ولذلك رأوا أن وسيلتهم إلى ذلك لا تكون إلا بالنأي عن كل شيء سواه، فتورعوا وزهدوا في جميع مظاهر الحياة الدنيا، واجتنبوا الملاذ واعتزلوا الناس لترويض النفس بالجوع والذكر، وغير ذلك من أنواع المجاهدات.
وإن الصوفي لينقطع بهذه المجاهدة الروحية والرياضة النفسية عن عالم الحس شيئا فشيئا، ذلك العالم الذي يعده من العوائق الكلية عن الوصول إلى السعادة والغبطة في مقام الشهود، ولهذا يتمنى المتصوف لو أن حواسه الخمس تقل عدا، على خلاف ما كان عليه الإغريق من تمني الزيادة في عدد تلك الحواس؛ كي يتمكنوا من إدراك أكثر مما أدركوا من جمال الوجود وأسرار الكون العام.
هذا، ويتبع هذه المجاهدة والرياضة بالخلوة والذكر في الغالب شيء من الكشف عن الروح ليس لصاحب الحس إدراك شيء منه، ويتزايد هذا الكشف من وقت إلى آخر ومن درجة إلى درجة بملازمته طرق الرياضة حتى يصير كما يظنون شهودا، وهنا تصل نفس الصوفي إلى الدرجة القصوى والاستعداد إلى الإدراك الكلي، فيتلقى عندئذ المواهب الربانية والعلوم اللدنية وينكشف له كثير من حقائق الوجود التي لا تدرك بالحس والنظر.
ويعرف عن الصوفية أن الواصل منهم إلى هذا المقام يتجلى له أمر المستقبل، فيعرف كثيرا من الحوادث قبل وقوعها، وبذلك يمكنه أن يتصرف بهمته وقوى نفسه في الموجودات السفلية، والعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يخبرون بشيء عنه ولم يؤمروا بالتكلم فيه؛ لأنه قد يكون لهم من قبيل المحنة والابتلاء.
النظريات الصوفية
ذكر الفرغاني أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية، وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة ليس غير، ويسمي المتصوفة هذا الصدور «بالتجلي»، ويرى شهاب الدين السهراوردي أن العالم الروحاني صادر عن الملأ النوراني، عن الذات الأقدس، وهذا العالم النوراني مقابل لعالم الظلمة الذي هو عالم المادة، ويعرف هذا المبدأ «بحكمة الإشراق»، وليس هذا الرأي ناشئا عن نظر متصوفة الإسلام، بل وصل إليهم من الأفلاطونيات الحديثة التي تكونت نهائيا في مدارس أفلوطين وفروفريوس وجامبليكوس وأفروكلين، وذهب آخرون من المتصوفة إلى القول بالوحدة المطلقة؛ وذلك أنهم يزعمون أن الوجود له قوى في تفاصيله، وبهذه القوى كانت الموجودات وموادها وصورها، والقوة الجامعة لتلك القوى من غير تفصيل هذه القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية، وأحاطت بها من كل وجه، وهذه العقيدة هي المعروفة باسم «البانتشم» أو وحدة الوجود التي أخذت مبدأها في الأساطير القديمة والحكمة الهندية.
اتفق المتصوفة والمتكلمون على أن الخالق له التأثير في الموجودات، ولكن أغلب المتصوفة أضافوا إلى ذلك قولهم: «وإن جميع الموجودات هي عين الخالق»، وهذا هو عين نظرية وحدة الوجود التي جعلت ذاتية الإنسان عين ذاتية الباري.
وقد تكلم المتصوفة في النفسيات؛ وإجمال رأيهم أنهم أهملوا الظواهر الخارجية المحيطة بالإنسان المدركة بواسطة المشاعر الخمس، وجعلوا طريق الإدراك الحقيقي من القلب، فالقلب هو الذي يفيض بالمعرفة الحقة، وما تحمله الحواس ليس إلا مجرد غلط وخداع.
وأخذ المتأخرون من الصوفية بعقيدة وحدة الوجود، وذهبوا أيضا إلى القول بالحلول وأترعوا صحفهم بذلك، وفي كتاب المقالات للهواري كلام كثير، وتبعه في هذا الرأي ابن العربي وابن سيرين وابن العفيف وابن الفارض في قصائدهم المشهورة، وتطرق هذا الرأي إليهم من الإسماعيلية القائلين بالحلول وإلهية الأئمة، لذلك أخذ هؤلاء المتصوفة عنهم القول بالإمام وهو المعروف عندهم بالقطب، ومعناه رأس العارفين الذي لا يدانيه أحد في مقامه في المعرفة، وإذا مات ورث مقامه قطب آخر من رجال العرفان وغيرهم.
1
অজানা পৃষ্ঠা