نعش، فالشمس تزورّ عنه وتستدبره: طالعة، وجارية، وغاربة. ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتلفحهم بسمومها، وتغيّر ألوانهم، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا في فجوة من الكهف- أي متّسع منه- ينالهم فيه نسيم الريح وبردها، وينفي عنهم غمّة الغار وكربه.
وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى، بأعجب من هذا جهلهم بمعنى قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: ٤٥] حتى أبدأوا في التعجّب منه وأعادوا، حتى ضربه بعض المجّان لبارد شعره مثلا.
وهل شيء أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية؟ لأنه أراد: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتوّ، وأبادهم بالمعصية، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا كانت لشرب أهلها قد عطّل رشاؤها، وغار معينها، وقصرا بناه ملكه بالشّيد «١» قد خلا من السّكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه، مثل الذي نزل بهم.
ونحوه قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: ٢٥]:
ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم: فكان سليمان ﵌، إذا مرّ بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأوّلون؟.
وقال: أبو بكر ﵁، في بعض خطبه: أين بانو المدائن ومحصّنوها بالحوائط؟ أين مشيّدو القصور، وعامروها؟ أين جاعلو العجب فيها لمن بعدهم؟ تلك منازلهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية، هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟.
وهذا الأسود بن يعفر يقول»
:
_________
(١) الشّيد، بالكسر: كل ما طلي به الحائط من جص وبلاط.
(٢) الأبيات من الكامل، وهي للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٦- ٢٧، والبيت الأول في لسان العرب (برق)، (حرق)، وتاج العروس (سند)، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٨، ومعجم البلدان (انقرة)، والبيت الثاني في لسان العرب (كعب)، (برق)، وكتاب العين ١/ ٢٠٧، وتهذيب اللغة ١/ ٣٢٥، وتاج العروس (كعب)، (سند)، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٩، والشعر والشعراء ص ٢٦١، والبيت الثالث في لسان العرب (نقر)، وتاج العروس (نقر)، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٧٠، والحماسة البصرية ٢/ ٤١٢، والبيت الرابع في لسان العرب (موم)، وتاج العروس (موم) .
1 / 15