তিন পুরুষ এবং এক নারী
ثلاثة رجال وامرأة
জনগুলি
عاد الأستاذ حليم فقبع في بيته، ولاذ بكتبه، وعاد بخيالاته وأحلامه ، ما اطرد منها وما شذ، ولكن الأمر لم يستقم له، والحياة لم تطب كما كان الحال من قبل، فصار كالفرس الذي يمشي في أرض ذات حجارة، فهو يجري كأنه يتقي، ويتردد كأنه منفلت، ويضجر فيمد رأسه كأنه يريد أن يغالب اللجام، فهو لا يزال يجتهد ولا يستقر، ولا يمر مرا سهلا غير مضطرب؛ ذلك أنه خالف مألوفه ودخل في غيره، مستخفيا محاذرا حتى اطمأن واستطاب ما هو فيه وفضله على ما ترك، فانقبض، وارتد متواريا، وضرب القدر الكأس التي رفعها إلى شفتيه وراح يمص منها، فأطارها وتركه صديان يجمع ريقه تحت لسانه، ويتلهف على رشفة أخرى يبل بها لسانه، ويصر صماخه من الظمأ إلى عذوبة ما حسا منه، ولا يصبر على ما عرف بعد أن جرب أنه كان محلا عنه، وذاك حال كل من يأكل من شجرة المعرفة، وما زال صحيحا أن الحياة إنما تصفو لغافل أو جاهل أو قادر على مغالطة نفسه.
ولم يتغير حاله مع عياد؛ فكان يجالسه ويسامره، ويؤاكله ويشاربه كما كانا يفعلان؛ فقد اتقى الأستاذ حليم أن ينقطع عنه أو يتخلف عن لقائه، ولم يكن يدري ماذا يخاف على وجه الدقة، وإنما كان يشعر أن عليه أن يلازمه على قدر ما يستطيع؛ لعله يحول بذلك دون كشف المستور.
وحرص أيضا على لقاء محاسن، فقد صار بينهما سر ينتجيان به ويتساران، ولا يزالان يتساقيان تذكر فجعته، ونعمة الله عليهما إذ سترهما ولم يفضحهما، وكان يشعر أنه يعطف عليها ويرثي لها، وأنه يخافها، ويبغضها أيضا، فلم يسعه إلا أن يظل على اتصال بها؛ ليجنبها الطيش ويقيها مغبة الخفة، ويدفع عنها عوامل اليأس، ويمنع أن يقع هو في بلية جديدة.
ولم تكن محاسن خيرا منه حالا أو أقل حيرة واضطرابا، وكانت قبل الذي وقع لها، تجترئ على أبيها ولا يجترئ عليها، فأصبحت تغض الطرف حين تراه، وتتلعثم إذ تخاطبه، فرضي هو عن هذا الأدب الجديد ولم يكلف نفسه عناء التفكير فيما فاء بها إليه.
ولم تكن تحب محمودا، ولكنها كانت لا تنفر منه، وارتضت ما ارتضاه لها أبوها، ووطنت نفسها على حياة زوجية معه، كانت هي تزعم أنها ستكون مملة لا محالة، وكان الأستاذ حليم يزينها لها ولا ينفك يقول لها فيما يقول: إن المرأة قد تحب الرجل قبل أن تصبح زوجة له، ولكن هذا حب لا يكون إلا مشكوكا فيه؛ لأن مرجعه إلى الخيال، وإنما العبرة بما تلقى نفسها تحن له بعد الزواج وتجربة حياته وتلقي أثره، وما أكثر النساء اللواتي فتر حبهن، بعد أن يبني بهن بعولتهن! بل انقلب كراهية صريحة؛ لأنهن لم يجدن ما كن يتطلعن إليه ويطمعن فيه ويتخيلنه، فخاب أملهن وثقلت وطأة الاحتمال على أعصابهن التي لا تفتأ تتنبه ولا تسكن. ويا رب امرأة لم تكن تعرف الرجل ولا رأته، أو كانت تعرفه وتراه ولكنها لا تصفو إليه بود، فلما عرفته زوجا لها أرضاها منه ما يرضى، فأحبته، وصار منية النفس كلها وهوى القلب جميعا؛ ذلك أن الزواج هو الامتحان الصحيح، والمرأة في هذا على خلاف الرجل؛ فالرجل الذي لا يشبع من المرأة يقبل ولا يعرض، أما المرأة فإنها إذا ألح عليها هذا السغب تتلف أعصابها وتصب غضبها على من كان علة حرمانها الشبع.
كذلك كان يقول لها الأستاذ حليم، فتصدقه؛ أليس أسن منها وأخبر؟ أليس مشهورا بالعلم والتبحر في المعرفة؟
فلما كان ما كان، صار يحدث لها رعبا أن تتصور أن تكون يوما ما زوجة محمود، وساورها الشعور بأنها خانته، وإن بقي عقلها مدركا أن هذا شطط في التهمة وإسراف على نفسها في الظلم، وخيل إليها أنها لم تعد أهلا له أو جديرة به، وإن كانت لا ترى له مزية تفرده بين أنداده، وكانت كلما ألحت على نفسها بالاتهام والتحقير تثور وتتمرد وتتساءل عن محمود هذا، ما الذي يجعلها تتوهم أنه خير منها وأقوم سيرة وأنظف ذيلا وأعف عينا وقلبا و... ماذا تعرف عنه سوى ما أطروه به وقالوا فيه من الخير؟! ومتى قال أحد في طالب زواج إلا كل حسن وجميل؟!
وكان يثقل عليها جدا اضطرارها إلى كتمان سرها، فتحس بالحاجة إلى البث، وتود لو استطاعت أن تبيح أمها صدرها، وتطلعها على خبيئة نفسها، وكثيرا ما همت بذلك متشجعة بأن قلب الأم أحنى قلب، فيتحرك لسانها، فتجبن وتفزع وتعض عليه.
وقد علمت من الطبيب أن الأثر الذي بقي مما يسهل علاجه، ووعدها خيرا حين تشاء، أو حين تدعو الحاجة إلى الإصلاح، ولكنها مع ذلك بقيت مرة النفس، مشمئزة من هذا التلفيق الميسور والترقيع السهل لما كانت تعتز به وتحرص عليه من آية العفة، وزادها هذا نفورا من محمود، لا كراهة له؛ فقد كان من أغرب النقائض أن شدة تفاعل ما يدور في نفسها ويضطرب به صدرها أفضى بها إلى رقة له في قلبها، وإنما كان نفورها عن استنكاف منها لمخادعته والكذب عليه وستر الحقيقة عنه، ولما كانت لا تأنس من نفسها شجاعة كافية تعينها على مصارحته، وإن كانت تأنف من الكتمان، فقد ألفت نفسها لا تقدر على كف نفورها منه وجفوتها له، ورأى هو من تغير حالها وعسرها في عنادها ووضوح ضجرها منه وزهدها فيه ما نشر المطوي مما أورثته سميرة من سوء ظنه بالمرأة، وسرعة تقلبها، وقلة ثباتها على خلق أو عهد، وسئم أن يكون هذا حظه كل مرة، وأيقن أن في الأمر رجلا آخر، إذا لم يكن ناظر زراعة فأكبر الظن أنه هذا الأستاذ حليم الملعون، وثار على خسة نصيبه من وفاء المرأة، فقطع زيارته لبيت عياد.
ولم يكن بال عياد إلى هذا؛ فقد كان في شاغل من صاحبته الأجنبية؛ فإذا لم يكن معها، فهو في طعام وشراب، وصياح وزعيق، وما جعل الله لامرئ إلا قلبا واحدا في بدنه، وقد استأثرت بقلبه وعقله صاحبته، واستبدت بلبه، وما بقي من ذلك - وهو أقل من القليل - استنفده الشعور بأنه ظالم لأهله، والاجتهاد في خنقه وتلطيف لذعه بالغطرسة، والعجرفة وسوء الخلق.
অজানা পৃষ্ঠা