مقدمة
...
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب كتاب التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي الإسلام للمؤمنين دينًا، ونصب الأدلة على صحته وبيّنها تبيينًا، وغرس التوحيد في قلوبهم، فأثمرت بإخلاصه فنونا، وأعانهم على طاعته هداية منه وكفى بربك هاديًا ومعينًا.
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾، [الإسراء: ١١١] .
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾، [الفرقان: ٥٤-٥٥] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوييته وإلهيته، تعالى عن ذلك ﴿عُلُوًّا كَبِيرًا﴾، [الإسراء، من الآية: ٤] .
﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾، [الفرقان: ٥٩] .
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾، [الأحزاب: ٤٥-٤٦] .
وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فهذا شرحٌ لكتاب (التوحيد) ١، وافٍ إن شاء الله تعالى بالتنبيه على بعض ما تضمنه من بيان أنواع التوحيد؛ إذ هو المقصود بالأصالة هنا، ولم أخله أيضًا من التنبيه على بعض ما يتضمنه من غير ذلك، إلا أن الأولى بنا هو بيان ما وضع لأجله الكتاب؛ لعموم الضرر والفساد الواقع من مخالفة ما فيه.
_________
١ في النسخة (أ) زيادة: (تأليف الشيخ الإمام محمّد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب، وأجزل له الثواب) .
1 / 3
والأصل في ذلك هو الإعراض عن الهدى والنور الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمّد ﷺ من الكتاب والحكمة، والاستغناء عن ذلك بمتابعة الآباء والأهواء والعادات المخالفة لذلك.
ولهذا كرّر الله تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكّده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدّة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كلّ ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلاّ بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت.
كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام] فسمّى ﷾ الخالي عن هذا الهدى والنور ميتًا، وسمى من حصل له ذلك حيًا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد الله تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلّل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، يل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين.
كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ١.
فإذا فاته هذا المقصود فهو ميّت، بل شرّ من الميت. قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾
وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ٢.
وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ٣.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
_________
١ سورة النحل آية: ٩٧.
٢ سورة الأنعام آية: ١٥٣.
٣ سورة آية: ١٥-١٦.
1 / 4
جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ ١.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ...﴾ ٢ إلى قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ٣ ٤.وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ٥.وقال تعالى: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾ ٦.
وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ ٧.
قال ابن عباس: " تكفل الله لِمَن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ ﴿يَضِلُّ﴾ في الدنيا، ﴿وَلا يَشْقَى﴾ في الآخرة.
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ٨.
فيا عجبًا مِمَّن يزعم أنّ الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أنّ النبي ﷺ لم يهتد إلا بذلك.
كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ ٩، ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان.
وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ١٠.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كلّ مَن عقل عن الله أن يكون على بصيرة ويقين في دينه.
كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ١١.
_________
١ سورة النساء آية: ١٧٤.
٢ سورة النساء آية: ٥٩.
٣ سورة النساء آية: ٦٤.
٤ سورة النساء آية: ٦٥.
٥ سورة النحل آية: ٨٩.
٦ سورة آية: ٩٩-١٠١.
٧ سورة آية: ١٢٣-١٢٤.
٨ سورة الشورى آية: ٥٢.
٩ سورة سبأ آية: ٥٠.
١٠ سورة الحشر آية: ٧.
١١ سورة يوسف آية: ١٠٨.
1 / 5
ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ،
وكيف ينال الهدى والإيمان مَن زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن إنّما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تالله لقد مسخت عقول هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان.
وهذه المتابعة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه الله على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه.
فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ١. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ٢، فلا يتقبل من أحد دينًا سواه من الأولين والآخرين.
كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ٣.
شهد الله تعالى بأنّه دينه قبل شهادة المخلوقين، وأنزلها تتلى في كتابه إلى يوم الدين. فقال تعالى وهو العزيز العليم: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ٤.
جعل أهله هم الشهداء على الناس يوم القيامة، لما فضلهم به من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات التي توجب إكرامه
فقال تعالى ولم يزل عزيزًا حميدا: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ٥.
وفضله على سائر الأديان، فهو أحسنها حكمًا، وأقومها قيلا. فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ ٦.
_________
١ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
٢ سورة آل عمران آية: ٨٣.
٣ سورة آل عمران آية: ٨٥.
٤ سورة آل عمران آية: ١٨.
٥ سورة البقرة آية: ١٤٣.
٦ سورة النساء آية: ١٢٥.
1 / 6
وكيف لا يميز مَن له بصيرة بين دين ﴿أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾، [التّوبة، من الآية: ١٠٩]، وارتفع بناؤه على طاعة الرحمن، والعمل بما يرضاه في السر والإعلان، وبين دينٍ ﴿أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ﴾، [التّوبة، من الآية: ١٠٩]، بصاحبه في النار، أسس على عبادة الأصنام والأوثان، والالتجاء إلى الصالحين وغيرهم من الإنس والجان، عند الشدائد والأحزان، وصرف مخ العبادة لغير الملك الديان، ورجا النفع والعطاء والمنع مِمَّن لا يملك لنفسه نفعًا، ولا ضرا فضلًا عن غيره من نوع الإنسان، ودعوى التصرف في الملك لصالح رميم في التراب والأكفان.
قد عجز عن دفع ما حل به من أمر الله، فكيف يدفع عمَّن دعاه من بعيد الأوطان؟! أو فاسق يشاهدون فسقه وفجوره فهو أبعد الناس من الرحمن، أو ساحر يريهم من سحره ما يحير به الأذهان، فيظن المخذولون أنّها كرامة من الله، وإنّما هي من مخاريق الشيطان، تبًا لهم سدوا على أنفسهم باب العلم والإيمان، وفتحوا عليها باب الجهل والكفران. قابلوا خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان.
أخبر بأن الهدى والنور في كتابه، فقالوا: كان ذاك فيما مضى من
الزمان، وأمرهم باتباع ما ﴿أُنْزِلَ﴾ إليهم ﴿مِنْ﴾ ربهم، ولا يتبعوا ﴿مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ [الأعراف، من الآية: ٣]، فقالوا: لا بد لنا من ولي غير القرآن.
إن جئتهم بكتاب الله قالوا: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ﴾، [المائدة، من الآية: ١٠٤] أهل الزمان، أو جئتهم بسنة رسوله ﷺ قالوا: خالفها الشيخ فلان، وهو أعلم منا ومنكم، فاعتبروا يا أولي الإيمان. عمدوا إلى قبور الأنبياء والصالحين، فبنوا عليها البنيان، ونقشوا سقوفها والحيطان، وحلوها بالغالي من الأثمان، وألبسوها ألوان الستور الحسان، وجعلوا لها السدنة والخدام، فِعْل عباد الأوثان والصلبان، وذبحوا ونذروا لِمَن فيها، وقربّوا لهم القربان، وقالوا: ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا﴾، [يونس، من الآية: ١٨] في كشف الكروب وغفران الذنوب ودخول الجنان.
1 / 7
أما مَن قدّره باسم تقديره: باسم الله ابتدائي. فلقوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ١، ومَن قدّره بالفعل أمرًا أو خبرًا نحو: بدأ باسم الله، وابتدأت باسم الله، فلقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ٢، وكلاهما صحيح، فإنّ الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سَمَّيته قبله إن كان قيامًا أو قعودًا، أو أكلًا، أو شربًا، أو قراءة، أو وضوءًا، أو صلاة.
فالمشروع ذكر اسم الله تعالى في ذلك كله تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل. وقدّره الزمخشري فعلًا مؤخرًا، أي: باسم الله أقرأ أو أتلو؛ لأن الذي يتلوه مقروء، وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمرًا ما تجعل التسمية مبدأ له، كما أن المسافر إذا حلّ أو ارتحل، فقال: بسم الله، كان المعنى بسم الله أحل، وبسم الله أرتحل، وهذا أولى من أن يضمر أبدًا، لعدم ما يطابقه ويدل عليه، أو ابتدائي لزيادة الإضمار فيه، وإنّما قدم المحذوف متأخرًا وقدم المعمول، لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود، فإن اسم الله تعالى مقدَّم على القراءة، كيف وقد جعل آلة لها من حيث إنّ الفعل لا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى.
وأما ظهور فعل القراءة في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ٣؛ فلأن الأهمّ ثمة القراءة، ولذا قدّم الفعل فيها على متعلقه، بخلاف البسملة فإنّ الأهم فيها الابتداء، قاله البيضاوي.
وهذا القول أحسن الأقوال، وأظنه اختيار شيخ الإسلام، وقد ألم به ابن كثير إلا أنه جعل المحذوف مقدرًا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم الله فوائدَ عديدةً:
منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو
_________
١ سورة هود آية: ٤١.
٢ سورة العلق آية: ١.
٣ سورة العلق آية: ١.
1 / 8
ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله، كان ذلك مناقضًا للمقصود، فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله، كما تقول في الصلاة: الله أكبر، ومعناه: من كل شيء، ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقًا لمقصود الجنان، وهو أن لا يكون في القلب إلا ذكر الله وحده، فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه.
ومنها: أن الفعل إذا حذف صحّ الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة، وليس فعل أولى بها من فعل، فكان الحذف أعم من الذكر، فأي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه.
(الله): عَلَمٌ على الرب ﵎. ذكر سيبويه أنه أعرف المعارف.
ويقال: إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ١، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له.
واختلفوا هل هو اسم جامد أو مشتق؟ على قولين؛ أصحهما أنه مشتق. قال ابن جرير [الطّبري]: فإنه على ما روي لنا عن ابن عباس قال: "الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين".
وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله إناس.
وقال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية. وعلى هذا فالصحيح أنه مشتق من أله
_________
١ سورة الحشر آية: ٢٤.
1 / 9
الرجل: إذا تعبد، كما قرأ ابن عباس: ﴿ويذرك وإلهتك﴾ ١، أي: عبادتك، وأصله الإله، أي: المعبود، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة وفخمت تعظيما، فقيل: الله.
قال ابن القيم: "القول الصحيح أن (الله)، أصله: (الإله)، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا. قال: وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي: "أن اسم الله غير مشتق، لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق"، ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى، ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله تعالى، ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه - أصلًا وفرعًا - ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما
هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به ﷺ:
_________
١ من سورة الأعراف من الآية: ١٢٧، وهي ليس من القراءات العشر.
1 / 10
فبالله صِفْ لي شرك المشركين، هل هو بعينه إلا هذا كما نطق به القرآن في سورة يونس، والزمر [٣]، وغيرهما من محكمات الفرقان.
١- إن غرّك أنّ الأكثر عليه، فقد حكم الله بأنهم ﴿أَضَلُّ سَبِيلًا﴾، [الفرقان، من الآية: ١٤٤]، من الأنعام، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالإسلام، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه فهو السلام.
٢- أو غرّك أنّ بعض مَنْ تعظمه قد رأى شيئًا من هذا أو قاله، فالخطأ جائز على مَنْ سوى الرسول من الأنام. فعليك بالرجوع إلى العصمة الذي لا سبيل إلى تطرق الخطأ إليه، وهو كلام ذي الجلال والإكرام، وسنة رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام ـ، مع ما قاله العلماء الأعلام، الذين نطقوا بكلمة التوحيد وحققوها بالأعمال والكلام.
ولم يزل الحال على ما وصفنا لك من الأمور العِظام منتشرًا في أهل البلدان المنتسبين إلى الإسلام، المارقين منه كما تمرق الرمية من السهام،
إلى أن أراد الله إزالة تلك الظلمات، وكشف البدع والضلالات، ونفي الشبهات والجهالات، وتصديق بشارة رسول رب الأرض والسموات، في قوله ﷺ "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"١، رواه أبو داود (٤٢٩١)، والحاكم (٤/٥٢٢)، والبيهقي في (المعرفة ٥٢) وإسناده صحيح - على يدي مَن أقامه هذا المقام، ومنحه جزيل الفضل والإنعام، أعني به: الشيخ الإمام خلف السلف الكرام، المتبع لهدي سيد الأنام، المنافح عن دين الله في كلّ مقام، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، - أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب ـ، فدعا إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، وقام بأمر الله في الدعوة إليه، وما حابى أحدًا فيه ولا دارى، فعظم على الأكثرين وأنفوا استكبارًا، ولم يثنه ذلك عن أمر الله حتى قيض الله له أعوانًا وأنصارًا، فرفعوا ألويته وأعلامه حتى انتشرت في الخافقين انتشارًا.
_________
١ أبو داود: الملاحم (٤٢٩١) .
1 / 11
وصنف - رحمه الله تعالى - التصانيف في توحيد الأنبياء والمرسلين، والرّدّ على مَن خالفه من المشركين، ومن جملتها: كتاب (التوحيد)، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وهو الذي قصدت الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وإن كنتُ لستُ مِمَّن يتصدّى لهذا الشأن، لكن لما رأيتُ الكتاب لم يتعرض للكلام عليه أحد يعتد به، ورأيتُ تشوق الطلبة والإخوان إلى شرح يفي ببعض ما فيه من المقاصد، أحببت أن أسعفهم بمرادهم على حسب طاقتي، "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"١؛ ولذلك يسر الله الكلام عليه، ومنّ به من عنده
وحده لا شريك له بحوله وقوته، لا بحولي وقوتي، فناسب أن يسمى:
(تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) .
وحيث أطلقت:
شيخ الإسلام، فالمراد به الإمام أبو العباس بن تيمية.
والحافظ، فالمراد به أبو الفضل بن حجر العسقلاني، صاحب (فتح الباري) وغيره - رحمهما الله تعالى ـ.
وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
_________
١ هو في: صحيح مسلم ٢٦/٩٩.
1 / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتح المصنِّف ﵀ كتابه بالبسملة، اقتداء بالكتاب العزيز، وعملًا بالحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع"١. رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في (الأربعين) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وأخرجه الخطيب في (الجامع ١٢/١٠) بنحوه.
فإن قلت: هلا جمع المصنف بين البسملة والحمدلة، لِمَا روى ابن ماجه (١٨٩٤)، والبيهقي (٣/٢٠٨) عن أبي هريرة مرفوعًا: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" ٢. وفي رواية لأحمد (٨٦٨٦):" لا يفتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع " ٣.
قيل: المراد الافتتاح بما يدل على المقصود مِن حمد الله والثناء عليه، لأن الحمد متعين، لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله وقد حصل بالبسملة.
وأيضا فليس في الحديث ما يدلّ على أنه تتعين كتابتها مع النطق بها، فقد يكون المصنِّف نطق بذلك في نفسه٤.
واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدّره الكوفيون فعلًا مقدمًا، والتقدير: أبدأ، وقدّره البصريون اسمًا مقدمًا، والتقدير: ابتدائي كائن، أو مستقر. قال: فالجار والمجرور في موضع نصب على الأوّل، وعلى الثّاني في موضع رفع. وذكر ابن كثير أن القولين متقاربان، وكلٌّ قد ورد به القرآن.
_________
١ أبو داود: الأدب (٤٨٤٠)، وابن ماجه: النكاح (١٨٩٤) .
٢ أبو داود: الأدب (٤٨٤٠)، وابن ماجه: النكاح (١٨٩٤) .
٣ أبو داود: الأدب (٤٨٤٠)، وابن ماجه: النكاح (١٨٩٤)، وأحمد (٢/٣٥٩) .
٤ لكن الحمدل قد ثبتت في بعض النّسخ، وعليها شرح صاحب: (فتح المجيد) .
1 / 13
"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ١، وكيف تحصى خصائص اسم مسمَّاه؛ كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وبر وفضل فله ومنه؟! فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثّره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرّجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيًا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنْزل به البركات والدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت ﴿الْحَاقَّةُ﴾، و﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾، وبه وضعت ﴿الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾، ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد مَنْ عرفه وقام بحقه، وبه شقي مَنْ جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق والأمر به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه، منتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ٢ إلى آخر كلامه ﵁.
(الرحمن الرحيم)، قال ابن كثير: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و(رحمن) أشد مبالغة من (رحيم) . قال ابن عباس: " وهما اسمان رقيقان؛ أحدهما أرق من الآخر ". أي: أوسع رحمة. وقال
_________
١ مسلم: الصلاة (٤٨٦)، والترمذي: الدعوات (٣٤٩٣)، والنسائي: التطبيق (١١٠٠،١١٣٠)، وأبو داود: الصلاة (٨٧٩)، وابن ماجه: الدعاء (٣٨٤١)، وأحمد (٦/٥٨)، ومالك: النداء للصلاة (٤٩٧) .
٢ سورة آل عمران آية: ١٩١.
1 / 14
ابن المبارك: " الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب".
قلت: كأن فيه إشارة إلى معنى كلام ابن عباس؛ لأن رحمته تعالى تغلب غضبه، وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء.
وقال أبو علي الفارسي: (الرحمن) اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، و(الرحيم) إنما هو في جهة المؤمنين. قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ١، ونحوه قال بعض السلف. ويشكل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ٢. وقوله ﷺ في الحديث: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ".
فالصواب - إن شاء الله تعالى - ما قاله ابن القيم أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ ﴿نَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ٣ ٤ ولم يجئ قط (رحمن بهم)، فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، و(رحيم)، هو الراحم برحمته. والرحمن الرحيم نعتان لله تعالى.
واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله. قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ٥ فهو علم فكيف ينعت به؟
والجواب ما قاله ابن القيم: إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت؛ فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فـ (الرحمن) اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته، فمن حيث هو صفة جرى تابعًا لاسم الله تعالى، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورد الاسم العلم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به سبحانه حسن مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله، فإنه دال
_________
١ سورة الأحزاب آية: ٤٣.
٢ سورة البقرة آية: ١٤٣.
٣ سورة الأحزاب آية: ٤٣.
٤ سورة التوبة آية: ١١٧.
٥ سورة طه آية: ٥.
1 / 15
على صفة الألوهية فلم يجئ قط تابعا لغيره بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة.
قلت: قوله عن اسم الله: (ولم يجئ قط تابعًا لغيره)، بل لقد جاء في قوله تعالى: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ[مَا فِي] الأَرْضِ﴾ ١، على قراءة الجر، وجواب ذلك من كلامه المتقدم، فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن.
_________
١ سورة إبراهيم آياتان: ١-٢.
1 / 16
[كتاب التوحيد]
أنواع التوحيد:
(النوع الأول): توحيد الربوبية والملك.
الـ (كتاب) مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا، ومدار المادة على الجمع. ومنه تكتب بنو فلان: إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتابًا لجمعه ما وضع له، ذكره غير واحد.
و(التوحيد): مصدر وحد يوحد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، وسمي دين الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء، والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب. وإن شئت قلت: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات - وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ـ، وتوحيد في الطلب والقصد؛ وهو توحيد الإلهية والعبادة. ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم وذكر معناه غيرهما.
(النوع الأول): توحيد الربوبية والملك:
وهو: الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده، قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
1 / 17
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ ١. وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ٢.وقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ٣.وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ ٤. فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ٥. قال مجاهد في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعًا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك.
ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ﵇، فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ٦ وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر.
كما قال زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم.
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها.
ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم، وسبي نسائهم، وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة، وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله.
_________
١ سورة يونس آية: ٣١.
٢ سورة الزخرف آية: ٨٧.
٣ سورة العنكبوت آية: ٦٣.
٤ سورة النمل آية: ٦٢.
٥ سورة يوسف آية: ١٠٦.
٦ سورة آل عمران آية: ٦٧.
1 / 18
(النوع الثاني): توحيد الأسماء والصفات:
وهو الإقرار بأن ﴿الله بكل شيء عليم﴾، و﴿على كل شيء قدير﴾، وأنه ﴿الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم﴾، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وأنه ﴿سميع بصير﴾، ﴿رؤوف رحيم﴾، ﴿على العرش استوى﴾، وعلى الملك احتوى، وأنه ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، [الحشر، من الآية: ٢٣] . إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
وهذا أيضًا لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية والإلهية. والكفار يقرون بجنس هذا النوع، وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك، إما جهلًا، وإما عنادًا، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله فيهم: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ ١.
قال الحافظ ابن كثير: والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن.
قال الشاعر:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال الآخر:
ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وهما جاهليان.
وقال زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى
ومهما يكتم الله يعلم
قلت: ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردّوا على النبي ﷺ ذلك، كما ردّوا عليه توحيد الإلهية. فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ ٢، لاسيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد.
[(النوع الثالث): توحيد الإلهية:]
المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها
_________
١ سورة الرعد آية: ٣٠.
٢ سورة ص آية: ٥.
1 / 19
وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئًا لغيره، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسّل، فضلًا عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ١. وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ٢. وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ ٣. وقوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ ٤. وقوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ٥. وقوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ ٦. وقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ٧. وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ٨. فهذا أول أمر في القرآن. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ٩.
فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك. وقال هود لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١٠. وقال صالح لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١١. وقال شعيب لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ١٢. وقال إبراهيم ﵇ لقومه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ١٣. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ١٤ وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
_________
١ سورة الفاتحة آية: ٥.
٢ سورة هود آية: ١٢٣.
٣ سورة التوبة آية: ١٢٩.
٤ سورة مريم آية: ٦٥.
٥ سورة هود آية: ٨٨.
٦ سورة الفرقان آية: ٥٨.
٧ سورة الحجر آية: ٩٩.
٨ سورة البقرة آية: ٢١.
٩ سورة المؤمنون ٢٣.
١٠ سورة الأعراف آية: ٥٩، و٦٥.
١١ سورة هود آية: ٦١.
١٢ سورة الأعراف آية: ٥٩، ٨٥.
١٣ سورة الأنعام آية: ٧٩.
١٤ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
1 / 20
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ١. وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ٢.
وقال (هرقل) لأبي سفيان - لما سأله عن النبي ﷺ ما يقول لكم؟ - قال: يقول: "اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم"٣. وقال النبي ﷺ لمعاذ: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"٤. وفي رواية:"أن يوحدوا الله".
وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في الله، كما هي أقوال لِمَن لم يدر ما بعث الله به رسول الله ﷺ من معاني الكتاب والحكمة، فهو أول واجب وآخر واجب، وأوّل ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال ﷺ: "مَنْ كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة"٥. حديث صحيح. وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"٦ متفق عليه.
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح وأبدأ فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال، بحيث إن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا
التوحيد، ويسمى هذا النوع:
١- توحيد الإلهية؛ لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة.
٢- وتوحيد العبادة لذلك.
٣- وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال.
٤- وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده.
٥- وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده. قال الله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ٧. وقال: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ٨. ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...﴾ ٩،
_________
١ سورة الزخرف آية: ٤٥.
٢ سورة الذاريات آية: ٥٦.
٣ البخاري: بدء الوحي (٧)، ومسلم ١٧٧٣.
٤ البخاري: الزكاة (١٣٩٥)، ومسلم: الإيمان (١٩)، والترمذي: الزكاة (٦٢٥) والبر والصلة (٢٠١٤)، والنسائي: الزكاة (٢٤٣٥)، وأبو داود: الزكاة (١٥٨٤)، وابن ماجه: الزكاة (١٧٨٣)، وأحمد (١/٢٣٣)، والدارمي: الزكاة (١٦١٤) .
٥ أبو داود: الجنائز (٣١١٦)، وأحمد (٥/٢٣٣،٥/٢٤٧) .
٦ البخاري: الإيمان (٢٥)، ومسلم: الإيمان (٢٢) .
٧ سورة الزمر آية: ٢.
٨ سورة الزّمر آية: ١١-١٢.
٩ سورة الزّمر آية: ١٤-١٥.
1 / 21
إلى قوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ...﴾ ١، إلى قوله: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ...﴾ ٢ الآية، إلى قوله: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ...﴾ ٣، إلى قوله: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ...﴾ ٤ إلى قوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ...﴾ ٥ إلى آخر سورة الزّمر.
فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد، والأمر به، والجواب عن الشبهات والمعارضات، وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم، وما أعد لِمَن خالفه من العذاب الأليم. وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن، فهي داعية إلى هذا التوحيد، شاهدة به، متضمنة له، لأن القرآن:
١- إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا، متضمن له.
٢- وإما دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه أو أمر بأنواع من العبادات، ونهي عن المخالفات، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة، وهو مستلزم للنوعين الأولين، متضمن لهما أيضًا.
٣- وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
٤- وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بها في العقبى من الوبال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه، كما قال النبي ﷺ: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن
_________
١ سورة الزمر آية: ٢٩.
٢ سورة الزمر آية: ٣٨.
٣ سورة الزّمر آية: ٤٣-٤٤.
٤ سورة الزمر آية: ٥٤.
٥ سورة الزّمر آية: ٦٤-٦٦.
1 / 22