আধুনিক কবিতার বিপ্লব
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
জনগুলি
وقد كتب بودلير قصيدته «العجائز السبعة» قبل أن يؤلف رامبو قصيدته هذه باثنتي عشرة سنة. ولا بأس من المقارنة بين القصيدتين لنرى إلى أي مدى يتفق الشاعران أو يختلفان في تصورهما «الدرامي» للقبح. فقصيدة بودلير تصور أيضا قبح الناس والأشياء ولكنها لا تتركنا حيارى، بل تعطينا بعض التوجيهات المحددة التي تعين على فهمها، وتقدم لنا المكان والحدث في ترتيب دقيق. في البداية نجد المدينة الكبيرة المزدحمة، ثم نجد شارعا في إحدى الضواحي، في زمن حدده لنا الشاعر بالصباح الباكر. ويظهر عجوز ترتسم أمامنا صورته وتتبين معالم هيئته، يتبعه عجوز آخر ثم ثالث ورابع حتى يظهر السابع. وتستجيب الذات الشاعرة لهذه المشاهد بانفعالات محددة: بالفزع والارتعاش حتى تصدر حكمها الأخير. ويبرز القبح بكل حدته المحسوسة، ولكنه قبح معتدل، نعرف العلاقة التي تربطه بالمكان والزمان والانفعال. والشاعر يشبه أحد العجائز بيهوذا، وفي هذا التشبيه إشارة وتوجيه؛ إشارة إلى شخصية معروفة، وتوجيه يصلنا بشيء مألوف. أما انفعالات الذات الشاعرة إزاء هذا المشهد المخيف، فهي تشيع الدفء في النص، أي أنها تظل - على الرغم من كل الألم والعذاب - انفعالات بشرية.
وإذا التفتنا إلى قصيدة رامبو لم نجد أثرا لهذه الإشارات الموجهة؛ فعجائزه ليسوا أفرادا ذوي معالم واضحة، بل مجموعة غامضة تتألف من تفاصيل تشريحية ومرضية، لا من وجوه وشخصيات وأشكال. المكان لم تبق منه إلا بقايا، والزمان ديمومة متصلة، وليس غريبا ألا نجد في القصيدة أية إشارة لأمين المكتبة المسكين الذي ذكره فيرلين في روايته عن صديقه، فلو قد ذكره لكان ذلك توجيها واضحا يتنافى مع الروح العامة للقصيدة وقربا من الواقع الذي تجاهد في تحطيمه والبعد عنه. إن من العسير أن نصل هذا القدر الهائل من القبح بواقع مألوف، حتى ولو كان ذلك عن طريق الرعب والفزع منه؛ ذلك لأن إرادة الشاعر الحديث في تغيير هذا الواقع وتشويهه قد فاقت كل حد، حتى وصلت به، كما يقال اليوم في لغة السياسة، إلى طريق لا عودة منه. (12) لا واقعية حسية
إن كل محاولة تبذل لقياس صور رامبو ومضموناته بمقياس الواقع لا يمكن أن تكون لها غير قيمة واحدة وهي الكشف عن النص وتوضيحه بقدر الإمكان. ولكننا كلما تعمقنا هذا النص اكتشفنا عجز كلمات مثل واقعي وغير واقعي. ولعل كلمة أو اصطلاحا آخر أن يكون أنسب منهما، ألا وهو «اللاواقعية الحسية» الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة. ونقصد باللاواقعية الحسية أن الشاعر يتحدث عن مادة الواقع المشوهة في مجموعات من الكلمات لكل جزء منها كيفية حسية. ومع ذلك فإن مثل هذه المجموعات توحد بطريقة شاذة بين أشياء ليس من طبيعتها أن تتحد في الواقع، بحيث ينشأ من الكيفيات الحسية تكوين لا واقعي. إن الصور تكون دائما صورا عيانية، ولكنها صور لم تصادفها العين أبدا ولن تلتقي بها في يوم من الأيام. إنها تتجاوز الحرية التي أعطاها الشعر دائما لنفسه، بفضل الطاقات الاستعارية الكامنة في كل اللغات الإنسانية. «بقسماط الشارع»، «الملك الذي يقف على بطنه»، «مخاط الأثير الأزرق» ... إلخ، قد تكون مثل هذه الصور نوعا من المبالغة الحادة في بعض الخصائص التي تكمن أحيانا في الواقع، ولكنها لا تتجه إلى الواقع بل تتبع منهجا ديناميا في الهدم والتحطيم يهدف - وهو في هذا ينوب عن المجهول الخفي - إلى أن يجعل من الواقع نفسه نوعا من المجهول المثير والمستثار في آن واحد، عن طريق تغيير حدود الواقع وأشكاله الثابتة، وضم أطرافه المتباعدة، وتوحيد ما هو متضاد فيه بالطبيعة أو بالضرورة. والحق أن تغيير نظام الواقع والبقاء مع ذلك في إطار المحسوس إنما هو من الأمور التي كان الشعر التقليدي يلجأ إليها في كثير من الأحيان. وهناك أمثلة عديدة على هذا في شعر رامبو. فهو يصف راية حمراء بأنها «راية من اللحم الذي ينزف دما». ولكن اللون الأحمر وهو المقابل الواقعي في هذه الصورة، ليس هو الذي تتحدث عنه؛ إذ سرعان ما تضيف اللغة (في ميلها إلى كل بشع وفظيع) تلك الاستعارة إلى الشيء الموصوف. ومع ذلك فإن هذه الأمثلة القليلة تخفي ما تعلنه معظم الحالات الأخرى التي تبين أن اللاواقعية الحسية عند رامبو هي المجال الحقيقي الذي تتم فيه درامية الصدمة التي تثيرها نصوصه في نفس القارئ.
ولننظر إلى هذه الصور التي تتكرر في شعره: «زهور من اللحم، تتفتح في غابات النجوم»، «قصائد رعوية ذات أحذية خشبية تزمجر في الحديقة»، «قذر المدن، أحمر وأسود كالمرآة، عندما بدور المصباح في الحجرة الجانبية»، وكلها صور تتألف من عناصر لا شك في وجودها في الواقع المحسوس. ولكن الشاعر يرتفع بها إلى مستوى قوى الواقع عن طريق الإدغام والإزاحة والقفز من الضد إلى الضد والتأليف الجديد بين عناصر لا تأتلف بطبعها في واقع الأشياء. ولذلك فإن «التركيبة» الجديدة لا تعود بنا إلى الواقع، بل تجبر العين والعقل أن ينتبها إلى «الفعل» الذي أبدعها. إنه فعل يقوم به خيال متسلط، أو خيال دكتاتوري. هذه الكلمة الأخيرة التي تعبر عن القوة الكامنة وراء أشعار رامبو ستعفينا في الحقيقة من قياس النصوص بمقياس الواقع، وهو الأمر الذي تحاشيناه في بداية هذه الفقرة. إن القياس هنا شيء مستحيل؛ فنحن في عالم تقوم واقعيته في اللغة وحدها. (13) خيال دكتاتوري
ما طبيعة هذا الخيال الذي وصفناه بهذه الصفة البشعة؟ ما وظيفته؟ كيف يعمل؟
الخيال الدكتاتوري لا يقوم على الإدراك والوصف، بل على الحرية الإبداعية المطلقة من كل قيد. إن العالم الواقعي يتحطم ويتفجر تحت سلطان الذات الشاعرة التي لم تعد تقنع بأن تتلقى مضموناتها وصورها، بل تصر على أن تخلقها بنفسها خلقا.
وقد لا نجد عبارة توضح هذا الكلام مثل هذه العبارة التي تروى عن رامبو عندما كان يعيش في باريس: «يجب علينا أن نخلص الرسم من عادة النسخ القديمة لكي نجعله فنا شامخا مستقلا بنفسه. عليه، بدلا من إعادة نسخ الأشياء، أن يستثير الانفعالات عن طريق الخطوط والألوان والمعالم والحدود التي تستمد حقا من العالم الخارجي ولكن تبسط وتهذب: سحر أصيل».
ونستطيع أن نقول إن هذه العبارة تدل أبلغ دلالة على فن الرسم في القرن العشرين. ويبدو أن رامبو قد تنبأ فيها، دون أن يشعر، بأن الرسم الحديث لا يمكن ولا ينبغي أن يفسر أو يفهم من جهة الموضوعات والأشياء الخارجية، وهي من أبسط الحقائق التي يعرفها كل من لديه فكرة عن الرسم التجريدي.
إن الذات الحديثة في الشعر والرسم بوجه خاص تريد أن تؤكد حريتها المطلقة، وليس من الصعب أن نتذكر هنا تأملات بودلير النظرية عن الخيال، لنرى إلى أي حد مهدت للإنتاج الشعري والفني في العصر الحاضر. وقد تكلم «روسو» و«بو» و«بودلير» عن الخيال الخلاق، وأكدوا ملكة الخلق وقدرة الإبداع فيه. واحتضن رامبو هذا التعبير نفسه، وزاده دينامية. فهو يتكلم عن «الدافع الخلاق»، أو «الحافز إلى الخلق» في عبارة يمكن أن تعد تلخيصا لنظرته الإستيطيقية:
ينبغي أن تكون ذاكرتك وحواسك غذاء للحافز الذي يدفعك إلى الخلق. أما العالم، فماذا سيتبقى منه بعد أن تتركه وراءك؟ شيء واحد مؤكد؛ إنه لن يحتفظ عندئذ بشيء من مظهره المألوف ... (ص200)
অজানা পৃষ্ঠা