حقيقة مفاجئة
من هم العرب؟!
أسماء أخرى
الكتابة العربية
الأبجدية اليونانية
ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة
والفلسفة
تلاميذ أبديون
ثم الثقافة العبرية
العبرية والعالمية
অজানা পৃষ্ঠা
الدين
إبراهيم وموسى وداود يتعلمون
اللغة والكتابة
الشعر ... ونهاية المطاف
حقيقة مفاجئة
من هم العرب؟!
أسماء أخرى
الكتابة العربية
الأبجدية اليونانية
ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة
অজানা পৃষ্ঠা
والفلسفة
تلاميذ أبديون
ثم الثقافة العبرية
العبرية والعالمية
الدين
إبراهيم وموسى وداود يتعلمون
اللغة والكتابة
الشعر ... ونهاية المطاف
الثقافة العربية
الثقافة العربية
অজানা পৃষ্ঠা
تأليف
عباس محمود العقاد
حقيقة مفاجئة
أقدم الثقافات الثلاث
وهذه الثقافات الثلاث هي: العربية، واليونانية، والعبرانية.
أقدمها في التاريخ هي الثقافة العربية، قبل أن تعرف أمة من هذه الأمم باسمها المشهور في العصور الحديثة.
وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الثابت الذي لا يحتاج إلى عناء طويل في إثباته، ولكنها على ذلك حقيقة غريبة تقع عند الكثيرين من الأوروبيين والشرقيين، بل عند بعض العرب المحدثين، موقع المفاجأة التي لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض.
وقد كان ينبغي أن يكون الجهل بهذه الحقيقة هو المفاجأة المستغربة؛ لأن الإيمان بهذه الحقيقة التاريخية لا يحتاج إلى أكثر من الاطلاع على الأبجدية اليونانية، وعلى السفرين الأولين من التوارة التي في أيدي الناس اليوم، وهما: سفر التكوين وسفر الخروج، ولا حاجة إلى الاسترسال بعدهما في قراءة بقية الأسفار.
فالأبجدية اليونانية عربية بحروفها وبمعاني تلك الحروف وأشكالها، منسوبة عندهم إلى قدموس الفينيقي، وهو في كتاب مؤرخهم الأكبر «هيرودوت» أول من علمهم الصناعات.
وسفر التكوين وسفر الخروج صريحان في تعليم الصالحين من العرب لكل من إبراهيم وموسى - عليهما السلام؛ فإبراهيم تعلم من ملكي صادق، وموسى تعلم من يثرون إمام مدين، وشاعت في السفرين رسالة «الآباء» قبل أن يعرفوا باسم الأنبياء؛ لأن العبرانيين عرفوا كلمة «النبي» بعد وصولهم إلى أرض كنعان واتصالهم بأئمة العرب بين جنوب فلسطين وشمال الحجاز.
অজানা পৃষ্ঠা
فيحق العجب ممن يجهل هذه الحقيقة التاريخية المسجلة بالكتابة منذ ألوف السنين، بل بالحروف التي سبقت الكتابة والكتاب.
إلا أن الإشاعة الموهومة كثيرا ما تطغى على الحقيقة المسجلة، ولا سيما الإشاعة التي تحتمي بالصولة الحاضرة وتملأ الآفاق بالشهرة المترددة. وقد أشاع الأوروبيون في عصر ثقافتهم وسلطانهم أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم والحكمة، واختلط على الأوروبيين كما اختلط على غيرهم قدم التوراة بالنسبة إلى الإنجيل والقرآن، وقدم الإسرائيليين بالنسبة إلى المسيحيين والمسلمين، فتوهموا أن العبرانيين سبقوا العرب إلى الدين والثقافة الدينية، وكتابهم نفسه صريح في حداثة إسرائيل وحداثة إبراهيم من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية.
وليس أعجب من الجهل بالحقيقة التي تظهر هذا الظهور.
ليس أعجب من هذا الجهل إلا أن تكون الأوهام المشاعة بهذه القوة عند أقوى الأمم وعند أشهرها بالعلم والثقافة.
فلو لم يكن في هذه الصفحات التالية إلا أنها تكشف هذه الأعجوبة في ناحية من نواحيها، لكان ذلك حسبها من سبب يوجب علينا كتابة هذه الرسالة؛ فهي تفصيل لما في هذه الأسطر القليلة من إجمال، وأيسر تفصيل كاف في مجال كهذا المجال.
من هم العرب؟!
وجد العرب في ديارهم قبل أن يعرفوا باسم العرب بين جيرانهم، وكانت لهم لغة عربية يتكلمونها وتمضي على سنة التطور عصرا بعد عصر، إلى أن تبلغ الطور الذي عرفناه منذ أيام الدعوة الإسلامية.
وهذه هي القاعدة العامة في تسمية الأمم وفي تطور اللغات؛ فليس العرب بدعا فيها بين أمم المشرق والمغرب.
فالهند - مثلا - كانت عامرة بسكانها قبل أن يسمى نهرها بنهر «الهندوس»، وقبل أن يطلق اسم هذا النهر على شبه الجزيرة كلها.
والحبشة كانت عامرة بقبائلها المتعددة قبل أن يسميها العرب بهذا الاسم، ويقصدون به بلاد الأحباش أي السكان المختلطين، وقبل أن يسميها اليونان باسم «أثيوبية» أي: بلاد الوجوه المحترقة، وقبل أن يسميها العبرانيون باسم بلاد الكوشيين لأنهم ينسبون أهلها إلى كوش بن حام بن نوح.
অজানা পৃষ্ঠা
وكانت بلاد السكنداف معمورة قبل أن يسميها أهل الجنوب بلاد «النورديك» أي: الشماليين.
وكانت إنجلترا معمورة بطائفة من السكان بعد طائفة، يوم أطلق عليها اسم إنجلاند أو إنجلترا، أو أرض الأناجلة
angles
الذين قدموا إليها في القرن الخامس بعد الميلاد، ومن ملوكها من كان يحلو له أن يسميها بلاد الملائكة
Angellykes ؛ لأن البابا غريغوري اختاره لها بدلا من اسم بلاد الأناجلة الذي يشبهه في نطقه
Engeliscé ... فراح بعضهم يرسم صورة «ملائكية» على عملتها الذهبية، والتبس الأمر على أتباعهم فأوشك أن يخلط عليهم الحقيقة لولا قرب العهد باسم الأناجلة واسم موطنهم المعروف. •••
وكل هذه الأمم كانت لهم لغات يتكلمونها قبل ألفي سنة، ولا يتكلمها اليوم أبناؤها على النحو الذي كان يفهمه آباؤهم، ولا يشذ عن ذلك أمة من الأمم ولا لغة من اللغات. •••
وقد مضى على العرب أكثر من ألفي سنة وهم معروفون بهذا الاسم الذي يطلقونه على أنفسهم ويطلقه عليهم غيرهم، ولا يزال أصل التسمية وتاريخ إطلاقها غير معروفين على التحقيق إلى اليوم.
هل أطلق عليهم اسم العرب لأنهم كانوا يسكنون موقع الغرب من أمة أخرى يحل فيها حرف العين محل حرف الغين كما يحدث في بعض اللهجات؟
هل أطلق عليهم هذا الاسم من العرابة بمعنى الجفاف أو الصحراء في لغة بعض الساميين بشمال الجزيرة؟
অজানা পৃষ্ঠা
هل أطلق عليهم نسبة إلى يعرب بن قحطان، أو نسبة إلى «عربة» من أرض تهامة كما يقول ياقوت؟
إن مؤرخي العرب يختلفون في ذلك كما يختلف فيه غيرهم، ويقول ياقوت في معجم البلدان بعد أن أشار إلى ذلك: «إن كل من سكن جزيرة العرب ونطق بلسان أهلها فهم العرب، سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال أبو تراب إسحاق بن الفرح: عربة باحة العرب، وباحة العرب دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - أما النبطي فكل من لم يكن راعيا أو جنديا عند العرب من ساكني الأرضين فهو نبطي ...»
وكما قيل: إن العرب سموا بهذا الاسم لأنهم نزلوا إلى الغرب من منازل غيرهم، يقال: إنهم سموا شرقيين
Saracena
عند قوم من أوروبة، وإن الاسم في أصله كان يطلق على قبيلة عربية تسكن إلى الشرق من جبل السراة، ولعلهم سموهم «سراتيين» نسبة إلى الجبل نفسه، وتحرف الاسم بلغات الأوروبيين إلى سراسين!
نذكر هذه الخلافات لنقول: إن وجود العرب في ديارهم سابق لها متقدم عليها، وإن الثقافة العربية ينبغي أن تنسب إلى أمتها قبل أن تسمى بهذا الاسم أو بذاك من الأسماء المختلف عليها؛ فلا اختلاف على نسبة الثقافة إلى الأمة كائنا ما كان الاسم الذي عرفت به عند جيرانها وعند سائر الأمم التي تتحدث عنها، وتختار لها اسمها على حسب مصادره ومناسباته في عرفها. •••
ولا خلاف في علاقة العرب الأقدمين بالجزيرة العربية، ولا في قدم العمران بهذه الجزيرة.
ولا خلاف كذلك في قدم اللسان العربي فيها، ولا في أنه أقدم لسان تكلم به سكانها الأقدمون، ولم يعرف لهم لسان قبله مخالف له في أصوله وخصائصه التي تميز بها بين اللغات العالمية.
أكان المتكلمون بهذا اللسان قبل ثلاثين قرنا مقيمين بالجزيرة العربية أم كانوا مقيمين في موطن آخر ثم هاجروا إليها؟
هنا تختلف الأقوال بين مواطن ثلاثة، هي: الحبشة وبادية الشام وأعالي العراق.
অজানা পৃষ্ঠা
لكن الحبشة ليست مصدر الحاميين والساميين في جهة واحدة؛ فالساميون أحرى أن يكونوا وافدين إليها على قلة محدودة، وليس من الموافق للأوضاع التاريخية ولا للمألوف من الهجرة هناك أو في جهات أخرى أن يكون الساميون المنتقلون من الحبشة أكثر من عشرات أمثالهم في موطنهم الأصيل بالبلاد الحبشية، ولم يحدث في عصور التاريخ المعروف أن كان المهاجرون من الحبشة إلى جنوب الجزيرة يزيدون عددا على الذين يهاجرون من جنوب الجزيرة إليها.
كذلك لم يحدث في حدود التاريخ المعروف أن ترحل الجماعات الكثيرة من بلاد الهلال الخصيب أو من أعالي العراق إلى الصحراء العربية؛ فليس هذا مما حدث في الواقع ولا مما يوافق المعهود في بواعث الهجرة وحركاتها المألوفة.
فمن المألوف أن يحدث الجفاف والجدب في البلاد الصحراوية فيرحل عنها أهلها، ومن التاريخ الواقع أن هذا قد حدث فعلا غير مرة في هجرة القبائل من جنوب الجزيرة وأواسطها إلى بلاد الأنهار أو بلاد الخصب الدائم والمرعى الموفور، ولكنه لم يؤلف ولم يحدث قط أن ينعكس الأمر فترحل القبائل أفواجا أفواجا من أرض الماء والمرعى إلى أرض تتخللها الصحارى الواسعة، ويطرأ عليها الجفاف والجدب في عهود متلاحقة، تكاد أن تنتظم في مواعيدها وأدوارها.
فمن الثابت أن جنوب الجزيرة كان مأهولا قبل ثلاثة آلاف سنة، وكانت له عمارته ومبانيه التي لا تنشأ في قرون قليلة، فهل كان وفود هؤلاء إلى الجنوب بعد سكان آخرين سبقوهم ثم انقرضوا أو انهزموا وخلفهم الوافدون على بلادهم؟ فمن هم أولئك السكان الأولون؟ وما لغتهم؟ وما الداعي إلى افتراض وجودهم؟ ومن أين جاءهم الوافدون اللاحقون وتغلبوا عليهم بالقوة التي تهزمهم؟ وما هي لغتهم وعلاقتها بالعربية؟
كل ما يمكن أن يقال عن ذلك: إنه تخمين لا دليل عليه ولا موجب له، ولا موافقة بينه وبين تجارب الواقع في أماكن الهجرة المطروقة من قديم الزمن، داخل الجزيرة العربية أو من حولها.
ولا صعوبة في تصور الهجرة من الجنوب إلى الشمال على حسب التجارب الواقعة، فلا تضطرنا وقائع التاريخ إلى السؤال عن أبناء البلاد الأصلاء في العراق أو بادية الشام أين ذهبوا ومن هم في أصولهم وما هي لغاتهم وأنباؤهم؛ فإن التاريخ يدلنا عليهم وعلى بقاياهم، وآثارهم حيث أقاموا قريبة من مواطنهم سواء كانوا من السومريين أو من الآريين أو من الطورانيين على التخوم الفارسية أو تخوم الصين، بعضهم لبث في الأرض، وبعضهم جلا عنها إلى ما وراء حدودها، وكلهم ترك من مخلفاته ما يتركه المغلوب المقيم أو المغلوب الذي زال عن البلاد.
فالثقافة العربية إذن هي ثقافة الأمة التي نشأت تتكلم اللغة العربية وعاشت تتكلمها كما كانت على الألسنة في كل دور من أدوارها على سنة التطور في جميع اللغات.
وقد كان أشهر اللغات السامية وأشيعها في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ثلاثا بين جنوب الجزيرة وشرقها إلى الشمال وغربها إلى الشمال، وهي: اليمنية والآرامية والكنعانية؛ مما يدل على أنها نبتت في الجزيرة من الجنوب إلى مواطن الهجرة التي درجت عليها القبائل منذ فجر التاريخ، في طريق بحر العرب شرقا إلى وادي النهرين، أو طريق البحر الأحمر غربا إلى فلسطين.
ثم شاعت الآرامية وغلبت على سائر هذه اللهجات وتفرعت منها النبطية التي اتفقت الروايات على أنها أم لهجات الحجاز. ولم تكن الآرامية بعد شيوعها غريبة عن المتكلمين بالكنعانية أو الحميرية وعن الكاتبين بالحروف النبطية أو حروف المسند؛ فكان المقيمون والراحلون بين هذه الأرجاء يتخاطبون بها كما يتخاطب أبناء الأقاليم في القطر الواحد، أو كما يتخاطب أبناء وادي النيل اليوم من الإسكندرية إلى الخرطوم، مع اختلاف اللهجات والألفاظ في بعض المفردات.
ونحن نعلم أن مؤرخي العرب كانوا ينسبون شعوب العرب البائدة جميعا إلى «إرم» ويسمونهم بالأرمان كما جاء في تاريخ سني الملوك لحمزة الأصفهاني. ويجوز أن يكون الآراميون من سلالة هؤلاء الأرمان هاجروا إلى وادي النهرين في تاريخ مجهول، ولكن تاريخهم المعلوم يرجع إلى عهد دولتهم التي حكمت بابل، وقام منها بالأمر حمورابي صاحب التشريع المشهور (سنة 2460ق.م)؛ حيث سادت اللغة الآرامية وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان وبلاد الأنباط، وظهرت لهجتها العامة - كلاما وكتابة - في كل قطر من الأقطار.
অজানা পৃষ্ঠা
يقول صاحب كتاب «الأبجدية: مفتاح تاريخ الإنسان»: «الآرامية فرع كبير يرجع إلى الهجرة السامية الثالثة، ذكرت في مصادر التوراة وفي الكتابة المسمارية، ويطلق اسم آرام الذي ورد في التوراة على سلالة عنصرية كما يطلق على الإقليم الذي تسكنه تلك السلالة، وجاء في أسماء الأمم بسفر التكوين أن آرام جد الآراميين وقيل عنه إنه ابن سام، وجاء في موضوع آخر أنه حفيد ناحور أخي إبراهيم، ويقال عن يعقوب إنه آرامي تائه، وعن أمه وزوجاته إنهن آراميات. وباستثناء لفظة غامضة في الحفائر الأكادية في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد، تعتبر رسائل تل العمارنة المسمارية في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد أقدم إشارة إليهم باسم أخلام
Akhlami
أو
Akhlamn
أي: الأحلاف الذين يظن أنهم هم أحلاف آرام المذكورين في وثائق القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وهم يسمون في المصادر الآشورية (أروميو) أو (أراميو) وجمعهم آرامي.»
إلى أن يقول: «إن موطن الآراميين الأول غير معروف، وهم يوصفون في ألواح تل العمارنة - التي تقدم ذكرها - بأنهم أفواج مترحلة مغيرة، ويرجح أنهم قدموا من جهة الشرق الشمالي لبلاد العرب إلى بادية الشام من طريق، وقدموا من الطريق الآخر إلى العراق. وعند نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد انتهى سلطان الحيثيين و المتنيين
Mitanni
على تلك الأرض، وظهرت الإمارات الآرامية الصغيرة في الشمال الشرقي والشمال الغربي من وادي النهرين، ثم طرأت على توزيع السكان في سورية الشمالية بعد استقرار الموجة الآرامية بين القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد طوارئ واسعة النطاق ... واغتنمت قبائل الآراميين فرصة هذه الطوارئ؛ فأقامت بقوة السلاح ووفرة العدد سلسلة من الممالك الصغيرة في أخصب المواقع من شمال العراق وجنوبه إلى شرق البادية السورية، وأمكن - بفضل تدجين الجمل العربي حوالي نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد - تيسير طرق القوافل تيسيرا كبيرا؛ فأقيمت في جوانب البلاد مراكز للتجارة الغنية، أشهرها تدمر أو بلد النخيل».
وبعد الإشارة إلى أدوار الضعف التي انتابت الآراميين بعد ذلك، قال:
إن فقدان الحرية السياسية لم يكن معناه نهاية التاريخ الآرامي، بل كان هذا الضعف الذي أصاب الحكومة فاتحة التفوق في الثقافة الآرامية ومسائل الاقتصاد الذي عم آسيا الغربية ... فاصطبغت سورية كلها وجانب كبير من وادي النهرين بالصبغة الآرامية، وأصبحت اللغة الآرامية هي اللغة الدولية في ذلك العهد، وأصبحت على عهد الدولة الآخميدية الفارسية إحدى اللغات الرسمية في الإمبراطورية، ولسانا عاما يتكلم به التجار من مصر إلى آسيا الصغرى إلى الهند. وبلغ من قوة اللغة الحيوية أنها شاعت في الاستعمال بعد ألف سنة من ذهاب الدولة الآرامية، وعاشت اللهجات التي تفرعت عليها قرونا أخرى في بعض القرى النائية.
অজানা পৃষ্ঠা
وتمام هذا الكلام عن غلبة الآرامية أنها كانت تنازع العبرية بين اليهود وهي لغتهم الدينية، ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التكوين «أنهم أخذوا حجارة وعملوا رجمة ودعاها لابان (يجر شهدوتا) ... وأما يعقوب فدعاها جلعيد، وقال لابان: هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم.»
ومعنى «يجر شهدوتا» بالآرامية حجر الشهود، وهي قريبة من لفظها ومعناها باللغة العربية الحديثة، أو هي اللغة العربية كما كانت تنطق في ذلك الدور من أطوارها.
ثم غلبت الآرامية على العبرية في المعابد والكتب الدينية؛ فترجمت إليها كتب التوراة والتلمود، وكتبت بها بعض الأسفار أصلا من عهد عزرا ودنيال، فلما كان عصر الميلاد كانت الآرامية هي اللغة التي يتكلمها السيد المسيح، ويجري بها الخطاب بينه وبين تلاميذه، وبينه وبين المستمعين إليه في عظاته ووصاياه.
جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل مرقس حكاية عن السيد المسيح: «وأمسك يد الصبية وقال لها: طليثا قومي، وتفسيره ... لك أقول قومي.»
وجاء في الإصحاح الرابع عشر: «وقال يسوع: يا أبا - الأب - كل شيء مستطاع لك.»
وجاء في الإصحاح الخامس عشر منه: «وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم: إلوي، إلوي، لما شبقتني.» وتفسيره: إلهي، إلهي، لم تركتني؟ ومعنى شبقتني هنا «جاوزتني وتخليت عني» كما يمكن أن تعني اليوم بالعربية التي نتكلمها.
وعلى ذلك يصح أن نقول: إن الآرامية هي عربية تلك الأيام في مواطنها، وإنها قريبة جدا من اللغة العربية الفصحى بعد تطورها نحو ثلاثة آلاف سنة، لا يستغرب أن يحدث فيها مثل هذا الاختلاف في نطق الألفاظ، وتركيب بعض العبارات.
قال صاحب كتاب الكنز في قواعد اللغة العربية وهو يتكلم عن الآرامية ويسميها البابلية: «ثم انظر فيما يكون من التشابه الظاهر بين العربية والبابلية ولا سيما في الإعراب وحركاته، كالتنوين مثلا ... فهو في البابلية ميم وفي العربية نون، وهذان الحرفان من أحرف الإبدال، ونحن نعرف أن من العرب من يجيز إبدال أحدهما بالآخر، ومنها علامة الجمع: فهي في البابلية الواو والنون كما أنها في العربية الواو والنون أيضا، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم، ومنها أن جميع الأفعال في البابلية أقرب إلى صيغها في العربية؛ فصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة تبلغ اثنتي عشرة صيغة، وأكثر هذه الصيغ مشهور معروف في العربية والعبرية والسريانية ...» •••
وجملة القول: إن الثقافة الآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبتها إلى عنصرها، ولا يمكن أن تعرف لها نسبة إلى أمة غير الأمة العربية في عهودها الأولى؛ فكل ما استفاده العالم من جانبها فهو من فضل هذه الأمة على الثقافة العالمية.
أسماء أخرى
অজানা পৃষ্ঠা
بعد تحقيق المقصود باسم العرب في الزمن القديم، نستطرد إلى تحقيق أسماء الأمم والبلاد التي عاصرت العرب في تلك الحقبة كما عرفها اليونان، وانتقلت منهم إلى الأوروبيين والشرقيين بعد شيوع الثقافة اليونانية؛ فإن تحقيق هذه الأسماء لازم لمعرفة المدى الذي انتهت إليه علاقات اليونان بتلك الأمم، وتحقيق ما استفادوه منها أو استفادته منهم على اختلاف الروايات والدعاوى في الأزمنة المتأخرة.
فاليونان يتوسعون كثيرا في تسمية البلاد والأمم وإطلاق الاسم على موضعه وعلى المواضع التي تجاوره في بعض الأحوال، وقد يتفق لهم عكس ذلك في تخصيص جزء من الأرض بالاسم الذي يعمها ويشملها مع غيرها، لرابطة المشابهة والجوار.
ومن ذلك أنهم أطلقوا اسم سورية على الإقليم المشهور بين شواطئ البحر الأبيض الشرقية وبلاد الروم وتخوم العراق، ثم توسعوا بها حتى شملت «آشورية»، وأصبح اسم السريان عندهم علما على الآراميين في الرقعة الواسعة التي يسكنونها من وادي النهرين إلى سيناء وأطراف الحجاز.
وهم يطلقون اسم فينيقية على شاطئ فلسطين إلى الشمال والجنوب من مدينة صور التي اشتهر أبناؤها الملاحون عندهم باسم الفينيقيين، ولكن فينيقية - كما يدل اسمها - كانت اسما لبلاد النخل في الإقليم كله، من كلمة فينقس عندهم بمعنى النخلة
Φοὶνξ ، وتقابلها عند الرومان كلمة
التي أطلقت على مدينة «تمر» أو «تدمر» في شرق البقاع ... و«تمر» هي الكلمة السامية التي تقابل كلمة
بمعنى النخلة في بعض اللغات الأوروبية إلى اليوم ... ولا يخفى أن أرجح الأقوال عن أصل الفينيقيين الأقدمين أنهم نشئوا عند الخليج العربي في بلاد النخيل، وتحولوا منه إلى فلسطين يوم كانت وطنا مشهورا بكثرة ما فيها من النخيل ... واسم مدينتهم «قرطاجة» التي بنوها بعد ارتحالهم من فلسطين إلى شاطئ الأبيض الجنوبي قريب جدا - في أصله - من الكلمة الآرامية «قارة حداثة» أي: القرية الحديثة، وتحريفها إلى قرتاشة وقرطاجة على ألسنة الرومان قريب جدا بعد إسقاط الحاء التي لا ينطق بها الغربيون.
واليونان وضعوا اسم «أثيوبية» - ومعناه الوجوه المحترقة - وأرادوا به البلاد التي عرفها العرب قديما وحديثا باسم الحبشة، ثم شملوا بها اليمن وسموها بأثيوبية الآسيوية، وأوشكوا بعد ذلك أن يعمموا اسم الأثيوبيين على الأفريقيين السود جميعا، وهم الكوشيون في عرف اليهود والناقلين عنهم من شراح الكتب الدينية.
ومصر القديمة سماها اليونان باسم مدينة كبتوس «قفط» ثم أطلقوا اسم «جبتوس» على القطر كله، وهو الاسم المشهور الآن في اللغات الأوروبية.
والهند سميت كلها باسم نهرها المعروف في الغرب الشمالي منها، وما زالت حتى أصبح يقال عن «الأندوس»: إنه نهر في الهند، وهي منسوبة إليه.
অজানা পৃষ্ঠা
وعلى هذا يحدث أحيانا أن يتكلم اليونان عن أثيوبي وهو يمني، أو عن فينيقي وهو سوري، وعن آشورية
assyria
وهم يقصدون سورية
Syria ، وعن هؤلاء جميعا وهم يقصدون المتكلمين بالآرامية التي كانت أوسع اللغات انتشارا بين جميع هذه البلاد.
الكتابة العربية
ثبت من الآثار المحفوظة أن المصريين الأقدمين تطوروا بالكتابة من رسم الصور إلى رسم المقاطع إلى رسم الحروف التي تسمى اليوم بالحروف الأبجدية، وتسمى عند الأوروبيين عامة بحروف «الألف باء تاء»
alphabet
نقلا عن العربية.
وقد تبينت رسوم بعض الحروف المصرية القديمة من ألواح سيناء، وهي حلقة الاتصال بين الحروف الأولى وبين الحروف على أشكالها المتقاربة التي تطورت بعد ذلك في مختلف اللغات.
إلا أن الحروف المصرية القديمة كانت مقصورة على الكتابة الدينية وكتابة الدواوين وما شابهها من المراجع الرسمية، وإنما انتشرت في المعاملات العامة بعد أن نقلت من سيناء إلى البلاد الواقعة على طرق التجارة الشرقية، بجميع مواصلاتها برا وبحرا من الهند إلى شواطئ البحر الأبيض وحدود البلاد المصرية.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد كانت مراكز التجارة الكبرى على هذا الطريق في بلاد العرب، من خليج العرب إلى عدن إلى خليج العقبة، إلى مدن فلسطين ومدن الحدود الشرقية في مصر القديمة.
ولم يكن من المصادفة المجهولة أن تظهر في لغة العرب خطوط الحرف المسماري وخطوط الحرف المسند وخطوط الحرف النبطي بين شمال الحجاز وجنوب فلسطين.
فإن التجارة التي تحتاج إلى المعاملة الكتابية تجري على خط المواصلات من خليج العرب إلى عدن إلى العقبة إلى ما جاورها من بلاد الأنباط والكنعانيين، وهذه هي على التوالي مواطن الخط المسماري والخط المسند النبطي وما تفرع عليه.
وتجري المواصلات على غير هذا الخط من طريق البادية بين وادي النهرين وشواطئ البحر الأبيض؛ فليس من المصادفة المجهولة أيضا أن توجد على طريق هذه المواصلات بقايا الكتابة الصفوية والكتابة اللحيائية والثمودية في حوران وتدمر والحجر من ديار ثمود؛ ففي هذا الطريق يتقابل أصحاب القوافل من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، كما يتقابلون بين الحجاز والشام وبين الشام والحجاز.
والغالب على التجارة العربية أنها تسلك طريق البر على ظهور الجمال، ولكنها لم تكن معزولة عن البحر كما يتوهم الكثيرون لاعتقادهم أن أصحاب سفينة الصحراء لا يعرفون سفينة غير الجمل، ولا يركبون مطية البحر أو يحسنون قيادتها كما يحسنون قيادة المطايا على الرمال؛ فإن العرب ركبوا البحر قديما في المحيط الهندي، وسبقوا الملاحين إلى شواطئ أفريقية الشرقية في الجنوب، ووجدت في بلادهم صناعة بناء السفن عند العقبة وعمان، ولم يكن سليمان الحكيم - بطبيعة الحال - أول من بنى سفنا بجوار العقبة، ولكنه وجد هذه الصناعة وعمل سفنه فيها كما جاء في سفر الملوك الأول: «وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيله على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم».
وسميت هذه الجهة قبل الإسلام بفرج الهند كما قال الطبري؛ لأنها كانت - ولا شك - تتلقى التجارة من طريق البحر والبر، ولا تزال على اتصال بالملاحة البحرية مع اتصالها بالقوافل على ظهور الجمال.
ويقول المسعودي: إن الملاحين العرب كانوا يديرون قيادة السفن ويدونون تجاربهم في الكتب المتوارثة عن آبائهم من زمن قديم، وكان في بحر الهند كما قال: «مشائخ ولدوا ونشئوا من ربابين وأشاتمة ووكلاء وتجار، ورأيت معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويعولون عليها.»
ومثل هذه الصناعة لا تنشأ في سنوات ولا في أجيال قليلة؛ فلا بد لها من أجيال بعد أجيال طوال.
على أن الأمر المهم في هذا التاريخ أن المواصلات كانت قائمة دائمة على هذه الطرق القديمة من أوائل عصورها، وليس بالمعقول أن يكون الأمر غير ذلك بحكم الموقع وحكم العلاقة بين المشرق والمغرب؛ فإذا استخدم الناس الكتابة في معاملاتهم التجارية فليس في العالم المعمور يومئذ موقع أولى باستخدامها من البلاد العربية، وليس من المصادفة - كما تقدم - أن تكون الخطوط المسمارية وخطوط المسند وخطوط الحروف النبطية أول ما تطور من حروف الأبجدية بعد مرحلتها التي بلغتها في ألواح سيناء.
ومن الواضح أن صناعة السفن لم تكن عامة في بلاد العرب وما جاورها عموم الملاحة على شواطئها في البحرين: الأبيض والأحمر، وإنما توجد صناعة السفن حيث تتيسر وسائلها من الأخشاب والمعادن ومواد اللحام والطلاء، وحيث تتيسر إلى جوارها مراسي السفن للبناء والإصلاح والمأوى؛ ولهذا كانت شواطئ البحر الأبيض الشرقية أعمر الشواطئ بمراكز هذه الصناعة ومراكز الملاحة معها؛ لأنها نهاية الطرق البرية من قبل آسيا، وبداية الطرق البحرية إلى القارتين الأوروبية والأفريقية، وإلى جوارها غابات الشجر الذي يصلح لبناء السفن وموارد المواد المنوعة التي تدخل في صناعتها؛ فكانت شواطئ فلسطين ولبنان أعمر الشواطئ الشرقية بأسباب الملاحة والملاحين ومراكز التجارة التي تصدر من البلاد أو ترد إليها من خارجها، وكانت هذه الشواطئ هي التي اشتهرت عند اليونان باسم «فينيقية»، ونسبوا إليها كل ما استوردوه من بلاد العرب على طريقها، وتواتر عندهم أنها البلاد التي تلقوا منها الحروف وعلم الكتابة - كما سيأتي في الفصول التالية.
অজানা পৃষ্ঠা
الأبجدية اليونانية
تعلم اليونان الكتابة وأخذوا رسم الحروف من «قدموس» الفينيقي كما قالوا في تواريخهم ورووا قبل ذلك في أساطيرهم المتواترة؛ مما يدل على قدم العهد باعتمادهم في ثقافتهم على المصادر الفينيقية.
وأيا كان قول المؤرخين والرواة فهذه المسألة - مسألة الأبجدية - من المسائل التي لا حاجة بها إلى التاريخ والرواية؛ لأن أسماء الحروف وأشكالها ومعانيها شاهدة بانتقالها من المصادر العربية، سواء كانت فينيقية أو آرامية أو يمنية من الجنوب.
فالأبجدية تسمى عند اليونان بال «ألفابيتا» وتبدأ بالألف والباء والتاء، ثم تتوالى فيها حروف كثيرة بلفظها العربي في العصر الحاضر على وجه التقريب.
وليس لأسماء الحروف معان مفهومة في اللغة اليونانية، ولكنها بهذه الأسماء مفهومة المعنى في لغتنا العربية العصرية، فضلا عن اللهجات العربية الغابرة.
وأقرب هذه الحروف إلى المعاني العربية الشائعة في أيامنا حرف الباء من «بيت»، وحرف الجيم من «جمل»، وحرف العين من «عين»، وحرف الفاء من «فم»، وحرف الكاف من «كف»، وحرف الميم من «ماء»، وحرف الياء من «يد».
وأشكالها المرسومة قريبة من أسمائها الأولى كما يرى في شكل «البيت» وشكل «رقبة الجمل» وشكل «العين» وشكل «الفم»، وغيرها من الأشكال.
وإذا رجعنا إلى نطق أسماء الحروف كما شاعت أول استعمالها في البلاد العربية تبينت العلاقة بين أشكالها ومعانيها جميعا بغير استثناء حرف واحد من الحروف؛ فكلها أوائل كلمات مفهومة من بقايا الكتابة التصويرية التي ترسم الشكل كله، وتأخذ من الكلمة حرفها الأول عند الكتابة بالحروف.
وليس من اللازم أن تكون الحروف كلها قد شاعت وعمت على صورة واحدة في وقت واحد؛ إذ من المحقق أن حروف العلة تأخرت زمنا طويلا بعد الحروف الساكنة كما نرى من كتابة المبتدئين إلى اليوم، فإن الطفل الناشئ الذي يتعلم الهجاء لا يكتب حروف المد إذا سمع الكلمة ممن يمليها عليه.
كذلك يثبت من تاريخ الكتابة أن الحروف المتشابهة نشأت على التدريج؛ لتميز الأصوات المتشابهة أو التي يسهل الإبدال بينها، ك «التاء والثاء، والحاء والخاء، والدال والذال، والعين والغين»، وغيرها من المتشابهات في نطقها ورسمها، فإنها تتبدل في لفظها اليوم كما كانت تتبدل منذ مئات السنين، ويتبين من تاريخ التدرج في الكتابة أن الحروف المتشابهة وضعت حينا بعد حين للتمييز بينها بعد التباس النطق بها، ووضوح الحاجة إلى تمييزها ببعض العلامات، كعلامات النقط والتذييل.
অজানা পৃষ্ঠা
ولهذا يرجح المؤرخون أن اليونان نقلوا حروفهم من البلاد العربية جميعا ولم يقتبسوها كلها دفعة واحدة من الفينيقيين، ويرى من كتاب خيرشوف
Kirchoff
عن الأبجدية اليونانية أن حروف الجيم واللام والسين
Γ.Λ.Σ.
أقرب إلى حروف المسند، أي الحروف اليمنية في الجنوب، منها إلى الحروف الفينيقية أو حروف النبط في الشمال.
وقد يعزى الاقتباس إلى رواد الرحلات من اليونان في بلاد «العربية السعيدة» أو بلاد اليمن كما عرفوها، ومن الباحثين من يرجع بها إلى عهد سابق لعهد الرحلات اليونانية بزمن طويل ... ويخطر لهؤلاء الباحثين أنها أثر من آثار حضارة عربية موغلة في القدم وصلت إلى بلاد اليونان، كما وصلت الحضارة العربية إلى الأندلس في الأزمنة الحديثة بعد الميلاد.
يقول مرجليوت في الصفحة الحادية عشرة من كتابه عن الصلات بين العرب وبني إسرائيل:
يرد على الخاطر سؤال عن أسماء المواقع التي تظهر على خريطة اليونان القديمة كعسكرا: أي المعسكر، وفندس: أي الجبل من الفند وهو الجبل العظيم باللغة العربية، ولاريسا: أي العريش أو الخيمة، إلى أمثال هذه الأسماء التي تشبه أسماء المواقع في الأندلس بعد الفتح الإسلامي، فيبادر إلينا السؤال: ألا تشير هذه الأسماء إلى حضارة عربية عريقة وصلت إلى اليونان ومعها حروف الأبجدية قبل أن يصل إليها الفينيقيون بحروف تخالفها؟!
وليس هذا الاحتمال ببعيد؛ لأن آثار الكتابة العربية شوهدت في جزر الأرخبيل بحروف عربية على غير رسم الحروف الفينيقية، ولأن تاريخ الاحتلال الفينيقي لبلاد اليونان - على قدمه - يدل على سبق الهجرة إليها من البلاد الشرقية، كما يدل على تتابع الهجرة قبل ذلك من الناحية الآسيوية، حيث وصلت.
وكيفما اختلفت الأقوال عن مصادر النقل والاقتباس فلا خلاف في أمرين: أحدهما أن الأبجدية اليونانية منقولة عن أبجدية سبقتها، وأن هذه الأبجدية السابقة هي الأبجدية العربية التي تدل عليها ألفاظ حروفها وأشكالها ومعانيها.
অজানা পৃষ্ঠা
وإذا كانت هذه الحقيقة غنية عن أقوال المؤرخين والرواة فلا بد معها من حقيقة أخرى مثلها في الثبوت والوضوح بغير حاجة إلى أسناد من التاريخ أو الرواية.
تلك الحقيقة الأخرى هي: انتقال لوازم الحضارة وصناعاتها الأولية على الأقل مع انتقال الكتابة وانتقال أساليب استخدامها في المعاملات؛ فإن الأمة المتعلمة لا تأخذ الكتابة من معلميها وتترك ما عندهم من صناعة السفن والملاحة، ومن معارف الفلك والجغرافية التي يعتمدون عليها في السياحة، ولا مناص لها من الشعور بالحاجة إلى أدوات الحضارة التي يجلبها إليهم أصحاب السفن التي تدل ببنائها وبما تحمله من بضائعها على التقدم في العلم ومرافق العيش ومطالب الحياة.
فلو لم يذكر التاريخ شيئا عما استفاده اليونان من صناعات البلاد العربية ومعالم حضارتها لكانت هذه الفوائد من حقائق البداهة التي تستغني عن التاريخ، ولكن التواريخ اليونانية - بل الأساطير الشعبية - تسجل هذه الحقيقة وتذكرها كما تذكر الحقائق المسلمة التي لا داعية لتمويهها ولا للمغالطة فيها، ولعلهم كانوا يذكرونها بشيء من الفخر؛ لأنهم تعلموا حيث وجدوا العلم الضروري ولم يهملوه.
ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة
يقول هيرودوت في الكتاب الخامس من تاريخه:
والآن نذكر أن الفينيقيين الذين جاءوا مع قدموس وإليهم ينسب الجفيريون، قد أدخلوا معهم إلى اليونان بعد قدومهم إلى بلادهم صناعات كثيرة منوعة، منها: صناعة الكتابة التي كانوا يجهلونها - على ما أحسب - قبل ذلك، فنقلوا حروفهم - أولا - على مثال الحروف الفينيقية بغير تصرف، ثم تغيرت مع الزمن لهجاتهم؛ فتغيرت معها رسوم حروفهم، وقد كان الآيونيون أكثر الإغريق الذين كانوا يومئذ يقيمون في تلك البلاد حيث نزل الفينيقيون، فاقتبسوا الحروف الفينيقية مع تعديل قليل في رسم بعضها، وما زالوا بعد حين يسمونها بالفينيقية إنصافا لمن نقلوها إليهم، وقد كان الآيونيون يسمون الورق بالقديد؛ لأنهم كانوا يكتبون على الجلود عند ندرة صحائف الكتابة، وما برح البرابرة يكتبون عليها إلى هذه الأيام. وقد رأيت بنفسي كتابة بالحروف القدموسية محفورة على بعض القوائم المثلثة في معبد «أبولون أسمنياس» بثيبة البوطية، رسومها تحكي الرسوم الآيونية، وعلى إحداها هذه العبارة: «أقامني أمفتريون من عهد مقدم التلبوية»؛ فهي قريبة من عهد لايوس بن لا بداكوس بن بوليدورس بن قدموس ... وعلى قائمة أخرى نقشت هذه العبارة من شعر العروض السداسي: وهبني سكاوس الملاكم للشمس الساطعة بعد فوزه: هبة جميلة معجبة ... ولعله سكاوس بن هيبوكون! فإن كان هو الذي وهب القائمة ولم يكن أحد آخر يسمى بمثل اسمه، فتاريخ الهبة يرجع إلى عهد أوديب بن لايوس ...
ورأيت على القائمة الثالثة كتابة نظمت من العروض السداسي يقول كاتبها: إن الملك لاودامس وهبها للشمس النافذة عند جلوسه على عرشه هبة جميلة معجبة ...
وفي عهد لاودامس هذا - ابن أتوكليس - أخرج القدموسيون من بلادهم ولاذوا ببلاد الأنشيليين على الشاطئ الغربي من ألبانيا الحديثة ...
ونحن ندرك قول هيرودوت: إن الآيونيين - أي اليونان - نقلوا الكتابة بغير تصرف حين نعلم أنهم نقلوها بطريقتها ومادة صحفها، كما نقلوها برسوم حروفها وألفاظها؛ فقد ظلوا يكتبون السطور من اليمين إلى الشمال كما نكتب العربية اليوم، وبقيت هذه الطريقة متبعة عندهم في نقوش الآنية المزخرفة إلى ما بعد اقتباس الكتابة بعدة قرون، ولم تظهر لهم نقوش من الشمال إلى اليمين قبل أيام بسماتيك في القرن السابع قبل الميلاد.
ولا شك أن اليونان غبروا زمنا طويلا وهم يتلقون ثقافتهم وصناعتهم من القدموسيين بأوطانهم المختلفة من آسيا الصغرى إلى حدود بلاد الألبان العصرية في الجنوب، فلا بد أن يكون هذا الزمن موغلا في القدم عدة قرون كي تمتزج أخباره التاريخية بروايات الأساطير المتداولة على ألسنة الجماهير، فإن أساطيرهم تضيف إلى أخبار التاريخ التي تنسب إلى قدموس فضل تعليمهم الكتابة وبنائه لمدينة بوطية أنه كان من أصحاب المعجزات الذين تعينهم الآلهة، وتملي عليهم مكائد الحرب والخديعة، ومنها أن قدموس قتل التنين الحارس لبعض الينابيع في بوطية، ونثر أسنانه على الأرض فنبتت منها شرذمة من المردة المسلحين أحاطوا به ليقتلوه، فأوحت إليه الربة أثينا أن يلقي إليهم بجوهرة كريمة بهرتهم فتركوه واقتتلوا عليها حتى أفنى بعضهم بعضا، ولم يبق منهم غير خمسة لم يقدروا عليه؛ لأنهم خرجوا من المعمعة منهوكين مهزولين؛ ومن هنا يقال عن النصرة التي تنال بالثمن المرهق والخسارة الفادحة؛ إنها نصرة قدموسية أو قدمية، ويجري هذا في التعبيرات المجازية بين المحدثين من الأوروبيين.
অজানা পৃষ্ঠা
ويقول المعجم الأثري إنهم كانوا يعبدون هرمز رب الحكمة والمعرفة عندهم باسم قدموس، «وإنه كان يقال عنه: إنه مخترع الزراعة والحدادة وصناعات الحضارة على التعميم، وإن الشعراء الأقدمين لم يكن لهم علم بمقدمه أكان من الشرق أم من مصر أم من فينيقية، ولما قيل أخيرا: إنه من فينيقية قرنوا اسمه باختراع حروف الأبجدية التي يعرف الإغريق جيدا أنهم أخذوها من الفينيقيين».
والثابت بعد هذا كله من الواقع - فضلا عن أخبار التاريخ - أن الحروف اليونانية القديمة كالحروف العربية، وأنهم كانوا يكتبونها من اليمين إلى الشمال كما نكتب العربية اليوم، وأنها بأشكالها وأسمائها ذات معنى في اللغات السامية، ولا معنى لها في لغة من اللغات الأوروبية، وأن انتقالها كان مقرونا بانتقال صناعات الكتابة وأدواتها وما يتصل بها من الصناعات الأخرى، وأن اليونان تعلموا الملاحة وفنونها ممن سبقوهم: أي من أمم البحر الأبيض الشرقية، وأن النقوش وأسماء المواقع في البلاد اليونانية ترجح وصول العرب بحضارتهم إلى تلك البلاد في زمن قديم سابق على الأقل لشيوع أسماء «لاريسا»: أي العريش، و«عسكرا»: أي العسكر، وفندس
أي: الجبل العظيم.
على أن اقتباس اليونان من العرب يظهر لنا من تشابه الكلمات في اللغتين، ولا سيما الألفاظ التي تدل على أصل متشعب في العربية، أو تدل على نظام المعيشة الغالب على الأمة وطول العهد به في موطنه ومستقره.
فالبرج في اليونانية برجوس
Πύργος
ومادة الباء والراء ومثليتهما أصيلة في الدلالة على الظهور والعلو: كبرز وبرض وبرع وبرق، ومعنى البروج والتبرج والأبراج شائع في المادة العربية.
ولا شك في سبق العرب إلى الفرس والسيف والقناة.
والفرس في اليونانية
ΦΟράδα
অজানা পৃষ্ঠা
والسيف
Ξὶρος .
والقناة أخذوها وأخذوا منها القانون بمعنى المقياس، ولا تخفى علاقة القناة والقصبة بالمقاييس في كل لغة، ومنها الرول
Rule
بمعنى القاعدة، والرولر بمعنى المسطرة في اللغة الإنجليزية.
ومن الكلمات التي تلحق بالمقاييس كلمة القسطاس
δικαστὴς
وكلمة القالب
Χαλοχός .
ولا تخفى العلاقة بين كلمتي «قلم» و«قصبة» وبين المصدر العربي لكلمة كلموس
অজানা পৃষ্ঠা
Κὰλαποδ
وكلمة كسمبة
Κὰσαμπα
اليونانيتين بمعنى قصبة، وإن يكن تاريخ استعمالها غير معلوم.
وتلحق بكلمات الكتابة الخارطة والخرطة، والأولى عربية من خراطة السائل الذي يؤخذ من أصل ورق البردي، ومن الخرط وهو قطع الجلد أو الصحاف التي يكتب عليها ... وتسمى الخارطة والخرطة في اليونانية
Χὰρτης
ومنها الكرتيس أو القرطاس.
وتلحق بكلمات الملاحة كلمة سير وهي باليونانية «سيرا»
σειρα
وكلمة غراء وهي
অজানা পৃষ্ঠা
σύρος
وهما أشبه بصناعة السفن وبالصناعة على الإجمال ، وليس أبعد من الفرض الذي يجعل هذه الكلمات منقولة عن اليونانية إلى العربية، مع العلم بسبق العرب في الملاحة والكتابة وقياس ما ينقل في السفن ووزنه وتقديره.
ونظير ما تقدم في الدلالة على اقتباس اليونان دائما من العرب في أمثال هذه الألفاظ التي ترتبط بالمعاملات وشئون المعيشة؛ أنهم حولوا أسماء أيام الأسبوع إلى الترتيب العددي أسوة بأسمائها العربية، وغيروا منها اسم السبت والأحد بعد ظهور المسيحية، وهل كان اقتباسهم من المسيحية إلا اطرادا في هذه القاعدة وجريا على هذا القياس؟!
والفلسفة
والفلسفة ليست بالاستثناء من هذه القاعدة العامة في تاريخ الثقافة الشرقية اليونانية، خلافا لما يظنه القائلون بأن فلسفة اليونان قد نشأت في منبتها نشأة منقطعة عن ثقافة العالم في جملتها.
إن طاليس هو أبو الفلسفة اليونانية كما قال عنه أرسطو الملقب ب «المعلم الأول». وقد ذكره في كتاب ما بعد الطبيعة وقال عنه: إنه مؤسس الفلسفة، واستشهد بقوله: إن الماء مصدر جميع الأشياء. وذكره في كتاب السماء واستشهد بقوله: إن الأرض جسم يطفو على الماء. وذكره في كتاب النفس واستشهد بقوله: إن المغناطيس ذو حياة؛ لأنه يقدر على تحريك الحديد. وذكره في كتاب السياسة، وروى من أخباره أنه أدخل بعض التحسين على معاصر الزيتون وجمع ثروة حسنة بهذا الاختراع.
وفي الأخبار التي جمعها عنه كتاب «المرشد إلى من قبل سقراط من الفلاسفة» أنه عرف أسباب الكسوف والخسوف، وأنه كشف منزلة الدب الأصغر من منازل الفلك، وأنه أدخل الفلسفة من مصر إلى بلاد اليونان، واهتدى إلى قواعد تمكنه من قياس مسافة البعد بين الشاطئ والسفن في البحر، وتمكنه من قياس ارتفاع الهرم بقياس ظله، كما اهتدى إلى بعض النظريات في حساب المثلثات والدوائر، ويقول الكتاب بعد ذلك: إن المصادر المختلفة تنبئنا بأنه تعلم الهندسة من المصريين، وأنه وخلفاءه كانوا تلاميذ للمصريين والكلدانيين، وكان - ولا ريب - مدينا بالكثير مما عرفه في هذين العلمين اللذين اشتهر بهما ... وإن كان المفهوم أنه استخدم الأساليب العلمية في تنظيم هذه المعرفة.
ومما له معناه الظاهر في نسبة المعارف التي استخدمها طاليس إلى مصادرها أنه كان معدودا من «حكماء اليونان السبعة»، وأن هؤلاء الحكماء كانوا أشبه ب «هيئة مستقلة» لا تنقص عن هذا العدد، ويضاف إليها بديل ممن يخرج منها إذا ثبت أنه أقحم نفسه على الهيئة بسلطان لإمارة أو الرئاسة.
ولا يخفى أن «نحلة السبعة» في كل اقتراناتها ترجع إلى مصدرها الأول من بلاد ما بين النهرين؛ حيث يتكلمون عن السيارات السبع وعن الأيام السبعة وعن السوابيع المتعددة في أعمار الأكوان، وقد كان طاليس يعيش في ليديا من بلاد آسيا الصغرى، ويتلقى معلوماته من قبلها في مسائل الفلك ومسائل النظريات الكونية وأصول الخلق والحياة، وكان تلميذا للمصريين في العلوم الرياضية كما يقول مؤرخوه.
فإذا قيل: إن الفلسفة ليست بالاستثناء في شئون الثقافة التي نقلها اليونان عن الشرق، فهو الواقع الذي تتفق عليه مصادر التاريخ ومراجع الفلسفة، وإن كانت الفلسفة اليونانية قد تطورت كثيرا بعد طاليس ونظرائه من الحكماء، حتى أصبحت في عصر أرسطو وتلاميذه الأولين جديرة بالانتساب إلى اليونان دون غيرهم من أمم الثقافة والحضارة في الأزمنة الغابرة.
অজানা পৃষ্ঠা