رصدوا الأكوان كلها، وإذا الملكوت الذي مناهم به أسيادهم وقادتهم في الجهاد، إن هو إلا ظلهم يهرب أمامهم كلما أسرعوا وراءه.
رصدوا جنة السماء، فإذا هي قصية عنهم لا يبلغ إليها نور الشمس إلا بعد ألوف ملايين السنين، وإذا جنة الأرض جرداء ليس فيها غرس للهناء، وإذا هم لا يملكون إلا مساحة متر مربع سبقهم الدود إليه.
وهنا حدث رد الفعل، فقد صار الاحترام احتقارا، والعبادة تجديفا، والغيرة على الدين إلحادا، والطاعة تمردا، والجهاد ثورة.
فقال الفيلسوف جستوس: لله منها نفخة نفختها يا أستاذ فأغضبت الشمس، إن ذلك القتام الذي نفخته لسر عجيب. - ما هو سر يا عزيزي الفيلسوف، إن هو إلا دخان القلوب التي أحرقتها الشهوات النابتة من بذار سيدتنا ربة الدهاء في الصدور، إن هذه الشهوات لهي المعدن العجيب الذي نصنع منه أسلحتنا كلها.
فقال صاحب الصولة فيرومارس: وكان المنتظر أن تقوض تلك الثورة ملكوت الإنسان على الأرض؛ لكي نشيد على أنقاضه ملكوتنا، ولكن خاب الرجاء.
فقال ذو الحنكة ميديوموس: لم تكن تلك الثورة لتقويض الملكوت الأرضي بل لتقويض المثل الأعلى الذي شيد في قلب الإنسان - الملكوت السماوي - ولذلك وجهت الضربة إلى العروش والكراسي التي كانت أنصابا لهذا المثل الأعلى، فدكتها الثورة دكا، ولكن النوع البشري لا يكف عن طلاب مثل أعلى يوجه أبصاره إليه، فلكيلا يعود فاشلا، ينحت تماثيل أخرى لمثله الأعلى - الملكوت السماوي - جعلت أوري زناد القرائح بالشهوات لكي تقدح شرر مثل أعلى آخر يقوم مقام ذاك.
فقال جستوس: طبعا لم يعد مهماز التحريض يستكد غيرة الدين للجهاد، فكيف يثير الأسياد عبيدهم للقتال في سبيل المغانم؟ - لما زهدت الأقوام في الملكوت السماوي صارت تطمع بالملكوت الأرضي، ولما جابت شهوة النفوس ثارت شهوة البطون، فقام الفتح والاستعمار مقام الغزو والسلب، وانتهز الزعماء اضمحلال المثل الأعلى، ونصبوا بدلا منه مثلا أعلى آخر، أقاموا تمثال الوطن مقام تمثال الدين، أصبح الوطن دين الناس الجديد، وصار شعارهم «حب الوطن من الإيمان». حل الوطن محل الإله، وتحول الجهاد في سبيل الدين إلى جهاد في سبيل الوطن.
ارتفعت راية الوطن وانخفضت رايات العقائد الدينية، وصار ترنيم مختلفي العقائد «الدين لله والوطن للجميع»، فتأبط الله تعالى دينه وتوارى غاضبا، واحتضن الوطن قومه لكي يتغذى بضحاياهم من غير شبع.
خمدت حروب الأديان، واحتدمت حروب الأوطان، وصارت أناشيد الوطن «تنازع البقاء»، وترانيمه «البقاء للأفضل»، وأغانيه الحربية «السيادة للسوبرمان».
تقيأ الجنس البشري «الملكوت السماوي»، وهو يغص الآن بالملكوت الأرضي، ولم يبق لنا إلا ركلة واحدة لكي ندحرجه من ملكوت سعادته إلى جحيم شقائه الأبدي. (هتاف وتصفيق حادان).
অজানা পৃষ্ঠা