بصيغة كريمة إنسانية فاضلة، لا يدركونها- صيغة وصبغة ورفعة- إلا به وحده.
ولقد قدّمت السيرة النبوية الشريفة القرآن الكريم- كتاب الله تعالى- شرحا موضّحا بالبيان والتفصيل في السّنة النبوية المطهرة، وبالسلوك والتمثيل في واقع الحياة، في كل إطار وفي أي مجال وحال، في السيرة النبوية العطرة.
وكما أن كلّ ما في القرآن الكريم يشير ويؤكد ويعلن أنه من عند الله تعالى، وحيا منزّلا منه سبحانه على رسوله الكريم محمد بن عبد الله ﷺ، الصادق المصدوق «١»، الذي تلقاه من ربه العظيم الجليل سبحانه. وبهذا
_________
(١) الصادق المصدوق: وصف للرسول الكريم ﷺ. وهو تعبير كثر وروده عند رواة
1 / 11
كله تماما تتضح نبوته ورسوليته ورسالته من خلاله، مضيئة كالشمس رخية كالنسيم رحبة كالفضاء وكالسماء. والله تعالى يقول: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ١٩١- ١٩٧] .
ويقول ﷾: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] .
والرسول الكريم ﷺ يقول: «ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «١» .
_________
الأحاديث النبوية الشريفة، وعموم الصحابة الكرام ومن بعدهم على مدار الأجيال، ونحن والحمد لله إلى يوم الدين. البخاري، رقم (٣٠٣٦) . وكتاب العلم، باب: قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا. «الصادق»: الصادق في قوله. «المصدوق»: المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم، وكذلك المصدّق فيه. مسلم، رقم (٢٦٤٣) .
(١) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، رقم (٤٦٩٦)، مسلم، رقم (١٥٢) . جامع الأصول في أحاديث الرسول ﷺ، (٨/ ٥٣٣، رقم ٦٣٣٣) . «آمن عليه البشر»: أي كل نبي بعثه الله تعالى أعطاه من الآيات والدلائل الواضحة والمعجزات (من خوارق العادات) التي تظهر صدقه، فتقتضي الإيمان به. «أتيته»: أراد القرآن الكريم الذي خص به رسول الله ﷺ التي أعطاها الله للرسول الكريم ﷺ هي القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى لفظا ومعنى، وهو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة، يستمر الإيمان به من غير المسلمين فيؤمنون به ويدخلونه- على مر العصور ومن كل الأقوام، بجانب كل المعجزات الآخرى الكثيرة المتنوعة. «وحيا»: والوحي هنا هو القرآن الكريم، فإنه ليس من كتب الله المنزلة كان معجزا إلا القرآن الكريم.
1 / 12
فالقرآن الكريم كتاب الله تعالى المبارك، وشرعه المبين، وحبله المتين، أنعم به على البشرية جمعاء، فضلا منه ومنّة؛ ليبلّغه الرسول الكريم ﷺ إلى الناس كافة، رسالة ربانية لا غنى لأهل الأرض عنها في كل ديارهم وأعصارهم ومرتقياتهم. ولا تستريح البشرية- كما استراحت ورأت في جولة سبقت- إلا في ظله. وتلك تجربة وخبرة وشهادة، تكفيها لأخذه واعتماده والعمل به، مكتفية به وحده ومستغنية به عما سواه، حتى لو فاتتها معرفة ذلك، من خلال القرآن والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة.
وحين تتخذه البشرية منهجا تتعامل به في كل جوانب حياتها، ستنال السيادة والتكريم في الدنيا والسعادة الدائمة في الآخرة. ويوم تدركه وتعرفه وتفقهه لا ترتضي- ذاتيا، ولا يصحّ لها- أن تلتفت لغيره وبطبيعتها، اعتمادا على نظرية (أو حقيقة) التقابل والتواصل والتكامل، أو التوافق والترافق والتعانق. عندها يسقط وتسقط كل ما عداه من البرامج البشرية، والمناهج الأرضية، والمبادئ الوضعية؛ إذ لا يجب أن يحكّم المسلم في حياته كلها غير ما أنزله الله سبحانه، ولا يقبل التحاكم إلى ما يضعه الإنسان، مهما كان.
وهذا هو مفهوم العبودية لله تعالى، ومعنى شهادة ألاإله إلّا الله، الذي دعا إليه كافة الأنبياء ﵈، واستمر الرسول الكريم ﷺ يجاهد من أجلها عقودا، تثبيتا وتوكيدا وتحديدا بأمانة.
والله تعالى يقول في سور متعددة مثل الأنعام والأعراف وهود اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وكما يقول الرسول ﷺ: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أخوة، أبناء علّات، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد» «١» .
_________
(١) رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها [سورة مريم، ١٦]، رقم (٣٢٥٩) . ومسلم: رقم (٢٣٦٥) . جامع الأصول، (٨/ ٥٢٣، رقم ٦٣٢١) . «أولى الناس»: أخص الناس به وأقربهم إليه، لأنه بشّر به. «أولاد علات»: الأخوة لأب واحد، من أمّهات مختلفة. والمعنى: أن
1 / 13
وكم من مرة حدّث القرآن الكريم، من خلال حشد ضخم من الآيات الكريمات عن الغائب عن علم الإنسان وإدراكه وآفاقه، أي عن الغيب الكائن في التاريخ والحياة، وغاب عن علم الإنسان وعن الغيب الذي سيكون في الدنيا والآخرة سواء. وكلها حقائق منظورة، والتي ستقع مثلما وقعت، فضلا عما فيه من أمور كونية ونفسية وعلمية، وغيرها كثيرة مجهولة، مما لم يدرك بعضه الإنسان إلا بعد قرون وأجيال، ومنه لا يزال خارج دائرة إدراكه، كالذي هو خارج دائرة علمه غيبا. بل ما أكثر ما حدّث القرآن الكريم عن بواطن النفوس، وأعماق السرائر، ومكنونات الضمائر، وحتى بما هو مجهول للشخص والأشخاص أنفسهم. فلنبحث كل هذا في القرآن الكريم، ونقرأه من جديد.
كل ذلك وأمثاله يدعو بقوة كلّ إنسان- فضلا عن المسلم- أن يتبع كتاب الله في حياته، ويأخذ به، وردا وإصدارا، وبه تكون النجاة لا بغيره في الدنيا والآخرة. والله تعالى يقول في كتابه العزيز القرآن الكريم: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: ٥٠] .
وكما هو الأمر هكذا بالنسبة للقرآن الكريم، فإنّ كلّ ما في السيرة الشريفة- والسّنّة الصحيحة كذلك، بعد بيان القرآن الكريم له، تجده ممهورا بطابع النبوة، وختمها الرسالات- يدل على أنه ﷺ نبيّ كريم ورسول خاتم، بدعوة الله العالمية إلى أهل الأرض أجمعين وإلى يوم الدين.
ولقد أنزله الله تعالى محتويا كلّ أمورهم التي ترفعهم وتقودهم نحو الحياة الكريمة والحضارة الرشيدة، وإلى رضا الله تعالى والسعادة في الدنيا والآخرة.
_________
شرائعهم متفقة في الأصول (مختلفة في الفروع) . «شتى»: متعددة. «دينهم واحد»: دين التوحيد. ويشير هذا إلى أن النسب الحقيقي هو نسب العقيدة والإيمان، وبه وحده لا بغيره يكون التفاضل والقبول والقرب من الله تعالى.
1 / 14
وهذا معلم واحد من معالم هذا الدّين الواضحة، دين أهل الأرض أجمعين، حالا واستقبالا، مثلما هو معلم من معالم السيرة النبوية الشريفة، ومعالمها كثيرة وقوية بينة باهرة، متلألئة مناراتها.
مثلما تلمسه وتراه وتشهده في سيرة الصحابة الكرام- ﵃ أجمعين- الذين دانوا بالعبودية الكاملة لله رب العالمين في أكمل صورها، وهم يبقون نموذجا للأجيال وعلى مدار التاريخ. فعن عبد الله بن مسعود (٣٢ هـ) ﵁: (أن الله تعالى بعد أن اختار محمدا ﷺ وبعثه برسالته، إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدا ﷺ فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه ﷺ «١» .
والكل مقتد برسول الله ﷺ، الذي إن غاب اليوم عنا شخصه الكريم ووجوده الحي الوضئ وجسده الشريف، فهو باق محفوظ ماثل وقائم، بتوجيهاته وسلوكه ومواقفه وآفاق تربيته وجهاده وعبادته ودعائه، في البيت والمسجد والحياة، حربا وسلما في الرضا والغضب والانتصار والانكسار وفي دلائله وشمائله، حية متحركة متعطرة تفوح بالمسك قويا، عبقة تنشر الطيب، كأنك تراه وتشهده وترقبه أمامك قائما. وتلك هي السيرة النبوية الشريفة بشمولها وكمولها ومضامينها.
نستبين ذلك أيضا جليا من حياة الصحابة الكرام، بكل جوانبها ونواحيها وميادينها، ونراه ظاهرا جاهرا ومنظورا في سيرتهم المقتداة والمقتدية بالنبي الكريم ﷺ، مهما تفاوتوا- وهم يتفاوتون- في الخير والبرّ والنصرة، لكنهم اغترفوا من هذا النبع الصافي المبارك الكريم؛ ولذلك استحقوا الأوصاف الكريمة التي وصفهم الله تعالى بها في قرآنه العظيم،
_________
(١) حياة الصحابة، الكاندهلوي، (١/ ٤٦) .
1 / 15
ومنها كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: ١١٠] . فكلمة «كنتم» خاصة في أصحاب محمدا ﷺ وكل من صنع صنيعهم بأداء شرط الله منها «١» .
ولعل الواقع نفسه يشير إلى أبعد من ذلك، حيث يستبين أيضا في هذا المضمار المتسع أن الله تعالى قد صرّف السيرة النبوية الشريفة، آخذا بها في ماجريات (مجريات) السّيرة ومجاليها. وهي رعاية أخرى يتمّها ويتولاها ويقودها، فتسير الأحداث والأمور والناس فيما يريد الله، فكانوا دوما يقومون بما يقومون به، ومن ورائهم القدرة الإلهية وإرادتها، لتجري بنسقها الذي تضمنته، لتكون مثالا يقتدى، ودليلا يحتذى، وبها يهتدى، لكل السائرين والسالكين درب الإيمان بالله تعالى والعاكفين على دعوته، في كل زمان ومكان في كل أحوالهم ومجاليهم، أو المجاوزين لها مسلمين وغير مسلمين. فالأولون يرون فيها طريقهم وبها وحدها يهتدون، والآخرون يرون الحقائق ماثلة قوية ساطعة، فلعلهم يحسنون التعامل معها، فيهرعون إلى أحضانها ينعمون بظلالها. وفي حياة الصحابة الكرام دليل على ما أقول.
وإن الصيغ المثبتة عن الصحابة الكرام لتشي- أي: تعلن وتعلم- بقوة لا تقاوم، لتعلنها مدوّية عن روعة هذا الدين؛ كيف وماذا صنع الإسلام بهؤلاء وبأهله كافة، حيث أخذهم من سفوح الجاهلية ووهادها السحيقة بكل ضلالاتها وانحرافاتها والتواآتها- ليرفعهم إلى أعلى القمم الفاضلة، يمكن أن يرتفع إليها إنسان، لا يرتفع إليها إلا بهذا الدين، وبكل جوانبها، بتوازن وانسجام واكتمال. وهو أمر معجز في حقيقته، يشير إلى معجزة الإسلام نفسه في وجه آخر جديد، والتي يمكن أن تتكرر بعواملها.
فالقرآن الكريم بيننا وقد حفظه الله تعالى، نصّا كاملا، وحسّا عاملا،
_________
(١) حياة الصحابة (١/ ٤٥- ٤٦) .
1 / 16
وسيرة رسول الله ﷺ قائمة. فهو ﷺ الإنسان النبي، والنبي الإنسان، ورسول الله الخاتم. ولا فصل بين كل ذلك. ولا يجوز غير هذا الفهم، ولا تتم له حياة في دائرته بحال وبأي اعتبار ومن أي منظار، حتى لكثير من غير المسلمين، ممن كانت لهم رؤية صحيحة، ولو بعضها، فكيف بالمسلمين؟ بل كيف يصحّ له إسلام بدون ذلك؟
ولو أنصف، حتى غير المسلمين نساء ورجالا ومن كل قوم وملة كانوا، لأحبوه كما لم يحبوا أحدا غيره، ووقروه، وأدنوه من نفوسهم، سواء قادهم ذلك إلى الإسلام- وغالبا ما يقود، والمفروض أن يقود، وذلك أتم وأشم- أو لم يتم.
وهذا الذي مضى كله واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والسّنّة النبوية والسيرة الشريفة. وهما لا بد أن يكونا المصدر الأساس لهذه السيرة الشريفة، كتابة ودراسة وتدريسا. ولا علمية ولا منهجية ولا موضوعية بدون ذلك أبدا أبدا. بل منها يجب أن تبدأ دراسة ذلك كله، كما يجب أن يا بنى بها المنهج السليم لدراسة التاريخ الإسلامي وغيره من تواريخ الأمم الآخرى، ويكون عليه الاعتماد في قضية تفسير التاريخ بشكل شامل عام، لتجنب الوقوع في التّيه، أو الخروج منه، الذي أدخلتنا فيه التفاسير المبتسرة الفجة السطحية، والتي مازالت التعديلات والترقيعات والتجميلات تدخل عليها وهي تزداد تشويها، به أو بغيره أو بنفسه. والله تعالى يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: ١٨] .
ولقد كان هؤلاء الصحابة الكرام الصورة الوضيئة العجيبة التي رسمها القرآن الكريم، بأسلوبه البديع المعجز. إنه كلام الله الذي أراده سبحانه أن يكون معجزة هذا الدين الخالدة الدائمة على مدار الأجيال. أولئك الأخيار الأفذاذ والنماذج المثال، الذين صعدوا ذلك المرتقى العال، فكانت سموّا في الحياة، تحقّق في هذه النماذج القمة الفريدة السعيدة، التي ما كان لها أن تعرفها أبدا- فضلا عن ارتيادها- إلا بهذا الدين الذي أراده الله تعالى
1 / 17
للبشرية، ولا يقبل من أحد دينا غيره، ولا انتماء سواه.
والصحابة الكرام هم الجيل المثال الفريد، الذي تربّى على مائدة القرآن الكريم، وقادهم لذلك محمد بن عبد الله الرسول الأمين ﷺ الذي علمه الله تعالى، وأعدّه، وأدّبه للقيام بهذه الدعوة، مما هو واضح من الإشارات والبشارات، حتى قبل النبوة بل وأسبق منه، ومن كل ما يحيط به. أما النبوة منذ تلقيها- فذلك واضح كل الوضوح في القرآن والسّنّة والسيرة.
فكان هؤلاء الصحابة هم أنفسهم كذلك القدوة، والذين كان الإيمان بالله تعالى ودعوته ونبيه ﷺ في قلوبهم أعظم من الجبال، حتى في ضحكهم ومرحهم ومزاحهم «١» . فالاقتداء- إذا- بالرسول ﷺ وبالذين اتبعوه من المهاجرين والأنصار وغيرهم هو طريق الهداية.
فالرسول ﷺ هو نبيّ الله، اختاره الله لدعوته الكريمة. وكان هؤلاء الصحابة الذين عاشوا معه، وتربوا على الإسلام بين يديه بشرا ترقّى، يوم اقتدوا به، واستجابوا لدعوة الله على يديه، وعضّوا عليها بالنواجذ، مما يشير إلى الاقتداء بهم. ونتعلّم منهم كيف تلقوا هذا الدين، واستجابوا له، وارتقوا به ببشريتهم، لنأخذ نحن به مثلهم مقتدين بهم بعد الرسول الكريم ﷺ. وهم خير الأصحاب الذين تلقّوا عنه مباشرة، معتمدين في ذلك كله على القرآن الكريم والسّنّة الصحيحة والسّيرة الشريفة، متلمّسين كيف أن كلّ ذلك تحول في حياتهم إلى واقع عملي قوي ملموس. وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر ﵄ (٧٤ هـ): (من كان مستنّا فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ كانوا خير هذه الأمّة، أبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ ونقل دينه، فتشبّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد ﷺ كانوا على
_________
(١) حياة الصحابة (١/ ٤٨) .
1 / 18
الهدى المستقيم والله ربّ الكعبة) «١» .
وبذلك كانوا هداة هذه الأمة والإنسانية، ومبلغي دعوة الله إليهم، حملوها أمانة وصيانة وديانة، بعد رسول الله ﷺ، دعوة وسلوكا وحياة.
ملؤوا الدنيا ضياء وهداية وعدلا، فكانوا ينابيع صافية يستقي منها الآخرون.
من الوجوه المصابيح الذين هم ... كأنهم من نجوم حية صنعوا
أخلاقهم نورهم من أي ناحية ... أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا
وقد وصفهم أحد التابعين مبيّنا بعض أوصافهم، وهو التابعي الجليل مسروق بن الأجدع (٦٣ هـ ٦٨٣ م): (شاممت أصحاب محمد ﷺ فوجدتهم أشبه بالإخاذ، تكفي الإخاذة الراكب، وتكفي الإخاذة الراكبين، وتكفي الإخاذة الفئام من الناس، والإخاذة لو صدر عنها الناس جميعا لكفتهم) «٢» .
فلنحاول العيش ابتداء- ولو لحظات، وحتى من بعيد- بقربهم، نتذوق ما تذوقوه، ونرى حلاوة الإيمان الذي يعمر القلوب، ويأخذ إلى باحة الإسلام ومجاليه وميادينه. وبذلك يكون إعادة الموكب الكريم، وتنطلق به الحياة، مستقيمة رضية وضيئة. وبها يرى الناس عجائب هذا الدين ومعجزاته، مما لم يخطر لهم على بال. فهل نطيق عن ذلك انفكاكا منها، أو ابتعادا عنها، أو إهمالا لها؟
ولعلك وجدت بعض ذلك في أتباع الأنبياء السابقين- صلوات الله وسلامه عليهم- كالحواريّين. ويقول الرسول الكريم ﷺ: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته
_________
(١) حياة الصحابة (١/ ٤٦) . ولعبد الله بن مسعود (كلام قريب من هذا. جامع الأصول، (١/ ٢٩٢) . «المستن»: الذي يعمل بالسنة.
(٢) «شاممت»: عرفت. «الإخاذ»: جمع إخاذة، وهي غدير الماء. «الفئام»: الجماعة من الناس.
1 / 19
ويقتدون بأمره ...» «١» .
لكن الصحابة الكرام- وكلهم عدول- أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه، بعد أنبيائه ورسله، خير من الحواريين «٢» . ولقد جاء هذا الوصف على لسان بعض النصارى الذين أسلموا في عهد النبي ﷺ.
ولقد كرّم الله صحابة الرسول الكريم ﷺ في آياته الكثيرة «٣»، مما يعرفه المسلم، الأمر الذي يدعو إلى توقيرهم وتقديرهم ومحبتهم جميعا، وهو شأن كل المسلمين، لا ينفكّ عنهم، ولا يتحول، ولا يستبدل.
ومن صفة صحابة رسول الله ﷺ في القرآن الكريم، والكتب السّابقة- مما يجعل البشارة بهم ثابتة مع البشارة برسول الله ﷺ، ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: ٢٨- ٢٩] «٤» .
كذلك ذكر الله تعالى في آية أخرى، أنّ صفة الرسول الكريم ﷺ ونعته
_________
(١) رواه مسلم: كتاب الإيمان- باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم (٥٠) .
(٢) تفسير القرطبي (١٦/ ٢٩٩) .
(٣) حياة الصحابة (١/ ٣٥- ٤٠) .
(٤) المعنى: هذا الوصف الوارد في الآية الكريمة، إنه لمحمد ﷺ بأنه رسول الله. ووصف الصحابة الكرام بهذه الصفات. وكل تلك الصفات مذكورة في التوراة والإنجيل، ومبشّر فيهما بالرسول الكريم ﷺ وبالصحابة. وما دام أن الله قد ذكر ذلك في القرآن الكريم (وقل مثل هذا في السنة الصحيحة الثابتة)، فهو لا بدّ حقا مذكور فيهما، مهما بلغ التحريف والإخفاء والادعاء. ولا نحتاج بعده إلى أي دليل- مهما كان- والأمور كلها تستمد الدليل من القرآن الكريم.
1 / 20
يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: ١٥٦- ١٥٧] .
وبعض هذه الصفات التي وصف الله تعالى بها الرسول الكريم ﷺ في القرآن العظيم، منها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: ٤٥- ٤٧]، وردت في الكتب السابقة، منها التوراة والإنجيل، كما أشارت إليه الآيات السابقة. روى البخاري أن عبد الله بن عمرو بن العاص حين سئل عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، قال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: ٤٥] . وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر (ويصفح)، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا) «١» .
_________
(١) البخاري: رقم (٢٠١٨)، ورقم (٤٥٥٨) . «حرزا للأميين»: حصنا للعرب (ولغيرهم)، وقد بعثه الله فيهم منهم أولا، فدعاهم إليه أولا. «سخاب»: رفع صوته على الناس. «يقيم به الملة العوجاء»: ينفي الشرك عنها ويثبت التوحيد فيها. «غلف»: غطتها ظلمة الشرك، فهي به مغلفة مظلمة قاتمة.
1 / 21
هذه السيرة الشريفة التي عاشت الصورة القرآنية، وائتسى بها الصحابة الكرام خير ائتساء، فكانوا خير مؤتسين لأحسن أسوة، تبقى النموذج الأفضل والقدوة الأمثال لبني الإنسان، وخصوصا للمسلمين في كل وقت وحال. استمدت كلّ ما فيها من هذا الدين الذي أوحاه الله تعالى إلى الرسول الكريم ﷺ ليكون المبلّغ بالنص، تشرحه السّنّة، وتمثيله بالسيرة.
وهذه السيرة الشريفة مليئة بالذخائر والكنوز واللآلئ والدرر، ولا بد من الغوص وراء أصدافها الحافظة لها، واستخراج دررها الفريدة من داخلها. عجائبها غزيرة، وعقودها باهرة، أتت بالعجائب والنجائب والمراتب في كل باب، وأنتجت الفتوحات متنوعات في كل درب، وقدمت الصيغ الإنسانية التي تربت على مائدة القرآن الكريم، في أحضانها وأجوائها في كل موقع وصوب وحدب، مقتدية في ذلك كله بالرسول الكريم ﷺ، كيف وقد جاء للتطبيق العملي القائم في الحياة الواقعية والمجتمع، بلا تجاهل ولا تماهل ولا تساهل أبدا بحال؟!
ذلك لأنها مستمدّة وقائمة على القرآن الكريم. فهي عجب من عجائبه، ومعجزات من إعجازاته؛ التي لا تفنى ولا تنضب. ويبقى لكل زمان وأحد وجيل كذلك، ما ادّخره الله ﷾ له برحمته.
ومن هنا فلا بدّ من منهجية جديدة مستقلة ومتساوقة ومتعانقة مع هذا التاريخ الإسلامي وبقيته وتوابعه، ابتداء من السيرة النبوية الشريفة، فهي تاجه الرفيع، وعزه المنيع، وقوامه البديع.
وقد احتوت السيرة الشريفة ذلك كلّه، ولذلك فكلما عاشها الإنسان، وعاشت به، عرفها أكثر، وأدركها أعمق، واقترب من مضامينها وأسرارها، وأحسن التعبير عنها وتمثّلها، بمقدار العيش فيها، قدرا ومقدارا وإصرارا.
وأحسّ- والحمد لله وبفضله- أنني كل يوم أتقدم وأتفهم وأتعلم
1 / 22
لاستشراف هذه المعاني والمشاهد والأجواء في هذا المجال وفي غيره سواء بسواء، متعرّفا على جديد من ذلك كله، وأقطف مزيدا من ثمارها الكريمة، فهما وإدراكا وتحصيلا، وكلما تفيأت ظلالها كلما أدركت أبعادها، واقتربت، ووعيت من آفاقها، دراسة ومتابعة وتعمقا.
وكل هذا نعمة ومنّة وبركة من الله تعالى رب العالمين، فالحمد لله على نعمه الكثيرة، ونسأله سبحانه الدوام وحسن الختام في ظل الإسلام.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 23
المبحث الأول السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها
* استهلال وإطلال وإجلال
* التخصص العام والدقيق
* المقوم الأول المهم
* اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها
* السيرة مرآة ومهماز
* مصادر دراسة السيرة
* صلحاء الأمة وحماتها
* كتابة السيرة الشريفة
* العيش في جو السيرة عمقا وتعلقا
* كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ
* دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها
* دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم
* أسلوب هذه الدراسة
* أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة
* السيرة وكتابة التاريخ
* السيرة وجيل الصحابة
هذه الدراسة والكتابة
1 / 25
السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها
* استهلال وإطلال وإجلال:
هذه مباحث وفصول في سيرة الرسول ﷺ تقدّم تصورا، وترسم منظرا، تكاد ترقبه وتشهده، حتى لكأنك ترى أحداثه، متحركة أمامك ماثلة نصب بصرك.
وبتمعّنك فيها، تتبيّن من خلالها حياة الرسول الكريم، والنبي العظيم ﷺ قائدنا وقدوتنا وأسوتنا إلى خيري الدنيا والآخرة.
تتبين حياة رائعة، وسيرة ساطعة لامعة متماسكة، ترى فيها الكمال الإنساني بالرسالة الربانية، حمّلها إياه الله ﷾ المنعم الرحيم بعباده؛ لهداية البشرية الى طريق الخير الوحيد والسعادة الفريدة والحضارة الإنسانية الأكيد.
فهي تظهر أهميتها، ودقائق تفاصيلها، وفقهها المتعمق، للعمل بها، والاستظلال بظلها. وهي حصيلة أصيلة، وخبرة مستنيرة، ومتعلّق عاشق، قام بتدريسها لقرابة ثلاثين دورة تدريسية جامعية- سنوية أو فصلية- في العديد من الجامعات في البلاد العربية.
وهي تطبيق لمنهج، ودراسة لأحداث، واستقراء لمضامين، ضمّها هذا الجهد في كتاب، مقدّمة لدراسات تالية، ترى هذه المعاني أكثر نورا، وأشد ظهورا، وأشمل حبورا.
تراها روائع ومواقع، تنصهر في كتاب جامعي شامل- إن شاء الله تعالى
1 / 26