আমাদের সংস্কৃতি প্রজন্মের মুখোমুখি
ثقافتنا في مواجهة العصر
জনগুলি
العقل هو وحده الفيصل بين الحق والباطل، وبه وحده يصبح الإنسان سيد مصيره، رغبات الإنسان قد تدفعه إلى سن القوانين وإقامة التقاليد، ثم قد تعود فتغريه بأن يتحلل مما قد سن أو أقام، وأما ما بني على العقل فهو ثابت على الدهر، لا يزول؛ ولذلك كان محالا علينا أن نحكي تاريخنا للحضارة متسلسل الحلقات، صاعد الخطوات، إلا إذا تعقبنا ما أنتجه العقل؛ لأن نتاجه - دون أي نتاج آخر - هو الذي يظل يكمل نفسه عصرا بعد عصر، يصلح من أخطاء نفسه، ويكشف الجديد ويوسع الرقعة قليلا قليلا، حتى يبسط سلطانه على الأرض والسماء، وأما الفن وأما الأدب وغيرهما من كائنات العالم الوجداني في الإنسان؛ فلا يأتي الجديد ليعلو درجة على القديم، بل ربما حدث أن تفوق القديم على الجديد، فليس من التناقض أن يكون هومر أعظم من شعراء القرن العشرين جميعا، أو أن يكون فنانو النهضة الأوروبية أروع فنا من رجال الفن في عصرنا، فكيف إذن يتسلسل التاريخ في حركة صاعدة إذا لم يكن اللاحق أعلى درجة من السابق؟ إن هذا التتابع الضروري لا يتحقق إلا في ميدان العلوم، التي هي رمز للعقل ونتاجه، وبالتالي يكون الجانب العلمي هو وحده مدار القياس لدرجات التقدم والتخلف بين الأفراد أو الشعوب.
إنني لأرجو هنا ألا يختلط الأمر على أحد؛ فنحن لا نقول إن أي حضارة يمكنها الاستغناء عن عالم الشعور بكل ما يفرزه لنا من فنون وآداب وغيرهما، ولكننا نقول - بكل قوة نستطيعها - إن عالم الشعور وما ينتجه ضروري لكل حضارة، لكنه وحده لا يكفي، والعقل دون سواه هو الجانب الضروري والكافي معا لتعريف الحضارة وقياس درجاتها.
يقول ألبرت شفايتزر عن الحضارة إنها بذل الجهد من أجل التقدم، وكلمة «التقدم» هنا هي التي تهمنا في سياق حديثنا؛ لأنه إذا كان التقدم إلى أعلى وإلى أمام، شرطا أساسيا للحضارة، كان الجانب العقلي وحده من الإنسان، بما ينتجه من العلوم، هو الذي يتقدم، بمعنى أن تجيء الخطوة التالية من خطوات الطريق تقدما نحو الهدف الأخير، بالنسبة للخطوة السابقة؛ فالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، أو علوم النفس والاقتصاد والاجتماع، أو غيرها من فروع العلم؛ ليست اليوم كما كانت بالأمس، واختلاف يومها عن أمسها هو الاختلاف الذي يتحتم فيه أن تكون حصيلة الأمس أفقر من حصيلة اليوم، وأكثر منها تعرضا للخطأ، وأما الآداب والفنون فكلمة «التقدم» بالنسبة إليها ليست بذات معنى؛ فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرأ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية، وأما ما هو خاص بالوجدان، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يفنى عاشق في عشق حبيبته بأكثر مما فني قيس في عشق ليلاه.
ومن فكرة التقدم هذه تنبثق لنا فروع، لا بد لنا أن نعيها حق الوعي؛ حتى لا يفلت منا جوهر الحضارة ولبها، التقدم الحضاري يقتضي حتما ألا نجعل الماضي مقياسا للحاضر، وكيف نجعله المقياس إذا كان هذا الحاضر أفضل منه بحكم فكرة التقدم نفسها؟ النظر إلى الماضي هو نظر إلى الوراء، على حين أن التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى الأمام، والانحصار في الماضي هو انحصار في نمط واحد من أنماط الحضارة، مع أن التقدم يحتم علينا الخروج من نمط أضيق نطاقا إلى نمط أوسع أفقا وأرحب إطارا، إن فكرة التقدم من حيث هي علامة نميز بها المسيرة الحضارية، توجب علينا أن نجاوز واقعنا المحدود إلى واقع آخر أكبر عظما وأعلى ارتفاعا، على أن نفهم «واقعنا» هذا بأنه يشتمل على الماضي والحاضر معا، فكلاهما واقع تم، فلا بد أن ننظر النظرة التي نرجو أن يجيء المستقبل أكثر تحضرا - بمعنى أغزر علما - من الحاضر والماضي على السواء.
5
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستدير إلى عصرنا وحضارته، إنه ليس بدعا يشذ عن القاعدة التي سارت عليها سائر العصور، فالحضارة فيه ما زالت قائمة على نفس الأساس الذي قامت عليه حضارات السالفين، والأساس هو العقل، غير أن العقل - كما أسلفنا - يوجه فاعليته إلى ميادين تختلف كيفا من عصر إلى عصر، وميدانه اليوم هو العلوم الطبيعية التي تتمثل في أجهزة، ولا تقف عند كونها صياغات رياضية نظرية، كما كانت الحال حتى عهد قريب، فلو كان الخليل بن أحمد بعقله الجبار الذي خلق ترتيبا معجميا من عدم، واستخلص عروض الشعر استخلاصا بلغ حدا مذهلا من كمال العقل الرياضي ودقته، وقنن لنحو اللغة بعض قوانينه؛ أقول لو كان الخليل هذا ولد في عصرنا؛ لجاز أن يكون من أضخم علماء الفيزياء النووية حجما وأوسعهم شهرة؛ فالفكر العقلي عنده، ويبقى الميدان الذي يوجهه إليه، وكذلك لو كان بلانك أو بور أو هيزنبرج رجلا من أهل البصرة في القرن الثامن لأخرج للناس معجما للغة، وعروضا للشعر، مدار التقدم الحضاري - أعود فأكرر - هو الفاعلية العقلية دون سواها، والذي يختلف في مراحل التاريخ هو ميدان النظر الذي تحدده ظروف العصر المعين.
ولقد حددت ظروف عصرنا هذا أن يكون الميدان هو الواقع الطبيعي، وأن يكون الهدف هو إيجاد الجهاز الذي يجسد الفكرة العلمية كائنة ما كانت، الأجهزة هي لغة العلم في عصرنا، ولا عجب أنه عصر الصناعة في ثورتها الثالثة؛ كانت الثورة الأولى حين حلت الآلة محل الأبدان، سواء أكانت أبدان البشر أم أبدان الحيوان، والثورة الثانية حين أصبحت الآلة تسير آلة سواها ، دون تدخل الإنسان فيما يسير وما يسير، والثورة الثالثة حين اتسع نطاق الآلة فلم يعد يقتصر على ما كانت الأبدان تفعله، بل امتد حتى شمل فاعليات العقول، ذلك هو عصر التكنولوجيا كما يسمونه، لا فرق في هذا المجال بين مجتمع في الشرق، أو مجتمع في الغرب، فما دام المجتمع متقدما بمقياس العصر، كان حتما أن يلقي زمامه إلى عقله أولا، وأن يوجه فعل العقل نحو العلوم الطبيعية وأجهزتها ثانيا، فإن فوتت عليه قدراته الاقتصادية أن يسهم في هذا الميدان بنصيب؛ كان لزاما أن يجعل منهاج تلك العلوم منهاجا له في أي ميدان يتاح له النظر فيه؛ فقد تعددت ميادين النظر: فهنالك ميادين العلوم الاجتماعية؛ علم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، وهنالك مجالات الارتفاع بمستوى العيش؛ من حيث التغذية والسكن والتعليم والعلاج الطبي ووسائل الراحة وتأمين الأفراد ضد كوارث الزمن، هنالك كل هذه الميادين التي تتفاوت فيها الأمم في عصرنا ارتفاعا وانخفاضا؛ مما قد يوحي بأن أيا منها يصلح أن يكون أداة لقياس التقدم والتخلف، إلا أنها جميعا تلتقي في نقطة واحدة؛ هي النظرة العقلية بمنهاج العلم إلى كل أوجه الحياة.
ونسأل بعد هذا كله: أين تقف الأمة العربية اليوم من المسيرة الحضارية؟ وأجيب بجواب يختلط فيه قليل من الأسى وكثير من الأمل، الأسى للهوة اللاعقلية العميقة العميقة التي لا نزال نتخبط في ظلامها، والأمل في جيل جديد أراه على الطريق إلى العقلانية العلمية وضيائها.
قد أكون على غير هدى فيما أقول، ولكنني - على الأقل - أصدق القول مع نفسي، حين أقرر ما أراه أمامي واضحا، وهو: إما أن نعيش عصرنا بكل ما يقتضيه من أخلاق، وإما أن نكون قادرين على تحويره، بحيث نعيد صياغته على مثالنا، أما أن نتمرد عليه، ثم نعجز عن تحوير أي شيء فيه؛ فذلك حكم على أنفسنا بموت حضاري، لا يعلم إلا علام الغيوب متى تكون قيامته.
قل ما شئت عن عصرنا، ولكنك مضطر إلى أن تصفه بصفات ثلاث: فهو عصر علمي، وهو عصر تقني، وهو عصر مدار الأخلاق فيه على المنفعة، ولقد جمع مؤلف إنجليزي معاصر هذه الصفات الثلاث في صيغة مركزة، إذ قال إنه عصر «تقني بنتامي»، أما التقنية فهي تتضمن ذلك الضرب من العلوم، الذي يستهدف اختراع الأجهزة التي تجسد قوانينها، ولا يترك هذه القوانين في صورتها المجردة، وأما أنه عصر بنتامي؛ فالإشارة هنا إلى بنتام، فيلسوف المذهب المنفعي إبان القرن الماضي.
অজানা পৃষ্ঠা