তিন পুরুষ এবং এক নারী
ثلاثة رجال وامرأة
জনগুলি
وكان التطريب الذي قلنا إنه كان يهفو في تلك الليلة الساكنة الضحياء إلى الجلوس في الحديقة، مصدره محاسن، وهي فتاة غضة السن صغيرتها، تدلف إلى العشرين، ولكنها فيما يرى أبوها عياد قد صارت إحدى المصائب الكبرى، وكانت دقيقة الطول ممشوقة القد، أو نحيفته إذا اعتبرت خفة اللحم على الذراعين والصدر والبطن، ولكنها كانت عريضة الألواح كالغلام، وثدياها صغيران وإن كانا راسخين كالكمثرى الصغيرة، وحلمتاهما ناشزتان طويلتان وحولهما من السواد أكثر من المألوف في العذارى، كأنما كانت قد ولدت وأرضعت، فأما محياها فأسيل الخدين وإن كانا متهضمين قليلا، وأما شفتاها فرقيقتان جدا، يفتران حين تبتسم عن ثنايا عذاب، إلا أنها ليست بالناصعة البياض؛ لإفراطها في التدخين بكره أبيها ورغمه، وأما عيناها فنجلاوان ظمياوان، ولكنهما تبدوان حين يعروهما فتور أو كمد أو اضطراب ثابتتين، ويخيل إليك أنهما أظلمتا، وكان حاجباها سابغين مهللين كأنهما خطا بقلم، وجبينها عريضا واسعا، وشعرها أسود فينانا في طول واسترسال ونعومة، تفيئه كيف شاءت بغير احتفال أو عناء، وكانت تؤثر أن ترسله ولا تجمعه.
أما أنها إحدى المصائب الكبر؛ فذاك لأنها عرفت من سيرة أبيها ما كان يكره أن تعرف هي أو أمها، ولكنها كتمت سره واكتفت بإذلاله به، فأرخى لها الحبل على الغارب، فركبت رأسها، ولم تعد تحفل غير أمها، وكانت هذه ضعيفة بطيئة الجسم والعقل معا، لا متصرف لها ولا حيلة عندها.
على أن الفتاة لم تكن سعيدة بهذه الحرية أو موفقة فيما تعالج أو تدبر أو تطلب من الأمور، وقد ورثت عن أبويها ضعف الرأي، وقلة الإحكام للمراد، والاستعداد للرضى بالكلام، والاستنامة إلى كل أحد، وشيئا من الزهو والغطرسة والميل إلى التظاهر والتفاخر بالباطل أو بأكثر مما هناك.
وكان جانب الغفلة فيها يكاد يلقيها على المعاطب، فلا يقيها إلا بقية حذر مستفاد من الكبر الموروث والأنفة أن يقال غوت وضلت بنت عياد، ومما أكسبتها الحرية من اعتياد الاعتماد على نفسها في أمورها وإيقاظ ما في رأسها من عقل ليعينها ويمدها بالرأي فيما هي ماضية إليه. على أن الأرجح أن هذا كله ما كان ليجديها ويحميها لولا أن ساعفها حسن حظها.
على أن حسن الحظ أمر نسبي؛ فقد كانت حسنة الحظ إذا اعتبرت ما آلت إليه في كل مرة من السلامة، ولكنها كانت سيئة الحظ إذا اعتبرت أن أملها خاب في كل مرة حتى كادت تصير إلى اليأس في كل ما تطمع فيه وتحرص على إدراكه؟ فاضطربت أعصابها وأتعبها وأقلقها قلبها بنوبات من الخفقان الشديد لا مثيل لها إلا هذا الاضطراب، وقللت طعامها، لا زهادة فيه، ولا عن ضعف اشتهاء له، بل من الضجر والحيرة وقلة التوفيق وكثرة الإخفاق وخفاء ما ينعش من العثرات، ويصلح هذا البخت المقلوب.
وزاد الطين بلة لما تعلق أبوها بحسانة يهودية راح يحملها معه إلى المصايف والمشاتي ويزعم لأهل بيته أنه مندوب لمهمات تستوجب هذا السفر والغياب؛ فأنزفت هذه المهمات أكثر ماله، وقتر على أهله في النفقة، وأصارهم إلى ضنوكة غير معهودة، وإن كانت في ذاتها محتملة ولكن وطأتها ثقلت بالقياس إلى ما كان من السعة، وشق على محاسن أن تلقى نفسها تروم الشيء فلا يتهيأ لها، وأنها اضطرت إلى الكف عن التعلم، وكان مرجوها أن تواصله حتى تبلغ به مناها فتصبح شيئا له قيمة وبه استقلال، فتفيد بذلك مزية تضيفها إلى مزايا الحسن والشباب وكرم الأرومة؛ فقد كانت تعتز بأرومتها الشركسية وإن كانت رقة الحال قد خففت من غلوائها وطامنت من كبريائها.
وكان كل هذا - مضافا إلى ما يهتف به شبابها، وما تجده من الرغبة فيها والإقبال عليها - ربما أغراها بالإطماع في نفسها دون التمكين، فاعتقد الشبان الذين اتصلت بأسبابهم أسبابها نوعا ما، أنها مخادعة عابثة، تظهر خلاف ما تبطن، وتعطيهم باللسان ما ليس في القلب، وتجريهم وراءها لتلهو بهم وتسخر منهم، فانصرفوا عنها ساخطين محنقين، وبسطوا ألسنتهم فيها، فصارت لها سمعة لا تطيب لامرأة، وإن لم تكن من الحق في شيء.
ومع ذلك خطبها غير واحد قبل محمود، فأما أول الخطاب فعلق خطبته على شرط أن يزوج أخته، وكانت تصغره؛ لأنه كان أبر بها من أن يختص نفسه بنعيم الزواج دونها، ولكن عزوبة الأخت طالت فضجر عياد أفندي ومحاسن، ونقضا الخطبة.
وجاء ثان من إخوان عياد أفندي وجلسائه وسماره، ولم يخطب البنت، ولكنه تحبب إليها، وصفت هي إليه بودها؛ فقد كان أنيس المحضر لطيف الفكاهة سخي اليد، وخيل إلى عياد أفندي وامرأته أن المسألة مسألة أيام، ولكن الأيام والشهور تقضت وهو لا يزيد على التودد، ولا يجاوز ما يبدو من إقباله إلى الخطبة والطلب، ولا حتى إلى الوعد، وما زالت نيته مضمرة لا يتحدث بها أو يكشف عنها، وإن كان لا يكف عن إظهار المودة والإعجاب، والغيرة أحيانا.
ثم كان محمود، وهو يحبها، ولا يجهل ما قيل فيها وشاع عنها، وكان يعلل هذا بأنه قدح شبان لم ينالوا منها منالا فذهبوا يشنعون، وللذي قالوا فيها أدعى إلى فخرها، وبحسبها أنها امتنعت عليهم واستعصت على المغريات، ولكن أشياء بقيت مع ذلك تحك في نفسه وتدور في صدره، ولا سيما حين يرى قلة مبالاتها بما يكون منها؛ كأن تذهب إلى السينما مع رجل لم تعرفه إلا في يومها، بل قبل ساعة واحدة من الاقتراح، أو حين تقبل على الأستاذ حليم إقبال الألفة والثقة وتسارره وتضحك، ويساررها ويبتسم كأن بينهما ما يكتمان أو ما يتساقيان تذكره.
অজানা পৃষ্ঠা